سلطة الكتاب المقدس في فكر جون كالفن

المقدمة

        بدأ الإصلاح البروتستانتى فى القرن السادس عشر رافعاً واحد من اهم شعاراته التاريخية "بالكتاب المقدس وحده Sola Scriptura". وقد كان مارتن لوثر اول من قاد هذا الشعار ثم أتى من بعده جون كالفن. وقد قام كالفن بتطوير هذه العقيدة وصياغتها وشرحها بطريقة جيدة فى كتابه "مبادىء الديانة المسيحية". وقد توصل كالفن إلى مفاهيم جديدة تخص وحى الكتاب المقدس وسلطته. وفى هذه الدراسة سيحاول الباحث استقصاء ماهية سلطة الكتاب المقدس فى فكر كالفن؟ وكيف واجه كالفن التحدى الكاثوليكى بسلطة الكنيسة العاتية؟ هذا ما سيبينه الباحث فى الصفحات التالية.

وحى الكتاب المقدس

يرى كالفن أن الله قد اختار فى وقت محدد أن يحوّل كلامه للآباء إلى نص مكتوب يجب تسليمه للأجيال التالية. يقول كالفن:"ولكن بينما كان الله معروفاً للآباء من خلال الأقوال والرؤى أو من خلال خدمة البشر (الأنبياء؟)، فإنه أراد أن يضع فى عقولهم ما يجب أن يسلموه إلى ذرياتهم. وبأى حال، فإنه لا يوجد شك فى أن هناك يقين ثابت فى العقيدة قد تم نقشه على قلوبهم حتى انهم اقتنعوا وفهموا أن ما تعلموه قد جاء مباشرةً من الله"[1].

لم يكن الآباء وحدهم هم الهدف من تلقى الوحى المباشر من الله، ويؤكد كالفن ذلك قائلاً:"من أجل أن يبقى الحق إلى الأبد دائماً فى العالم، فيتم تعليمه من جيل إلى جيل، فقد كانت مسرة مشيئته أن نفس الأقوال التى اعطاها الله للآباء يتم تسجيلها كما هى على الواح عامة"[2]. والسبب فى رغبة الله أن يخاطب الآباء، كما يرى كالفن، هو أن الخليقة وحدها غير قادرة على اعلان الله كاملاً. ويؤكد كالفن أنه بينما يذكر كاتب مزمور 19 الإعلان العام كوسيلة تواصل الله مع البشر، فإنه يعود ويذكر "ناموس الرب" ليؤكد أنه "إن كان الله ينادى كل البشر لنفسه بلا فائدة من خلال السماء والأرض، فها هى مدرسة أولاد الله الخاصة"[3]. كالفن يسمى الاعلان الخاصة "مدرسة اولاد الله الخاصة"، حيث فيها يتعلم المؤمنين عن الله اكثر كل يوم من خلال التعليم الذى يقدمه الله عن نفسه فى الكتاب المقدس.

وفى حديثه التصورى مع جون كالفن، يقول ق. لبيب مشرقى معبراً عن فكر كالفن فى العلاقة بين الاعلان العام وكلمة الله:"وانا وقد رأيت الإعلان، دعنى اقول، الإعلان الناقص [يقصد الإعلان العام] شكرت الله من أجل اعلان الله الكامل. إن أقصى معرفة أن تعرف الله، ثم تعرف الإنسان. وقد عرفنا الله جزئياً فى الطبيعة، ولكننا عرفناه معرفة واضحة فى الكلمة الإلهية"[4]. وهو ما يؤكده المؤرخ جون لوريمر شارحاً فكر كالفن:"معرفة الله ومعرفنا أنفسنا هو عن طريق الكتاب المقدس. صحيح أننا عن طريق المعرفة العامة والمشتركة قد ندرك بشكل عام أن الله موجود وله غرض فى خليقته، لكن مثل هذه المعرفة لا تكفى إلا لإقناعنا بأننا خطاة. لا توجد معرفة حقيقية وملائمة عن الله وعن اغراضه للناس إلا فى الكتاب المقدس"[5].

وقد رأى كالفن أن الكتاب المقدس له دور كبير فى خطة الله للخلاص. فهو الطريقة التى بها سيتواصل الله مع شعبه وكنيسته. يقول كالفن فى ذلك:"إن الكتاب المقدس، وهو ينزع منا المعرفة المشوهة عن الله التى فى عقولنا، وبعدما يشتت كل بلادة فينا، فإنه يظهر لنا بوضوح الإله الحقيقى. لهذا فإن هذا [الكتاب المقدس] هو عطية خاصة، حيث يقوم الله بتعليم الكنيسة؛ ليس فقط مستخدماً معلمين، بل إنه يفتح شفتيه المقدستين جدا. ليس فقط أنه [الله] يعلم المختارين أن ينظروا لمجرد إله، ولكنه يعلمهم أن ينظروا إليه كالله الذى يجب أن ينظروا إليه. وضع الله هذه الخطة للكنيسة من البداية، حتى أنه بجوار هذه الأدلة العامة [الاعلان العام] فإنه يضع كلمته كعلامة مباشرة واكيدة لإدراكه"[6].

وهنا يربط كالفن بين وحى الكتاب المقدس وسلطة الكتاب المقدس. فيقول مثلاً:"الآن الخطابات اليومية لا تُرسل إلينا من السماء، لأن الله قد سُر أن يقدس حقه إلى الذاكرة الأبدية فى الكتاب المقدس وحده. ولهذا فإن للكتاب المقدس السلطة الكاملة بين المؤمنين حينما يعتبره البشر كأنه انبثق من السماء، تماماً كما كانت كلمات الله الحية تُسمع قديماً"[7]. يعلق جريج اليسون على ذلك قائلاً:"جون كالفن مثل آخرين أتوا قبله أكد على أن سلطة الكتاب المقدس مؤسسة على سلطة مؤلفه الإلهى"[8].

شهادة الروح القدس الداخلية لسلطة الكتاب المقدس

لا يرى جون كالفن أن سلطة الكتاب المقدس امر خاضع للإستدلال العقلانى، ولا أنه يمكن إخضاعه للفحص والتحليل المنطقى. بل يرى كالفن أن الكتاب المقدس مؤيد بشهادة الروح القدس الداخلية. يعتمد جزء كبير من لاهوت كالفن فى استدلاله على الشهادة الداخلية التى ينشأها الروح القدس فى قلب الإنسان. وإنطلاقاً من عقيدة "الفساد الكلى" التى اشتهر بها كالفن، فإن المنطق البشرى نفسه طاله الفساد ايضاً ولا يمكن أن يكون هو المعيار لما هو صواب وخطأ. وبالتالى لا يمكن الحكم فيما لله عن طريق المنطق البشرى، حتى لو كان المنطق البشرى جزء من الصورة الإلهية فى الإنسان. الفساد الذى سببته الخطية ليس بسيطاً وطال كل شىء فى الإنسان. حتى ذهنه[9]. وبالتالى، أى قناعة مسيحية فى نظر كالفن لا تأتى من الانسان نفسه. لا يمكن أن يخرج من الانسان اقتناع بالله أو بعمله الخلاصى. وبالتالى، فقناعة الإنسان بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله لا يمكن أن تخرج من الانسان نفسه.

القناعة التى يحتاجها الإنسان لكى يؤمن أن الكتاب المقدس هو كلمة الله تأتى فقط من خلال عمل الروح القدس فى قلب الإنسان، الأمر الذى يتم تفعيله فى القلب المولود ثانيةً. لا يمكن أن يقبل الإنسان الغير مولود من الله أن الكتاب المقدس هو كلمة الله. وتأسيس كالفن لعقيدة قبول الهوية الإلهية للكتاب المقدس على الشهادة الداخلية للروح القدس يأتى فى قالب دفاعى. يصرف كالفن اربعة فصول من كتابه "المبادىء" شارحاً سلطة الكتاب المقدس، منهم فصلاً كاملاً يؤسس فيه لعقيدة الشهادة الداخلية للروح القدس كأساس قبول الكتاب المقدس ككلمة الله بالتبادل مع الهجوم المباشر على العقيدة الكاثوليكية الرومانية بأن الكنيسة هى التى تحدد اسفار الكتاب المقدس القانونية ومؤلفيه ومعانيه وتطبيقاته لحياة المؤمنين.

يشرح كالفن كيف أن الشهادة الداخلية للروح القدس هى المعيار الوحيد لقبول الانسان للكتاب المقدس ككلمة الله قائلاً:"إن مصداقية العقيدة لا تتثبت حتى نقتنع دون أدنى شك بأن الله هو مؤلفها. وهكذا، فإن أعلى دليل لصالح الكتاب المقدس يأتى بشكل عام من حقيقة أن الله يتكلم فيه"[10]، ويستكمل:"يجب أن نبحث عن قناعتنا فى مكان أعلى من مستوى الأدلة البشرية، والأحكام أو التخمينات البشرية، بمعنى أننا يجب أن نبحث عنها فى الشهادة السرية للروح"[11].

كان كالفن بذلك يمهد ليشرح بالتفصيل كيف يرى أن المنطق البشرى فاسد تماماً ولا يمكنه أن يصل لأى حكم أو اثبات فيما يخص امور الله. بولس أسس لهذه العقيدة بقوله:"وَلكِن الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا  يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا" (1 كو 2 : 14). يرد كالفن على معارضيه بنفس المنهج قائلاً:

"نظراً لأن الناس غير المؤمنين يبدو لهم ان الدين يجب أن يكون مدعوماً بالدليل فقط، فإنهم لكى لا يؤمنوا بأى شىء بطريقة غبية أو خفيفة، فإنهم يطلبون ويتمنون أن يكون هناك دليل عقلانى بأن موسى والأنبياء قد تكلموا بكلمة الله.

ولكننى أرد قائلاً: شهادة الروح اكثر تفوقاً من أى دليل عقلانى. فكما أن الله وحده يعتبر شاهد لائق عن نفسه فى كلمته، كذلك فإن الكلمة لن تجد قبولاً فى قلوب الناس قبل أن تختم بشهادة الروح الداخلية. لذلك فإن الروح نفسه الذى تكلم بلسان الأنبياء يجب أن يخترق قلوبنا لكى يقنعنا أنهم أعلنوا بأمانة ما الذى امر به الله"[12].

كان كالفن واضحاً بأن الدليل البشرى وحده غير كافى لإقناع البشر بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله. وكعادة اللاهوت الكالفينى، الله هو الذى يبدأ دائماً. وواضح من كلام كالفن كيف كان مهاجموه يطلبون منه اثبات منطقى أن الكتاب المقدس، كتابات موسى وبقية الأنبياء، هو كلمة الله الحقيقية. كالفن يرتكز تماماً لشهادة الروح القدس الداخلية وعمله فى القلب. ومن الواضح أن خطوة الايمان بالكتاب المقدس ككلمة الله تأتى بعد الولادة الجديدة والاهتداء. وهذا يأخذ كالفن اكثر لكى يشرح كيف أن الكتاب المقدس ذاتى التأصيل:"اولئك الذين علمهم الروح القدس داخلياً يستندون حقاً على الكتاب المقدس وأن الكتاب المقدس حقاً مُوثق ذاتياً. ولهذا فليس من الصواب أن نخضعه لفحص الاثبات والاستدلال. واليقين الذى يستحقه منا الكتاب المقدس يتم عن طريق شهادة الروح القدس. فحتى لو أن الكتاب المقدس استطاع أن يكسب احترام له عن طريق جلاله فقط، فإنه سوف يؤثر علينا جدياً فقط حينما يُختم على قلوبنا من خلال الروح القدس. ولهذا، وبينما نحن نستنير بقوته، فإننا لا نؤمن أن الكتاب المقدس من الله بناءاً على حكمنا الشخصى أو حكم أى انسان آخر. ولكن أعلى من مستوى الحكم الإنسانى فإننا نؤكد بيقين شديد كما لو كنا نحملق فى جلال الله نفسه أن الكتاب المقدس خرج إلينا من فم الله نفسه عن طريق خدمة رجاله"[13].

نلاحظ فى كلام كالفن أن الايمان بالكتاب المقدس يجب أن يسبقه عمل الروح القدس المطهر والمنقى فى القلب اولاً. هذا يجعل الإنسان يقبل ما لروح الله بسهولة بل ويستعذبه. وليس الطريق الصحيح هو الاستدلال البشرى، ولا حتى الاعتماد على احكام البشر[14]. وفى كلمات المؤرخ جون لوريمر:"الكتاب المقدس يحمل برهانه داخل نفسه. بفضل تنوير الروح القدس نعرفه ككلمة الله. واذا اتخذنا الكتاب المقدس وحده تكون رسالته الأساسية واضحة لا غموض فيها"[15]. وهذا يمهد الطريق امام كالفن لكى يرد على الإدعاء الكاثوليكى الرومانى بأن للكنيسة سلطة تكاد تعلو فوق سلطة الكتاب المقدس.

وباختصار، فإن كالفن استخدم مثالاً رائعاً ليوضح كيف يشهد الكتاب المقدس عن نفسه ذاتياً:

"وبالنسبة لسؤالهم: كيف يمكن لنا أن نتأكد من أن هذا [الكتاب] انبثق من عند الله إن لم نلجأ لحكم الكنيسة؟

إن هذا كمن يسأل: من اين يمكن أن نتعلم كيف نفرق بين النور والظلمة، الأبيض والأسود، الحلو من الحاذق؟ فى الحقيقة، إن الكتاب المقدس يقدم نفسه كدليل واضح على حقيقته تماماً كما تفعل الأشياء السوداء والبيضاء فى الوانها، أو كما تفعل الأشياء الحلوة والحاذقة فى طعمها"[16].

غير أن هذا الفكر أدى إلى نتيجة مرعبة. يقول كالفن:"ولكن اولئك الذين يحاولون أن يثبتوا لغير المؤمنين أن الكتاب المقدس هو كلمة الله انما يسلكون بغباء، لأن فقط بالايمان تصبح هذه المعرفة ممكنة"!![17]

سلطة الكتاب المقدس اساس الكنيسة

        يعترض كالفن على فكر وممارسة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فى ذلك العصر تجاه سلطة الكتاب المقدس وسلطة الكنيسة. والإصلاح البروتستانتى بشكل عام رفع الشعار التاريخى العريق "الكتاب المقدس وحده Sola Scriptura". اليستر ماكجراث يشرح اهمية ذلك قائلاً:"لم يكن تيار الاصلاح العام مهتماً بتأسيس تقليد مسيحى جديد ولكن بتجديد وتصحيح تقليد موجود بالفعل. كان المصلحين مثل لوثر وكالفن يجادلون بأن اللاهوت المسيحى مؤسس بشكل رئيسى على الكتاب المقدس، وقد دعوا للحاجة للرجوع للكتاب المقدس كالمصدر الأولى والرئيسى للاهوت المسيحى. والشعار "بالكتاب المقدس وحده" اصبح مميز للمصلحين حيث عبر عن عن اعتقادهم الاساسى فى أن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد الضرورى والكافى للاهوت المسيحى"[18].

        كل هذا كان يعنى شيئاً واحداً: يجب تحرير الكتاب المقدس من سلطة الكنيسة ووضع كل منهما فى مكانه اللائق والمناسب. وقد رأى كالفن أن الكاثوليك قد عكسوا العلاقة، فسلطة الكنيسة مُستمدة من سلطة اساسها هو الكتاب المقدس؛ وليس العكس. قال كالفن:"ولكن هناك خطأ شائع شديد الضرير وهو أن الكتاب المقدس يأخذ ثقله فقط اذا وافقت الكنيسة. كما لو أن حق الله الأزلى المنيع يعتمد على قرار البشر! لأنهم يستهينون بالروح القدس حينما يسألون: من يستطيع أن يقنعنا أن هذه الكتابات جاءت من الله؟ من يستطيع أن يؤكد لنا أن الكتاب المقدس قد وصل إلينا سليماً كما هو حتى يومنا هذا؟ من يستطيع أن يقنعنا أن نقبل سفر ما بتقدير ولكن نرفض سفر آخر غير أن الكنيسة يجب أن تضع قاعدة اكيدة لكل هذه الأمور؟ إنهم يقولون بأن التقدير الذى نظهره للكتاب المقدس، والكتب التى يجب أن ندخلها فى قانون الكتاب المقدس تعتمد على تحديد الكنيسة لها"[19].

        من الواضح أن الكاثوليك ادعوا عدة إدعاءات منها أن الكنيسة هى التى شكلت وكونت وادارت عملية تجميع وتقنين وقبول الكتاب المقدس. وبناءاً على هذا فقد إستنتجوا بأن الكتاب المقدس يستمد سلطته فقط من سلطة الكنيسة التى جمعته وأقرت به. وحتى بعد قيام الإصلاح فى مجمع ترنت الكاثوليكى الذى انعقد فى عام 1545 م اقر المجمع أن:"المرجعين العظيمين لدى الدين المسيحى هما الكتاب المقدس والتقليد الكنسى"[20]. وهذا الفكر هو ما يحاربه كالفن مؤكداً بذلك على الآتى:

·        بناءاً على عقيدة "الشهادة الداخلية للروح القدس"، فإن سلطة الكتاب المقدس لا تؤسس على المنطق البشرى أو حكم البشر لأن ليس فى ذلك أى ضمان. يؤكد كالفن كثيراً على هذه النقطة. الضمان الوحيد الحقيقى هو فى شهادة الروح القدس[21].

·        الكنيسة لم تكن هى التى حددت الكتاب المقدس، ولا هى التى أقرت ما القانونى وما غير القانونى بل سلطة الكتاب المقدس تنبع من سلطة أن الله هو مؤلفه وكاتبه. وبذلك ليس من حق الكنيسة أن تدعى أى سلطة أعلى أو فوق الكتاب المقدس، بل الكنيسة هى وليدة الكتاب المقدس ومؤسسة عليه.

وهذه النقطة الثانية يؤكد كالفن عليها كثيراً ويستدل بكلمات بولس ليؤيد ما ذهب إليه قائلاً:"ولكن هؤلاء المجادلين يمكن دحضهم بسهولة بكلمة واحدة من الرسل. فهو يشهد بأن الكنيسة "مبنية على اساس الأنبياء والرسل" (اف 2: 20). إن كان تعليم الأنبياء والرسل هو الأساس، فإن هذا يعنى أن له سلطة قبل أن تأتى الكنيسة إلى الوجود"[22]. حتى لو كانت الكنيسة هى التى اقرت الاسفار القانونية، فإن هذا ليس اكثر من مجرد ادراك لطبيعة قانون الكتاب المقدس. أو كما يعبر ق. فايز فارس:"صحيح أن مجامع الكنيسة هى التى اقرت قانونية الاسفار فى الكتاب المقدس، وكان ذلك بناءاً على ادلة داخلية فى الاسفار نفسها، أو فى اسفار نظيرها فى الكتاب أو ادلة وقرائن خارجية اخرى، لكن الكتاب المقدس فى النهاية هو الذى يتكلم ويكمل بعضه بعضاً"[23]. وهو ما يؤكده جريج اليسون قائلاً:" الكنيسة يجب أن تخضع لسلطة الكتاب المقدس بدلاً من ان تمارس سلطتها فوق الكتاب المقدس"[24].

استدلالات كالفن لسلطة الكتاب المقدس

        رغم أن كالفن صرف وقتاً طويلاً يثبت أن سلطة الكتاب المقدس تعتمد على شهادة الروح القدس الداخلية، وأن سلطة الكنيسة مستمدة من سلطة الكتاب المقدس وليس العكس، ولكنه عاد وأكد على حقيقة هامة: هناك بعض الأدلة التى تخدم صحة الكتاب المقدس، ولكن هذه الأدلة وحدها غير كافية لإقناع اى شخص بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله. وأن دور هذه الأدلة يأتى فى مرحلة ما بعد الاقتناع التام عن طريق الروح القدس. كالفن يقول ذلك:"حتى يكون هذا اليقين الأعلى والأقوى من اى حكم بشرى حاضراً فإنه لن يكون له أى جدوى أن نحاول اثبات سلطة الكتاب المقدس بالاستدلالات، أو عن طريق الاتفاق العام فى الكنيسة، أو أن نؤكدها بأى طرق أخرى. فإن لم يكن هذا الاساس قد تم ارساؤه فإن سلطة الكتاب المقدس ستظل دائماَ موضع شك"[25]. وبمجرد أن يقتنى الانسان هذا اليقين بعمل الروح القدس فى القلب فإن هذه الاستدلالات تصبح ذات نفع كبيرة للانسان.

ويمكن تلخيص هذه الإستدلالات فى النقاط التالية[26]:

·        تفوق الكتاب المقدس فوق كل كتب الحكمة البشرية.

·        قِدم الكتاب المقدس وعراقته التاريخية.

·        المعجزات التى قام بها رجال الله تثبت أن الكتاب المقدس من عند الله.

·        اتمام النبوات الواردة فى الكتاب المقدس.

·        بقاء الكتاب المقدس رغم كل محاولات تدميره من قِبل الحكّام الأرضيين.

·        بساطة وسمائية سلطة العهد الجديد.

·        شهادة الكنيسة الثابتة عبر العصور لسلطة الكتاب المقدس.

·        التضحيات التى قدمها الشهداء بدمائهم لأجل الدفاع عن الكتاب المقدس.

كالفن شارحاً سلطة الكتاب والكنيسة عند اغسطينوس

        يبدو لدارسى كتابات كالفن أنه كان يعتز بشخصية القديس اغسطينوس. وليس اكثر وضوحاً من ذلك كيف تعلم كالفن "العقيدة الرهيبة"، عقيدة التعيين المسبق على كتابات القديس اغسطينوس. وقد واجه كالفن عقبة تفسيرية حينما قال اغسطينوس:"اما من جانبى، فانا لن اؤمن بالإنجيل إلا اذا دفعتنى سلطة الكنيسة الجامعة لذلك"[27]. وقد قضى كالفن بعض الوقت محاولاً شرح هذه العبارة بطريقة تدافع عن القديس اغسطينوس.

        وقد رأى كالفن أن سياق النص الذى وردت فيه هذه العبارة عند اغسطينوس مختلف عن هذا التفسير المبتور الذى يستخدمه مهاجميه. فاغسطينوس كان فى هذا النص يرد على المانويين الذين كانوا يدعون انهم انبياء جدد ينالوا اعلانات جديدة من الروح القدس وكانوا يدعوا الناس ليقبلوهم دون اى فحص للدليل. فكان اغسطينوس يسألهم: ماذا سيفعلون لكى يقنعوا شخص غريب عن الايمان المسيحى بالايمان المسيحى؟ بكلمات اخرى، ما هى الحجج التى لديهم لكى يقنعوا الناس بالايمان المسيحى؟ فقام اغسطينوس بالرد قائلاً أنه لن يقتنع إن لم تقده لذلك سلطة الكنيسة. كالفن يشرح كيف يفهم هذا الرد كالتالى:

"لو كان شخصاً بعيداً عن الايمان لن يمكن اقتياده لقبول الانجيل كالحق اليقينى لله إن لم تجبره سلطة الكنيسة على ذلك. وما العجب فى أن شخص لم يعرف المسيح بعد يكون لديه احترام للناس. لذلك فإن اغسطينوس لا يعلم بأن ايمان الرجال الأتقياء مؤسس على سلطة الكنيسة؛ ولا يحمل الرأى بأن يقين الإنجيل يعتمد على سلطة الكنيسة. بل هو يقول ببساطة أنه لن يكون هناك أى يقين للإنجيل بالنسبة لغير المؤمنين لربحهم للمسيح لو لم يفرض اجماع الكنيسة عليهم ذلك"[28].

اخيراً، فإن كالفن كان يثق بأن كلمة الله هى اثمن ما كُتِب فى تاريخ البشرية إذ قال:"كل اسفار الكتاب المقدس تتخطى بكثير كل الكتابات الأخرى. نعم، إذا نظرنا بعيون نقية وحواس مستقيمة له فإن جلالة الله سوف تظهر مباشرةً فى المشهد فتروض رفضنا الشديد وتقنعنا لنطيع"[29].

بين كالفن القرن السادس عشر وكنيسة القرن الواحد والعشرين

        إن ما كتبه كالفن عن سلطة الكتاب المقدس وسلطة الكنيسة يحمل الكثير ليقدمه لنا اليوم، فالكنيسة فى امس الاحتياج لهذا التعليم الكتابى. ويمكن تلخيص بعض التطبيقات فى النقاط التالية:

·        وحى كلمة الله الكاملة. لا يمكن التهاون فى هذا الحق أبداً ولا المساومة عليه. الكتاب المقدس هو كلمة الله الكاملة والحقيقية وفيه يتكلم الله للكنيسة اليوم. يجب على الكنيسة أن تتمسك بهذه العقيدة لأن فيها حياتها وفيها شهادتها.

·        سلطة الكتاب المقدس ذاتية. لا نحتاج لإثبات لأن الكتاب المقدس، بالطبيعة، يحمل فى ذاته انفاس الله. ويجب علينا ككنيسة أن نخضع لهذا السلطان وأن نسلك فيه كل يوم.

·        سلطة الكنيسة مستمدة من سلطة الكتاب المقدس. ليس من حق الكنيسة أن تمارس أى سلطات تعلى من شأنها فوق الكتاب المقدس. بل يجب أن تخضع لهذا السلطان الكتابى وتعترف به وتقر به. وهذا يجب أن يظهر في سلوكياتنا اليومية.

الخاتمة

        عرض الباحث في هذه الدراسة الأساس الذي يبنى عليه كالفن سلطة الكتاب المقدس، وهو الهوية الإلهية للكتاب المقدس، ثم تعرض إلى طبيعة الشهادة الداخلية للروح القدس. كما قدم الباحث نقد كالفن لسلطة الكنيسة فوق سلطة الكتاب المقدس، وكيف حاول كالفن تقديم بعض الاستدلالات العقلانية لصالح سلطة الكتاب المقدس. ثم اختتم الباحث دراسته بتقديم بعض التطبيقات العملية.

المراجع

مشرقى، لبيب، حديث مع جون كالفن. بدون ناشر 1985.

لوريمر، جون، تاريخ الكنيسة، الجزء الرابع، ترجمة عزرا مرجان. القاهرة: دار الثقافة 1990.

 فارس، فايز، اضواء على الاصلاح الانجيلى. القاهرة: دار الثقافة 1984.

Allison, Gregg R., Historical Theology: An Introduction to Christian Doctrine, Grand Rapids, Michigan: Zondervan 2011.

Calvin, John, Institutes of the Christian Religion, 1:6:2, Vol. 1, (Library of the Christian Classics)  Ed. John T. McNeill, translated by Ford L. Battles, Louisville, Kentucky: Westminster John Knox Press 2006.

McGrath, Alister E., Historical Theology: An Introduction to the History of the Christian Thought, Oxford: Blackwell Publishing 1998.

 

 

 


[1]John Calvin, Institutes of the Christian Religion, 1:6:2, Vol. 1, (Library of the Christian Classics)  Ed. John T. McNeill, translated by Ford L. Battles, (Louisville, Kentucky: Westminster John Knox Press 2006), 71.

[2] Ibid

[3] Ibid, 1:6:4, 73.

[4] لبيب مشرقى، حديث مع جون كالفن، (بدون ناشر، 1985)، 115.

[5] جون لوريمر، تاريخ الكنيسة، الجزء الرابع، ترجمة عزرا مرجان، (القاهرة: دار الثقافة 1990)، 251.

 

[6]Ibid, 1:6:1, 70.

[7]Ibid, 1:7:1, 74.

[8]Gregg R. Allison, Historical Theology: An Introduction to Christian Doctrine, (Grand Rapids, Michigan: Zondervan 2011), 89.

[9] يشرح كالفن عقيدة "الشهادة الداخلية للروح القدس" فى فصول عديدة فى كتابه "مبادىء الديانة المسيحية" فى عدد من الأماكن مثل: 3 : 1 : 1 ، 3 : 1 :  3 ، 3 : 2 : 15 ، 3 : 2 : 33 – 36

[10] Calvin, Institutes, 1: 7: 4, 78

[11] Ibid

[12] Ibid, 1: 7: 4, 79

[13] Ibid, 1: 7: 5, 80.

[14] اتفق مارتن لوثر مع كالفن فى هذه النقطة قائلاً:"الكتاب المقدس هو الرحم الذى وُلِد منه الحق الإلهى والكنيسة". انظر:

Martin Luther, Lectures on the Psalms (Wreke WA III: 454), cited in, Calvin, Institutes, note 4, ed. John T. McNeill, 76.

[15] لوريمر، تاريخ الكنيسة، الجزء الرابع، 251.

[16] Calvin, Institutes, 1: 7: 3, 76.

[17] Ibid, 1: 8: 13, 92.

[18] Alister E. McGrath, Historical Theology: An Introduction to the History of the Christian Thought, (Oxford: Blackwell Publishing 1998), 167.

[19] Calvin, Institutes, 1: 7: 1, 75.

[20] فايز فارس، اضواء على الاصلاح الانجيلى، (القاهرة: دار الثقافة 1984)، 47.

[21] يقول كالفن مثلاً:"ما الذى سيحدث لهذه الضمائر البائسة التى تبحث عن ضمان اكيد للحياة الأبدية ان كانت كل الوعود بها تتكون من وتعتمد فقط على حكم البشر؟". انظر

[22] Ibid, 1: 7: 2, 75.

[23] فارس، اضواء على الاصلاح الانجيلى، 47.

[24] Allison, HistoricalTheology, 90.

[25] Calvin, Institutes, 1: 8: 1, 82.

[26] صرف كالفن الفصل الثامن من الكتاب الأول من "المبادىء" وهو يشرح هذه الإستدلالات بالتفصيل مستخدماً امثلة عديدة من كتب موسى والأنبياء ثم تعرض للعهد الجديد، وصرف وقتاً يشرح استشهاد المسيحيين لأجل الدفاع عن الكتاب المقدس ضد الأباطرة اليونانيين والرومانيين.

[27] Augustine, Against the Manicheans, 5; NPNF, Vol. 4, 131.

[28] Calvin, Institutes, 1: 8: 3, 77.

[29] Ibid, 1: 7: 4, 78 – 79.