الرئيسية من تراثنا من تراثنا تطور اللغة الكنسيّة العربيّة بين العصر الإسلاميّ المبكر والواقع المعاصر

تطور اللغة الكنسيّة العربيّة بين العصر الإسلاميّ المبكر والواقع المعاصر

مقدمة
اللّهمّ، برحمتك توفقنا
للصدق والصواب!
الحمد لله الذي لم يكن شيءٌ قبلَه،
وكان قبلَ كلِّ شيءٍ،
الذي ليس شيءٌ بعدَه،

وهو وارثُ كلِّ شيءٍ،
وإليه مصيرُ كلِّ شيء،
الذي حفظ بعلمه علمَ كلِّ شيء،
ولم يسع لذلك إلا عقلُهُ،
الذي إلى علمه انتهى كلُّ شيء،
وأحصى كلَّ شيءٍ بعلمه.
نسألك، اللّهمّ،
برحمتك وقدرتك،
أن تجعلنا ممَن يعرفُ حقَّك،
ويتبعُ رضاك،
ويتجنبُ سُخطك،
ويسبحُ بأسمائك الحسنى،
ويتكلمُ بأمثالك العليا.
أنت الراحم، الرحمن، الرحيم.
على العرش استويت،
وعلى الخلائق عليت،
وكلّ شيء مليت.
تَخيِرُ، ولا يُخَارُ عليك،
تَقضي، ولا يُقضى عليك،
تستغني عنا، ونفتقر إليك.
قريب لمن دنا منك،
مجيب لمن دعاك وتضرع إليك.
فأنت، اللّهمّ، ربُّ كلِّ شيء،
وإلهُ كلِّ شيء،
وخالقُ كلِّ شيء.
أفتح أفواهنَا،
وانشر ألسنتَنا،
وليّن قلوبنَا،
واشرح صدورنَا،
لتسبيح اسمك الكريم،
العليّ العظيم،
المبارك المقدَّس.
فإنّه لا إلهَ قبلك،
ولا إلهَ بعدك.
إليك المصير،
وأنت على كلّ شيءٍ قدير.


يشعر قارئ هذه الكلمات أنّ الكاتب، ولا شك، مسلم. فالصلاة نفسها تمتلئ بتعبيرات إسلاميّة، بل قرآنيّة، مباشرة. نقرأ، مثلاً، عبارات مقتبسة حرفيًا من النص القرآن الكريم: مثل "اشرح صدورنا، وأسمائك الحسنى." كما أنّ هناك العديد من التعبيرات الإسلاميّة التي لا ترد في نص القرآن الكريم بطريقة مباشرة. ثمّ إنّ الصلاة بشكل عام، سواء احتوت على اقتباس مباشر من نص القرآن الكريم، أو شملت على إشارات ضمنيّة مأخوذة من الفكر الإسلاميّ، إنّما هي مصطبغةٌ بصبغة إسلاميّة واضحة، ومتلونةٌ مفرداتُها بالطريقة التي يصلي بها المسلمون حتى يومنا هذا!

الشيّق في الأمر هو أنّ هذه الصلاة ليست إسلاميّة بالمرة؛ إنّما هي صلاة عربيّة مسيحيّة مأخوذة من ديباجة كتاب مجهول المؤلف وُضع في أوائل القرن التاسع الميلاديّ، "كمقدمة لبحث لاهوتيّ مسيحيّ عربيّ عنوانه "في تثليث الله الواحد." هذا العمل محفوظ في مخطوطة كُتبت حوالي سنة 800م، وحُفظت في دير القديسة كاترين في جبل سيناء (سيناء عربي 154)."[1] الأمر الذي يدعو للدهشة، أيضًا، هو أنّ المؤلف العربيّ المسيحيّ لم ير أيّة مشكلة في استخدام هذه التعبيرات الإسلاميّة في كتاب مسحيّ. لقد صارت مفردات القرآن الكريم، ومفردات الإسلام بشكل عام جزءًا أصيلاً من هويته. ولذا، فحين أراد أن يقدم ابتهالاً لله، قبل أن يدوّن كتابه عن العقيدة المسيحيّة، كان من الطبيعي أن تتلون لغتُه بهذا اللون الإسلاميّ الواضح.

يحاول كاتب هذه السطور أن يثبت أنّ المسيحيّين العرب تأقلموا مع القرينة الإسلاميّة الجديدة التي جاءت بظهور الإسلام، واستطاعوا التعبير عن إيمانهم في قرينةٍ جديدة مُستخدمين في ذلك مصطلحات وتعبيرات إسلاميّة أصيلة. ولكن، نظرًا لعدّة أسباب، فقدت الكنيسة العربيّة المعاصرة قدرتها على التعبير عن إيمانها في القرينة الإسلاميّة، الأمر الذي يستلزم منها الآن أن تبحث عن مصالحةٍ لُغويّة بين إيمانها، وبين قرينتها العربيّة من خلال إعادة صياغة المفاهيم اللاهوتيّة الجوهريّة في قالبٍ عربيّ أصيل.

 

تأقلم المسيحيّة مع قرائن مختلفة

 

تتمتع المسيحيّة بمرونة فريدة. فالإيمان المسيحيّ يصلح في كلّ زمان ومكان، ولا يُحدّ بحيز اللغة، أو الجنس، أو اللون. ومن المعروف تاريخيًا أنّ الإيمان المسيحيّ نشأ في بيئةٍ وقرينةٍ يونانيّة، وبالتالي فقد تبنى—على الأقل في البداية—تعابير وصيغ فلسفيّة يونانيّة للتعبير عن الله، والإيمان. والدليل الأعظم على هذه الفكرة هو استخدام العهد الجديد (قصة حياة السيد المسيح كما دونها الحواريّون) للقب "اللوغوص" للتعبير عن السيد المسيح. وقد انعكس هذا الأمر، بالطبع، على علاقة المسيحيّة والمسيحيّين أنفسهم مع مفهوم اللُغة وتفاعلهم مع عناصر الثقافة والحضارة.

وأكد المسيحيّون في حقب زمنيّة متعددة على مرونة إيمانهم وعلى مقدرته العجيبة على التأقلم مع الواقع الجديد. وفي حكمي، يعدّ المسيحيّون العرب الأولون واللاهوت العربيّ المسيحيّ الذي أنتجته أقلامهُم نموذجًا فريدًا ومميزًا للاهوتٍ متفاعلٍ مرنٍ.

 

المسيحيّون العرب وحلول الإسلام

 

قبل ظهور الإسلام، عاش المسيحيّون في دولٍ متعددة في هذه المنطقة في الشرق الأوسط. بعضهم عاش في الهلال الخصيب، والبعض الآخر عاش في بلاد ما بين النهريْن، والبعض الثالث عاش في جزيرة العرب، وبالطبع عاش القبط في مصر. وكان كلّ منهم يسبح الله ويعبده بحسب ثقافة، ولُغة محليّة معينةٍ. وكان بعضهم يستخدم اللُغة السريانيّة، والبعض الآخر اللُغة القبطيّة.

لكن كلّ شيء تغير بحلول الإسلام! وبدأ المسيحيّون يشعرون بتحديات القرينة الجديدة التي حملت بين طياتها لُغةً جديدة: اللُغة العربيّة، وتحديات لاهوتيّة تتعلق بمصداقيّة الإيمان المسيحيّ، ومدى توافق معتقداته مع العقل والمنطق. وهكذا، شعر المسيحيّون في القرون الأولى للإسلام بأنّ النظام العالميّ الجديد—بما يحمل من تحديات ثقافيّة، ولاهوتيّة، ومنطقيّة، ولُغويّة يستلزم منهم تعبيرًا جديدًا عن إيمانهم وعن عقيدتهم، تعبيرًا يأخذ بعين الاعتبار تَقَبُلَّ، وتَفَهّمَّ المستمع المسلم، وفي نفس الوقت يحافظ على فرادة الإيمان المسيحيّ.

فبعد صراع مع مشكلة التحول اللُغويّ من السريانيّة إلى العربيّة، بدأ الجيل الأول من اللاهوتيين المسيحيّين العرب مثل ثيودورس أبي قرّة، وحبيب بن خدمة أبي رائطة التكريتيّ، وطيموثاوس الأول، وعمّار البصريّ، وغيرهم في التعبير عن الإيمان المسيحيّ فيlingua francaالجديدة. [2]وصاغ أولئك لاهوتًا مسيحيًا خالصًا في ثوبٍ عربّيٍ إسلاميّ—الأمر الذي يدهش الكثيرين حتى هذه الساعة.

تبدو مثل هذه النصوص اللاهوتيّة المسيحيّة وكأنّ كاتبَها كان لاهوتيًّا مسلمًا. لكن، في الواقع، لم يكن الكاتب مسلمًا، بل كان لاهوتيًا مسيحيًا مخضرمًا تفاعل مع القرينة الجديدة ومعطياتها، وطَوّعَ من إيمانه ومن لُغته، وهكذا خرج إنتاجُه اللاهوتيّ واضحًا في السياق الجديد: عالم الإسلام. [3]لقد تشبّع، بل تشرّب، اللاهوتيّون المسيحيّون العرب بثقافة الإسلام والمسلمين، وعرفوا القرآن الكريم وعلومًا تتصل به. وصار القرآن الكريم نفسُه جزءًا من تفكيرهم اللاهوتيّ، بل صار قاموسَ مفراداتهم.[4] باختصار، لقد تجسدوا في القرينة الإسلاميّة الجديدة.

في هذا يقول سمير خليل:

 

لقد تشبّع المؤلف (العربيّ المسيحيّ) بحضارة القرآن الكريم. فهو لا يعيش في "مجتمعٍ مسيحي،" ولا يستخدم ما يطلق عليه البعض مفردات وأساليب "اللغة العربيّة المسيحيّة..." هو يشترك مع المسلمين في نفس الحضارة العربيّة، والتي تحمل بين طياتها العديد من التعبيرات والكلمات القرآنيّة، ونموذجًا محددًا، وبعضًا من الفكر الإسلاميّ.[5]

والواقع أنّ الحوار الدينيّ المبكر بين الإسلام والمسيحيّة مهّد الطريقَ أمام المسيحيّين والمسلمين—على حدٍ سواء—لكي يتحاورا كتابةً بشأن أمورهم الدينيّة، وبشأن مصداقيّة الدين نفسه. فأخذ العلماء المسلمون بتأليفِ مجموعةٍ كبيرةٍ من الكتب أطلقوا عليها "في الرّد على النصارى." وفي المقابل بدأ المسيحيّون العرب—كردِّ فعلٍ—في التفاعل مع مثل هذه الكتابات، وأنتجت أقلامُهم كتبًا تدافع عن مصداقيّة الإيمان المسيحيّ وتؤكد أنّه دينٌ معقولٌ، لا تتناقض أسسُه مع معطيات العقل والمنطق. ومرات كثيرة عنوّن المسيحيّون كتاباتهم "كتاب البرهان."

 

وتأكيدًا على هذه الأطروحة، يوردُ كاتب هذه السطور أربعة نماذج: واحد ملكيّ، وآخر نسطوريّ، وثالث يعقوبيّ، وأخيرًا نص معاصر.[6] وتمثل هذه النصوص الطوائفَ المسيحيّة الرئيسيّة في الشرق الأوسط ساعة ظهور الإسلام، بالإضافة إلى الكنيسة الإنجيليّة، وهي الكنيسة الوطنيّة للأقباط الإنجيلين.

 

1. النموذج الملكيّ: ثيودورس أبو قرّة ومقاله وجود الخالق والدين القويم

2. النموذج النسطوريّ: عمّار البصريّ وكتاب البرهان

3. النموذج اليعقوبيّ: زكريا بن سباع وكتاب الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة

4. النموذج المعاصر: افتتاحية مجلة الهدى عام 1911

 

النموذج الملكيّ: ثيودورس أبو قرّة ومقاله عن وجود الخالق والدين القويم

عاش أبو قرّة في القرن التاسع الميلاديّ. ومثّل، إلى جوار حبيب بن خدمة أبو رائطة التكريتيّ وعمار البصريّ الجيل الأول من اللاهوتيين المسيحيّين العرب الذين تفاعلوا مع الإسلام. ويعدّ أبو قرّة مهمًا كشخصيّة لاهوتيّة إذ أنّه يقف حلقةَ وصلٍ بين آباء الكنيسة ممَن تحدثوا اللغة اليونانيّة، وأولئك الذين أسسوا الكنيسة العربيّة. وبالمقابل، كان القديس يوحنا الدمشقيّ (ابن منصور)، وهو آخر الآباء الشرقيين، معاصرًا لظهور الإسلام، وبالتحديد لعصر الأمويين. ومع أنّه عرف اللغة العربيّة،[7] لكنه لم يكتب بها على الإطلاق. وحتى ما كتب عن الإسلام باللغة اليونانيّة كان سلبيًا. ترهبن أبو قرّة في دير مار سابا، المكان الذي كان عامرًا بالتراث الآبائيّ اليونانيّ، والذي كانت سيرة وتعاليم الدمشقيّ مازالت في ذاكرته!

كتب أبو قرّة باللغة العربيّة، والسريانيّة، واليونانيّة. ومن أشهر أعماله ميمر في وجود الخالق والدين القويم. وفيه يعرض أبو قرّة للأزمة الدينيّة الحادثة في أيامه، والتي تتمثل في وجود أديان متعددة يزعم المؤمنون بها أنّ دينهم، دون الآخر، هو الدين الحق. يستعرض أبو قرّة لهذه المشكلة، ويضع استراتيـﭼيّة، أو "حيلة،" كما يقول، من خلالها يثبت صدق المسيحيّة. ثمّ يذهب ليتعامل مع قضية صفات الله تعالى، فيقول:

 

إنّ هذا القويّ

حكيمٌ

لا تحصى حكمتُه مثل قوته....

عرفنا أنّ هذا القوي الحكيم

أيضًا فيّاضُ خيرٍ

لا يحصى خيرُه

على قدر حكمته وقوته.

عرفنا أنّه فاضلٌ بلا انتهاء

عرفنا أنّه رحيم،

طويلُ الروح،

حمولٌ،

صبورٌ،

حليمٌ،

عادلٌ،

ومعاقِبٌ،

غيرُ ظالمٍ،

سيحشرُ الخلقَ،

ويبعثهم من الموتى،

ويثيبُ الصالحين

على قدر صلاحهم

ويعاقبُ الطالحين

على قدر ما استوجبوا.[8]

الأوصاف سالفة الذكر، كما هو واضح، أوصافٌ لا يجد المستمع المسلم أيّة صعوبةٍ في قبولها من لاهوتيّ مسيحيّ يصف الخالق—جلّ اسمُه. الواضح أنّ أبا قرّة كان مطلعًا، وبشكلٍ جيد، على القرينة من حوله، وعلى الألفاظ العربيّة، والإسلاميّة المتداولة وقتها. وهكذا، لمّا أراد الحديث عن الذات الإلهيّة، والطريق إلى معرفة الله تعالى، استخدم تعبيرات يستسيغها العقل المسلم، وصيغ إيمانيّة تتماشى مع القرينة العربيّة المعاصرة.

 

النموذج النسطوريّ: عمّار البصريّ وكتاب البرهان

 

لا يعرف العلماء الكثير عن تفاصيل حياة عمّار البصريّ، اللاهوتيّ النسطوريّ.[9] بيد أنّ ثمة معطيات يمكن أن تشير من قريبٍ أو من بعيدٍ له ولمكانته العلميّة والفلسفيّة وسط اللاهوتيّين المسيحيّين، والفقهاء المسلمين الذين عاشوا في القرن التاسع الميلاديّ. يبدو، كما يحاج ميشال الحايك، أنّ عمّار البصريّ كان معاصرًا للخليفتيْن المأمون 813-833م والمعتصم 833-842م؛ إذ يقول في كتابه البرهان عن "رجل من الملوك في دهرنا أنّه رحل عن مملكته بجميع جنده إلى الروم في طلب امرأة من بعض الحصون."[10] ويرى الحايك أنّ هذه إشارة لمعركة عموريّة، والتي سبقتها الصرخة الشهيرة: "وامعتصماه!" ومن المعروف تاريخيًّا أنّ المعتصم انتصر على الجيوش البيزنطيّة وفتح عموريّة عام 838م.

ويذكر العالم الشيعيّ أبو الفرج محمد بن اسحق والمعروف باسم ابن النديم (مات في 17 سبتمبر عام 995، أو 998) في كتاب الفهرست أنّ أبا الهزيل العلاّف، ألّف كتابًا للرّد على عمّار البصريّ المسيحيّ. كلّ هذا يؤكد أنّ عمّار البصريّ عاش في الربع الأول من القرن التاسع الميلاديّ.

يقول عمّار البصريّ في معرض حديثه عن التثليث:

 

ولا يلزَم النصرانية لذلك أن تكون أدخلت على الخالق تبعيضًا،

ولا تقسيمًا؛

لأنّ التبعيض والتقسيم إنما يقعـ[ان] على الأجسام،

والله ليس بجسمٍ.

ولمْ نر النفس الروحانيّة اللطيفة تجسّمت،

ولا تبعضّت،

ولا تقسّمت،

بثبات الحياة والكلمة لها في ذات جوهرها.

فالله جلّ ثناؤه...،

إذ هو واحد،

إنّه موجود بثلثة معانٍ،

أولى ألاّ نتوهم عليه بذلك تبعيضًا،

ولا تقسيمًا،

إذ كان ذلك للأجسام،

وليس هو بجسم.

وقد وجدنا في بعض خلقه ذلك فلم ينقسم له،

ولم يتبعض،

بل يقبل ذلك كما أخبرنا في كتابه

الذي صحّ عندنا أنّه بآياته القاهرة ظهر،

مؤمنين بأنّه جوهرٌ واحدٌ

معروفٌ بثلثة أقانيم،

محيطٌ بالسماء والأرض،

غيرُ محدود،

ولا منظور إليه،

أزليٌّ لمْ يزل،

ولا يزال،

إلى أبد الآبدين.[11]

 

مرة أخرى، نرى لاهوتيًّا مسيحيًّا عربيًا يعبّر بلُغة القرينة الجديدة عن عقيدة الثالوث، مؤكدًا في الوقت ذاته أنّ الله تعالى واحدٌ، موجود في ثلاثة أقانيم. وهو تعالى غيرُ مجزءٍ، ولا متبعضٍ؛ لأنّه واحدٌ في جوهره. لقد أظهر عمّار البصريّ معرفة واسعة بالقرآن الكريم في كتابيْه، حتى أنّه اقتبس العديد والعديد من الآيات القرآنيّة في حديثه، بل إنّه اقتبس عنوان كتابه الأول من سورة البقرة، والآية 111. كلّ هذا يعكس استيعابَه للسياق الجديد، وقدرتَه المتميزة على التعبير عن حقائق الإيمان المسيحيّ بطريقة يتقبلها المستمع المسيحيّ والمسلم على حدٍ سواء.

 

النموذج اليعقوبيّ: زكريا بن سباع وكتاب الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة

 

يوحنا بن أبي زكريا بن سباع لاهوتيّ قبطيّ عاش في الفترة ما بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وهي الفترة التي تمثل العصر الذهبيّ للتأليف اللاهوتيّ القبطيّ باللغة العربيّة. وهي نفس الحقبة التي كتب فيها أولاد العسّال، وغبريال بن تريك، وغيرهم. وفي كتابه الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة، الذي هو "كتاب شامل يجمع، في 112 فصلاً، أصنافًا شتى من المعلومات الدينيّة الخاصة بالكنيسة القبطيّة. فمن الذات الإلهيّة، والخلق، إلى أخبار الكتاب المقدّس بعهديْه القديم والجديد، إلى الكنيسة وبنيانها وزينتها..."[12] كتب ابن سباع، في ديباجة هذا المجلد، صائغًا الإيمان المسيحيّ في قرينة عربيّة أصيلة، كتب يقول:

 

إنّ الباري تعالى ذكرُه ذاتٌ واحدة،

لا إله إلا هو وحده،

لا نظيرَ له في الإلهيّة،

ولا مثيلَ له في الأزليّة،

ولا ضد يقاومه،

ولا يد تنازعه،

وإنّه غيرُ جسمٍ،

وغيرُ مركبٍ،

وغيرُ مؤلَفٍ،

وغيرُ متبعضٍ،

أو مجزءٍ،

وغيرُ مستحيلٍ،

لا يشغل حيزًا،

ولا يقبل عرضًا،

ولا يحويه مكانٌ،

ولا يحصرُه زمانٌ،

قديمٌ بلا ابتداء،

باقٍ بلا انتهاء،

خفيٌ في ذاته،

ظاهرٌ في أفعاله.

خلق الدنيا لمّا شاء،

ويفنيها إذا شاء،

كيف شاء،

وإنّ هذا الإله الذي هذه الأوصاف أوصافُه ذاتٌ واحدةٌ،

ثلاثةُ أقانيم:

آبٌ، وابنٌ، وروحُ قدسٍ.

أقنومُ الآب قائمٌ بذاته،

ناطقٌ بالابن،

حيٌ بروح قدسه.

والابن قائمٌ بالآب،

ناطقٌ بخاصته،

حيٌ بروح قدسه.

والروح القدس قائمٌ بالآب،

ناطقٌ بالابن،

حيٌ بخاصته تابعٌ في التوحيد الذاتيّ

والتثليث الصفاتيّ.[13]

 

الحديث هنا عن ذات الله تعالى، وعن عقيدة الثالوث. لقد وضع ابن سباع، وهو يتحدث عن عقيدة مسيحيّة خالصة كالثالوث، في ذهنه القرينة التي يعيش فيها، وأخذها مأخذ الجد، وكتب متفاعلاً معها. ولهذا، فحديثه عن الثالوث يأتي بعد حديثه عن وحدانيّة ذات الله. إنّ القرينة المباشرة قرينة إسلاميّة، ترى في الثالوث تناقضًا مع وحدانيّة الله. إذا، انطلاقًا من هذه المعطيات، يكتب ابن سباع مؤكدًا على أنّ الله واحد موجود في ثلاثة أقانيم. من الملاحظ، أيضًا، أنّه، في حديثه عن الله تعالى، يستخدم تعبيرات قرآنيّة مثل "لا إله إلا هو" وهو تعبير ورد في سورة البقرة الآية 255.

 

النموذج المعاصر: افتتاحية مجلة الهدى عام 1911

النموذج التالي حديثٌ نسبيًا؛ إذ هو مكتوبٌ عام 1911 كافتتاحيّة لمجلة "الهدى" وهي المجلة الرسميّة للكنيسة الإنجيليّة بمصر، والتي تمثل الجيل الثالث من الصحافة الإنجيليّة في مصر؛ حيث صدرت عام 1864 مجلة "النشرة" الإنجيليّة، وبعدها عام 1894 ظهرت مجلة "المرشد."

تظهر هذه الديباجة تمسّكَ الكنيسة الإنجيليّة آنذاك بعروبتها، كما أنّها تؤكد على أنّ الكنيسة الإنجيليّة كانت تدرك، آنذاك، ضرورة التعبير عن إيمانها بطريقة قرينيّة. كتبت "الهدى" تقول:

 

الحمدُ لله ربّ الهدى،

المانح لعباده المتقين

الحكمةَ، والحجى،

المنير بوحيه الصادق حنادسَ الدجى،

الحافظ مَنْ اتبع صراطه من الغوايّة،

والهوى،

المرشد المعتصمين بعروةِ إنجيلهِ الوثقى،

إلى محبته الوسطى،

المعلن حقّه في إنجيلٍ طاهرٍ،

تنزيلٌ سماويٌ هو النور الباهر،

المدبر خلاصًا لجميع بني البشر،

في مسيحه الإله المتأنس،

والإنسان البار المقتدر.

هذا ولمّا كان الإنسان قد ضلّ عن الهدى،

وسار في سبيل الغوايّة والهوى،

وأطاع الوسواس الخناس،

الذي يوسوس في صدور الناس.

وابتعد عن ربه الأعلى،

الذي خلق فسوى.

فصار مستحقاً لنار الله الموقدة،

التي تطّلع على الأفئدة.

إنّها عليه مؤصدةٌ،

في عَمَدٍ ممدّدة،

فلم يشاء إلهُ المحبة الحكيم أن يترك كلّ البشر واردين على نار الجحيم،

ليقاسوا فيها العذاب الأليم.

ويقيموا فيها خالدين جزاء شرهم العظيم.

فأنزل كتابَه الحقّ:

التوراة،

والإنجيل الثمين،

من عنده

هدىً،

ونورًا،

ورحمةً للعالمين.

 

يُظهر هذا النص، بما لا يدع مجالاً للشك، وعيًا مستنيرًا بالقرينة العربيّة والإسلاميّة التي كانت، وما زالت الكنيسة تعيشها في الشرق الأوسط. كذلك، يظهر مدى مرونة الكنيسة الإنجيليّة في تبني تعبيرات إسلاميّة، مأخوذة بشكلٍِ مباشرٍ من نص القرآن الكريم، أو بشكل غير مباشر من الصيغ الإسلاميّة. تقتبس الديباجة الحديث عن الوسواس الخناس، الوارد ذكرُه في سورة الناس 4-5، كذلك، الحديث عن النار والأفئدة، وهو اقتباسٌ مباشر من سورة الهمزة 6-9، كذلك الاقتباس من سورة المائدة 46 في وصفه للإنجيل: بالهدى وبالنور.

 

"متغربون" عرب في قرينة عربيّة!

لقد تمكَّن المسيحيّون العرب الأوائل من التفاعل مع الإسلام من خلال معرفة الإسلام، والتشبّع به، وبصيغه الكلاميّة، ومعرفة القرينة العربيّة معرفة وثيقة. وهكذا، تُظهِر الكتابات العربيّة المسيحيّة القديمة نوعًا فريدًا من تبني المفردات اللُغويّة "المسلمة؛" إذ اقتبس الكاتب المسيحيّ من الإسلام—نصًا وعقيدةً—ما يصلح للبرهنة على صدق الإيمان المسيحيّ. لقد كان من الممكن، بل من السهل على المؤلف العربيّ المسيحيّ أن يستخدم كلمات مسيحيّة حصريّةِ اللفظ للتعيير عن اللاهوت المسيحيّ، لكن نجد أنّ:

العديد من المصطلحات هي إسلاميَّة تمامًا. الأهمّ من ذلك، هو أنَّ الإشارات القرآنية التي نجدها، ليست اقتباسات حرفيّة، فالاقتباس من القرآن هو أمر سهل؛ كلّ ما تحتاج هو فهرس! لكن لكي ُتدخل هذه الاقتباسات بطريقة تصبح جزءًا من النصّ بحيث لا تستطيع أن تتعرف عليها، فهذا أمر صعب. وهذا يعني أنَّ النص هو جزءٌ منك. وهو جزء من لغتك الأصلية.[14]

 

لقد برع المسيحيّون العرب، وأولئك الذين استعربوا، في العصر العباسيّ الأول نتيجة التسامح الفكريّ الذي أظهره بعض الخلفاء. وصاروا شركاء إخوانهم المسلمين في بناء الحضارة العربيّة العظيمة. لذا، يستغرب المرء من قراءات فاسدة للتاريخ يزعم فيها البعض أنّ المسيحيّين العرب ليسوا جزءًا أصيلاً من نسيج الشرق. لقد سبق وقال الرئيس الليبيّ معمر القذافيّ "إنّ المسيحيّين الذين يعيشون في العالم العربيّ أقرب إلى الفاتيكان من مكة. إنَّهم يملكون روحًا أوربيّة في جسدٍ عربيّ."[15]

 

الاقتراب والمصالحة

إذ قدّم المسيحيّون العرب نموذجًا طيبًا "لأقلمة" الإيمان المسيحيّ مع القرينة الجديدة التي عاصروها، يأتي الآن دور الكنيسة العربيّة المعاصرة. إنّ المطلوب من الكنيسة العربيّة المعاصرة هو إعادة التعبير عن لاهوتها بما يتلاءم مع نفس القرينة التي واجهها المسيحيّون العرب مع حلول الإسلام. بالطبع، كثير من الأمور تغيرت، وتبدلت، بما في ذلك عناصر لُغويّة كثيرة؛ لكن ما لم يتغير هو "وجود الإسلام" كحقيقة في الشرق الأوسط تحمل بين طياتها حوارًا مع أساسيات الإيمان المسيحيّ.

إنّ مجرد "وجود الإسلام" في المنطقة يتطلب من الكنيسة العربيّة المعاصرة تأكيدًا متجددًا لصدق إيمانها، وصحة معتقدها. ولن يتأتى ذلك إلا إذا سعت الكنيسة العربيّة المعاصرة وراء "مصالحة" لاهوتها بقرينتها العربيّة؛ ذلك لأنّ الروابط بين اللُغة العربيّة، والحضارة العربيّة من جهة، والإسلام من جهة أخرى روابط شديدةُ الصلة، عميقةٌ في تاريخها، ومتأصلةٌ في أبعادها. يكفي أن يتذكر المرء أنّ لُغة القرآن الكريم هي اللُغة العربيّة!

لكن من الحتميّ أن تكون هذه "المصالحة" مصالحة شاملة، وكليّة—مصالحة تضم إعادة تعبيرٍ عن كلّ عناصر الإيمان، والعبادة، والحياة، بطريقة يستطيع العقل المسلم أن يتفهما بدون حواجز دينيّة، أو ثقافيّة، أو لُغويّة. فليس من المعقول، أو المطلوب أن تعيش الكنيسة العربيّة "حياةَ غربةٍ" في ديارٍ كانت، في يومٍ من الأيام، أوطانًا لها. وليس من المنطقيّ أن تتمسك الكنيسة العربيّة المعاصرة بلُغةٍ أو لغاتٍ تطلق عليها لقب "لُغة مقدسة." بالطبع هناك دواعٍ أكاديميّة وحضاريّة متعددة لتعلّم هذه اللُغات، لكن لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تظل الكنيسة العربيّة المعاصرة تستخدم ألفاظًا لاهوتيّة كانت قد صيغت أصلاً في قرينة يونانيّة، في القرينة العربيّة الإسلاميّة. إنّ معطيات القرينتين مختلفتان؛ ويبدو مستحيلاً، كما يرى كاتب هذه السطور، أن تنجح الصيغ اليونانيّة للتعبير عن الإيمان المسيحيّ العربيّ في القرينة العربيّة الإسلاميّة. هذا تغربٌ ممقوتٌ، وفقدانٌ للتواصل مع العالم الخارجيّ، وتيهٌ في الزمان.

كما لا يعقل أن تظل العديد من الكنائس تستخدم أنماطَ عبادةٍ غير عربيّة في قرينة عربيّة؛ فهذا تغرب في المكان! لا يجب أن نقتل الحياة، كما يقول سمير خليل، بأن "نوقف التطور الثقافيّ عند مجموعة من الناس في أيّ مرحلة من تاريخهم، وأن نصفها "بالعصر الذهبيّ" وبنموذج يمكن نسخه."[16]

مطلوبٌ، إذًا، من المسيحيّين العرب المعاصرين أن يقتربوا من الحضارة العربيّة اقترابًا أصيلاً إيجابيًّا، وأن يستبعدوا هذا الفصل الحادث بين كلّ ما هو عربيّ وكلّ ما هو إسلاميّ. وهكذا يثبتوا خطأ المثل القائل: "أبت العربيّة أن تتنصر."

 

 

[1] مارك سوانسن، "يوم تحدث المسيحيّون اللغة العربيّة: اللغة العربيّة كلغةٍ مسيحيّة؟" ترجمة وجيه يوسف ورانيا نبيل (د. ن، د.ت)، 6-7.

[2] S. H. Griffith، “Habib ibn Hidmah abu Raitah، a Christian Mutakallim of the First Abbasid Century،” Oriens Christianus 64 (1980): 165.

[3] S. H. Griffith، “The Kitab Misbah al-Aql of Severus ibn al-Muqaffa: A Profile of the Christian Creed in Arabic in Tenth Century Egypt،” in The Beginnings of Christian Theology in Arabic: Muslim-Christian Encounters in the Early Islamic Period (Vermont: Ashgate Publishing Company، 2002)، 28.

[4] S. H. Griffith، “The View of Islam from the Monasteries of Palestine in the Early ‘Abbasid Period: Theodore abu Qurrah and the Summa Theologiae Arabica،” Islam and Christian-Muslim Relations 7 (March 1996): 12.

[5] Samir Khalil، “The Earliest Arab Apology for Christianity (c.750).” In Christian Arabic Apologetics during the Abbasid Period (750-1258)، eds. Samir Khalil and Jørgen Nielsen، (Leiden: E. J. Brill، 1994)، 109.

 

[6] تتحدد هذه المذاهب من خلال قبولها أو رفضها لقرارات مجمع خلقيدونية (8 أكتوبر- 1 نوفمبر 451، خارج القسطنطينيّة)، والذي ناقش طبيعة المسيح: الإلهيّة، والإنسانيّة. قَبِلَ الملكيّون قرارات المجمع بأنّ المسيح شخص واحد ذو طبيعتين، في حين رفض اليعاقبة هذا الرأي.

[7] سمير خليل، "دور المسيحيّين في النهضة العباسيّة، في العراق وسوريا،" في المسيحيّة عبر تاريخها في المشرق، تحرير حبيب بدر وآخرون (بيروت: مجلس كنائس الشرق الأوسط)، 507.

[8] إغناطيوس ديك، حققه، وقدم له، وفهرسه، ميمر في وجود الخالق والدين القويم، لثيودورس أبي قرّة، سلسلة التراث العربيّ المسيحيّ 3، (جونيه: المكتبة البولسيّة، 1982)، 187- 189.

[9] نسبةً للاهوتيّ الأنطاكيّ، وبطريرك القسطنطينيّة في القرن الخامس، نسطوريوس والذي تحدث بطريقة مبالغ فيها عن التمييز الحادث في طبيعة المسيح. ﭼورج شحاته قنواتي، المسيحيّة والحضارة العربيّة، ط. 2 (دار الثقافة: القاهرة، 1992)، 40.

[10] ميشال الحايك، عمّار البصريّ: كتاب البرهان وكتاب الأسئلة والأجوبة، (بيروت: دار المشرق، 1977)، 10.

[11] المرجع السابق، 55-56.

[12] ﭼورج شحاته قنواتي، المسيحيّة والحضارة العربيّة، ط. 2 (دار الثقافة: القاهرة، 1992)، 293- 294.

[13] ﭬيكتور منصور مستريح، حققه، ونقله إلى اللاتينيّة، يوحنا ابن أبي زكريا بن سباع وكتاب الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة (القاهرة: المركز الفرنسيسكانيّ للدراسات الشرقيّة، 1966)، 5- 6.

[14] Samir Khalil، The Significance of Early Arab-Christian Thought for Muslim-Christian Understanding (Washington، D.C: Center for Muslim-Christian Understanding، 1997)، 8.

[15]أندريه زكي، الإسلام السياسيّ والمواطنة والأقليات: مستقبل المسيحيّين العرب في الشرق الأوسط (القاهرة دار الشروق الدولية، 2006)، 26.

[16] سمير خليل، دور المسيحيّين الثقافيّ في العالم العربيّ، ج. 2، موسوعة المعرفة المسيحيّة 5: الفكر العربيّ المسيحيّ (بيروت: دار المشرق، 2004)،