الرئيسية كتب للقراءة

تفسير أعمال الرسل للقس يوسف عبدالنور - الإصحَاحُ السَّادِسُ عَشَرَ

الإصحَاحُ السَّادِسُ عَشَرَ

 

بولس يصطحب تيموثاوس

1 ثُمَّ وَصَلَ إِلَى دَرْبَةَ وَلِسْتِرَةَ وَإِذَا تِلْمِيذٌ كَانَ هُنَاكَ اسْمُهُ تِيمُوثَاوُسُ ابْنُ امْرَأَةٍ يَهُودِيَّةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَلَكِنَّ أَبَاهُ يُونَانِيٌّ 2 وَكَانَ مَشْهُوداً لَهُ مِنَ الإِخْوَةِ الَّذِينَ فِي لِسْتِرَةَ وَإِيقُونِيَةَ. 3 فَأَرَادَ بُولُسُ أَنْ يَخْرُجَ هَذَا مَعَهُ، فَأَخَذَهُ وَخَتَنَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ الَّذِينَ فِي تِلْكَ الأَمَاكِنِ، لأَنَّ الْجَمِيعَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَبَاهُ أَنَّهُ يُونَانِيٌّ. 4 وَإِذْ كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي الْمُدُنِ كَانُوا يُسَلِّمُونَهُمُ الْقَضَايَا الَّتِي حَكَمَ بِهَا الرُّسُلُ وَالْمَشَايِخُ الَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ لِيَحْفَظُوهَا. 5 فَكَانَتِ الْكَنَائِسُ تَتَشَدَّدُ فِي الإِيمَانِ وَتَزْدَادُ فِي الْعَدَدِ كُلَّ يَوْمٍ (أعمال 16 1-5).

ذهب بولس مع سيلا إلى دربة ولسترة وقد سبق أن زاراهما من قبل (أعمال 14: 6). ويقول الوحي إنّ بولس وصل إلى دربة أوّلاً قبل لسترة، لأنّه أتى إليها من جهة الشّرق. وفي لسترة قابل بولس «تيموثاوس» وكان قد عمَّده وعلَّمه عندما التقى به في رحلته التّبشيرية الأولى. وكانت أمّ تيموثاوس يهودية تقيّة اسمها أفنيكي، وكذلك كانت جدَّته لوئيس (2 تيموثاوس 1: 5) مع أنَّ أباه كان وثنياً يونانياً.

وكان تيموثاوس حديث السّن، لكنّه كان تقياً عارفاً بالكتب المقدسة، مشهوداً له بالتّقوى من أعضاء الكنيسة وقسوسها، فأراد بولس أن يأخذه معه للتّبشير باسم المسيح. ولم يكن تيموثاوس مختوناً لأنّ أباه يونانيّ وثنيّ، فقرّر بولس أن يُختَتن حتى لا يعترض اليهود عليه إذا وقف بينهم مبشّراً بالمسيح، مع أنّ الختان ليس ضرورياً للخلاص، كما قرّر مجمع أورشليم. وهذا يعني أننا يجب أن نتساهل في الأمور الثانوية العرضية متى كان هذا التساهل وسيلة لربح النفوس للمسيح، لأنّ «رَابِحُ النُّفُوسِ حَكِيمٌ» (أمثال 11: 30). وكان بولس يقول: «صِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ اٰلْيَهُودَ، وَلِلَّذِينَ تَحْتَ اٰلنَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ اٰلنَّامُوسِ لأَرْبَحَ اٰلَّذِينَ تَحْتَ اٰلنَّامُوسِ» (1كورنثوس 9: 20). وكان لبولس تلميذ آخر هو «تيطس» لم يُختَن (غلاطية 2: 3) لأنّ خدمته كانت بين الأمم.

ذهب بولس ومعه تيموثاوس وسيلا إلى الكنائس التي تأسّست في دربة ولسترة وإيقونية وأنطاكية بيسيدية وغيرها ليخبروهم بقرار مجمع أورشليم، وذلك لراحة الكنائس. وفرحت الكنائس وتعمَّقت ثقتها بحقائق الإنجيل، لأنّها عرفت أنّ المسيح هو المخلّص الوحيد، فازداد عدد المؤمنين في الكنائس.

 

رؤيا بولس

6 وَبَعْدَ مَا اجْتَازُوا فِي فِرِيجِيَّةَ وَكُورَةِ غَلاَطِيَّةَ مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا. 7 فَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مِيسِيَّا حَاوَلُوا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى بِثِينِيَّةَ فَلَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ. 8 فَمَرُّوا عَلَى مِيسِيَّا وَانْحَدَرُوا إِلَى تَرُوَاسَ. 9 وَظَهَرَتْ لِبُولُسَ رُؤْيَا فِي اللَّيْلِ: رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ قَائِمٌ يَطْلُبُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ: «اعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!». 10 فَلَمَّا رَأَى الرُّؤْيَا لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ مُتَحَقِّقِينَ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَعَانَا لِنُبَشِّرَهُمْ (أعمال 16: 6-10).

ذهب بولس إلى فريجية وهي القسم الأكبر من وسط آسيا الصغرى، وفيها ثلاث مدن عظيمة هي كولوسي وهيرابوليس ولاودكية. كما ذهب إلى منطقة غلاطية، وهي قسم آخر من آسيا الصغرى كان أكثر سكّانها من الوثنيين، وكان فيها كثير من اليهود. ومنع الروح القدس بولس من التّبشير في الجزء الغربي من آسيا الصغرى، وكان للرّوح القدس قصد في ذلك الوقت، لأنّ بولس رجع إليها بعد ذلك وأسّس فيها كنائس قويّة.

وذهب بولس إلى ميسيّا، وهي القسم الشمالي من آسيا الصغرى، ثمّ إلى بثينيّة شرق ميسيّا، فمنعه الروح أيضاً من التّبشير فيها، لأنّه أراد أن يذهب بولس ومن معه إلى أوروبا تحقيقاً لقول المسيح: «َتَكُونُونَ لِي شُهُوداً... َإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ».

ثمّ ذهب بولس إلى ترواس القريبة من آثار مدينة «طروادة» التي حاربها اليونانيون قديماً.

وذات ليلة بينما كان بولس نائماً رأى في رؤيا رجلاً تدلّ ملابسه ولهجته أنّه من مقاطعة مكدونية يصرخ طالباً منه أن يساعد أهل مكدونية وباقي بلاد أوروبا على الشّيطان والجهل والخطيّة والهلاك، وذلك بالتّبشير برسالة الخلاص بواسطة المسيح. وبهذا أعلن الله إرادته لبولس ليُدخِل المسيحية إلى أوروبا. واستجاب بولس ومعه سيلا لصوت الربّ عن طريق هذه الرؤيا، وجهّزا وسائل السّفر إلى مكدونية. ومن المرجّح أنّ لوقا الطبيب كاتب سفر الأعمال ذهب مع بولس وسيلا إلى مكدونية بدليل قوله: «لِلْوَقْتِ طَلَبْنَا أَنْ نَخْرُجَ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ».

واليوم يوجد كثيرون في العالم يحتاجون إلى الخلاص، من جيراننا ومن البعيدين عنّا، وهم يصرخون صرخة المكدوني لنُعينهم. وعلينا كمسيحيين حقيقيين أن نبشّرهم برسالة الخلاص. فهل أنت مستعدّ لخدمة المسيح؟ قل: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي» (إشعياء 6: 8).

واليوم يوجد كثيرون في العالم يحتاجون إلى الخلاص، من جيراننا ومن البعيدين عنّا، وهم يصرخون صرخة المكدوني لنُعينهم. وعلينا كمسيحيين حقيقيين أن نبشّرهم برسالة الخلاص. فهل أنت مستعدّ لخدمة المسيح؟ قل: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي» (إشعياء 6: 8).

 

ليدية تعتمد

11 فَأَقْلَعْنَا مِنْ تَرُوَاسَ وَتَوَجَّهْنَا بِالاِسْتِقَامَةِ إِلَى سَامُوثْرَاكِي، وَفِي الْغَدِ إِلَى نِيَابُولِيسَ. 12 وَمِنْ هُنَاكَ إِلَى فِيلِبِّي الَّتِي هِيَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ مِنْ مُقَاطَعَةِ مَكِدُونِيَّةَ، وَهِيَ كُولُونِيَّةُ. فَأَقَمْنَا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَيَّاماً. 13 وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ خَرَجْنَا إِلَى خَارِجِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ نَهْرٍ حَيْثُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ تَكُونَ صَلاَةٌ، فَجَلَسْنَا وَكُنَّا نُكَلِّمُ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي اجْتَمَعْنَ. 14 فَكَانَتْ تَسْمَعُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا لِيدِيَّةُ بَيَّاعَةُ أُرْجُوانٍ مِنْ مَدِينَةِ ثَيَاتِيرَا مُتَعَبِّدَةٌ لله، فَفَتَحَ الرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا كَانَ يَقُولُهُ بُولُسُ. 15 فَلَمَّا اعْتَمَدَتْ هِيَ وَأَهْلُ بَيْتِهَا طَلَبَتْ قَائِلَةً: «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ حَكَمْتُمْ أَنِّي مُؤْمِنَةٌ بِالرَّبِّ فَادْخُلُوا بَيْتِي وَامْكُثُوا». فَأَلْزَمَتْنَا (أعمال 16: 11-15).

رأى بولس وهو في ترواس الرؤيا التي أرشدته للذهاب إلى مكدونية، فأخذ مركباً شراعياً مع رفاقه وتوجّه إلى ساموثراكي، وهي جزيرة في منتصف الطريق بين ترواس ونيابوليس، ووصل نيابوليس بعد يومين، ومنها إلى مدينة فيلبّي، وهي «كولونية» بمعنى أنّ سكانها يتمتّعون بما يتمتّع به الرومان من حقوق. وهي أوّل مدينة يصل إليها المسافر من الشّرق إلى الغرب.

ومكث بولس في فيلبّي حتى يوم السبت. ولم يكن فيها مجمع لليهود لقلَّة عددهم، فكانوا يتعبَّدون عند نهر اسمه «كنجس» لأنّ العبادة اليهودية تتطلَّب الكثير من الاغتسال. وذهب بولس ورفاقه إلى النّهر فوجدوا بعض النّساء، فبشّروهنَّ بإنجيل المسيح. وكانت بينهنَّ سيدة اسمها «ليدية» من مدينة ثياتيرا التي تقع بين برغامس وساردس. وكانت ثياتيرا قديماً مشهورة بوجود نوع من صبغة الثياب حمراء اللون، تُستخرج من أصداف البحر الأبيض المتوسط، فكانت ليدية تحمل الثياب المصبوغة بهذه الصبغة الحمراء المعروفة باسم «الأرجوان» من ثياتيرا إلى فيلبّي لتبيعها فيها. وعمل الروح القدس في قلب ليدية وهي تسمع وعظ بولس، فآمنت وطلبت أن تعتمد هي وأهل بيتها.

ولما رأى بولس قوّة إيمانها واعترافها العلني بقبول المسيح مخلّصاً لها عمّدها مع أهل بيتها. ومن هذا نتعلّم جواز معمودية أطفال المؤمنين. وطلبت ليدية من بولس ورفاقه أن يقضوا وقتاً في بيتها للصلاة والعبادة. ولمّا علمت أنهم غرباء طلبت منهم أن يمكثوا في بيتها. والمسيحية تشجّع على إضافة الغرباء. وقَبِل بولس ورفاقه دعوة ليدية. وهكذا بدأ تأسيس أوّل كنيسة في أوروبا.

 

بولس يُخرج شيطاناً من جارية

16 وَحَدَثَ بَيْنَمَا كُنَّا ذَاهِبِينَ إِلَى الصَّلاَةِ أَنَّ جَارِيَةً بِهَا رُوحُ عِرَافَةٍ اسْتَقْبَلَتْنَا. وَكَانَتْ تُكْسِبُ مَوَالِيَهَا مَكْسَباً كَثِيراً بِعِرَافَتِهَا. 17 هَذِهِ اتَّبَعَتْ بُولُسَ وَإِيَّانَا وَصَرَخَتْ قَائِلَةً: «هَؤُلاَءِ النَّاسُ هُمْ عَبِيدُ اللهِ الْعَلِيِّ الَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ الْخَلاَصِ». 18 وَكَانَتْ تَفْعَلُ هَذَا أَيَّاماً كَثِيرَةً. فَضَجِرَ بُولُسُ وَالْتَفَتَ إِلَى الرُّوحِ وَقَالَ: «أَنَا آمُرُكَ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا». فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ (أعمال 16: 16-18).

بينما كان بولس ورفاقه ذاهبين من بيت ليدية إلى نهر كنجس للصّلاة قابلتهم جارية بها شيطان سمَّاه أهل فيلبّي «روح عرافة» لأنّهم ظنّوا أنّ في هيكل «دلفي» (في اليونان) كاهنات يعرفن الأسرار بوحي من الإله «أبلو». وكان كثيرون من الوثنيّين يذهبون إلى هيكل «دلفي» ليعرفوا شيئاً عن الأسرار والمستقبل. وظنَّ سكان فيلبّي أنّ تلك الجارية كاهنة تعرف الأسرار، بينما كان الشيطان يعمل فيها. فكانت تكسب أموالاً كثيرة تعطيها لأسيادها الذين اشتروها ليربحوا من عرافتها.

سمعت تلك الجارية بولس يعظ عن الإله المقتدر وعن الخلاص بالمسيح، فتبعته وأصحابه عند ذهابهم للصلاة وهي تصرخ: «هَؤُلاَءِ النَّاسُ هُمْ عَبِيدُ اللهِ الْعَلِيِّ الَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ الْخَلاَصِ». وقد دفعها الشّيطان أو الروح النجس أن تشهد للمسيح، كما شهدت الشّياطين للمسيح من قبل (مرقس 5: 7 ولوقا 4: 34 و8: 24). ودفع الشّيطان تلك الجارية لتكرّر هذا الكلام، فتضايق بولس لأنّها تمنع الناس من سماع وعظه بصراخها المستمر، وشفق عليها لأنّ الشيطان استعبدها، فأمر الشيطان الساكن فيها: «أَنَا آمُرُكَ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا». ففي الحال تركها وخرج، فاستراحت المسكينة منه.

 

بولس وسيلا في السجن

19 فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ وَجَرُّوهُمَا إِلَى السُّوقِ إِلَى الْحُكَّامِ. 20 وَإِذْ أَتَوْا بِهِمَا إِلَى الْوُلاَةِ قَالُوا: «هَذَانِ الرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا وَهُمَا يَهُودِيَّانِ 21 وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ». 22 فَقَامَ الْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا وَمَزَّقَ الْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا وَأَمَرُوا أَنْ يُضْرَبَا بِالْعِصِيِّ. 23 فَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً وَأَلْقُوهُمَا فِي السِّجْنِ، وَأَوْصُوا حَافِظَ السِّجْنِ أَنْ يَحْرُسَهُمَا بِضَبْطٍ. 24 وَهُوَ إِذْ أَخَذَ وَصِيَّةً مِثْلَ هَذِهِ أَلْقَاهُمَا فِي السِّجْنِ الدَّاخِلِيِّ وَضَبَطَ أَرْجُلَهُمَا فِي الْمِقْطَرَةِ (أعمال 16: 19-24).

خرج الشّيطان من الجارية فهدأت وتغيّرت هيئتها لأنها شُفيت، فجُنَّ جنون أسيادها لأنّ الشّيطان الذي كان فيها كان مصدر مكسبهم الماديّ، وأرادوا الانتقام من بولس وسيلا لأنّهما المتقدّمان في الكلام، فأمسكوهما وجرّوهما إلى السّوق، حيث مبنى الحكومة، وحيث يجتمع الناس، وقالوا للحكّام إنّ هذين الرجلين يفسدان أفكار سكان المدينة، وهما يهوديّان يناديان بعقائد غير عقائدنا. وسمع جهلاء الشّعب هذا الكلام فانضمّوا إلى أولئك الرجال وطلبوا من الحُكّام معاقبة بولس وسيلا، فأمر الحُكّام الجلادين أن يُعرّواهما ليجلدوهما. فمزّقوا اثيابهما وضربوهما كثيراً بالعصي، ووضعوهما في السجن، وأوصوا مدير السجن أن يشدّد الحراسة عليهما. وكان السّجن ثلاثة أقسام: الأوّل يدخله النور والهواء، والثاني داخل باب من الحديد، والثالث تحت الأرض مثل الكهف، ولا يُسجَن فيه إلاّ من يستحقّ الموت. ولما سمع مدير السّجن بضرورة تشديد الحراسة على بولس وسيلا وضعهما في أردأ أقسام السّجن، ووضع أرجلهما في المقطرة، وهي قطعتا خشب ثقيلتان، في كل منهما خمس فتحات بشكل نصف دائرة، فتحة للرأس وفتحتان لليدين، وفتحتان للرِّجلين. وفتحتا الرجلين إحداهما بعيدة عن الأخرى لتسبِّب ألماً شديداً للمسجون. وكانوا يضعون إحدى الخشبتين فوق الأخرى وبينهما رأس السّجين ويداه ورجلاه.. على أنّ مدير سجن فيلبّي اكتفى بوضع أرجل الرسوليْن فقط في المقطرة.

 

مدير سجن فيلبّي يؤمن بالمسيح

25 وَنَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ اللهَ وَالْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا. 26 فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ السِّجْنِ فَانْفَتَحَتْ فِي الْحَالِ الأَبْوَابُ كُلُّهَا وَانْفَكَّتْ قُيُودُ الْجَمِيعِ. 27 وَلَمَّا اسْتَيْقَظَ حَافِظُ السِّجْنِ وَرَأَى أَبْوَابَ السِّجْنِ مَفْتُوحَةً اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، ظَانّاً أَنَّ الْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا. 28 فَنَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً لأَنَّ جَمِيعَنَا هَهُنَا». 29 فَطَلَبَ ضَوْءاً وَانْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ 30 ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: «يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟» 31 فَقَالاَ: «آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ». 32 وَكَلَّمَاهُ وَجَمِيعَ مَنْ فِي بَيْتِهِ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ. 33 فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَاعْتَمَدَ فِي الْحَالِ هُوَ وَالَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ. 34 وَلَمَّا أَصْعَدَهُمَا إِلَى بَيْتِهِ قَدَّمَ لَهُمَا مَائِدَةً وَتَهَلَّلَ مَعَ جَمِيعِ بَيْتِهِ إِذْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاللهِ (أعمال 16: 25-34).

كان بولس وسيلا في السّجن في شدّة الألم ولم يستطيعا النوم، لكنّهما كانا في سلام كامل لأنّ الله قوَّى إيمانهما، فكانا يصلّيان ويرنّمان لله بصوت مرتفع حتى سمعهما كل المسجونين. فما أعجب سلام الله الكامل الذي ينشئ فرحاً داخلياً مهما كانت قسوة الظروف المحيطة. ولا يستطيع أعداء المسيحي المؤمن أن يحرموه من سلام الله حتى وإن كان في السجن.

وفي منتصف الليل حدثت زلزلة عظيمة، شعر بها بولس وسيلا أكثر من الجميع لأنّهما كانا في السّجن الداخلي تحت الأرض! وانفتحت جميع أبواب أقسام السّجن وانفكَّت السّلاسل من أيدي وأرجل جميع المسجونين!

انزعج مدير السّجن جداً من الزلزلة، وارتعب وهو يرى أبواب السجن مفتوحة، واعتقد أنّ جميع المسجونين قد هربوا، فاستلّ سيفه وأراد أن يقتل نفسه أو ينتحر خوفاً من العار الذي يصيبه لو قتله الحكّام أمام الناس بسبب إهماله. ولم يكن الانتحار عيباً عند الرومان بل حسبوه شجاعة. فصرخ بولس بصوت عالٍ جداً وطلب من مدير السّجن أن لا يقتل نفسه لأنّ جميع المسجونين لم يهربوا.

لم يفرح بولس أو يشمت بمدير السّجن، بل منعه من الانتحار، وهذه هي روح المسيحيّ الحقيقيّ الذي يبارك حتّى أعداءه. وسمع مدير السّجن كلام بولس وكان السجن مظلماً، فأخذ معه ضوءاً ودخل إلى السجن الداخلي. وظنّ أنّ إله بولس وسيلا سيقتله، فسجد لهما كأنّه يطلب منهما الصفح، ثمّ أخرجهما وكلّمهما بكل احترام، وسأل عمّا يجب أن يفعله حتى يخلص. ولا بدّ أنّه سبق وسمع ما قالته العرّافة إنّهما عبيد الله العليّ الذين ينادون بطريق الخلاص، فأيقظ روح الله ضميره. فأجابه بولس أنّه إن أراد أن ينجو من الخطية ومن عقابها فعليه أن يؤمن بالمسيح ربّ الخلاص، وأنّه إن آمن هو وأهل بيته سيخلصون ويحصلون على سلام الله في المسيح.

وهكذا أعطى الرب بولس وسيلا فرصة طيّبة لتبشير مدير السجن وأهل بيته وباقي المسجونين، فأخبرا الجميع عن وجوب التوبة والإيمان بالمسيح. وآمن مدير السجن بالمسيح وبمحبته، وظهر ثمر إيمانه بأن اعتنى ببولس وسيلا وغسّلهما من دماء الجراح التي أصابتهما بسبب الضرب والتعذيب، وطلب أن يعتمد في الحال هو وأهل بيته.

ولم يترك مدير السجن بولس وسيلا في السجن بل أخذهما إلى بيته، وقدّم لهما طعاماً، وامتلأ قلبه فرحاً بخلاص المسيح هو وأهل بيته.

 

بولس وسيلا يتركان فيلبّي

35 وَلَمَّا صَارَ النَّهَارُ أَرْسَلَ الْوُلاَةُ الْجَلاَّدِينَ قَائِلِينَ: «أَطْلِقْ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ». 36 فَأَخْبَرَ حَافِظُ السِّجْنِ بُولُسَ أَنَّ الْوُلاَةَ قَدْ أَرْسَلُوا أَنْ تُطْلَقَا، فَاخْرُجَا الآنَ وَاذْهَبَا بِسَلاَمٍ. 37 فَقَالَ لَهُمْ بُولُسُ: «ضَرَبُونَا جَهْراً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي السِّجْنِ - أَفَالآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرّاً؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا». 38 فَأَخْبَرَ الْجَلاَّدُونَ الْوُلاَةَ بِهَذَا الْكَلاَمِ، فَاخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ. 39 فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ الْمَدِينَةِ. 40 فَخَرَجَا مِنَ السِّجْنِ وَدَخَلاَ عِنْدَ لِيدِيَّةَ، فَأَبْصَرَا الإِخْوَةَ وَعَزَّيَاهُمْ ثُمَّ خَرَجَا (أعمال 16: 35-40).

قضى بولس وسيلا بقيّة الليل في بيت مدير السّجن، وفي الصّباح أرسل الحكام الجلاّدين يطلبون إطلاق سراحهما سرّاً، لأنّ الحكّام خالفوا الشّريعة الرومانية لمّا ضربوهما وحبسوهما بدون محاكمة. وفرح مدير السّجن بهذا الخبر، وظنّ أنّ بولس وسيلا سيغتنمان الفرصة للذهاب في الحال، فحيّاهما تحيّة الوداع قائلاً: «اذْهَبَا بِسَلاَمٍ». ولكنّ بولس اعترض على هذه المعاملة الظالمة، لأنّ الولاة ضربوهما أمام الجمهور بدون محاكمة، مما سبَّب لهما الآلام والعار، وهذا ضد الشريعة الرومانية التي لا تضرب رومانياً بغير محاكمة، وقد كان بولس وسيلا يتمتّعان بالجنسية الرومانية. ورفض بولس الذهاب حتى يحضر الحكّام ليطلقوا سراحهما جهراً كما ضربوهما جهراً. ونتعلم من هذا أنّ المسيحية لا تجبر المسيحيين على ترك حقوقهم المدنية.

وأبلغ الجلاّدون هذا الكلام للحكام، فخجلوا وخافوا لأنّهم خالفوا الشريعة الرومانية، وجاءوا إلى السّجن وتضرّعوا لهما أن يصفحا عن هذا الخطأ القانوني الفاضح، وطلبوا منهما الخروج من فيلبّي وقايةً لهما وحماية للمدينة. فذهب بولس وسيلا إلى بيت ليدية حيث شجّعا المؤمنين وأخبراهم بقوّة الله التي أخرجتهما من السّجن وغيَّرت قلب مدير السّجن وأهل بيته.

واستراح ضميرا بولس وسيلا لأنّهما أطاعا نداء الرب واستجابا لصرخة الرّجل المكدوني وأسّسا كنيسة في مدينة فيلبّي. وأرادا أن يذهبا إلى بلاد أخرى للتّبشير، فخرجا من فيلبّي بينما بقي لوقا فيها.