الرئيسية كتب للقراءة

رسالة أفسس - الأصحاح الرابع

الإصحاح الرابع

القسم العملي

 (4: 1-6: 24)

قد بلغ بنا الرسول، في خاتمة القسم الذي مرّ بنا، قمة جبال المعلنات الإلهية في هذه الرسالة. ومن ذلك العلوّ الشاهق، بدأ ينزل إلى مستوى الحياة العملية. في القسم الماضي ارتفع بولس إلى "رأس" المصادر العلوية، وفي القسم الآتي، هدانا إلى "عين" النبع حيث تنفجر المياه، وتسيل في الجداول لتروي العطاش المقيمين في برية الحياة المجدبة القاحلة.

في القسم الماضي أرانا الرسول الامتيازات، وفي هذا القسم عرّفنا بالواجبات .

في القسم الماضي كشف الحقائق اللاّهوتية، وفي هذا القسم أرانا ثمار الحياة العملية.

في القسم الماضي وضع الأساس، وفي هذا القسم العملي أقام البناء.

في القسم الماضي أرانا موقفنا، وفي هذا القسم العملي رسم لنا مسلكنا.

في القسم الماضي أبان مقام الكنيسة كمجموع، وفي هذا أوضح عمل المؤمن الفرد.

في القسم الماضي تكلّم عن دعوتنا السماوية، وفي هذا أرانا حقيقة جهادنا الأرضي.

في القسم الماضي عرّفنا ما عمله الله لنا ، وفي هذا عرّفنا بما نعمله نحن لله.

 أولاً: المسيحي والوحدانية المقدّسة (4: 1-16).

ثانياً: المسيحي في حياته الجديدة (4: 17-6: 24).

(1): المسيحي في حياته الخاصة (4: 17-32)

أولاً: مبادئ الحياة العتيقة ومبادئ الحياة الجديدة (4: 17-24).

(1) خلع الإنسان العتيق (4: 17-22).

(2) لبس الإنسان الجديد (4: 23 و 24).

ثانياً: تصرّفات عتيقة وتصرّفات جديدة (4: 25-32).

التصرّفات العتيقة: التصرفات الجديدة.

(1) الكذب (4: 25) الصدق.

(2) الغضب الخاطئ . الغضب البريء (4: 26و27).

(3) السرقة (4: 28) الإحسان.

(4) الكلام الهادم (4: 29) الكلام الباني.

(5) الشعور الرديء . الشعور الطيب (4: 30-32).

مرارة ، سخط ـ لطف.

غضب ، صياح ـ شفقة.

تجديف ، خبث ـ تسامح.

(2) المسيحي في حياته الاجتماعية (5: 1-21).

أولاً: اسلكوا في المحبة لا في الفساد (5: 1-5).

(1) إيجاباً (5: 1و2) ، سلباً (5: 3-5).

ثانياً: اسلكوا في النور لا في الظلام (5: 6-14).

(أ) تحذيرات ضدّ الظلام (5: 6و7).

(ب) علّة هذه التحذيرات (5: 8).

(ج) حضّ على النور (5: 8 و10).

(د) علّة هذا الحضّ (5: 9).

(هـ) انفصال النور عن الظلام (6: 11-13).

(و) نداء حيّ (6: 14).

ثالثاً: اسلكوا بحكمة لا بجهالة (5: 15-21).

حكمة افتداء الوقت لا جهالة قتل الفرض (5: 15-17).

حكمة الامتلاء بالروح لا جهالة الترنّح بخمر الخلاعة (5: 18).

الحكمة في العبادة (5: 19-21).

(3) المسيحي في حياته العائلية (5: 22-6: 9)

أولاً: الزوجة والزوج (5: 22-33).

(أ) واجبات المرأة (5: 22-32و33).

(1) الطاعة (5: 22-24).

(2) المهابة (5: 33).

(ب) واجب الرجل (5: 25-33).

(1) الواجب نفسه (5: 25و33).

(2) قياسه (5: 26-30).

(3) أساسه (5: 31-33).

ثانياً: الأبناء والآباء (6: 1-4).

(أ) واجبات الأبناء (6: 1-3).

(1) الطاعة (6: 1).

(2) الإكرام (6: 2).

(3) مكافأتهما (6: 3).

(ب) واجب الآباء (6: 4).

سلباً: "لا تغيظوهم" ، إيجاباً "ربوهم".

ثالثاً: العبيد والسادة (6: 5-9).

(أ) واجب العبيد (6: 5-8).

(1) الواجب نفسه (6: 5).

(2) ماهيته (6: 6).

(3) أساسه (6: 7).

(4) مكافأته (6: 8).

(ب) واجب السادة (6: 9).

(4) المسيحي في الحروب الروحية (6: 10-30).

(أ) المحارب (6: 10و11).

(ب) الحرب (6: 12).

(ج) السلاح (6: 13-20).

(1) الاستعداد لحمل السلاح (6: 13).

(2) نوع السلاح (6: 14-17).

(عدد 14) (عدد 15)

"منطقة" "درع" "حذاء"

(عدد 16) (عدد 17)

"ترس" ، "خوذة" ، "سيف".

(3) السهر وقت حمل السلاح (6: 18-20).

كلمة شخصية: (6: 21و22).

مسك الختام (6: 23و24).

"سلام" ، "محبة" ، "إيمان" ، "نعمة" ، "عدم فساد".

لقد شوّقنا الرسول إلى هذا الجزء العملي منذ بداية الأصحاح السابق الذي رفعنا فيه إلى أعلى قمم العقيدة، فمن حقّه أن يطلب منا السلوك في جدّة الحياة، ليرقى بنا إلى المستوى الرفيع الذي منه تأتي دعوتنا السماوية من أجل ذلك، استهلّ كلامه في هذا القسم العملي بقوله: "فأطلب". وكلّ من أعطى، له حقّ أن يطلب. وعلى قدر الامتيازات تكون المسئوليات. ومن يُعطي كثيراً، يطالب بأكثر.

"فأطلب" ـ بهذه الكلمة عينها استهلّ الرسول القسم العمليّ من رسالته إلى رومية: "فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله" (12: 1). فكأنه اختار هذه الكلمة لتكون فاصلاً بين القسم التعليمي والقسم العمليّ في أهمّ رسائله. فحقّ علينا، بعد أن سمعنا "عظمة مجد ميراث الله فينا"، "وما هو رجاء دعوته لنا" ، "وما هو سرّ تدبير نعمته لأجلنا"، أن نسمع شيئاً عن الواجبات المطلوبة منا لله، تلقاء هذه المزايا الجليلة.

المسيحي والوحدانية المقدّسة

وحدانية في تنوّع

(4: 6-1).

بعد أن علّم الرسول المكتوب إليهم وأرشدهم. شرع في أن يستحثّهم ويناشدهم. ولا يغرب عن أذهاننا، إنه وإن يكن القسم الأول من هذه الرسالة خاصاً بالإعلان والإرشاد، والقسم الثاني مفعماً بالحضّ على حسن السلوك وحياة الجهاد، إلاّ أن القسم الأول لا يخلو من الحثّ والتحريض، كما أن القسم الثاني لا يخلو من التعليم والإلهام.

(عدد1) :

1فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا.

(1) نقطة الارتكاز في هذا الفصل (4: 1)

يعتبر هذا العدد نقطة الارتكاز في هذا القسم العملي من الرسالة، وهو ينجلي عن ثلاثة أمور مهمة:

أولها: الطالب: "فأطلب إليكم....". الكلمة الأصلية المترجمة "أطلب" تنمّ عن الحثّ المصحوب بشيء من الاستعطاف. ويمكننا أن نقدر هذا الاستعطاف متى ذكرنا ذلك الشخص العظيم، الذي تقدّم إلى المكتوب إليهم بهذا الطلب، وهو الذي ضحّى براحته وحريته في سبيل إنجيل خلاصهم. وفوق ذلك، فهو يطلب منهم بوجه حقّ، لأنه إنما يطلب حقاً مرتكزاً على ما أعطاهم إياه من المعلنات الإلهية الجليلة. على أن نقطة الارتكاز ليست منبثة في العدد كلّه، بل مرتكزة في حرف "الفاء" (انظر رومية 12: 1، كولوسي3: 1).

ثانيها: موقف الطالب: "أنا الأسير في الربّ". أضحى بولس أسيراً مكبّلاً بالسلاسل، مقيّداً بالأغلال، بسبب اتحاده بالربّ يسوع المسيح وحمله إنجيل كرازته للأمم. فهو إذاً أسير حبّ الفادي، بل أسير إنجيل فدائهم، فهو بالتالي أسير المسيح لأجلهم (3: 1). غير أنّه لم يذكر هذه العبارة ليستدرّ عطفهم عليه، فقد كان محتملاً كلّ آلامه شاكراً مسروراً. لكنّه أراد أن يستمدّ من أسره، حجة قوية تحملهم على إجابة رجائه وتلبية ندائه. لأنّ الإنسان يتسلّط على الآخرين بمقدار حبّه لهم وتضحيته لأجلهم "فطالما استعبد الإنسان إحسان".

ومن المشجّع لنا أن نذكر أن بولس لم يخجل قطّ من قيوده، بل كان يفخر بها. فلا الأساور المرصّعة التي تزيّن معاصم العرائس، ولا "النجوم" اللّوامع التي تزيّن كتف البطل المغوار الذي خرج من المعركة مكللاًَ الغار ـ لا هذه ولا تلك ـ بمساوية للسلاسل الحديدية التي كانت تطوّق إحدى قدمي بولس وإحدى يديه. ومن الجائز، أن الحجّة التي أراد الرسول أن يستمدّها من قيوده، تسير على هذا النسق: "يا أبنائي الأعزاء! ها أنا الآن أسير، فلا أملك حرية الانتقال الانتقال إليكم. ولكن يمكنني أن أتّصل بكم عن طريق الكتابة بقلمي، وعن طريق الصلاة بروحي. ومع ذلك فإني واثقٌ من أنّكم تقدّرون طلبي إليكم وأنا غائب عنكم بسبب أسري، بأكثر مما تقدّرونه لو كنت حاضراً معكم بالجسد. سيّما وأنني لست أسير خطأ ارتكبته إلاّ إذا كان هذا الخطأ هو كرازتي لكم وحملي بشرى إنجيلكم".

رأى بعض المفسّرين الأوّلين مثل يوحنا فم الذهب، وسملر، أن يصلوا قول الرسول: "في الربّ" بقوله: "أطلب إليكم" ـ أي أنه ناشدهم باسم الربّ ولأجل الربّ. لكن وضع الجملة في اللغة الأصلية يجعل قول الرّسول "في الربّ" وصفاً لقوله: "أنا الأسير"، أي أنه أسير بسبب اتّحاده بالربّ، وهو في أسره متقوٍّ وغالب، لأنه "في الربّ" الظافر على جميع القوات بما فيها السجون والظلمات.

ثالثها: ماهية الطلب: "أن تسلكوا كما يحقّ للدعوة التي دُعيتم بها". لم يطلب الرسول منهم تقدمة مالية، ولا رغب إليهم أن يفوهوا بمواعظ بليغة بل طلب منهم تقديم أنفسهم على مذابح الحياة اليومية، في السلوك القويم. هذا أصعب طلب، وأيسر طلب. فهو أصعب طلب لأنه يكلّف أعزّ تضحية ـ الذات والإرادة، لله. وهو أيسر طلب لأنّ كلّ إنسان يقوى عليه، فلا حقّ لفقير أن يعتذر بعدم وفرة موارده، ولا لعييّ أن يستعفي بسبب عقدة في لسانه، أو افتقاره إلى عوزٍ في حدّة جنانه، لأن كلّ إنسان يقدر أن يسلك ـ سيّما متى ترك دور الطفولة.

"أن تسلكوا كما يحقّ للدّعوة التي دُعيتم بها: ـ هذا يُماثل قول الرسول في مواضع أخرى "أن تسلكوا كما يحقّ لإنجيل المسيح" (فيلبي1: 27)، "أن تسلكوا كما يحقّ للربّ" (كولوسي1: 10)، "أن تسلكوا كما يحقّ لله" (1تس2: 12). أما "الدعوة" التي تدعو بها، فهي دعوتهم للخلاص بالمسيح يسوع، حين سمعوا كلمة الإنجيل وقبلوها (انظر1: 18).

لا يغرب عن بالنا، أنّ كلّ سلوك، وإن سما وارتقى، لا يمكن أن يكون لائقاً بالدعوى التي دُعينا بها. فالرسول هنا، يتكلّم عن حالة كمالية، يجب أن نسعى إليها وأن نضعها نصب أعيننا، ولكن إن خبنا عنها بسبب قصور أو تقصير، فلا نفشل، لأنّ لنا عند الآب "شفيعاً هو يسوع المسيح البار".

إن بداية الحياة المسيحية سامية راقية، لأنها متّصلة بالدعوة الإلهية السماوية، لذلك يجب أن تكون سامية راقية في طرفها الآخر الذي هو الحياة العملية. فإذا كان على الماء أن ترتقي إلى المستوي الذي منه نبعت، فمن أوجب واجباتنا أن نرقى بحياتنا العملية، إلى مستوى دعوتنا الإلهية هذا يعلّل قول الرسول مرات عديدة في رسائله: "لا يليق","يليق"، "يحقّ", "يوافق", "لا يوافق". لأنه وضع نصب عينيه مثلاً أعلى، من واجب الإنسان أن ينسج عليه، وأن يسعى دائماً إليه. فالمثل الأعلى يضبط الحياة العملية، والحياة العملية تترجم عن حقيقة المثل الأعلى.

إن الوحدة البشرية الجامعة، التي يراها بولس متوّجة القصد الإلهي، قد تمّت في المسيح، وهي به قائمة. فمن أوجب الواجبات أن تتحقق على الأرض بواسطة كنيسته التي هي جسده على الأرض. فعلى أعضاء كنيسة المسيح أن يحتفظوا بهذه الوحدانية، وأن يحرصوا عليها، مخافة أن يذهب شيء بجمالها: أو أن يعبث بها عابث. فيما أن أعضاء كنيسة أفسس، وسائر المؤمنين، قد اختيروا لهذه الوحدة المشتركة، وصاروا فيها أحجاراً حية في هيكل المسيحية، وأعضاء في جسد المسيح على الأرض، فمن واجبهم أن يكيّفوا سلوكهم وفق هذه الدعوة، وأن يرتقوا إلى مستواها العالي الرفيع.

عدد3 ـ (2) النية التي يجب أن يتسلّحوا بها (4: 2):

2بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْمَحَبَّةِ. 3مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ.

كنا ننتظر أن الامتيازات الجليلة السامية التي نادى بها الرسول في الأصحاحات السابقة، تبعث في المؤمنين روح التعظّم والكبرياء، ولكن الأمر عكس ذلك على خطّ مستقيم. فهي تثمر تواضعاً ووداعةً، لأنها ليست امتيازات كسبناها بأعمالنا واستحقاقنا، وإنّما هي امتيازات أغدقتها علينا النعمة عفواً وفضلاً، فهي إذاً ديون وفيرة، ثقّلت بها النعمة كواهلنا، فصرنا بها مضطرّين إلى أن نسير منحنين متواضعين، لا متعالين متشامخين. ويجمل بنا أن نذكر أن بولس نطق عن يقين، لأنه إنما يتكلّم عن اختبار شخصيّ. فهو لا يحمّل المكتوب إليهم أحمالاً ثقيلةً، لا يستطيع هو أن يحرّكها بأصبعه، بل يكلّفهم بما قام به هو فيما بينهم، عفواً وعن طيب خاطر. فلنذكر قوله لقسوس كنيسة أفسس في خطابه الوداعيّ: "أنتم تعلمون من أول يوم دخلتُ آسيا كيف كنت معكم كلّ الزمان أخدم الربّ بكلّ تواضع..".

في هذا العدد، أوضح الرسول: أ ـ النية الصالحة التي يجب أن يتسلّح بها جميع المؤمنين: "بكل تواضع ووداعة وطول أناة" .

ب ـ واجب المؤمنين نحو بعضهم بعضاً: "محتملين بعضكم بعضاً.

ج ـ الجوّ الروحيّ الذي يجب أن يسود جميع المؤمنين: "في المحبة".

أ ـ النيّة الصالحة التي يجب على المؤمنين أن يتسلّحوا بها:

تواضع، وداعة، طول أناة ـ ثلاث صفات جميلة يجب أن يتحلّى بها كلّ مؤمن، فتتجلّى في كلّ حركاته وسكناته. وتكون هي الطابع الخاص الذي به يتميّز سلوكه.

فالتواضع هو معرفة الإنسان نفسه وشعوره بعجزه وعدم استحقاقه نعمَ الله ومراحمه. والوداعة هي تنازل الإنسان عن حقوقه. وطول الأناة هو تذرّعه بالصبر تجاه المكاره. فالتواضع يعيّن موقف الإنسان تجاه الله وبركاته. والوداعة تعين موقف الإنسان إزاء نفسه وحقوقها. وطول الأناة يعين موقف الإنسان تجاه الآخرين وأثقالهم. وجديرٌ بالملاحظة أن المسيح قال عن نفسه: "لأني وديعٌ ومتواضع القلب.. لأن نيري هيّن".

"التواضع": الكلمة اليونانية المترجمة "تواضع" تعني تقديراً ثابتاً للنفس في حقيقتها ـ كدت أقول في حقارتها ـ فهي حالة نفسية يجب أن تكون مستمرّة ومستقرّة. فلئن كان اليونان قد نادوا بالتحلّي بالتواضع، على اعتبار أنه صفة ممتازة يجمل المرء أن يتحلّى بها عند الضرورة، إلاّ أنها ليست كذلك في كلّ الحالات. لكن بولس يعلّمنا أن التواضع صفة مسيحية يجب أن يتحلّى بها المؤمن في كلّ زمان ومكان. وهي تعني اعتمادنا الكليّ على الله، وتعلّقنا الدائم به كأولاد لا غنى لهم عن أبيهم الذي هو مصدر حياتهم.

"الوداعة": والكلمة المترجمة "وداعة" تعني التسليم لله في الضيقات، والخشوع لمشيئته في الملمّات. ويقول ترنتش إن الوداعة ترتكز على الأسس والأصول التي تهيّئها لها صفة التواضع. فهي صفة، إلى حدّ ما، أرقى من صفة التواضع أو هي بناء مقام أساسها.

"طول الأناة": ربط الرسول هذه الصفة بالوداعة في هذه الرسالة كما في غلاطية5: 22 وكولوسي3: 12. إنّ طول الأناة يحفظنا من التعجّل في الكم، فلا نحكم في شيء قبل الوقت، بل نقدّر النتائج قبل وقوعها. فيسهل على المرء أن يسلّم لله الذي يقضي بعدل. وجدير بالملاحظة أن الشخص الطويل الأناة، يحسب حساباً للأبدية، ويجعلها عنصراً مهماً في تفكيره وتصرّفاته. وإذا جازت المقارنة بين الصفات، فإنّ هذه الصفة أرقى من سابقتها بقدر ارتقاء سابقتها عن الصفة الأولى. فكأن الرسول وضع هذه الصفات الثلاث على نسق تدرّجيّ متصاعد: تواضع، وداعة، طول أناة. فهو كشخص دخل إلى الهيكل المقدّس، فمرّ أولاً بالدار، ثمّ بالقدس، حتى وصل إلى قدس الأقداس. ومن دلائل تسامي هذه الصفة على سابقتيها، كونها استعملت في أكثر المرات كصفة للذات العليّة، ونسبتها إلى الله أكثر من نسبتها إلى الإنسان (رومية2: 4و 9: 22، 1تي1: 16، بط3: 20، 2بط3: 15).

ب ـ واجب المؤمنين نحو بعضهم بعضاً: "محتملين بعضكم بعضاً". إن الصفات الثلاث التي مرّت بنا، ممهّدة لهذا الواجب المطلوب منا. فهي له بمثابة الأساس للبناء، والبزرة للشجرة. فبالتواضع، والوداعة، وطول الأناة يمكننا أن نحتمل بعضنا بعضاً. هذا واجب متبادل "محتملين بعضكم بعضاً"، لأن أوجه الضعف متبادلة، فمن الواجب أن يكون الاحتمال متبادلاً. فما من مؤمن حقيقي يكون على الدوام مسيئاً، أو يكون مساءً إليه باستمرار من غير أن يُسيء هو إلى أحد. بل المسيء اليوم قد يكون مُساء إليه غداً. فكما أنه ينتظر من الآخرين أن يحتملوه إذا هو أساء، كذلك من واجبه هو أن يحتمل الآخرين إذا هم أساؤوا إليه.

فالمؤمنون بالنسبة لبعضهم لبعض، كأحجار متماسكة في بنيان مرصوص يشدّ بعضها بعضاً، وهم أيضاً أعضاء في جسدٍ واحد، فعليهم أن يتعاونوا. ومن أقوى البواعث على هذا الاحتمال المتبادل، أن يذكر كلّ مؤمن أنه هو ثقل عظيم على النعمة، ولو أنّ النعمة، ولو أن النعمة لا تشكو قطّ من هذا الثقل! وأكبر الظنّ، أنها لا تشعر به، فهي شبيهة بمخلوق عجيب، له ألف عين، وألف يد، وألف قدم، ولسان واحد ـ فهو يخدم باستمرار، ليل نهار، وفي نهاية اليوم يقول: "ما عملت شيئاً"!.

فلنحتمل بعضنا بعضاً، لأننا في احتمال الآخرين نحمل أنفسنا ونحن لا ندري. فالناظر إلى الكتل الحديدية التي يتركّب منها "الجسر المعلّق" قد يعجب إذ يرى كأن هذه الكتل الحديدية معلّقة في الفضاء، لكنّ عجبه يزول، متى عرف أنها بضغطها على بعضها البعض، واحتمال بعضها البعض، تحمل نفسها وهي لا تدري.

ج ـ الجوّ الروحيّ الذي يجب أن يسود جميع المؤمنين: "في المحبة" هذا هو الجوّ المقدّس الذي يجب أن يسود كلّ العلائق التي بين المؤمنين: "في المحبة". بهذا يسهل كلّ عسير، ويُحتمل ما لا يُحتمل، ومن لا يحتمل. في هذا يختلف الاحتمال الناشئ عن الضعف والخنوع وعدم القدرة على المقاومة، عن الاحتمال الذي تُنشئه المحبة، وتغذّيه، وتُنضجه، وتتوّجه.

عدد3 ـ (3) وحدانية الروح، وواجب المؤمنين إزاءها (4: 3):

هذه أول إشارة صريحة في هذه الرسالة إلى وحدانية الروح، وفيها تكلّم الرسول عن: (أ) طبيعة هذه الوحدانية: "وحدانية الروح"، (ب) واجبنا إزاء هذه الوحدانية: "مجتهدين أن تحفظوا... برباط السلام".

أ ـ طبيعة هذه الوحدانية: "وحدانية الروح". هذه هي الوحدانية المقدّسة التي ينشئها الروح ويقوّيها، ويغذّيها، ويجعل كلّ المؤمنين واحداً في المسيح، وإيجاد اتّحاد حيّ مكين بين المؤمنين وبعضهم البعض، فهي ليست مجرّد وحدانية جغرافية، مكانية، كوجود جثتين جنباً إلى جنب في قبر واحد. بل هي وحدانية حياة، لأنّ الروح القدس هو روح الحياة. ولا هي مجرّد وحدانية التساند والتعاضد، كوجود حجرين جامدين جنباً إلى جنب إلى جدار واحد مثلما يتعاضد اللصوص على عمل غير شريف، بل هي وحدانية الرابطة الحية الشريفة، الكائنة بين أعضاء حية في جسم حيّ، يتوّجها جميعاً رأس واحد حيّ، ولا هي وحدانية التشابه والتجانس في كلّ شيء، كارتباط حلقات متشابهة في سلسلة واحدة، وإنما هي تآلف العناصر المنوّعة التي يؤلّف بينها قصد إلهيّ واحد، مثلما تجتمع الأصوات الموسيقية المتباينة لتؤلّف نغمةً واحدة، أو كما تأتلف ألوان قوس السحاب المتباينة لتكوّن نوراً واحداً، أو كما تتّحد الأعضاء المتباينة ـ ولكلّ عضو مكانته ـ في جسدٍ حيّ واحد. فقد يختلف أعضاء الكنيسة الواحدة في الرأي من جهة أمر ما، لكنّ الروح القدس يوحّد ما بينهم، متى كانت قلوبهم متآلفةً في الجوهر. ولا هي مجرّد وحدانية عقلية نفسية، وإنما هي الوحدانية يُنشئها الروح القدس بالذات، فهي وحدانية مؤسسة على شركة الروح.

ب ـ واجبنا إزاء هذه الوحدانية: "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام". النقطة المركزية في هذا الواجب، هي قوله: "أن تحفظوا". وأما كلمة "مجتهدين" السابقة لهذا القول، فهي تعني الروح الذي به نؤدي هذا الواجب المقدّس على أتمّ وجه. والعبارة "رباط السلام" التي بها يُختتم العدد، ترينا الوسيلة التي بها نؤدي هذا الواجب.

أولاً: واجبنا "أن تحفظوا". إننا نحمد الله لأن هذه الوحدانية موجودة حقاً وفعلاً. فليس من واجبنا أن نخلقها خلقاً، ولا أن نوجدها من العدم لأنّ كلّ واحدانية يوجدها البشر مهما سمت مراكزهم، إنما هي وحدانية ميتة، عاطلة، زائفة. ما أشبهها بالجسم الميكانيكي الذي يصنعه مهندس بشريّ، أو بالزهور الصناعية التي تحيكها يد إنسان ماهر أو آلة ميكانيكية صمّاء. لكن هذه الوحدانية المقدّسة هي من عمل ربّ الحياة والقوة، وما علينا نحن البشر إلاّ أن نحافظ عليها. فهي تُكشف ولا تُخترع. وطوبى لمن يستطيع أن يراها بعين الإخلاص، ويغذّيها بقلب المحبة، وينهضها بروح التضحية وإنكار الذات. فعلى المؤمنين أن يحفظوا هذه الوحدانية من كلّ تحزّب، وشقاق، ومن روح الأنانية، وحبّ السيادة.


[1]- تحدّث معلّمو اليهود قديماً في تلمودهم عن سمائين، وسبع سموات. وحدّثنا بولس نفسه عن ثلاث سموات (2كو12: 2)، إشارةً إلى محضر الله. والمراد بقوله جميع السموات" أن المسيح استوى على العرش فوق كلّ الكائنات.

 

 

روح الاجتهاد

 

ثانياً: الروح الذي نؤدي به هذا الواجب على أتمّ وجه: (روح الاجتهاد): "مجتهدين". الكلمة المترجمة "مجتهدين" هي في اليونانية أقوى منها في العربية، فهي تعني "مقدّمين كلّ اجتهاد" أو "باذلين كلّ اهتمام". فالكلمة العربية "مجتهدين" قد تفيد أن المحافظة على الوحدانية عمل اجتهاديّ، لا عمل جدّي، أو هو كما يقال: "فرض كفاية" لا "فرض عين"، لكنّه في الواقع فرض حتميّ، علينا أن نبذل في سبيله كلّ مرتخص وغالٍ. فكلّ مجهود في سبيله، هيّن وإن عزّ.

 

ثالثاً: الوسيلة التي بها نتمم هذا الواجب: "برباط السلام". هذه العبارة كما وردت في الأصل، قد تعني أمراً من اثنين ـ أولهما: السلام الذي هو رباط الوحدانية. وثانيهما: الرباط الذي يضمن السلام ـ أعني المحبة، باعتبار أن المحبة هي رباط السلام. هذا الرأي الثاني، هو رأي العلامة بنجال. ولكن برجوعنا إلى الأصحاح الثاني من هذه الرسالة، يتبيّن لنا، أن المسيح "هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً" (2: 14). هذا هو رباط الوحدانية المسيح الذي هو سلامنا. فهي إذا وحدانية مقدّسة: الروح منشئها، والمسيح رباطها.

 

عدد4و5و6:

 

4جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ.

 

5رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ،

 

6إِلَهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ.

 

ـ (4) الأعمدة السبعة التي يُبنى عليها هيكل الوحدانية (4:4و5و6). "جسد واحد، وروح واحد، كما دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد، ربّ واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكلّ الذي على الكلّ وبالكلّ وفي كلّكم".

 

هذه سهام سباعية من جعبة الوحدانية المقدسة. وهي تبتدئ بالجسد الواحد الذي يحييه الروح الواحد، فيتقدّم نحو جعالة الرجاء الواحد. وهذا الجسد الواحد يستمدّ كيانه من الربّ الواحد الذي هو رأسه الأوحد، فاتّحد به بواسطة الإيمان الواحد والمعمودية الواحدة. على أن كمال هذه الوحدانية يتحقق في الإله الواحد، الذي هو آب لجميع المؤمنين، وهو إله للكلّ، وسيّد على الكل، ومتمم إرادته بالكلّ، لكنه حالٌّ فقط في كلّ المؤمنين. "جسد واحد... إله واحد". مما يلفت نظرنا، أن الرسول، عندما أراد تبيان أوجه الوحدانية المقدّسة، بدأها بأقربها إلى العيان: "جسد واحد"، واختتمها بالإله الأوحد الذي هو غايتنا القصوى وإليه مآلنا "إله وآب واحد". ومهما تعددن أوجه هذه الوحدانية فإن عمادها الأوحد هو الثالث الأقدس: "روح واحد": هذا هو الأقنوم الثالث. "ربّ واحد": هذا هو الأقنوم الثاني. "إله وآب واحد": هذا هو الأول الأقنوم. هذا هو الإله الواحد، موجد هذه الوحدانية ومحييها.

 

فإلى الذين لا يفهمون مسيحيّتنا على حقيقتها، ويتّهموننا بالشرك، ظانين أننا نعبد ثلاثة آلهة، إليهم نسوق الحديث بكلّ حبّ، ومودّة، وعطف، قائلين: تعالوا إلى معابدنا تجدونا إلهاً واحداً، وندين بمعمودية واحدة، ونتمسّك بإيمان واحد، ونضع نصب عيوننا الرجاء الواحد. ثم افتقدونا في منازلنا، تجدوها منازل الزوجة الواحدة، والمحبة الواحدة، والوفاء الواحد، ثم جرّبونا في معاملاتنا، تجدونا أصحاب اللّسان الواحد، والكلمة الواحدة، والوجه الواحد، والذمة الواحدة. وإن وجدتم في أحدنا ـ أو في بعضنا ـ غير ذلك، فالعيب ليس في ديننا بل فينا، فإن لم نكن نحن ذلك، وجب أن نكون كذلك.

 

أركان الوحدانية

 

قديماً حدّثنا الحكيم عن الحكمة قائلاً: "الحكمة بنت بيتها. نحتت أعمدتها السبعة" (أمثال9: 1). ومهما تكن ماهية الحكمة التي تحدّث عنها. الحكيم؛ فلسنا نرى ما يمنعنا من تطبيق كلمات العهد القديم على كلمات رسول العهد الجديد. فالوحدانية المقدّسة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة. وهذه الأعمدة السبعة، هي المبادئ السبعة التي نظّمت الكنيسة بموجبها.

 

ويهمّنا أن نذكر، أن الرسول لا يتحدّث هنا عن الوحدانية باعتبار ما يجب أن نكون عليه، بل على اعتبار أنها حقيقة واقعة. فعناصرها السبعة المذكورة هنا ليست مثُلاً نسعى إليها، لكنّها أعمدة نبني عليها.

 

أما السبعة الأعمدة التي ذكرها الرسول لهذه الوحدانية المقدّسة فهي: "جسدٌ واحد، روجٌ واحد، رجاءٌ واحد، ربٌّ واحد، إيمانٌ واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد". ويجوز أن نجمع بين هذه الأعمدة، فنكوّن منها ثلاثة أركان رئيسية:

 

الركن الأول: جسد واحد: هذا يتناول الحياة الروحية الداخلية والرجاء الوطيد الممتدّ إلى الأمام.

 

الركن الثاني: رأس واحد: هذا هو رأس الجسد وهو يتضمّن العاملين اللذين يتّحدانه بالجسد ـ الإيمان والمعمودية.

 

الركن الثالث: إله وآب واحد: هذا هو رأس الكلّ الذي منه الكلّ وبه الكلّ، وله الكلّ، وإليه الكلّ.

 

عدد4 ـ الركن الأول: الجسد الواحد: "جسد واحد، روح واحد، رجاء واحد". هذا "الجسد الواحد" هو كنيسة المسيح الغير المنظورة على الأرض، الواحدة، الجامعة، (1: 22). و"الروح الواحد" هو الروح القدس الذي هو مصدر حياتها الروحية ومنشئها. و"الرجاء الواحد" هو مبعث نشاطها الخارجيّ. فالكنيسة الواحدة التي هي جسد المسيح على الأرض، قائمة على عاملين ـ أحدهما داخليّ، وهو الروح الواحد القدوس الذي استقرّ فيها منذ يوم ميلادها المشهود (أعمال2)، وهو المحرّك الدائم لعوامل الحياة فيها.

 

وثانيهما: خارجيّ: هو الرجاء الواحد الوطيد الموضوع أمامها، وهو خير محرّض لها على الخدمة، والمثابرة، والجهاد. فالروح المحيي يدفعها من الداخل، والرجاء الحيّ يرفعها من الخارج: وهي كنيسة واحدة وإن انقسمت مذاهب، وتفرّقت شيعاً، وتفرّعت شعباً.

 

الروح الواحد: ذكر "الروح الواحد" بعد "الجسد الواحد"، لأن الروح القدس للكنيسة، كالروح للجسد. فالروح للجسد، قوة محيية، وحافظة، وموحّدة. فهو علّة حياة الجسد، وهو حافظه من الاضمحلال، وهو موحّد جميع أعضائه. فعلى رغم اختلاف كلّ عضو في الجسد عن الآخر، ترى كلّ الأعضاء مرتبطة معاً بالروح الواحد. كذلك الروح القدس هو علّة حياة الكنيسة، وهو القوة المؤلّفة بين جميع عناصرها المختلفة. لأنّه يتّحد كلّ الأعضاء معاً في الرأس الواحد.

 

الرجاء الواحد: "كما دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد". يذكّرنا كلام الرسول هنا عن "رجاء الدعوة" بكلامه في غرّة الرسالة: "مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته". فالمؤمنون مدعوون في الرجاء، فيملأهم الرجاء ويمتلكهم. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة عينها، ولكن بصيغة أخرى، في رسالة معاصرة لهذه: "من أجل الرجاء الموضوع لكم في السموات الذي سمعتم به قبلاً في كلمة حقّ الإنجيل" (كولوسي1: 4).

 

هذا الرجاء واحد لجميع المؤمنين. وغايته أن يجعل كلّ المؤمنين رعيّة واحدة في بيت الله.

 

عدد5ـ الركن الثاني: الرأس الواحد: ربّ واحد: هذا هو رأس الكنيسة الجامعة، التي هي جسده على الأرض. فهو ملكها ومالكها، ومالئها. وهو ربّ واحد لجميع المؤمنين. فكلّهم فيه متّحدون، وكلّهم فيه متساوون.

 

إيمان واحد: هل كلمة "إيمان" كما وردت هنا، تعني خلاصة العقيدة المسيحية المشتركة بين جميع المؤمنين؟ أم هي تعني ثقة الاعتماد والاتّكال والتسليم التي تربط النفس بمخلّصها، فتعرف بالإيمان الخلاصيّ؟ أم هي تعني كلا الأمرين؟ غالباً يقصد الرسول المعنى الثاني، لأنّ كلامه عن "الإيمان الواحد" بعد قوله "الربّ الواحد"، يدلّ على أنه يقصد "الإيمان الواحد" الذي هو الوسيلة الروحية المشتركة، والوحيدة، التي تتّحد جميع المؤمنين بالربّ الواحد. فالكلّ يُقبلون إليه كخطاة، ويقبلون خلاصه المجانيّ.

 

معمودية واحدة: إذا كان الإيمان هو الوسيلة الداخلية الروحية المشتركة التي تربط المؤمنين جمعاً بالمسيح الأوحد، فإن المعمودية هي العلامة الظاهرة الوحيدة لهذه الرابطة. فالإيمان فعلٌ داخليّ، والمعمودية ختم خارجيّ. الإيمان صلة خفية، والمعمودية رمزٌ علنيّ. بالمعمودية الواحدة، يعترف كلّ مؤمن بخطاياه، ويُعلن قبوله المسيح فادياً ومخلّصاً.

 

قد تتنوّع الكيفيات التي بها تُمارس المعمودية: فالبعض يعتمد بالتغطيس، والبعض بالرشّ. لكنّ المعمودية ذاتها واحدة، والاسم الذي يعتمد عليه الجميع هو اسم الإله الواحد ـ "الآب والابن والروح القدس" (متى28: 19).

 

عدد6 ـ الركن الثالث: "إلهٌ وآبٌ واحد": هذا هو النبع الأعلى للوحدانية الروحية المقدّسة، وهو مرجعها النهائيّ. فالمعمودية تختم الإيمان، والإيمان يتّحدنا بالمسيح، والمسيح يُرينا أن الآب هو "الإله الحقيقيّ وحده". إنّ هذا الإله الواحد الحقيقيّ، هو آب لجميع المؤمنين، وهو ربّ متسلّط على الكلّ، ومتمّم إرادته بالكلّ، فيستخدم كلّ واحدٍ بحسب استعداده ومؤهّلاته وظروفه، ليجري به قصده الأزليّ، في ذاته وفي الآخرين، ليأتي ملكوته على الأرض. وهو حالّ في كلّ المؤمنين.

 

يعتقد كثير من المفسّرين، وعلى رأسهم بعض الآباء الأوّلين، أن الثلاث العبارات الأولى في هذا العدد، تُشير إلى الثالوث الأقدس. فالله عليّ الكلّ في شخص الآب. والله بالكلّ ـ في شخص الابن. والله في الكلّ ـ في شخص الروح القدس. وقد لا يخلو هذا الرأي من تحميل الكلمات معاني فوق طاقتها، سيّما وأن الرسول سبق فأشار صراحةً إلى الروح القدس باعتبار كونه محيي كنيسة المسيح، التي هي جسده على الأرض (عدد4)، وإلى الابن باعتبار كونه رأس الكنيسة ورئيسها (عدد5)، فمن الطبيعي أن نراه في هذا العدد السادس مخصصاً الكلام عن الله الآب، الذي إليه مآب الكلّ، وكلّ مآب. وهو الذي حدّثنا عنه الرسول عند ختام الأصحاح السابق قائلاً: "لذلك أحني ركبتيّ لدى أبي يسوع المسيح الذي منه تسمى كلّ عشيرةٍ في السموات وعلى الأرض".

 

هذه هي الوحدانية المسيحية المقدّسة التي جعل منها الرسول موضوعاً لحديثه في هذا الفصل، وهي وحدانية غريبة في مظهرها، لأنها تجمع بين المتناقضات ـ فهي تؤلّف بين اليونانيّ واليهوديّ، الختان والغرلة، البربريّ والسكيثي، العبد والحرّ. لأن المسيح رأس هذه الوحدانية وأصلها، هو الكلّ في الكلّ (كولوسي3: 11).

 

على أن هذه الوحدانية، وإن تكن متباينة المظهر، إلاّ أنها موحّدة الجوهر. فهي مؤسسة على هذه الدعائم السبع التي مرّت بنا ـ وحدة الجسد، وحدة الروح، وحدة الرجاء، وحدة الرأس، وحدة الإيمان، وحدة المعمودية، وحدة الأبوّة العلوية المقدّسة.

 

هذا ما أبانه الرسول في الأعداد سالفة الذكر. غير أن هذه الحقيقة لها جانب آخر ـ هو الأساس الثاني لهذه الوحدانية. فإذا كان أساسها الأول وحدانية الجوهر، فإن أساسها الثاني هو تنوّع المواهب. هذا ما ينبئنا عنه الرسول في الأعداد الآتية (4: 7-16).

 

7وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ.

 

فإذا كان موضوع الأعداد السابقة (4: 3-6) وحدانية الجسد، فإن موضوع الأعداد التالية (4: 7-16) هو تنوّع وظائف الأعضاء في الجسد الواحد. فهي وحدانية في تنوّع، وتنوّع في وحدانية.

 

تنوّع في وحدانية، ووحدانية من تنوّع

 (4: 16-7)

 

تنوّع في وحدانية، ووحدانية من تنوّع (4: 7-16). هذا باعث آخر على الاتحاد، مبنيّ على تنوّع الهبات. وكلام الرسول عنه في هذا الفصل، مشابهٌ لكلامه في رو12: 3-8، كو12: 4-30 ومطابق لكلام بطرس الرسول في 1بط4: 10و11.

 

إن الموضوعات التي تناولها الرسول في هذا العدد هي: أ ـ النعمة الموهوبة، ب ـ الأشخاص الموهوبون، ج ـ قياس الهبة.

 

أ ـ النعمة الموهوبة: "ولكنّ لكلّ واحد منا أعطيت النعمة". هذه نعمة معطاة من المسيح لكلّ واحدٍ من المؤمنين. فما هي هذه النعمة؟ يقول الدكتور أرمتاج روبنسون: إن "النعمة" المقصودة هنا هي تلك التي تحدّث عنها الرسول في الأصحاح الثالث من هذه الرسالة: "إن كنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم" (3: 2)، "الإنجيل الذي صرت أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي حسب فعل قوّته" (3: 7)، "لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشّر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى" (3: 8).

 

8لِذَلِكَ يَقُولُ: «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا».

 

غير أننا بمراجعة ما كتبه بولس عن "النعمة" في الثلاثة الأصحاحات الواردة ضمن هذه الرسالة ـ الثاني، والثالث، والرابع، يتبيّن لنا، أن ما أراده الرسول بـ "النعمة" في كلّ من هذه الأصحاحات، يختلف عما قصده بها في الآخر. فالنعمة المذكورة في الأصحاح الثاني، هي النعمة التي يخلّص بها الإنسان الخاطئ: "بالنعمة أنتم مخلّصون" (2: 5و8). والنعمة التي تحدّث عنها الرسول في الأصحاح الثالث، هي النعمة التي بها أؤتُمن الرسول على غنى المسيح الذي لا يستقصى، والكرازة به للأمم: "لي أعطيت هذه النعمة أن أبشّر الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى" (3: 8). والنعمة الواردة في هذا الأصحاح (4: 8) هي نعمة حلول الروح القدس في قلب كلّ مؤمن فيصبح بها كلّ المؤمنين واحداً. فالأولى مخلّصة، والثانية مؤهّلة، والثالثة موحّدة.

 

هذا مؤيّد لما جاء في الأعداد التالية: "إذ صعد إلى العلاء.... أعطى الناس عطايا... لكي يملأ الكلّ". وهو مطابق لكلام بطرس الرسول في عظته الخمسينية: "فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهودٌ لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه في هذه الرسالة ـ وفي رسائله الأخرى: كرومية وكورنثوس ـ هي مواهب الروح القدس.

 

ب ـ الأشخاص الموهوبون: "لكلّ واحد منا أعطيت". إن نعمة حلول الروح القدس في القلب، هي من حقّ كلّ مؤمن، بل هي بكورية كلّ مؤمن: "إن كان أحدٌ ليس له روح المسيح فذلك ليس له" (رومية8: 9). "لأنّ كلّ الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أولاد الله" (رومية8: 14). إن أصغر المؤمنين له حقّ في هذه النعمة كأكبر مؤمن فيأخذ كلذ مؤمن حقه من هذه الهبة، على قدر طاقته واستعداده.

 

ج ـ قياس هذه الهبة: "حسب قياس هبة المسيح". إن المسيح، رأس الكنيسة الأوحد، قد رتّب لكلّ عضو في كنيسته عملاً معيّناً، ووضع عليه مسؤولية خاصة. لكنّ كلّ مسؤولية مصحوبة بمزية، وكلّ واجب يحمل معه وعداً بمعونة تتكافأ معه. لذلك وزّع المسيح هبات روحه الأقدس على كلّ عضو في كنيسته الحية الغير المنظورة، كلّ بحسب المطاليب المطلوبة منه، وعلى قياس المسؤوليات الملقاة على عاتقه من قِبل ربّ الكنيسة وغير خافٍ أن الإنسان لا ينال من ملء الروح إلاّ على قدر إيمانه، وطاعته، وتسليمه، وأمانته في استخدام المواهب التي عنده: "كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير". على هذا المبدأ ينتفي الحسد، لأنّ كلّ إنسان يغترف من بحر المواهب الروحية بقدر إيمانه: "افغر فاك فأملأه". ولما نفذت الأوعية "وقف الزيت". هذه هي هبات المسيح الملك الذي يُعطي بوفرة، ولا يُسأل عن مقدار ما يعطي.

 

عدد2 ـ شهادة العهد القديم لهذه الحقيقة (4: 8):

 

8لِذَلِكَ يَقُولُ: «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا».

 

اقتبس الرسول هذا القول من العهد القديم ـ وهو عبارة عن كلّ الكتاب المقدّس المسلّم به في أيام بولس، وإليه يشير الرسول في كلمة: "يقول" ـ أي أن الكتاب المقدس هو القائل (مزمور68: 18). ويجوز أن نفهم أن القائل هو الله أو هو الروح القدس. هذه نبوة متعلّقة بالمسيح، مبينة العلاقة التي بين صعوده وهباته.

 

يرسم هذا القول أمامنا صورة ملك ظافر، استولى على قلعة منيعة فغزا منها غزواً، وغنم منها غنماً. ثم عاد بموكبه الظافر متبوعاً بما غنم، محفوفاً بمن كسب. وتتمة هذه النبوة ـ كما وردت على لسان داود في قوله: "قبلتَ عطايا بين الناس" ـ تفيد أن الإشارة منصرفة إلى الجزية التي تقدّم للملك الظافر ممن ظفر بهم فعلاً، أو إلى الهدايا التي توضع عند موطئ قدميه، ممن يترضون وجهه (1كو15: 25و2كو10: 3-5).

 

استطاع الرسول بولس بنور الوحي والإلهام، أن يطبّق هذه النبوّة القديمة على صعود المسيح ونواله موعد الروح القدس، وإيهابه هبة الروح لكلّ مؤمن متّحد به اتحاداً حيوياً. ومع أننا نلاحظ أن بين هذه النبوة القديمة وبين التطبيق الرسوليّ لها، شيئاً من التباين، إلاّ أنه لا يتعدّى التفصيلات العرضية، وأما جوهر الشبه فهو واحد: إن المسيح ملك زافر كسر شوكة الموت وارتفع إلى السماء ظافراً بالرؤساء والسلاطين، وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب من روحه الأقدس على كلّ عضو من أعضاء كنيسته، نصيباً فعالاً حسب قياس مشيئته الحرّة المطلقة، حال كونها صالحة ومرضية وكاملة.

 

قد يلاحظ الباحث شيئاً من التباين اللّفظيّ بين الصيغة التي وردت بها هذه الحقيقة في العهد القديم (مزمور68: 18)، والصيغة التي أفرغها فيها بولس في هذه الرسالة ـ فمثلاً جاء في المزمور: "قبلتَ عطايا بين الناس" مقابل قول الرسول: "أعطى الناس عطايا". فحاول المفسّرون أن يوفّقوا بين الصيغتين ولعلّ أفضل ما قيل بهذا الصدد: إن المرنّم ذكر الأمر الواقع ـ وهو قبول العطايا. وأن الرسول ذكر غاية هذا الأخذ ـ وهو إعطاء الناس. لأن العطايا لا تؤخذ إلاّ لتعطى، ولا تكسب إلاّ لتوهب. فالملك الظافر يوزّع الغنائم التي يأخذها. فهو إنما يأخذ ليعطي.

 

ولا يغرب عن البال، أن كلام الرسول هنا يصف المسيح في عمله الفدائيّ كوسيط، لا في لاهوته. إذ في هذه الصورة يرتسم الفادي أمامنا ملكاً كاهناً، وكاهناً ملكياً. وعلى هذه الصورة المجيدة أراق الرسول نوراً باهراً في العددين التاليين.

 

عدد9و10:

 

9وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. 10اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَأَ الْكُلَّ.

 

ـ المسيح واهب العطايا، هو الباسط نفوذه على جميع العالمين: كلّ صعود يفترض النزول أولاً. فصعود المسيح يفترض نزوله. وعلى قدر الصعود تكون درجة النزول السابق له. فكما أن المسيح في ارتفاعه، قد ارتقى فوق السموات، فهو أيضاً في اتّضاعه قد نزل إلى أقسام الأرض السفلى، فهو إذاً باسط نفوذه على كلّ العالمين، فلا يخلو من حضوره مكان مهما تكن درجة سموّه، ولا يبرح نفوذه مكاناً، مهما يكن درك تنازله. هذا هو المسيح الملك الجليل الصفات، الذي تنازل في اتّضاعه حتى بلغ "أقسام الأرض السفلى"، وارتقى في صعوده إلى ما "فوق جميع السموات". فالأرض وما دونها، والسموات وما فوقها، وكلّ ما هو كائن بين هاتين المسافتين الشاسعتين، داخل ضنم دائرة نفوذه هذا الملك العظيم. فهو ليس رأس الكنيسة وكفى، بل هو أيضاً مالئ كلّ العالمين، مالك إياها، وملكٌ عليها. هذه خلاصة الإنجيل.

 

أ ـ مبلغ اتّضاع المسيح: "نزل إلى أقسام الأرض السفلى". تباينت أقوال المفسّرين في معنى هذه العبارة: فبيرسون يعتقد أن العبارة في وضعها اليوناني تعني حرفياً: الأقسام السفلى ـ أي الأرض. بمعنى أن الأرض هي بالذات الأقسام السفلى، بالقياس إلى السماء التي هي الأقسام العليا. ويستند في رأيه هذا إلى ما جاء في إشعياء44: 23 "ترنّمي أيتها السموات... اهتفي يا أسافل الأرض". ولكنّ أصحاب هذا الرأي قليلون، لأنه مبنيّ على تحميل الكلمات معاني فوق احتمالها.

 

ويعتقد بعض المفسّرون أن "أقسام الأرض السفلى" تعني القبر، بدليل ما جاء في مزمور62: 9 "أما الذين هم للتهلكة يطلبون نفسي فيدخلون في أسافل الأرض" ـ أي في القبر. فالإشارة منصرفة إلى موت المسيح ودفنه في القبر. هذا آخر دركٍ تنازل إليه المسيح في اتّضاعه: "وأطاع حتى الموت"، "لن تترك نفسي في الهاوية".

 

ذهب كثير من المفسّرين، وعلى رأسهم الآباء الأوّلون، إلى أن هذه العبارة. "نزل إلى أقسام الأرض السفلى" تشير إلى عمل معيّن قام به المسيح في "العالم الأسفل"، منقذاً أرواح قديسي العهد القديم من سجن الأرواح "لمبوس"، الذي كانوا فيه محروسين، في انتظار إتمام الفداء. وفي اعتقادنا أن الرأي الثاني هو أقربها إلى الصواب، ويليه الأول. وأبعدها الأخير.

 

ب ـ أوج ارتفاعه: "فوق جميع([1]) السموات" : هذه العبارة تعني أرفع مكان وأسمى مكان "فوق كلّ رياسة وسلطان وقوة وسيادة" (1: 21) "وفوق كلّ اسم" (فيلبي2: 9)، فوق كلّ البرايا المنظورة والغير المنظورة "سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين" (كولوسي1: 16).

 

 

ج ـ غاية اتّضاع المسيح وارتفاعه: "لكي يملأ الكلّ". تحتمل هذه العبارة معنيين: أوّلهما: لكي يملأ المسيح كلّ حيّز بحضوره، وسلطانه، ومجده. وثانيهما: لكي يتمّ قصد الله ومشيئته في كلّ الأشخاص وبهم، وفي جميع الأشياء وبها. هذا رأي الدكتور ارمتاج روبنسون. لكنّ أغلب المفسّرين يميلون إلى الرأي الأول، على اعتبار أن المسيح يملأ الكلّ بحضوره روحياً لا جسدياً.

 

[1] - تحدّث معلّمو اليهود قديماً في تلمودهم عن سمائين، وسبع سموات. وحدّثنا بولس نفسه عن ثلاث سموات (2كو12: 2)، إشارةً إلى محضر الله. والمراد بقوله جميع السموات" أن المسيح استوى على العرش فوق كلّ الكائنات.

 

تنوّع المواهب ووحدة الغاية

 

 (4: 16-11)

 

بعد أن عالج الرسول ذلك الاقتباس المأخوذ من سفر المزامير، الذي يعتبر إنجيلاً مركّزاً، شاهداً بكلمات قوية موجزة، لصلب المسيح وآلامه، وموته، ودفنه، قيامه، وصعوده، وإرساله الروح القدس، عاد إلى كلامه الذي تركه في العدد الثامن، مستأنفاً الحديث عن تنوّع هبات المسيح الملك الظافر.

 

ينقسم هذا الفصل إلى أربعة أقسام رئيسية:

 

أولاً تنوّع هذه المواهب (4: 11):

 

11وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ،

 

(1) الرسولية (4: 11أ).

 

(2) التنبّؤ (4: 11ب).

 

(3) التبشير (3: 11ج).

 

(4) الرعاية والتعليم (4: 11د).

 

ثانياً القصد من هذه المواهب (4: 12):

 

12لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ،

 

(1) تكميل القديسين (4: 12أ).

 

(2) عمل الخدمة (4: 12ب).

 

(3) بنيان جسد المسيح (4: 12ج).

 

ثالثاً: الغاية القصوى من هذه المواهب (4: 13):

 

13إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ.

 

(1) الإيمان الكامل: "وحدانية الإيمان" (4: 13).

 

(2) المعرفة الشاملة: "معرفة ابن الله" (4: 13أ).

 

(3) الينبوع: "إلى إنسان كامل" (4: 13ب).

 

(4) القياس الأعلى: "قياس قامة ملء المسيح" (4: 13ج).

 

رابعاً: كيفية البلوغ إلى هذه الغاية (4: 14-16):

 

(1) سلباً:

 

14كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ.

 

أ ـ عدم الاضطراب: "لا نكون أطفالاً مضطربين" (4: 14أ).

 

ب ـ عدم الانصياع: "محمولين بكلّ ربح تعليم" (4: 14ب).

 

ج ـ عدم الانخداع: "بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة" (4: 14ج).

 

(2): إيجاباً:

 

15بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ،

 

أ ـ الصدق في المحبة (4: 15أ).

 

ب ـ النمو المتكامل (4: 15ب).

 

ج ـ التعاون المتبادل (4: 16):

 

16الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ.

 

عدد 11 ـ أولاً: تنوّع هذه المواهب الروحية (4: 11).

 

(1) الرسولية: "رسلاً" (4: 11أ).

 

(2) التنبّؤ: "أنبياء" (4: 11ب).

 

(3) التبشير: "مبشّرين" (4: 11ج).

 

(4) الرعاية والتعليم: "رعاة ومعلّمين" (4: 11د).

 

من الجائز أن نعتبر الفصل المبتدئ بالعدد التاسع والمنتهي بالعدد السادس عشر مفسّراً وموضحاً للعدد الثامن. وبالرجوع إلى ذلك العدد، يتبيّن لنا أنه يتضمّن شطرين ـ أوّلهما: عن صعود المسيح: "وأعطى الناس عطايا". فالشطر الأول المتعلّق بصعود المسيح قد شرحه الرسول وأوضحه في العددين: التاسع والعاشر. وها نحن نرى الرسول يشرح الشطر الثاني المتعلّق بهبات المسيح، في هذا الفصل الذي أمامنا (4: 11-16). فالمسيح هو الذي صعد، والمسيح هو الذي أعطى. فالملك الظافر هو الملك الواهب.

 

وجدير بالملاحظة، أن هبات المسيح ليست مذكورة هنا مجرّدةً في ذاتها، بل متّصلة بالأشخاص الذين تقلّدوها ولبسوها بعد أن لبستهم هي: "رسلاً أنبياء، مبشّرين، رعاةً ومعلّمين". مع أن الرسول نفسه ذكر مثل هذه الهبات مجرّدةً بذاتها في رسالته إلى رومية: "نبوة، خدمة، تعليم، وعظ" )رو12: 6-8). لأنّ فكر الرسول في رسالة أفسس كان متّجهاً إلى الأعضاء الذين تمثّلت فيهم الهبات، لكنّه في رسالته إلى رومية كان متّجهاً إلى الهبات التي تزيّن الأعضاء. كذلك أيضاً في 1كو12: 28 ذكر الصفات متمثّلةً في الأعضاء، "وضع الله أناساً في الكنيسة: أولاً رسلاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً معلّمين".

 

(1) الرسولية: "وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً". الرسل هم تلك الطغمة الخاصة التي أهّلها الله بمؤهّلات خاصة، لتضع بناء الكنيسة على الأساس الأوحد ـ يسوع المسيح. فصاروا هم، على نوعٍ ما، أساساًَ للكنيسة في خدمتهم، ورسائلهم، وتعليمهم. "والرسول" بحصر اللفيظ، هو شخص عاين المسيح بعد القيامة، وشهد لقيامته، وتعيّن لهذه الوظيفة منه رأساً، وأعطى قوة على إتيان معجزات. هذه وظيفة خاصة لم يسمح الله لكلّ إنسان بأن يتقلّدها، بل ميّز بها "البعض". وهي رتبة ذهبت بذهاب العصر الرسوليّ. غير أنّ بعضاً ممن حملوا رسالة الإنجيل إلى بلاد نائية قاحلة، فاقتحموا في سبيلها الأهوال، مستعذبين العذاب، مستطيبين الاضطهاد، أمثال لفنستون، تسالمرس، وهنري مارتن، هؤلاء يحملون "الرسالة" في العصور الحديثة.

 

(2) التنبّؤ: "والبعض أنبياء" (4: 11ب). هؤلاء قوم ذوو بصائر نيّرة يعلن لهم الله إرادته بإلهام خاص، ليعلنوها هم للآخرين. والنبوّة ـ في العهدين ـ لا تعني بالضرورة التنبّؤ بالمستقبل بالمستقبل، بل قد تكون مقصورة على التعليم بحكمة وسلطان. وقد جاء في كتاب أثريّ جليل عنوانه: "تعاليم الإثني عشر": أن الأنبياء في العهد الجديد، كانوا متجوّلين يفتقدون بعض الكنائس في تجوالهم ويبلّغون كلّ كنيسة رسالتها في حينها. وكان بعضهم مستقراً في بعض الكنائس يعيشون من تقدماتها. وكانوا يرأسون خدمات الكنيسة الخاصة بالشكر، بسلطان خاص، غير موهوب لسواهم من بعد الرسل. وكانوا في أيام يوستنيان الشهيد يلقّبون بـ"رؤساء الكهنة". وكانت أشخاصهم مرفوعة فوق كلّ اعتبار حتى أن من تصدّى لهم بنقد أو حكم، يُعتبر كمن أخطأ إلى الروح القدس. وجاء في كتاب: "راعي هرماس" أن من أهمّ مؤهّلات هؤلاء الأنبياء أن يكونوا متّصفين بالوداعة التامة، منزّهين عن حبّ المال، يترفّعون عن أن يتنبّأوا إجابة الاستشارة أو رداً على سؤال. وكان النبيّ معتبراً مملوءاً "بملاك روح النبوّة". والظاهر أن هذه الرتبة انقرضت بعد انقراض رتبة الرسولية. وهي تليها مباشرةً في المقام.

 

(3): التبشير: "والبعض مبشّرين" (4: 11ج). الظاهر أن الرسول ذكر هذه المواهب بحسب ترتبيها في الدرجة والمقام. فالرسول أولاً، ثمّ النبيّ، ثمّ المبشّر، ثمّ الراعي المعلّم. هذا الترتيب يُخالف العرف المصطلح عليه في أيّامنا، الذي به يُحسب المبشّر أدنى من الراعي مرتبة، وأحطّ منه مقاماً، لدرجة أن هذه الوظيفة أضحت موقوفة على من لم تقدّم له دعوة، رعوية، أو على من كان راعياً فأخفق. لكن ليس هذا عُرف الكتاب. فالمبشّر أولاً ثم الراعي. المبشّر يقطع الحجر والمعلّم يصقله. المبشّر يضع الأساس، والراعي يُقيم البناء. المبشّر هو المنادي بالأخبار الطيّبة المفرحة. فهو في عمله حامل رسالة ـ كدتُ أقول رسولاً. هو فاتح الطريق أمام الراعي. هو سفير المسيح في البلاد النائية.

 

التهور في الشر

 

"ليعملوا كل نجاسة في الطمع". وردت كلمة "يعملوا" في العهد الجديد ضمن كتابات لوقا الطبيب وبولس الرسول وحدهما-في لوقا 58:12 بمعنى: "صناعة" أو "حرفة" فهي إذاً تنطوي على معنى الكدّ، والاحتراف، والمهارة، والتفنّن. وهل من حالة أسوأ من هذه التي يهوى إليها الإنسان، إذ يبذل جهده في الشر، ويتفنن فيه فيصبح مهنته الخاصة وصناعته التي منها يعيش؛ ولها يحيا ويتحرك؟

 

إن قوله "في الطمع" يصف درجة توغلهم في النجاسة، أي أنهم يرتكبون كل نجاسة بفرض الطمع؛ فلا يتركون فيها باباً إلا ويطرقونه حتى لا يفوتهم لون من ألوانها، ولا صورة من صورها. فعوامل النجاسة قد طغت فيهم على كل شيء آخر، والجسد قد طمع على العقل والنفس، فسلبهما حقوقهما، وسخرها كلها لذاته ولذّاته. لأن الكلمة المترجمة: "الطمع" تعني حرفياً "تخطي حدود النصيب المعيّن". فالإنسان الطماع هو الذي يتخطى حدود النصيب المرتب له من الله، ويتعدى على حقوق الغير، لأنه لا يرى أمامه غير مصلحته الذاتية، فلا يراعي سوى لذّاته الخاصة. وهو لا يبالي بحقوق الآخرين إلا بقدر ما يستطيع أن يغتصبه منها، ويستلبه لنفسه.

 

إن من يقرأ ما سطره المؤرخون عن حالة الرومان واليونان وقت كتابة هذه الرسالة، يتبين له أن أولئك القوم سخروا أكلهم وشرابهم، ونومهم ويقظتهم، ومجال لهوهم وأمكنة عبادتهم؛ وجدهم وهزلهم، لتغذى فيهم عوامل الإثم والفجور: فلم تكن حكومتهم تبيح ارتكاب النجاسة فحسب، بل كانت تشجع على ارتكابها، وتبتكر للشعب منها أصنافاً وألواناً. فالنجاسة كانت وحي شعرائهم، وإلهام ممثليهم وهدف مثّاليهم.

 

على أن هذه ليست حال الأمميين الوثنيين وحدهم، وإنما هي حال كل إنسان غير متجدّد (رومية3: 10-18). فهي حالنا كلنا- لولا نعمة الله!

 

لم ترد كلمة "طمع" في العهد الجديد مقصورة على المال ، لكنها استعملت في مواضع كثيرة- سيما في رسائل بولس المكتوبة إلى الأمم- مقترنة بكلامه عن النجاسة (1كو 115، 1تس 6:4 وأفسس :5: 3 و5، كولوسي 3: 5 ). ويلوح لنا أن الرسول قرن كلمة "طمع" بكلمة "نجاسة" في هذه القرينة وسواها، لأن النجاسة والطمع مشتقان من مصدر واحد- هو حب الذات فالنجس والطماع يعبدان ذاتهما ولذّاتهما. وقد لوحظ بعد البحث والإستقراء أن النجاسة تقود إلى الطمع، فالإنسان الذي ينفق شبابه على النجاسة، يكرس شيخوخته للطمع!!

 

"النجاسة".."الطمع". إن مرضاً واحداً من هذين الاثنين كاف لأن يقتل أكبر الجبابرة. فكيف بهما إذا اجتمعا في إنسان واحد؟! فالطامع لا يكتفي بضرب من ضروب النجاسة، بل يريد أن يتمرغ في كل حمأة، و النجاسة تضع على المرء تكاليف باهظة فينفق فيها وينفق، ولفرط إفلاسه يطمع في حقوق الآخرين.

 

عدد20: الكلمة الثانية في الجانب السلبي: "أنتم" (4: 17-19):

 

20وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ هَكَذَا

 

"وأما أنتم"-وصف الرسول حياة الأمميين الوثنيين في الأعداد الماضية، وفي نفسه غضاضة مرّة، كتلك التي يشعر بها المصور الحساس عندما يقضى عليه بأن يرسم صورة بشعة، أو كذلك الشعور الذي يخامر قلب حفار القبور، عندما يتحتم عليه أن يفتح قبراً أغلق حديثاً فتنبعث منه روائح كريهة. فما كاد الرسول يتم تصوير الوثنيين في حياتهم الفكرية، والروحية والأدبية، حتى تنفس الصعداء وانتقل بسرعة إلى رسم هذه الصورة الجليلة الجميلة التي تمثل المسيحيين في حياتهم الجديدة، فقال بنغمة الشاكر المشجع: "وأما أنتم".

 

إن موقف الرسول هنا، يماثل موقف كاتب الرسالة إلى العبرانيين- ولعله بولس نفسه- عندما وصف المرتدين بكلمات مريرة، متكلما من"اللّعنة التي نهايتها للحريق"- ولعله خاف لئلا يتطرق إلى ذهن المكتوب إليهم شك من جهة موقفهم هم، لذلك انتقل بهم حالا إلى الجانب المنير، مشجعاً إياهم ومواسياً "ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل" (عب7: 9و8)

 

في هذين العددين (4: 21و20)وصف الرسول موقف المؤمنين إزاء حياتهم العتيقة، مبتكراً استعارة جديدة، ترينا تلاميذ يتلقون الدرس في مدرسة عالية. فالمكتوب إليهم هم التلاميذ: "وأما أنتم". والمسيح هو الدرس والأستاذ، والمدرسة : "لم تتعلموا المسيح هكذا إن كنتم قد سمعتموه".

 

-ا-الرذيلة-التلاميذ: "وأنا أنتم". وردت كلمة "أنتم" بصيغة التوكيد مقابل كلمة "هم" (عدد 18 )

 

المسيح هو الدرس والأستاذ والمدرسة

 

-ب- الدرس والأستاذ والمدرسة- هذه كلها مجتمعة ومركزة في شخص المسيح. فالمسيح هو الدرس: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا". في البشائر الأربع، عرفنا المسيح معلماً، لكن بولس عرفنا إياه هنا أنه هو الدرس الذي يبتدئ الإنسان بتعلمه منذ وقت التجديد، ويظل متفقهاً فيه حتى يدخل الأبدية، وهناك أيضا يستمر متلقّناً هذا الدرس البسيط جداً لدرجة يفهمه فيها الأطفال، والعويص جداً لدرجة يعجز فيها العلماء عن سبر غوره. إن أهم درس هو معرفة "معنى المسيح". فالمسيح إذاً هو خلاصة التعاليم اللاهوتية، وهو جوهر كل المبادئ المسيحية، لأن المسيح هو المسيحية. فهو لم ينشر دينا، لكنه عرفنا عن شخصه، فإن تعلمنا العقائد والعلوم اللاهوتية ولم نتعلمه هو، فلا نكون قد تعلمنا شيئاً.

 

أراد الرسول بكلمة "هكذا" تلك الصورة التي رسمها في الأعداد السابقة (17-19). ويستنتج بعض المفسرين، من هذه الكلمة ،أن الرسول يشير ضمناً إلى جماعة ممن دعي عليهم اسم المسيح، لكنهم ظلوا على حياتهم الأولى الفاسدة، نظير أولئك الذين أشار إليهم بولس في رسالة معاصرة لهذه: "لأن كثيرين ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضا باكياً وهم أعداء صليب المسيح"(فيليبي3: 18).

 

عدد 21:

 

- 21إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ،

 

-ج- المسيح هو الأستاذ: "إن كنتم قد سمعتموه".

 

كلمة "إن"، في هذا الوضع، ليست شرطيَّة، بل تحقيقيّة يقينية. فهي لا تشترط أمراً لم يحدث بعد: لكنها تفترض وقوعه فعلاً وحقاً. فقوله: "إن كنتم قد سمعتموه" يعتبر موازياً للقول: ما دمتم قد سمعتموه حقاً ويقيناً. والظاهر أن الرسول التجأ إلى هذا الأسلوب الإنكاري- كما في 3: 2- ليجعل العمليات مؤيدة للنظريات.

 

ورد ضمير "الهاء" المتصل بالفعل: "سمعتموه"- في الأصل - سابقاً للفعل لا لاحقاً له، على سبيل التوكيد: إياه"سمعتم". فمع أن المكتوب إليهم لم يحظوا بأن تتملى عيونهم من مرأى سناه، ولا بأن تتشنف آذانهم بسمع طيب حديثه ونجواه، إلا أنهم سمعوه في رسله الذين بعثهم بروحه الأقدس- وفي مقدمتهم بولس (يوحنا10: 27، أعمال1: 1). وفوق ذلك، فإن المسيح هو الحق الذي سمعوه، وهو الرسالة التي بلغت إليهم، وهو موضوع الكرازة التي انتهت إليهم. فهو لم يعلن لنا حقاً، بل هو الحق. ولم يرنا طريقاً، بل هو الطريق: ولم يدلنا إلى سبيل الحياة، بل هو الحياة- د- المسيح هو المدرسة: " وعلمتم فيه".هذه العبارة مكملة لسابقتها، كما أن سابقتها مفسرة لها. والمراد بها: أن المؤمنين إنما عرفوا المسيح وهم في روح المسيح متحدون به إتحاداً حيوياً. فصار فكر المسيح فكرهم، وأضحت لغة المسيح لسانهم، وأمست إرادة المسيح عزيمتهم، وبات حب المسيح غذاء عاطفتهم ووجدانهم: "وأما نحن فلنا فكر المسيح" (1كو2: 16)-ه-منهج التعليم: "كما هو حق في يسوع". هذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها الرسول اسم المخلص: "يسوع" مجرّداً، في هذه الرسالة. وهو يعني بهذا الاسم المجيد، شخص يسوع التاريخي، الذي صلب، ومات، وقام، وصعد، فجلس عن يمين العظمة في الأعالي، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات.

 

"كما هو حق في يسوع"- غالباً لاحظ الرسول أن قوله: "تعلمتم المسيح" لا يخلو من الغموض والإبهام،سيما لدى عقلية قوم انتقلوا حديثاً من الوثنية الجوفاء، فأراد أن يزيل هذا الإبهام بعبارة تجلو غامضه، فقال: "ما هو حق في يسوع"-أعني أن الذي تعلّموه هو الحقّ

 

الذي أعلن لهم في يسوع الناصري. فكل كنوز العلم والمعرفة المدخرة في المسيح السرمدي، قد انكشفت لنا في يسوع الناصري الذي رأيناه ولمسناه وسمعناه، وفيه أعلنت لنا إرادة الله،وتجلى لنا معنى الحياة.

 

في هذه القرينة،ركزّ الرسول محور كلامه على"الحق" ومشتقاته: في عدد 15 أوصى المؤمنين بأن يكونوا "صادقين في المحبة"، وفي عدد 24 ناشدهم بأن يلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة "الحق".

 

وفي عدد 25 طلب إليهم أن يطرحوا الكذب ويتكلموا "بالصدق" كل واحد مع قريبه. فإذا ما رغب أحدهم في ترديد سؤال بيلاطس: "وما هو الحق" فالجواب عليه صريح واضح: هو ما أعلن لنا في مسيح الله، الذي رأيناه ولمسناه في شخص يسوع الناصري.

 

الإنسان العتيق والإنسان الجديد

 

الجانب الإيجابي-خلاصة الحق الذي في يسوع: خلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد(4: 22-24).

 

عدد: 22:

 

22أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ، -2- كل عبارات الرسول المركّزة في هذا الفصل، كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضها بعضاً. فالسابقة منها ممهدة للاّحقة، واللاحقة موضحة ومفسرة للسابقة. فالعبارة: " ما هو حق في يسوع" مفسرة للعبارة السابقة لها: "إن كنتم قد سمعتموه وعلمتم فيه"، وممهدة للعبارات التالية لها: " أن تخلعوا..."، كما أن هذه العبارات مفسرة للعبارات السالفة، إن ما تعلمه المؤمنون من المسيح، وما سمعوه وعُلّموه فيه، هو "ما هو حق في يسوع". فما هو إذاً حق عملي، لأنه يتناول التصرف.

 

23وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، 24وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ.

 

ذكر الرسول في هذه الأعداد، الواردة ضمن 4: 22-24، ثلاث كلمات رئيسية، بنى عليها مطاليب الحياة الجديدة:الكلمة الأولى: "أن تخلعوا" (عدد 22)، والثانية: "تتجددوا" (عدد23) والثالثة: "تلبسوا" (عدد24). وكل كلمة منها مطلع استهلاك للآية القائمة على رأسها."الخلع": فعل يتم دفعة واحدة."والتجديد": عملية تتكرر مراراً."واللبس": فعل يتم دفعة واحدة."بالخلع" نتخلص من العتيق، و"بالتجديد" نتهيأ للجديد. هذه كلها تتم في وقت واحد، لا يسبق أحدها الآخر، لأن الإنسان لا يمكنه أن يخلع العتيق ما لم يتجدد ولا يمكنه من غير أن يكون قد لبس الجديد. فالشجرة لا تخلع أوراقها الصفراء الذابلة إلا إذا تولدت فيها الحياة الجديدة، فألبستها ثوباً قشيباً. فهذه الخطوات الثلاث:الخلع، والتجديد، واللبس، تتم اختبارياً في آن واحداً، وإن كنا نتكلم عنها منطقياً كأنها تحدث في أدوار متعاقبة: الخلع، فالجديد، ثم اللبس.

 

قد يستنتج القارئ الساذج من الكلمة الأولى: "تخلعوا"، فكرة غير صائبة، فيخيل إليه أن الحياة المسيحية رداء يلبس في الظاهر، لكن الكلمة الوسطى: "تتجددوا" كافية لإزالة هذا الوهم، لأنها ترينا بجلاء ووضوح، أن المسيحية روح تتناول الجوهر، وتصل إلى العمق، فتجدد القلب، وتنير اللب، وتغير الروح.

 

في هذه الثلاثة الأعداد، انتهى الرسول إلى عمق الطلبات التي أرادها من المكتوب إليهم. في بدء هذا الأصحاح تقدم إليهم بطلب عام يكاد يكون مبهماً: "أطلب إليكم أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها" (4: 1)، ثم انتقل من التعميم إلى التخصيص، فناشدهم أن لا يشاطروا الأمم مسلكهم (4: 17). وهنا تقدم إليهم أن يقلعوا عن تصرفاتهم السابقة، بأن يخلعوا الإنسان العتيق، ويتجددوا بروح ذهنهم، ويلبسوا الإنسان الجديد. فكلامه في هذه الأعداد،يتناول الإجابة على ثلاثة أسئلة:

 

أولاً: ماذا يخلعون؟ "الإنسان العتيق الفاسد، بحسب شهوات الغرور".

 

ثانياً: بماذا يتجددون؟"بروح ذهنكم".

 

ثالثاً: ماذا تلبسون؟"الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله...".

 

وجدير بالملاحظة، أن الأوصاف التي خلعها الرسول على الإنسان". الذي يجب أن يخلع، تتعارض مع الأوصاف التي خلعها على "الإنسان" الذي يجب أن يلبس!.

 

ماذا نخلع:الإنسان "العتيق" ماذا نلبس: "الإنسان الجديد"

 

تاريخه: "العتيق" تاريخه: "الجديد"

 

طبيعته: "الفاسد" طبيعته: "المخلوق بحسب الله"

 

أسلوبه: "بحسب شهوات الغرور" أسلوبه: " في البر وقداسة الحق"

 

فالرسول يصف كلاً منها:

 

-ا- وصفاً يتناول تاريخه: فأولهما: "عتيق". والثاني : "جديد".

 

-ب- وصفاً يتناول طبيعته فأولهما: "فاسد". والثاني: "مخلوق حسب الله".

 

-ج-وصفاً يتناول أسلوبه:فأولهما: "حسب شهوات الغرور".

 

والثاني: "في البر وقداسة الحق".

 

ماذا نخلع ؟: "الإنسان العتيق". وردت كلمة "تخلعوا" في الأصل اليوناني بصيغة المصدريّة- في الماضي؛ على اعتبار أن هذا هو الحق الذي تعلموه في يسوع منذ التجديد: خلع الإنسان العتيق، وهو فعل مفروض أنه تم في الماضي دفعة واحدة، وقت أن قبلوا المسيح مخلصاً وفادياً.

 

فما هو "الإنسان العتيق"؟ وما هو"الإنسان الجديد"؟ استعمل الرسول هاتين العبارتين في رومية6: 6 كولوسى 3: 9. في رومية أرانا هذا الإنسان العتيق" وقد صلب مع المسيح". وفي كولوسي أرانا إياه" وقد خلعه المؤمنون مع أعماله". فالإنسان العتيق هو الحالة العتيقة التي كان عليها المؤمن قبل أن يعرف المسيح، وهي تتناول موقفه الأول باعتبار كونه وليد آدم الأول، وذاته الأولى بسريرتها وسيرتها، وحياته الأولى بجوهرها ومظهرها. وهو يختلف نوعاً عن الطبيعة القديمة التي تظل في المؤمن حتى بعد تجديده.

 

والإنسان الجديد هو المؤمن بعد تجديده- بما في ذلك القلب الجديد الذي خلق التجديد، والروح الجديدة التي أنشاها الله في داخله، والموقف الجديد الذي يقفه أمام الله في داخله، والحياة الجديدة التي يحياها بعد الإيمان- بسريتها وسيرتها، والذات التي خلقها الله فيه بروحه.

 

وفي اعتقادنا أن "الإنسان العتيق"، " والإنسان الجديد" تعبيران يتمشيان في نسبة أحدهما إلى الآخر، مع التعبيرين اللذين استعملهما بولس: "آدم الأول" و"آدم الثاني". (رومية5:12-19و1كو15: 21-58). ولكننا لا نستطيع أن نقول أن الإنسان العتيق هو آدم الأول، ولا أن "الإنسان الجديد" هو المسيح، لأن الإنسان الجديد مخلوق. لكن المسيح غير مخلوق، وكلاهما يتناول موقف الإنسان شرعياً وعملياً.

 

-ب- أما طبيعة "الإنسان العتيق". فقد وصفها الرسول بكلمة جامعة: "الفاسد". وقد وردت بصيغة الاستمرار المتجدد. أي أنه يتدرج من فساد إلى فساد، حتى يستهلك نفسه بالانحلال، فينتهي إلى العدم. وطبيعة الإنسان الجديد طاهرة في قوله: "المخلوق بحسب الله"-أي على صورة الله الأدبية والروحية.

 

-ج- إن أسلوب"الإنسان العتيق" هو: "حسب شهوات الغرور". فالغرور يستهوى بالمواعيد الخلابة الخادعة- والشهوات لهل خداع كالسراب لكنها تودي بالمرء إلى الموت الروحي.

 

أما أسلوب الإنسان"الجديد" فهو"في البر وقداسة الحق". ف"الحق" ضد "الغرور". و"القداسة" ضد الشهوات. "البر" يعين صلة الإنسان بالناس، و"القداسة" تعين صلته بالله.

 

كلمة "بحسب" - تعني أن الفساد والانحلال هما نتيجة طبيعية لشهوات الغرور (2بط2: 18). وقول الرسول: "شهوات الغرور" يتضمن إشارة خفية إلى الغرور الذي انخدع به آدم الأول فأضاع الفردوس وحكم عليه بالموت. ومن الطبيعي جداً بأن نعتقد أن قصة آدم كانت ماثلة في ذهن الرسول وقت كتابة هذا الفصل. فمن آدم الأول، رفع فكره وفكرهم إلى آدم الثاني.

 

-ب- بماذا نتجدد: "وتتجددوا بروح ذهنكم". وردت كلمة "تتحدوا" بالصيغة الحالية المستمرة لتفيد التقدم والنمو. فهي مماثلة للصيغة التي وردت بها كلمة: "الفاسد"، فإذا كان الفساد يتزايد حتى يصل إلى الانحلال والعدم، فإن التجديد يتكرر، وينمو، ويتقدم. هذه هي عملية "التقديس" التي يتقدم فيها المؤمن فينال نعمة فوق نعمة (يوحنا1: 16). وفي هذا يقول بولس: "لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً" (2كو4: 16).

 

أما موطن التجديد فهو "روح الذهن"- الذي هو الحياة الروحية في الإنسان هو خلاصة الملكات العقلية والاتجاهات النفسية التي هي جوهر الإنسان الباطن. هذا هو موطن عمل الروح القدس ومقره في الإنسان عند التجديد وبعد التجديد. هذا يوافق قول الرسول في رسالة سابقة."فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم... عبادتكم العقلية (رومية12: 2و1). إن حرف الباء في قوله "بروح"، يعنى "فيما يختص" بروح ذهنكم. أو "من جهة" روح ذهنكم. أو "في" روح ذهنكم.

 

يجوز أن نلخص حجة الرسول في الثلاثة الأعداد التي مرت بنا، في عبارة أخرى، ها قد قطعتم كل صلة تربطكم بآدم الأول. ودخلتم في عهد جديد مع آدم الثاني. فقد أسمى كل منكم شخصاً جديداً، بعد أن طوى تلك الشخصية القديمة، وصارت في خبر كان.

 

ثانياً: تصرفات عتيقة، وتصرفات جديدة (4: 25-32).

 

25لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ.

 

تابع الرسول في الأعداد التالية، كلامه الذي انتهى إليه في الثلاثة الأعداد السالفة، فتقدّم من المبادئ العامة إلى الحقائق الخاصة، وانتقل من أصل الشجرة إلى الثمر، ومن الأساس إلى البناء، ومن الحياة إلى التصرف، فذكر التصرفات العتيقة التي يريدهم أن يقلعوا عنها ويخلعوها، والتصرفات الجديدة التي يريدهم أن يمارسوها. لأن الكلمة المترجمة: "طرحوا" في غرة عدد 25، هي من اشتقاق الكلمة التي ترجمت "تخلعوا" في مطلع عدد 22.

 

إتباع الفضيلة ونبذ الرذيلة

 

ولدى التأمل، يتبين لنا أن الرسول، ذكر في الثمانية الأعداد الآتية(4: 25-32)

 

خمس رذائل، محرضاً المؤمنين على نبذها، وخمس فضائل حاضاً إياهم على الاستمساك بها ،

 

قارناً كل تحريض وحض، بباعث جوهرة .

 

ويلوح لنل أنه سردها في شكل خمس ثلاثيات –كل ثلاثية تتضمن :

 

-ا- الرذيلة التي حملهم على نبذها –ب- الفضيلة التي يرغب إليهم أن يتمسكوا بها.

 

-ج-الباعث على النبذ والاستمساك .

 

(عدد25) الثلاثة الأولى: الكذب، والصدق، والباعث (4: 25)

 

25لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ.

 

-ا- الرذيلة "اطرحوا الكذب" –ب- الفضيلة"تكلموا بالصدق" –ج- "الباعث:لأننا بعضنا أعضاء البعض".

 

الرذيلة : "لذلك اطرحوا عنكم الكذب". هذا مماثل لقول الرسول في رسالة معاصرة لهذه: "لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كولوسى3: 10.9). ولعل الرسول استهل كلامه في هاتين الرسالتين بالتنديد برذيلة الكذب، لأنها كانت فاشية في الأوساط اليونانية ، وفي بعض البيئات الشرقية، والمراد : "طرح الكذب"، نبذه نبذ النواة،وإلقاؤه جانباً بكل غضاضة، مثلما يلقى الإنسان ثوبه العتيق "البالي"(كولوسى3: 8، عبرانيين12: 1ويعقوب1:21 و1بطرس2: 1).

 

يقول تقليد قديم : إن بين الكلمات التي فاه بها فادينا المجيد، مدة أيامه في الجسد، قوله: "من كان قريباً مني، فهو قريب من النار والنور" . فهو النور، وهو الحق.

 

وكل من عرفه لا يمكن أن يعيش في الكذب، ولا أن يعيش الكذب فيه. فكما أن الخفاش لا يطيق الوجود في النور، كذلك الكذب لا يطيق أن يحيا في الحياة الجديدة.

 

-ب- الفضيلة: "يكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه". الصدق مشتق من الحق، والحق نور لا ظلمة فيه البتة. وكما أن النور هو أول شئ خلق في أول يوم للخليقة الأولى ، كذلك يجب أن يكون الصدق غره حياة الخليقة الجديدة. ومن المهم أن نذكر ، أن الإنسان مسئول عن التأثير الذي يلقيه كلامه في ذهن السمع، فلا يليق به أن يذكر كلمات تحمل على معانٍ

 

مختلفة، ويلتمس لنفسه العذر بأنه أراد غير ما فهمه السامع . وسر الكذب ما كان مموهاً بصيغة الصدق أو ممزوجاً بعنصر من الصدق.

 

"القريب" المشار إليه هنا، هو الأخ المسيحي الذي تربطنا به روابط الشركة والخدمة (رو12: 5، 1كو12: 12-27).

 

-ج- الباعث: " لأننا بعضنا أعضاء بعض" – أو"لأننا أعضاء بعضنا البعض". إن كل عضو في الجسم مرتبط رأساً بالرأس وعن طريق الرأس مرتبط بسائر الأعضاء . وإذا كان كل عضو في الجسم الطبيعي يقوم بوظيفته نحو العضو الآخر، بكل ولاء وإخلاص ، من غير مخادعة ولا مواربة، فكم بالحري يجب على كل عضو في جسد المسيح الحي، أن يظهر كل ولاء نحو العضو الآخر! فالكذب- والحالة هذه- يعتبر جريمة على الرأس، لأنه يكلفه كثيراً، وفوق ذلك فهو بمثابة إدخال عضو غريب على الجسد. فإن هجم مرض على أحد الأعضاء تنبهت له سائر الأعضاء وتكاتفت معاً على طرده. فالكذب يحسب خيانة كبرى، وفي نهاية الأمر، يعود بالوبال على العضو الذي أخفى الحقيقة، لأنه مرتبط بالعضو الآخر ارتباطاً حيوياً مكيناً لا تنفصم عراه.

 

غالباً استقصى الرسول بولس هذا الباعث من نبوة قديمة: " ليكلم كل إنسان قريبه بالحق. اقضوا بالحق. وقضاء السلام في أبوابكم (زكريا8: 16) وأضاف إلى هذا، النبوة القديمة عنصراً جديداً: " لأننا بعضنا أعضاء البعض" لأن هذا العنصر الأخير لم يعلن إلا في المسيح.

 

يقول علماء النفس المعاصرين: الكذب جريمة على الثقة المتبادلة بين المجموع. ولكن ما ينادي به علماء النفس الآن قد سبقهم إليه رسول الأمم، منذ ألفي عام، لأنه استنار "بنور المشرق من العلاء".

 

الثلاثية الثانية: الغضب الخاطئ. والغضب البرئ (4: 26و27)

 

26اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.

 

-ا-الرذيلة: الغضب الخاطئ: "اغضبوا..." –ب-الفضيلة. الغضب البرئ: "اغضبوا ولا تخطئوا" –ج- الباعث: التحوط ضد إبليس: "لا تعطوا إبليس".

 

عدد26-ا- الرذيلة: الغضب الخاطئ: "اغضبوا".

 

26اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ

 

من المسلم به، أن الغضب انفعال طبيعي. وليس هو شراً في ذاته ولا هو بالخير. فهو كالكأس التي قد يسكب فيها الماء الزلال، وقد يصب فيها سم الأصلاب. وينبغي أن نعترف بأن الغضب الطبيعي من شر العادات، لأن المرء يغضب عادة متى شعر بأن كرامته الشخصية امتهنت. هذا هو الغضب الخاطئ، لأنه يدل على أن الذات هي المسيطرة على الإنسان، وأنها معبوده الأعلى، وفوق ذلك، فإن الكلمات الجارحة التي يتفوه بها المرء وقت الغضب، هي شر قتّال، وهي أقوى دليل على أنه غضب خاطئ.

 

27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.

 

-ب- الفضيلة. الغضب البرئ – "... ولا تخطئوا. لا تغرب الشمس على غيظكم". الغضب البرئ هو الانفعال انتصاراً لحق مهضوم، وإنصافاً لضعيف مغلوب على أمره، أو وقوفاً في جانب الله في وجه أنبياء البعل وما أكثرهم في كل عصر ومصر. في مثل هذه الأحوال، لا يكون الغضب أمراً مباحاً فقط، بل أمراً واجباً ، لأن السكوت على المظالم جريمة، وملاقاة الجبان بوجه بسّام لهو جرم أثيم، والرضا بإهانة القدير على مسمع منا، لهو أكبر تجديف على الله. انشر مظهر للخطية هو ذلك الذي وصفه بولس في ختام الإصحاح الأول من رومية- وهو لا يقل عن الشروط الملطخة وجه ذلك الإصحاح: "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه. يستوجبون الموت. لا يفعلونها فقط بل يسرون بالذين يفعلونها". (رومية1: 32)

 

هذا هو السر في غضبة المسيح على الحق، وباسم الحق: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون "،" اذهبوا قولوا لذلك الثعلب "، إن من لا يعرف غضب المسيح لأجل الحق، لا يعرف معنى قداسته ، لأن القداسة هي المحبة ملتهبة بنار الغيرة على الحق.

 

غير أن الرسول يحتاط كثيراً في الأمر، فلا يجعل الغضب أمراً مباحاً على الإطلاق، لأن طبيعتنا الفاسدة غدارة خادعة، تريد أن تغضب لنفسها ولكرامتها، تحت ستار الغضب لأجل الحق، ونريد أن تدافع عن كرامتها بحجة دفاعها عن كرامة الله. لذلك يجوز أن نحمل كلام الرسول على هذا المعنى: "أن الغضب أمر خطير. فلا تجعلوه شعار حياتكم. ولا تتخذوه سلاحكم في وقت مناسب وغير مناسب. ولكن إن غضبتم فليكن غضبكم شريفاً بريئاً وليكن غضبكم خالياً من روح الغيظ والحقد، وأن انسبقتم في هذا النوع الأخير، فاسمحوا واستسمحوا قبل أن تغرب الشمس عليكم".

 

إن التمادي في ما نسميه بـ "الغضب البريء" ليس محمود العواقب. فقد ينزلق الإنسان من "الغضب المقدس" إلى "الغضب النجس" وهو لا يدري. لأن الذات خبيثة، تتسلل من كل نافذة مفتوحة أو شبه مفتوحة، لتبسط نفوذها وسلطانها.

 

إن قول الرسول: "اغضبوا ولا تخطئوا" مقتبس من مزمور4: 4، وفق الترجمة السبعينية. وفي الترجمة العربية: "ارتعدوا ولا تخطئوا"- والغضب والارتجاف من مصدر واحد: هو اهتزاز الأعصاب، من شدة الانفعال.

 

وقوله: "لا تغرب الشمس على غيظكم" يعيد إلى فكرنا قول موسى بأن "لا تغرب الشمس على رهن الفقير في بيت الغني، ولا تغرب الشمس على الجثة المعلقة على الصليب" ( تثنية24: 15.13،21: 23). على أنه لا يجب أن يؤخذ كلام الرسول حرفياً، والإجاز لسكان جرينلند أن يحتفظوا بالغيظ في قلوبهم مدةً تقرب من نصف عام- لأن هذا هو طول النهار عندهم! إن قصد الرسول هو أن نسارع إلى السماح والاستسماح

 

ويقول بلوطارخوس- أحد أعلام التاريخ القديم- إن فيثاغورس الفيلسوف علم أتباعه بأنهم إذا وقعوا في خطية الغضب فليصافحوا بعضهم بعضاً قبل غروب الشمس.

 

عدد27:

 

27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.

 

-ج-الباعث- التحوط ضد مكايد إبليس: "لا تعطوا إبليس مكاناً".

 

إن إبليس خداع مكير، قضى في مهنته آلاف السنين فأتقن أساليبها وحذق أفانينها. فهو يريد أمعاذير وأعذبها. فمراراً يتدخل بحجة حسم النزاع، وإقامة الصلح.لأنه أحياناً يتخذ شكل ملاك نور، وما غايته إلا توسيع الثغرة، فيجعل من الحبة قبة، ويقيم من النافذة باباً.

 

لأنه حكيم في فن تأويل الكلام،ليوغر به الصدور، وهو يرحب بالأشواك الصغيرة أمام قلوب المحبين،فيسقيها بعصارة سمومه، ويغذّيها من حمأة قلبه، ليسدّ بها أبواب القلوب إلى الأبد.

 

لا غرو إذا استعمل إبليس كل وسيلة في إمكانه، ليضرب بين المؤمنين بسهم من الجفاء، لأنه يجد لذة خاصة في أن يشكو كل مؤمن لدى أخيه المؤمن، فهو العدوّ "المشتكي" اسماً و مسمّى، كما يدل عليه اسمه-في اليونانية-"ديلبولوس". ويقول الدكتور مونود: "حيثما يجد الشيطان قلباً مغلقاً، يوجد لنفسه باباً مفتوحاً". ويقول أحد الآباء الأولين: "لا تسارع إلى الغضب لأنه كثيراً ما يولدّ القتل". ومثل الفرد في هذا، مثل الجماعات والهيئات.

 

عدد 28 الثلاثية الثالثة: السرقة ، والكد الصالح (4: 28):

 

28لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ.

 

-ا- الرذيلة- السرقة: "لا يسرق السارق فيما بعد"

 

-ب- الفضيلة- الكد الصالح: "بل يتعب...."—ج- الباعث- الإحسان: "ليكون...أن يعطى".

 

-ا- الرذيلة- السرقة: "لا يسرق السارق فيما بعد". إن من يعرف الحالة الأدبية التي كان عليها الأمميون سيما في كورنثوس وأفسس لا يتعجب إذا وجد الرسول يستعمل الصيغة الحالية: "السارق" . فليس من المستبعد أن تكون أهداب هذه الخطية الذميمة قد علقت ببعض منهم.

 

ويميل بعضهم إلى ترجمة هذه العبارة بصيغة الماضي: "من كان سارقاً"- أي قبل الإيمان على أنه يجب علينا أن نتنبه كثيراً إلى الصور المنوعة التي تتخذها هذه الخطية –فثلم الصيت، وعدم إعطاء الأجير أجراً متناسباً مع عمله وحاجياته، وعدم تكريس العشور لله ، وكف اليد عن مساعدة المسكين، وإهمال المؤمن واجباته نحو المحتاجين من أهله وذويه، وفضول الإنسان العائش على لحم غيره-كل هذه مظاهر مختلفة لجوهر واحد: هو السرقة.

 

-ب- الفضيلة: الكد الشريف: "بل يتعب عملاً... بيديه" لم يذكر الرسول هنا شيئاً عن رد المسروق مثلما أشار في رسالة معاصرة لهذه(فليمون 18). ولعل كلامه هنا منصرفاً إلى الواجب على المؤمن من جهة المستقبل على اعتبار أن رد المسلوب أمر سلم به . إذ ليس الكد الشريف مجرد فضيلة تقابل رذيلة السرقة، لكنه علاج لذلك المرض. فإذا كان رأس الكسلان معملاً للشيطان، فإن الكد الشريف يسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان إلى قلب الإنسان. هذا هو مبدأ "التسامي" الذي ينادي به علماء النفس في وقتنا الحاضر، وقد نادى به بولس الرسول قبلهم بألفي عام- وهو يقوم بتوجيه قوى الإنسان التي كانت منصرفة إلى الشر، والتسامي بها لتتصرف إلى الخير. فاليدان اللتان كان يسرق بهما السارق قبل الإيمان، يجب أن يكرسهما للعمل الصالح المنتج.

 

-ج- الباعث- الإحسان: "ليكون له أن يعطى..."

 

ليس هذا مجرد إصلاح، لكنه انقلاب عظيم- من الظلام الحالك إلى النور الباهر. من الإنسان العتيق الفاسد، إلى الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله. قبل الإيمان، كان الإنسان يفكر في الطرق التي ينهب بها ويسلب، وبعد الإيمان يجب أن يفكر في الطرق التي يعطى بها ويهب. قبلاً كان يقف من الناس موقف المحتاج إلى ما لهم، وبعد الإيمان يجب أن يقف موقف المعين والمساعد. كانت حياته قبل الإيمان حياة البحر الميت الذي يأخذ على الدوام ولكنها أضحت بعد الإيمان حياة بحر بطرية الذي يجود بما فيه بالتمام!

 

الثلاثية الرابعة:

 

29لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ. 30وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ.

 

- الكلام الهادم، والكلام الباني (4: 29و30)

 

-1- الرذيلة. الكلام الهادم: "لا تخرج كلمة ردية"-ب- الفضيلة- الكلام الباني: "بل .البنيان" (ج) الباعث: "كي يعطى".."لا تحزنوا".

 

عدد29-1- الرذيلة- الكلام الهادم: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم". الكلمة "الردية" هي الكلمة "الفاسدة" المجردة عن النعمة، والخالية من "الملح" (كولوسي4: 6).

 

وبما أن الملح يكسب الطعام مذاقاً صالحاً، ويحفظه من الفساد والتعفن، فالكلمة "الخالية من الملح" هي الكلمة العاطلة الخالية من كل طعم ومذاق، وهي أيضاً الكلمة الباطلة المفعمة فساداً فتخرج من الفم كما تخرج الرائحة الكريهة من قبر مفتوح (رومية3:13). وقد وردت كلمة "ردية" في البشائر، وصفاً للشجرة الردية، وللسمك الردئ (متى7:17،12: 33،13: 48). فهي ليست مقصورة على الأشياء التي لا خير فيها، لكنها تتناول الأشياء المفعمة شراً وفساداً. وهي ليست سلبية كما لو كانت غير بانية وكفى، لكنها هادمة. وإن من لا خير فيه، لا يمكن أن يكون خلواً من الشر.

 

-ب- الفضيلة: الكلام الباني: "بل كل ما كان صالحاً للبنيان"

 

إن استعارة البناء التي استعملها الرسول في2: 21و4: 16 ما زالت في ذهنه عند كتابة هذه العبارة: "صالحاً للبنيان". وقد أوصى وصية مماثلة لهذه في رسالة سابقة"فلنعكف إذاً على ما هو للسلام وما هو للبنيان بعضنا لبعض" (رومية14: 19).

 

وصف الرسول الكلام الصالح في هذا العدد وصفاً رباعياً-1- في طبيعته: "صالحاً"- وهو الكلام المصلح بملح –ب- في عمله: "للبنيان" أي لازدياد الأعضاء في النعمة والصلاح. ولقد شهد الأسقف برنت عن رئيس أساقفة ليتون أنه لم يوجد يوماً في حضرته إلا وسمع من فمه كلاماً جعله أحسن حالاً مما كان قبل أن يراه –ج- في مناسبته: "حسب الحاجة" إن كثرة الكلام لا تخلو من المعصية. وليس في الوجود أبدع من كلمة مقولة في وقتها وحسب الحاجة إليها. فليعلمنا الرب متى نتكلم ومتى نصمت "حسب الحاجة"-د- في خدمته: "كي يعطى نعمة للسامعين". فالكلام الصالح يكون خادماً للنعمة. لأن روح الله يستخدمه أداة لإيصال النعمة إلى قلوب السامعين. الكلمة المترجمة "نعمة" يجوز أن تترجم أيضاً إلى: "لذة، وهناء، وسرور". هذا هو الكلام الذي وصفه بولس في كولوسي4: 6"ليكن كلامكم...بنعمة".

 

عدد30 –ج- الباعث: تقديس شعور الروح القدس:

 

في العدد السابق، أشار الرسول إلى باعث أقل من هذا خطراً، هو "إعطاء نعمة للسامعين". ولكن الباعث المذكور في هذا العدد، غاية في الأهمية والخطورة: "لا تحزنوا روح الله". فالروح القدس الحالّ في جماعة المؤمنين، وفي قلوبهم، يستمع لكل كلمة تخرج من أفواههم، فيحزن لكل كلمة رديئة يتلفظون بها.

 

في اليوم الخمسين، ظهر الروح القدس للمؤمنين "بألسنة منقسمة كأنها من نار فاستقرت على كل واحد منهم" (أعمال2: 3). فلا غرو إذا كان الروح القدس رقيباً على الألسنة، فكل كلمة رديئة تحزنه. لأنها دليل على أن الألسنة التي تنطق بها مضرمة من نار سفلى (يعقوب3: 6).

 

في الخطاب العظيم الذي ألقاه اسطفانوس، قال: "لا تقاوموا الروح" (أعمال7: 51). وفي رسالة سابقة لهذه، قال بولس: "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19). وهنا يقول: "لا تحزنوا الروح". وفي الإصحاح الخامس من هذه الرسالة يقول: "امتلئوا بالروح" (5: 18). فالثلاثة العبارات الأولى تحذرنا من عمل سلبي تأتيه ضد الروح. والعبارة الرابعة (5: 18)توصينا بواجب إيجابي نقوم به إزاءه. إن "مقاومة" الروح تدل على أن الروح يرمز إليه بـ "قوة". وإطفاء الروح يدل على أنه يرمز إليه بـ "نار"، وإحزان الروح يدل على أن الروح القدس شخص - أو أقنوم- له عواطف وإحساسات والامتلاء بالروح يدل على أن الروح يرمز إليه بالماء وفي الماء.

 

إن هذا الباعث الذي نحن بصدده: "لا تحزنوا الروح" لهو أشرف البواعث لدى المؤمنين الذين يقدرون شعور الأقدس الذي هم له مدينون: "بختمه إياهم ليوم الفداء". والختم يرمز إليه هنا بالضمان، والحفظ (أطلب شرح هذه الكلمة في1: 3 من هذه الرسالة. إن "يوم الفداء" المقصود هنا هو يوم تمجيد المؤمنين، حين يكمل فداء الجسد والروح معاً عند ظهور ربنا يسوع المسيح- هذا هو الرجاء الذي وضعه بولس نصب أعين أهل رومية "متوقعين التبني فداء أجسادنا" (رومية8: 23).

 

الثلاثية الخامسة: الانفعالات الردية والشعور الطيب (4: 31و32):

 

31لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. 32وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ.

 

-ا- الرذيلة- الانفعالات الردية: "ليرفع من بينكم"

 

-ب-الفضيلة- الشعور الطيب: "وكونوا لطفاء..."

 

-ج-الباعث- الصفح الإلهي: "كما سامحكم الله"

 

عدد31-ا-الرذيلة: الانفعالات الردية: "ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث".

 

هذه الأخوات الستّ: "المرارة، والسخط، والغضب، والصياح، والتجديف، والخبث" قد تتفاوت في شدتها وشناعتها- حسب الظاهر- لكنها كلها مظاهر منوعة لجوهر واحد- هو الإنسان العتيق الغير المتجدد.

 

المرارة: "هي شراسة الأخلاق التي تجعل الإنسان سريع الغضب، بطئ الرضى".

 

السخط والغضب: يتميز السخط عن الغضب في أن أولهما: مرض حاد، والثاني: مرض مزمن. وقيل السخط لا يصدر إلا عن الكبراء والعظماء نحو من هم دونهم، والغضب مطلق. ولعل المراد بالسخط ما يشعر به الإنسان عند التجربة المباغتة. والمراد بالغضب ما هو أعمق من السخط في القلب، ويحمل على الانتقام من المغضوب عليه، ولا يشفى إلا به.

 

الصياح: هو إظهار الغضب بالصوت فيهيج بذلك غضب الغير.

 

التجديف: هو ما ينتج عن الغضب مقصوداً به إيلام الغير. وأصله في اليونانية يفيد اللعنة والنميمة ولعنة الإنسان لمثله لا تخلو من التجديف على خالقه.

 

الخبث: هو أصل في القلب وكل ما ذكر آنفاً، هو من فروعه. ورفع الفروع حتى لا تظهر أبداً، يستلزم قلع الأصل وغرس عكسه- وهو المحبة التي قيل فيها إنها: تتأتى وترفق. لا تحسد ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا نظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق" (1كو13: 6.5).

 

عدد32-ب- الفضيلة- الشعور الطيب: "وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين" وردت كلمة "اللطف" في لوقا6: 35 ورومية2: 4،11: 2 بمعنى "الطيبة والصلاح". وهي في أساس استعمالها تعنى "النفع" – ثم "المساعدة والصلاح". وهي في لأساس استعمالها تعنى"النفع"- ثم "المساعدة والمعونة"- ثم اللطف في الشعور والكلام، وهي نفس الكلمة التي وصف بها نير المسيح، أنه"خفيف" (متى11: 30).

 

الشفقة: عاطفة قلبية، وردت في 1 بطرس3: 8 ولم ترد في العهد الجديد سوى في هاتين.المرتين. وهي تنطوي على معنى من معاني العطف.

 

التسامح:جميل أن نذكر أن هذه عبارات وردت في الأصل: "متسامحين نحو أنفسكم". فهي تعتبر جسد المسيح كتلة واحدة- وما يمس العضو الواحد يمس الآخر- وهي تنطوي على معنى التبادل ، فان من يغتفر اليوم قد يكون غداً مسيئاً، فيحتاج إلى من يصفح عنه كما صفح هو بالأمس.

 

-ج- الباعث: "كما سامحكم الله أيضاً في المسيح"- يرجع بنا هذا القول إلى ما علمنا المسيح إياه في الصلاة الربانية: " اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا"،"في المسيح"- هذا هو مجلى ظهور صفح الله عنا- ان الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه (2كو5: 19)

 

"في المسيح" هذا هو ضمان صفح الله عنا –إذ قدم الله نفسه ذبيحة عنا، هذا هو حجة صفح الله رآنا متبررين في المسيح فصالحنا فيه وصفح عنا.