الرئيسية كتب للقراءة

رسالة أفسس - الأصحاح السادس

الأصحاح السادس

 

الأبناء والآباء

 (6: 1- 4)

أولاً: واجبات الأولاد (6: 1- 3)

(1)الواجب الأول: الطاعة (6: 1)

-أ-ماهية هذا الواجب "أطيعوا" (6: 1(أ))

-ب-الروح الذي يؤدى به هذا الواجب "في الرب" (6: 1(ب))

-ج-الباعث على هذا الواجب "هذا حق" (6: 1(ج))

(2)الواجب الثاني:الإكرام (6: 2و 3)

-أ-ماهية هذا الواجب "اكرم" (6: 1(أ))

-ب-أهمية هذا الواجب: "أول وصية بوعد" (6: 2(ب))

-ج-المكافأة على هذا الواجب: "لكي يكون لكم خير" (6: 3)

ثانياً: واجب الوالدين (6: 4)

-أ-سلباً: "لا تغيظوهم" (6: 4(أ))

-ب-الباعث عليه (6: 4(ب))

-ج-إيجاباً: "بل ربوهم بتأديب الرب" (6: 4(ج))

من الكلام عن الشجرة, انتقل الرسول إلى الكلام عن الثمرة. فبعد أن خص القسم الأخير من الأصحاح السابق, بالواجبات المتبادلة بين الزوجات والأزواج, انتقل إلى الكلام عن الواجبات المتبادلة بين الأولاد والوالدين.

ومثلما استهل الكلام في الفصل الماضي, بالواجبات المطلوبة من الجانب الأضعف- واجب المرأة نحو الرجل, وضع على رأس هذا الفصل –واجب الأولاد نحو الوالدين- وهو واجب مزدوج:

عدد 1 :

1أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي الرَّبِّ لأَنَّ هَذَا حَقٌّ.

العنصر الأول في هذا الواجب: "أطيعوا والديكم"

-أ-ماهية هذا الواجب: الطاعة. الطاعة البنوية من أهم أركان الحياة. فعندما تنعدم الطاعة من قلوب الأولاد نحو والديهم, ينهدم أهم ركن من أركان الحياة –في قلب الفرد, وفي الكنيسة, وفي المجتمع.

يتضح هذا جلياً, متى ذكرنا أن بولس وضع خطية "عدم إطاعة الوالدين في صف أشنع الخطايا التي لطخت جبين الأمم الوثنية" (رو 1: 30) وفي رسالته الثانية إلى تيموثاوس, أنبأنا بالأمراض الوبيلة التي تتفشى في الأزمنة الأخيرة, ذاكراً في مقدمة أعراضها "عدم إطاعة الوالدين" (2تي 3: 2). وإذا كان عصيان الوالدين من أسوأ أعراض مرض الكفر بالله, فإن إطاعتهم, من أظهر علائم التقوى والتعبد.

هذا هو الدرس العملي الذي ألقاه المسيح على الشباب في جميع الأجيال: "نزل معهما إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما" (لو 2: 51).

يراد ب"الوالدين", الآباء والأمهات على حد سواء (أمثال 1: 8, 6: 20) وجدير بالملاحظة, أن الكلمة المترجمة: "أطيعوا" هي ذات الكلمة التي مرت بنا في 5: 22 عن "خضوع" الزوجات لأزواجهن, وهي عين الكلمة التي سنلتقي بها في العدد الخامس من هذا الأصحاح عن "طاعة" العبيد لسادتهم!

-ب-الروح الذي يؤدى به هذا الواجب: "في الرب". هذا هو الروح الطيب الذي به يؤدّي الأولاد واجب الطاعة لوالديهم,فيحسبون أن طاعتهم لوالديهم عنصر لازم من عناصر مسيحيتهم الحقة, وجزء لا يتجزأ من تعبدهم للرب. وهو واجب يقومون به في اتحادهم بالمسيح, الذي منه يستمدون خير باعث, وأفعل قوة, وأجمل مكافأة.

ولا ننس أن هذه العبارة. "في الرب" تحدد المنطقة التي يبسط الآباء فيها نفوذهم على أولادهم- "في الرب". أي أن الأولاد مكلفون بإطاعة والديهم في الأوامر التي تتفق ومشيئة الرب. لكنهم في حل من إطاعة الأوامر التي تخالف هذه الإرادة الصالحة المرضية الكاملة, مخالفة صريحة.

-ج-الباعث على هذا الواجب:"لأن هذا حق". ليست الطاعة واجباً يقوم به الأبناء نحو والديهم على سبيل الاستحسان, كأنه أمر كمالي, بل عليهم أن يقوموا بهذا الواجب لأنه حق طبيعي بل, حق إلهي, رسمه الله في شريعته الأدبية المتفقة والطبيعة الإلهية التي صرنا شركاء الله فيها بالتجديد. هذا "فرض عين", لا "فرض كفاية"!!

عدد 2 :

2أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ،

العنصر الثاني في هذا الواجب: الإكرام

-أ-مظهر هذا الواجب- الإكرام: "أكرم أباك وأمك"

الكلمة اليونانية المترجمة: "أكرم" هي ذات الكلمة التي وردت في الترجمة السبعينية للتوراة العبرية عن خروج 20: 12 وتثنية 5: 16 وقد وردت أيضاً في الإنجيل في متى 19: 19, مرقس 7: 10, 10: 19, لوقا 18: 20. و"الإكرام" المقصود هنا, ليس مقصوراً على المظاهر الخارجية التي يفرضها الخوف, لكنه يتضمن الشعور القلبي الذي يمليه الواجب, وتقدسه المحبة. وخير إيضاح لهذا, ما قاله المسيح في متى 15: 4- 8.

-ب-أهمية هذا الواجب: "أول وصية بوعد". إن الوصايا العشر هي عنوان سفر الشريعة, لأنها خلاصة الشريعة الأدبية. فهي بالتالي غُرَّة سجلّ الشريعة. ووصية إكرام الوالدين هي أول وصية مقرونة بوعد في سجل الشريعة الأدبية. ومع أن البعض اعترض على هذا: بأن الوصية الثانية في الشريعة الأدبية. مقرونة هي الأخرى بوعد: "أصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي", إلا أن هذا ليس وعداً بالذات, لكنه تقدير لحقيقة أمانة الله لحافظي وصاياه. وإنما الوعد الصريح هو هذا الذي جاء مقترناً بهذه الوصية الخامسة: "لكي تطول أيامك". ويعتقد فريق من المفسرين أن هذه أول وصية بوعد, في اللوحة الثانية من الشريعة.

عدد 3 :

3لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ الأَعْمَارِ عَلَى الأَرْضِ.

-ج-المكافأة على هذا الواجب: "لكي يكون خير"

يتضمن هذا الوعد مكافأة مزدوجة: جانبها الأول: الهناء: "لكي يكون لكم خير". وجانبها الثاني: طول البقاء: "وتكونوا طوال الأعمار". الجانب الأول يتناول النوع, والثاني يشمل الكم.

هذا مبدأ عام, يقرره الكتاب المقدس, ويؤيده التاريخ. وهو ينطبق على الأفراد والأمم. ولقد تحقق فعلاً وحقاً لبني ركاب: "قال إرميا لبيت الركابيين هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل. من أجل أنكم سمعتم لوصية يوناداب أبيكم وحفظتم كل وصاياه, وعملتم حسب كل ما أوصاكم به, هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: "لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام" (إرميا 35: 18و 19).

ويحدثنا العلامة جيكي عن السنيور بيورتي أنه التقى بجماعة من بني ركاب عام 1862 على مقربة من البحر الميت. هذا أقوى دليل على أن هذا الوعد, قد تمّ لبني ركاب بحذافيره, طوال هاتيك الأيام والسنين. ويقول المؤرخون إن السر في بقاء روما, مدة طويلة على عرش المجد والعظمة, يُعزى إلى الطاعة التي كان أبناؤها يدينون بها لوالديهم. ويعتقد العلماء المعاصرون أن ثبات الصين أمام الهجمات الكثيرة, التي صوبت إليها على مر الزمان, يرجع إلى الطاعة البنوية التي دُمغت بها حياة الصينيين.

ولا جدال في أن إطاعة الوالدين كانت مقرونة بإطالة العمر, لأن الشريعة الموسوية قضت على العاصي بالإعدام. وعلى هذا الاعتبار, كان عصيان الوالدين سبباً في "قصف" أعمار البنين. فمن الطبيعيّ إذاً, أن تكون إطاعة الوالدين سبباً في إطالة العمر, لأنها تحفظ الفتى من خطر الوقوع تحت طائلة حكم الإعدام.

 

ولكن أهو مطابق للواقع أن كل شاب يعمّر طويلاً متى كان مطيعاً لوالديه؟ فما السر إذاً في أن كثيرين من الشباب المطيعين لوالديهم يموتون في منتصف أعمارهم؟" وجواباً على السؤال الأول نقول: إن الوعد بإطالة عمر الشاب المطيع لوالديه, إنما يقرر قاعدةٍ عامة, ولا بد لكل قاعدة من شواذ. فكما أن القانون العام يقرر أن العقل السليم في الجسم السليم, إلا أننا كثيراً ما نرى عقولاً سليمة في أجسام سقيمة, وعقولاً سقيمة في أجسام سليمة.

أما جوابنا على السؤال الثاني, فهو: أنه ليس حقاً ما يقال عن الشبان الأتقياء أنهم يموتون في منتصف أعمارهم, لأنهم إنما يموتون بعد أن يتموا رسالتهم على الأرض, فلا يبرحون الأرض إلا بعد اكتمال أعمارهم. لأن الأعمار لا تقاس بطولها, بل بعمقها وسموها. الأعمار لا تقاس لكنها توزن! فكم من شيخ يعمر حتى يبلغ الثمانين, فيترك وراءه ثمانين من الخرائب المتهدمة, وكم من شاب لا يعدو العشرين فيترك وراءه عشرين قصراً آهلات بجلائل الأعمال وعظائم الخصال!! كم من شيخ يعمر حتى يدركه الهرم, فلا تكون حياته سوى ثمرة مرة المذاق لأنها غير ناضجة, وكم من فتى تنضج ثمرة حياته قبل بلوغه العشرين. فليس المهم في: "كم نعيش" بل: "كيف نحيا" فالعبرة ليست بطول العيشة, بل بسمو الحياة!!

فإلى الذين يلومون العناية –أو على الأقل يعتبون عليها- لأنها لم تطل أعمار أبنائهم الأتقياء, مثلما أطالت عمر حزقيا كما تقرأ عنه في إشعياء! إليهم نسوق الحديث قائلين: إن عمر حزقيا أُطيل إتماماً لعهد كان الرب قد قطعه على نفسه –بأن لا ينقرض من نسل داود من يجلس على كرسيه. ولو مات حزقيا في هذا الوقت, لبطل هذا الوعد, لأن حزقيا كان وقتئذٍ بغير ولد.

وفوق ذلك فلنسمع ما يقول الكتاب: "فجاء إشعياء النبي إلى الملك حزقيا وقال له: هوذا تأتي أيام يُحمَل فيها كل ما في بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يُتركَ شيء يقول الرب. ومن بنيك الذين يخرجون منك يؤخذون فيكونون خصياناً في قصر ملك بابل" (إشعياء 39: 3- 7).

يا ليت حزقيا قد مات بمرضه المعهود! ويا ليت تلك الخمس عشرة سنة لم تُضف إلى عمره, لأنها كانت عليه, وعلى أولاده, ويلاً ووبالاً.

فالعمر القصير الذي يريده لنا الله, خير م العمر الطويل الذي نتمناه نحن لأنفسنا, ولو أتيح لنا أن نختار ما يصيبنا, لاخترنا الواقع.

 

وهل يستطيع إنسان أن ينكر أن التقوى تصون للإنسان قواه العقلية والجسدية, وتقيه شر الإسراف فيها, فيكون لديه "رصيد" من القوى في وقت الأمراض والأزمات, فيغالبها حتى يغلبها؟!

وهنا أمر لا يليق أن نفعله, وهو أن بولس الرسول عندما اقتبس هذا الوعد, ترك منه –تعمداً- هذه العبارة "التي يعطيك الرب إلهك" (خروج 20: 12) وهي التي وردت في الوعد أصلاً, وصفاً "للأرض". ألسنا نرى في هذا برهاناً ضمنياً على أن وعد العهد القديم كان مقصوراً على أرض الميعاد, ولكن وعد العهد الجديد يتناول كنعان السماوية؟ فإذاً الذين رحلوا عنا في شبابهم, وهم أتقياء, لم تنقطع أعمارهم بموتهم, لكنهم بهذا الموت قد دخلوا أرض البقاء, وتمتعوا بحياة الخلود: "لأنهم يبغون وطناً أفضل أي سماوياً. لذلك لا يستحي بهم الله أن يدعى إلههم لأنه أعد لهم مدينة"

عدد 4 :

4وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ، بَلْ رَبُّوهُمْ بِتَأْدِيبِ الرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ.

واجب الآباء نحو الأبناء: "لا تغيظوهم... بل ربوهم"

كم من والد يشكو ابنه "الشاطر" لمعارفه وذويه, فيجلس هؤلاء على كرسي موسى, ويضعون كل اللوم على الولد, غير حاسبين أن في حالات كثيرة –بل في معظم الحالات- يقع النصيب الأكبر من اللوم على الوالدين: إما لأنهم في البداية ألين من العود الرطب, أو لأنهم كانوا أقسى من العود اليابس. "وكلا هذين إن زاد قتل".

أشار الرسول إلى الوالدين بكلمة: "الآباء" وهو يريد الآباء والأمهات على حد سواء –وهو تعبير جائز على سبيل التغليب, باعتبار أن الأب رأس العائلة. بهذا جرى العرف في لغة الإغريق القديمة (كلاسيك), وفي لغة العهد الجديد: "بالإيمان موسى بعد ما وُلد أخفاه أبواه ثلاثة أشهر" (عب 11: 23), قاصداً بكلمة "أبواه". والد موسى ووالدته. بذا أيضاً قضت قواعد اللغة العربية, فأجازت استعمال كلمة "الوالدين" أو "الأبوين" عن الأب والأم. إن في هذا برهاناً ضمنياً على التضامن الوثيق الواجب توفره بين الأب والأم في تربية أولادهما. ومتى انعدم هذا التضامن –أو تضاءل- انعدم معه أهم ركن من أركان التربية البيتية. فالشدة من جانب أحدهما, قد يفسدها اللين من جانب الآخر. وتهاون أحدهما, قد يضيع خيراً كبيراً كان من الممكن اجتناؤه, ويجلب شراً كبيراً كان من الواجب اجتنابه.

 

ومع أن الخطاب موجه إلى "الآباء" من باب التغليب, إلا أن أحداً ما, لا ينكر أن مقام المرأة في هذا الباب, لا يستهان به, ولعله أهم من مقام الرجل. لأن المرأة تلازم أولادها بحكم بقائها معهم في المنزل, وبحكم قربها الدائم منهم, فيتهيأ لها من الفرص مالا يتاح للرجل, فيصبح من السهل على من أرضعت أولادها لبان التغذية صغاراً, أن تغذيهم بطعام التربية كباراً.

لسنا نريد بهذا أن نلتمس المعاذير للآباء الذين يبيعون أنفسهم لأعمالهم الكثيرة, فيبيحون لها إهمال أمر أولادهم, بحجة أنهم يعودون في المساء في وقت يكون فيه الصغار قد ناموا, ويستيقظون في الصباح بعد أن يكون الفتيان قد قاموا, وعلى وجوههم في الدنيا العريضة قد هاموا!!

ذكر الرسول واجب "الآباء" نحو أولادهم في جانبين:

الجانب الأول- سلبي: "لا تغيظوا أولادكم..."

الجانب الثاني- إيجابي: "بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره"

الجانب السلبي: "لا تغيظوا...". وردت هذه الكلمة عينها في كولوسي 3: 21 مضافاً إليها هذا التحذير الخطير: "لئلا يفشلوا". وقد مررنا بها في هذه الرسالة (4: 26). وهي استعملت أصلاً –في الترجمة السبعينية- عن إغاظة إسرائيل لله يوم التجربة في القفر (مزمور 95: 7وعبرانيين 3: 9)

قد يكون الوالد سبباً في إغاظة ولده, بإهماله حقوقه البنوية, أم بعدم تفكيره في ما يؤول لصالحه, أو بقصوره وتقصيره, في فهم نفسيته, أو بمحاباته وتحيزه لولد دون آخر, أو بقسوته عليه من غير ما سبب جوهري, أو بإساءة الظن فيه, أو بتجاهله إياه- تعمداً أو عن غير قصد. ومن المحزن, إن هذا "الغيظ" عندما يستولي على قلب الولد, يتخذ منه عدوّ الخير سلاحاً حاداً يمزق به نفسية الولد, ويقطع عليه سبل النجاح في الحياة, ويشطره عن بيت أبيه, بل عن قلب أبيه, فيصبح الولد حسّاً ومعنى: "ولداً شاطراً" ولكن بمعنى عكس الذي يفهمه العوام من هذه الكلمة!!

ويقيننا أن أفضل صلة تجمع بين الوالد وولده, هي صلة الصداقة المتبادلة, المؤسسة على التفاهم التام, فيقدّم الولد لوالده حباً مشبعاً بالخضوع والإكرام, ويقدّم الوالد لولده حباً مشرباً بالروية والاهتمام.

الجانب الإيجابي: "بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره"

حقيقة لا مراء فيها, إن الخطر الذي يتهدد التربية في الوقت الحاضر, لا يأتي من ناحية المبالغة في التشديد على الأبناء. بل من جانب التهاون في ضبطهم وكبح جماحهم. لأننا أصبحنا في عصر, سيما بعد الحرب الكبرى, وقد انخلع عن كواهل الأبناء, نير طاعة الآباء, وسلخ الصغار مقاليد الحكم من يد الكبار, فأضحى الشيوخ محكومين بالشباب! وإذا قيل عنهم في الماضي إنهم "رجال الغد" صار لزاماً أن يقال عنهم في عصرنا الحاضر إنهم: "رجال اليوم"

ولكن من الواجب أن نعترف بأن هذه حالة شاذة, ضارة, وأن لا سبيل إلى إصلاحها إلا بالعود إلى الشريعة وإلى الشهادة. فمن المهم أن يرجع الآباء والأبناء إلى حكم الكتاب في هذا الباب: "أن يربوا أولادهم بتأديب الرب وإنذاره".

فإذا وُجد سبب واحد للخوف من أن يبالغ الآباء في إرغام أولادهم على التمسك بالدين, فهنالك ألف سبب وسبب للخوف من أن يهملوا تربيتهم الدينية على الإطلاق. وهنا يجمل بالآباء أن يتذرّعوا بالشجاعة, فلا يكونوا حكماء أكثر مما يجب, فيدركوا أن التربية الدينية التي نفعتهم صغاراً, على رغم ما قد عانوا من مرارتهم, هي بعينها التي تنفع أولادهم اليوم برغم ما قد يشعرون به من غضاضة!

الكلمة المترجمة "ربوهم" تحمل معنى التعهد الدائم, بالتعب والكد والعناية كما يتولى البستاني نبتة صغيرة, ويتعهدها بالتنقية, والتغذية بالطعام, والماء, والنور, والهواء. وهي نفس الكلمة التي وردت في العدد التاسع والعشرين من الأصحاح السابق: "فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه".

"وإذا كان العشب الذي يوجد اليوم ويطرح غداً في التنور", يحتاج إلى تربية وعناية, فما أحوج الإنسان الذي هو وليد الأزل, ووارث الأبد, إلى تربية بكل عناية ودقة –كدت أقول بكل شدة- لأن الكلمة اليونانية المترجمة: "تأديب" استعملت أصلاً وصفاً لقصاص الجلد الروماني! "فأنا أؤدبه وأطلقه" (لوقا 23: 16و 22). هذا هو التأديب الرادع, الزاجر, الذي أُغفل أمره في هذه الأيام, فحصد الآباء والأبناء ميعة في الأخلاق, ورخاوة في الآداب, وإذا كان الأولاد في الماضي, قد تربوا في الدين كواجب- وإن يكن بغيظاً, فمن الواجب أن يتربى الأولاد في عصرنا الحاضر, على الدين كميزة من المزايا الجميلة, وكواجب من الواجبات الجليلة.

"الإنذار" هو التحذير, والتقويم بطريق المنع (1كو 10: 11, تيطس 3: 10, أعمال 20: 31, رومية 15: 14, 1كو 4: 14, كولوسي 1: 28, 3: 16, 1تس 5: 12و 14, 2تس 3: 15).

 

الروح الذي يؤدَّى به هذا الواجب:" "بتأديب الرب" –أي يجب أن يتربى الأولاد وينذروا بروح المسيح, وعلى مبادئ المسيح, وفي نور إرشاد المسيح, لكي يشبوا رجالاً, على اعتبار أن المسيح هو المتعهد الأعلى للبيت المسيحي. فهو المستمع المتخفي لكل حديث, وهو الجالس المستتر حول كل مائدة, وهو الرأس الأعلى للبيت. وهو الروح الذي يسود كل شيء في البيت.

العبيد والسادة

 (6: 5- 9)

أولاً: واجب العبيد نحو السادة (6: 5- 8)

-أ-الواجب نفسه: "أطيعوا" (6: 5(أ))

-ب-الروح الذي يؤدّى به هذا الواجب (6: 5(ب))

-ج-الباعث على هذا الواجب (6: 6)

(1)سلباً: "لا إرضاء الناس" (6: 6(أ))

(2)إيجاباً: "بل إرضاء الله" (6: 6(ب))

-د-النية التي يؤدى بها هذا الواجب "نية صالحة" (6: 7)

(1)إيجاباً: "كما للرب" (6: 7(أ))

(2)سلباً: "ليس للناس" (6: 7(ب))

-ه-المكافأة على هذا الواجب: "عالمين" (6: 8)

ثانياً: واجب السادة نحو العبيد (6: 9)

-أ-الواجب نفسه (6: 9(أ و ب))

(1)إيجاباً: "افعلوا هذه الأمور" (6: 9(أ))

(2)سلباً: "تاركين التهديد" (6: 9(ب))

-ب-الباعث: "عالمين أن سيدكم" (6: 9(ج))

من الكلام عن الأولاد, انتقل الرسول إلى الكلام عن العبيد: إن في هذا نبوة ضمنية بإمكانية تحرير العبيد بقوة حق الإنجيل, لأن الرسول ذكرهم كأعضاء في البيت المسيحي, وفرض على سادتهم واجبات من نحوهم, دليلاً على أن الرسول لم يحسبهم كتلة مهملة –كأنهم من سقط المتاع- مثلما كانوا يُحسبون في نظر الرومان, بل نظر إليهم كعنصر مكمل للبيت المسيحي الحقيقي.

قديماً نظر فلاسفة اليونان إلى العبودية كأنها ضرورة لازمة, لا غنى للتمدين عنها. فكانوا ينادون بأن لا مانع من أن يستعبد نفر قليل, كي يعيش سائر البشر أحراراً. كأن عبودية الأقلية, ثمن لحرية الأكثرية! ومن أقوال أرسطاطيس المأثورة: "العبد آلة متحركة, والآلة عبد جامد!!" وفي أزهى عصور الرومان واليونان, كان العبيد محرومين كل الحقوق الدينية والسياسية؛ حتى حقهم في الحياة نفسها, وكانت شرائع أثينا تقول بأنه يكفي لقبول شهادة الحر في المحكمة, أي يحلف اليمين. أما شهادة العبد فلا تقبل إلا على شرط واحد –أن يجلد ويعذّب! وقضت قوانين الرومان بأنه إذا أُعدم سيد في بيته, فلا مفر من أن يُعدم كل العبيد الذين في بيته, ولو بلغ عددهم مئتين- من غير تحقيق!!". ولقد كانت قيمة العبد زهيدة لدرجة أنه إذا مرض عبد, كان يترك تحت رحمة الأقدار بغير علاج, لأن ثمن العبد أقل من ثمن الدواء! فلا عجب إذا غصت شوارع روما وأثينا بالعبيد لدرجة أن عدد عبيدها فاق عدد سادتها, ولا غرو إذا حكمها في النهاية العبيد, فجلسوا على عروشها!!

في قلب ظلام هذا الليل المدلهم, أشرق نور الإنجيل, فقال بولس عن أنسيموس العبد "لا كعبد فيما بعد. بل أفضل من عبد أخاً محبوباً" (رسالته إلى فليمون 16).

ورب سائل ولكن لِم لم يناد الرسول أولئك العبيد بأن يتحرروا حالاً من سادتهم, فيرفعوا عن أعناقهم نير العبودية دفعة واحدة؟ لِم لم يقل للسادة: ما أنتم وعبيدكم إلا أخوة في المسيح الواحد الذي لا يميز بين عبدٍ وحر؟ إذا كان هويتير قد حسب العبودية "نظاماً جهنمياً", وإذا كان جون وسلي, قد قال في وصفها أنها "خلاصة الدنايا", فهل كان رسول الأمم أرأف عليها منهما أو من أحدهما؟

 

حقيقة الواقع, أن الرسول وضع مبدأ حرية العبيد, وغرس بزرة الحرية. ولكن لا بد للبزرة من وقت تنبت فيه وتنمو وتزدهر! هذه خطة الله: إنه يزرع النور, ولا بد للزرع من وقت هادئ لتكمل فيه عملية الازدهار والإثمار. واللوم في هذا ليس على الوحي, بل على البشرية ذات الضمير الجامد البليد, الذي استنفذ قروناً كثيرة, وهو غارق في سبات هذه العادة الذميمة, فلم ينتبه لقطع دابرها إلا منذ قرونٍ قليلة, بعدما صاح ولتر فورس صيحته المأثورة في إنجلترا, بعدما خر أبراهام لنكولن صريعاً مدرجاً بدمائه في أمريكا!!

ولقد أجاد الدكتور جورج سميث إذ قال: "لست أرى دليلاً على تنزّه الكتاب المقدس عن العنصر البشري, أكثر من ترفعه عن إثارة عوامل الثورات السياسية"! تكلم الرسول في هذا الفصل عن:

أولاً: واجبات العبيد نحو السادة (6: 5- 8)

ثانياً:واجبات السادة نحو العبيد (6: 9)

عدد 5 :

5أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ -

-أ-ماهية الواجب المطلوب من العبيد: "أطيعوا"

إن أول بزرة للنور في هذه العبارة هي قوله: "سادتكم حسب الجسد" وهي كلمة تبعث في "عروق" العبد دماً جديداً, وتفهمه أن "ذاته" الحقيقية التي هي "نفسه العليا" –ليست لسيده, لكنها ملك له خاصة. هذه هي اللؤلؤة الحقيقية التي يملكها هو بالذات وأما الصدَفة التي هي الجسد, فليحسبها خادمة لسيده الأرضي, لأنه "اشتراها". ومن الملاحظ أن الرسول, لم يصف "السيد" بتلك الكلمة القوية الشديدة: "دسبوت" أي "الحاكم المطلق المستبد". بل استعمل كلمة فيها شيء كثير من الحنو والرأفة والنعمة "كيريوس" وهي نفس الكلمة التي وصف بها "السيد" يسوع المسيح. كأنه أراد أن يُفهم العبد أنه هو وسيده, عبدان لهذا "السيّد" الأعظم يسوع المسيح, كما قال في رسالة معاصرة لهذه: "لأنكم تخدمون الرب المسيح" (كولوسي 3: 24).

ولا يغرب عن بالنا, أن بولس كان يتلذذ بأن يقول عن نفسه إنه "عبد" ليسوع المسيح. وهل يفوتنا أن نذكر أن رب المجد نفسه اتضع لدرجة أخذ فيها صورة "عبد" (فيلبي 2: 7)؟ ألا يكفيكم كل هذا عزاء, يا أيها العبيد, على تسميتكم بال"عبيد" ؟!

أما الواجب المطلوب من العبيد, فقد عبر عنه الرسول بكلمة "أطيعوا" وليس في هذا غضاضة على العبيد, لأن هذه هي نفس الكلمة التي تعين واجب المرأة نحو الرجل, وواجب الأولاد نحو الوالدين (5: 22و6: 1).

وبما أن عهد العبودية قد مضى, فمن الواجب أن يراعى هذا الواجب من جانب الخدَم في وقتنا الحاضر.

-ب-الروح الذي يؤدى به هذا الواجب: "بخوف ورعدة كما في بساطة قلوبكم كما للمسيح". هذه هو خوف الاحترام الذي تولده المحبة خشية أن تخالف إرادة المحب بحال من الأحوال. وقد وردت العبارة الأولى: "خوف ورعدة" في فيلبي 2: 12, وصفاً للروح الذي به يتمم المؤمنون خلاصهم. و"للروح" الأخوية المسيحية التي بها استقبل الكورنثيون تيطس ورحبوا به (2كو 7: 15).

أما "بساطة القلب", فهي الرغبة الصادقة في عمل الصلاح حباً بالصلاح, ابتغاء مرضاة المسيح, على عكس القيام به طمعاً في كسب رضى إنسان, أو استجداء لمديح أو ثناء, أو استنداء لأكف الإحسان. "فالقلب البسيط" هو القلب الموَّحد الذي ينصرف عن كل الأشخاص, لأنه متوجه إلى شخص واحد –هو المسيح. فلا يبالي إذا كشرت الدنيا عن أنيابها, ما دام قد حاز ابتسامة المسيح. ولا يلهو بابتسامة الدنيا الخادعة, إذا كان المسيح قد حول وجهه عنه (رو 14: 7- 9).

عدد 6 :

6لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ كَعَبِيدِ الْمَسِيحِ، عَامِلِينَ مَشِيئَةَ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ،

-ج-الباعث على هذا الواجب: "لا بخدمة العين... بل كعبيد المسيح".

هذا باعث ذو جانبين: أحدهما سلبي: "لا بخدمة العين... "

: والثاني إيجابي: "بل كعبيد المسيح"

الجانب السلبي: "لا بخدمة العين كمن يرضي الناس".

"خدمة العين" –هاتان الكلمتان هما في اللغة الأصلية كلمة واحدة مركبة, لم ترد إلا هنا, وفي رسالة كولوسي. والظاهر أن بولس صاغها خصيصاً, لتؤدي الغرض الذي كان يرمي إليه: وهو أن "العبد" مجرَّب بأن لا يكون أميناً في عمله, إلا متى تحقق أن عيني سيده ترقبانه. ومتى زالت رقابة السيد عنه, انتفت معها أمانة العبد! هذه أمانة زائفة, لأن مبعثها إرضاء الناس –لا مجال فيها لراحة الضمير ولا لرضى الله, ويكفي أن يقال فيها: أنها "أمانة العبيد"!!

والعبارة المترجمة "يرضي الناس" هي أيضاً كلمة واحدة مركبة –في اللغة الأصلية- يقابلها قول الرسول نفسه في غلاطية 1: 10 "أفأستعطف الآن الناس أم الله. أم أطلب أن أرضي الناس. فلو كنتُ بعد أرضي الناس لم أكن عبداً للمسيح". والفكرة المنطوية عليها هذه العبارة, هي أن الناس "ترضيهم" الخدمة المموَّهة, التي يقوم بها العبد غراراً. ولكن الذي يحاول أن يَخدع غيره, إنما يخدع نفسه.

الجانب الإيجابي: "بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب"

(1)جوهر هذا الباعث: "كعبيد المسيح". ما أقوى ساعديك يا رسول الأمم, لأنك بهذه العبارة المحكمة قد سموت بالعبيد من مستوى حقير دنيء, إلى أرفع مستوى. فمن "عبيد الناس" إلى "عبيد المسيح"!! وهل في الدنيا سيد مالك نفسه, مثل ذاك الذي يستعبد نفسه طوعاً واختياراً للمسيح؟!

هذا ما قاله جورج ماثيسون: "صيرني يا ربي عبداً لك, فأتحرر!!"

(2)سمو هذا الباعث: "عاملين مشيئة الله" –هذه العبارة تخلع حلة من المجد والجلال على أحقر خدمة يقوم بها أصغر عبد, فتجعلها في مقام أجّل خدمة يقوم بها أكبر سيد لأنها أدخلتها في منطقة "مشيئة الله"! فلا الملائكة بأجنحتهم النارية الملتهبة, ولا الملوك بتيجانهم المتألقة على رؤوسهم, بأعلى مقاماً من العبيد, لأن الكل متمم مشيئة الله! ألم يكن هذا شعار المسيح نفسه: "ما جئت لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني"؟!

فليس العبد وهو يكنس البيت, أو يغسل الأواني, إلا متمماً مشيئة الله. بهذا يجعل نفسه حراً وهو لا يدري, لأن استُعبد للمسيح فقد تحرر من الناس.

(3)أما موطن هذا الباعث, فقد أفرغه الرسول في العبارة التي اختتم بها هذا العدد: "من القلب" –وفي اللغة اليونانية- من "النفس", ولعلها أقرب الكلمات إلى قولنا: "بِنفس" –أي بهمة ونشاط, لأنه ملعون "من يعمل عمل الرب برخاء".

العبد الذليل يخدم "وعين جسده" حائرة من فرط تطلعها إلى عين مولاه الأرضي, ومتى أُغمضت عنه عين سيده, ارتخت يداه. لكن العبد "المتسيد", يخدم بقلب غيور, لأن "عين نفسه" مطمئنة إلى رضى مولاه في علاه. هذا هو الفرق بين العبد الأجير, ورب البيت. فالعبد يخدم وعينه متطلعة إلى الشمس يترقب غروبها, وإلى يد سيده تنقده الأجر. لكن رب البيت يعمل من كل قلبه, ونفسه, وفكره, وقدرته.

هذا هو الفرق بين تدّين العبيد الذين يخدمون الله ويعبدونه, خوفاً من عذاب الجحيم, أو ابتغاء التمتع بالنعيم. لكن أبناء الله يخدمون الله, ويعبدونه لأنهم يحبونه من كل نفوسهم وقلوبهم.

عدد 7 :

7خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ

-د-النية التي يؤدَّى بها هذا الواجب: "خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس". هذا العدد خير مفسر للعبارة التي اختُتم بها العدد السابق: "من القلب" فالقلب هو موطن النية. ومتى كان القلب طيباً, أضحت النية صالحة. ولن تكون النية صالحة, إلا متى كان القلب "بسيطاً" نيّراً (عدد 5).

ينظر الناس إلى الوجوه, ويتطلع المراقبون إلى الأيادي العاملة. لكن الله ينظر إلى القلوب, ويتطلب النية الصالحة. في هذا يصدق القول: "وإنما الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى".

"كما للرب ليس للناس". كان مفروضاً على العبد أن يقوم بأعماله إتماماً لمشيئة سيده, لكن الرسول أعطى العبيد فرصة يحررون بها أنفسهم من الناس, متى اعتبروا أنفسهم عبيداً للرب.

ويقول الدكتور جلوفر: إن من بين العادات الشرقية القديمة, التي كان للعبيد أن يلجأوا إليها للتحرر من ساداتهم, أن يذهبوا إلى هيكل هرقل ويكرسوا أنفسهم لخدمته –بذلك يصبحون أحراراً من كل سيد آخر. وكذلك كل من يستعبد نفسه طوعاً واختياراً للمسيح, يتحرر من كل عبودية قهرية من البشر.

عدد 8 :

8عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَيْرِ فَذَلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ، عَبْداً كَانَ أَمْ حُرّاً.

-ه-أساس المكافأة على هذا الواجب: "عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبداً كان أم حراً". فالمسيح إذاً ينظر إلى كل عمل في قيمته الذاتية الحقيقية, بصرف النظر عن الحالة الخارجية التي يكون عليها من يقوم بهذا العمل, سواء أكان عبداً أم حراً. لأن المسيح لا يبالي بالروح الذي به تؤدّى الأعمال. فكم من عبد يؤدي أعماله بروح حر تطوعي, ورب سيد يقوم بعمله بروح العبد المسخر. فالأول حر في جسم عبد, والثاني عبد في رسم حر. فالإنسان ينظر إلى المظهر, لكن المسيح ينظر إلى الجوهر. الناس ينظرون إلى اليد العاملة, والمسيح ينظر إلى القلب المحرك. فرب أياد سوداء في لونها, كانت "أيادي بيضاء" في ثمارها. ورب أيادٍ بيضاء في مظهرها, هي أسود من الفحم. الأولى تنال "النعمة" المقدرة للعبد الصالح والأمين, والثانية تلقى الصدّ والأعراض "ما أعرفكن" (متى 25: 12و 23وغلاطية 6: 9, رومية 2: 6- 10, 2كو5: 10, عب 10: 35, رؤيا 22: 12, متى 5: 12, 6: 1و 4)

عدد 9 :

9وَأَنْتُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ، افْعَلُوا لَهُمْ هَذِهِ الأُمُورَ، تَارِكِينَ التَّهْدِيدَ، عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي السَّمَاوَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ.

ثانياً: واجب السادة نحو العبيد: "وأنتم أيها السادة افعلوا لهم هذه الأمور تاركين التهديد عالمين أن سيدكم أنتم... "

كلمة واحدة وجهها الرسول إلى كل من العبيد والسادة –هي كلمة: "عالمين". فللعبيد قال: "عالمين أن مهما عمل كل واحد فذلك يناله من الرب" (عدد 8). وللسادة قال: "عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات" (عدد 9) فكأنه وجه نظر العبيد والسادة على السواء, إلى ربهم الأوحد –يسوع المسيح. ومتى التقى العبد بسيده في "محضر" المسيح, زالت عنه مرارة العبودية. ومتى نظر السيد إلى عبده في نور المسيح, ذهبت عنه غطرسة السيادة!!

"وأنتم أيها السادة افعلوا لهم هذه الأمور" –استهل الرسول كلامه للسادة بهذه العبارة التي تحمل جوهر ذلك القانون الذهبي الذي كان نادى به المسيح: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم, افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم". فالواجبات إن لم تكن متبادلة, انعدم معها أهم ركن من أركانها.

-أ-ماهية الواجب المطلوب من السادة: اكتفى الرسول في هذا الباب بتحذير السادة من أمر كان مألوفاً عندهم –استعمال القسوة: "تاركين التهديد". هذه العبارة تنطوي على تعنيف لطيف, لأنها تحمل ضمناً اتهاماً لهم, بأنهم كانوا فيما مضى يلجأون إلى التهديد, فأوصاهم بتركه ولعل السادة المسيحيين, كانوا متأثرين بالبيئة الفكرية المحيطة بهم. في استعمال التهديد, لأن الرأي الذي كان سائداً بين ظهرانيهم: أن العبد لا يقوّم إلا بقضيب من حديد. كأنه كتلة جامدة, لا تصلح فيها عوامل اللطف واللين والمحبة.

-ب-أما الباعث الذي جعله الرسول نصب عيونه, فهو نفس الباعث الذي جعله نصب عيون العبيد –النظر إلى المسيح سيد العبيد والسادة على السواء: "عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات". إن فوق العالي أعلى, ويد الأعلى فوق الجميع, وما ربك بظلام لا للسادة ولا للعبيد. فهو لا ينظر إلى السادة بعين غير التي ينظر بها إلى العبيد, بل ينظر إلى الجميع نظرة واحدة. لأنه "صنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون عن كل وجه الأرض" (أع 17: 26).

هذا هو الإله الذي "لا يحابى بالوجوه", "حيث ليس يوناني ويهودي, ختان وغرلة. بربري سكيني, عبد وحر. بل المسيح الكل في الكل".

وفي اعتقادنا أن هذه العبارة الأخيرة هي النواة الحية لشجرة الحرية, وهي أول معول عمل على هدم تجارة الرقيق. وإنما العيب على الأيادي البشرية التي تلكأت في استخدام هذا المعول.

المسيحي في الجهاد الروحي

 (6: 10- 20)

وقف الرسول بنا طويلاً, في تلك البقعة الصغيرة, المقدسة, الجميلة –ولعلها أقدس بقاع الأرض وأجملها- التي يقال لها "البيت". فأطرب نفوسنا بأعذب الأناشيد, التي تعِّطر جوّ البيت المسيحي, حين يسوده التفاهم, وتظلله, المحبة ويتخلله الصفاء.

وقد كنا نود أن يطول بنا المقام في تلك البيئة المقدسة, الجميلة, لنتملى برؤية أنوار المحبة الطاهرة, حين تهبط أشعتها من السماء على نفس المرأة فتنبعث منها إلى زوجها –وقد حالت إلى طاعة وولاء, وتنزل على قلب الرجل فتشع منه نحو زوجته- وقد استحالت إلى محبة ووفاء, فتجمع نيرانها الملتهبة المقدسة على قلبيهما معاً, فتكون عليهما برداً وسلاماً!!

وكم كان يحلو لنا الوقوف لنستمع لتغريد تلك "العصافير" الملائكية, التي يقال لها الأطفال, وهي تخفض أجنحة الذل والطاعة في محضر الوالدين إجلالاً واحتراماً, ونرى البِشر يطفح على وجوه الوالدين وهم يحيطون بعطفهم وحنانهم "أكبادهم" الصغيرة وهي تتمشى أمامهم في شكل فتيان وفتيات.

وما أبدع ذلك المنظر الذي يجمع الأولاد والوالدين في تلك البيئة الأرضية المسماة "بالبيت", وهم يتبادلون عواطف التقدير والمحبة, مع نفرٍ هم بيض القلوب ولو كانوا سود الوجوه, لأن شمس الطبيعة لوّحت وجوههم فصيرّت لونها أسود من فحمة الليل, لكن "شمس البر" أشرق في قلوبهم, فصيرَّها أبهى لمعاناً من ضياء القمر.

نعم كنا نود أن يطول بنا المقام ويطيب في هذه البيئة الهادئة, الهادية إلى سواء السبيل. لكن الرسول انتقل بنا فجأة من هذا الجو المعطّرة أنفاسه بموسيقى السماء, إلى جوّ لا يعرف موسيقى سوى صليل السيوف, ولا تُرى فيه أضواء سوى بريق الخوذ النحاسية, ولعلعة أسنَّة السيوف المرهفة, ولا نصغي لأصوات سوى تلك التي تحدثها "سهام الشرير الملتهبة" عندما تصطدم بالتروس والدروع.

بذا أفهمنا الرسول, أن الحياة المسيحية لا تُقضى كلها في جو مفعمَ بالأمن والسلام, لكن جُلّها يُصرَف في جو كله جهاد, وحرب, وصدام!!.

وما من شك في أن الرسول استقى تعبيراته الحربية التي في هذا الفصل, بوحي من العهد القديم –سيما إشعياء 59: 14, 11: 4, يشوع 5: 13, وسفر الحكمة 15: 17, وكلها أسلحة مجيدة تقلدها رب الجنود. إلا أنه من الطبيعي جداً أن يكون قد استمد بعض هذه التعبيرات من ظرفه الذي كان فيه وقت كتابة هذه الرسالة. فمن المسلم به أنه كان سجيناً في روما يتناوب حراسته أربعة جنود طوال اليوم, فتوثقَ يمناه في يسرى الجندي بسلسلة من حديد. فمن المعقول أن بولس وهو يكتب هذه الرسالة, كان يتطلع إلى أسلحة الجندي الروماني, مستلهماً بها فكرة النيرِّ عن أسلحة الجندي المسيحي, مقارناً "المادّيات" "بالروحيات!!".

فلنتقدم إلى درس هذا الفصل "الحربي" بروح "السلام" والاطمئنان:

أولاً: الفريقان المتحاربان: (6: 10و 11)

-أ-جنود الرب: "يا أخوتي" (6: 10)

-ب-رب المكايد: "إبليس" (6: 11)

ثانياً: طبيعة الحرب وطبيعة الخصم: (6: 12(أ و ب))

-أ-سلباً: "ليست مع دم ولحم" (6: 12(أ))

-ب-إيجاباً: "مع السلاطين... " (6: 12(ج))

ثالثاً:ميدان الحرب: "في السماويات" (6: 12(د))

رابعاً: أسلحة الحرب: (6: 13- 20)

-أ-أسلحة العدَّة الكاملة العادية: (6: 13- 15)

(1)للحقوَين: "منطقة الحق" (6: 14(أ))

(2)للصدر: "درع البر" (6: 14(ب))

(3)للقدمين: "حذاء استعداد إنجيل السلام" (6: 15)

-ب-أسلحة دفاعية: (6: 16و 17)

(1)للقلب: "ترس الإيمان" (6: 16)

(2)للرأس: "خوذة الخلاص" (6: 17(أ))

-ج-سلاح هجومي: (6: 17(ب))

"سيف الروح" (6: 17(ب))

خامساً: سهر الجندي المحارب بالصلاة: (6: 18- 20)

(1)الصلاة لأجل نفسه (6: 18)

(2)الصلاة لأجل جميع القديسين (6: 19)

(3)الصلاة لأجل الرسول الموثق (6: 20)

أولاً الفريقان المتحاربان (6: 10و 11)

عدد 10:

10أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ.

-أ-جنود الرب وسرّ قوتهم: "تقوَّوا في الرب"

"أخيراً" –يُخيل إلينا أن الرسول, بعد أن أفاض في الإفضاء بالمعلنات الجليلة التي مرت بنا, شرع يطوي رداءه, ويستجمع قواه, ليقول كلمته الأخيرة –وإن شئت قل ليضرب الضربة الأخيرة- قبل أن يختتم هذه الرسالة الخالدة.

وليس بغريب أن يختتم الرسول هذه الرسالة المجيدة التي حدثنا فيها كثيراً عن النعمة, بهذه النغمة الشديدة القوية –نغمة الحرب! أليست الحياة كلها حرباً وجهاداً؟ هذا ما تنادي به الطبيعة, فالقوي فيها يغالب الضعيف ويغلبه, وفي النهاية يبتلعه. وهذا ما نشعر به في العالم الإنساني. فالبشر على الدوام في صراع عنيف, وما تاريخ البشرية إلا تاريخ مواقع حاسمة في سجل الحروب. وما فترات السلام الكائنة بين حربٍ وحرب سوى فُرص استعداد لحرب أشد وأقوى. بل هذا ما تحدثنا به ضمائرنا في عالمنا الداخلي المسمَّى ب"النفس". فالنفس الحية في صراعٍ مستديم ضد ميولها الداخلية أحياناً, وضد التجارب الخارجية حيناً. عبثاً تحاول النفس أن تهرب من التجربة إلى أقصى الجبال, أو أن تهبط إلى أسافل الوديان, فالشر كامن فيها, والتجربة توصوص لها من نوافذ "الإنسان الباطن". فالتجربة التي وجدها القديس أنطونيوس في البراري الواسعة, هي نفس التجربة التي كانت تواجهه في الإسكندرية, وإن تراءت بأشكال مختلفة, أو تلونت كما تتلون الحرباء!!

الكلمة المترجمة "أخيراً" يجوز أن تترَجم حرفياً إلى: "فيما بعد" أو "فيما يأتي" أو "بقي لي أن أقول". كأنَّ ما مر بهم من الكلام يعوزه هذا الحق. فمع أن الخلاص بالنعمة, إلا أن هذا لا يعفي المؤمن من الجهاد الروحيّ,

ولأن ملكوت الله يُغصب, وإن كان البار "بالجهد" يخلص. فالخاطئ والفاجر أين يظهران؟!

"يا أخوتي" –ما أحلى هذه الكلمة المنبعثة من قلب الرسول السجين, إلى أهل أفسس بمن فيهم من العبيد, وإلى سائر سكان مقاطعة آسيا الصغرى. لقد حجبته عنهم جدران سجن روما, لكن تلك الجدران لم تحجز قلبه عن أن يفيض بهذه الكلمة الحلوة العذبة "يا أخوتي"! "يا أخوتي في الإيمان, ويا أخوتي في الجهاد!! فكما أننا في نعم الإنجيل أخوة, كذلك نحن أيضاً في آلامه أخوة ولو أنكم تتمتعون بحرية العالم الفسيح, وأنا أقاسي عنكم ولأجلكم آلام السجون" (3: 1).

ما أوسع هذه الكلمة وما أرحب صدرها "يا أخوتي". إنها تضم إلى صدرها أقواماً لم يعرفهم بولس ولم تخطر أشخاصهم على باله –فهي تشمل كل النفوس المجرَّبة, والمضطهدة, والمعذبة لأجل الإنجيل في كل عصر ومصر. إنها تضم جيوش الشهداء الذين ماتوا لأجل الحق والمرسلين الشجعان الذين عاشوا لأجل الحق.

نعم كان سكان أفسس مجربين بالغنى والترف اللذين غمرا أفسس الفتية الغنية, ومحاربين بسلطان الآلهة ديانا التي تربعت حيناً من الدهر على قلب أفسس, ومغالبين بالقوات والعادات التي سادت تلك البقاع, إلا أن لكل عصر تجاربه, ولكل جيل آلهته, ولكل دهر مصارعته. فالشرور تتنوع, لكنَّ الشرير واحد!!

سر القوة: "تقووا في الرب وفي شدة قوته"

هذا هو سر القوة: "الرب", هذا هو برجنا الحصين الذي نركض إليه ونتمتع: "في الرب". هو البدء وهو الختام, فلنتقو بقوته فينا لا بقوتنا لأن قوتنا ضعف! فليست هذه قوة نخترعها, وإنما هي قوة نكتشفها. ولا هي قوة نوجدها, بل نجدها –لا بل هي تجدنا. فما علينا إلا أن نقبلها ونتقوى بها. ولا هي قوة نسعى إليها كأنها بعيدة المنال, لكنها في متناول كل منا. فما علينا إلا أن نرحب بها في قلوبنا, ونفوسنا: "ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم". هي عطية من الله لأنها قوة الله نفسه. ولا سبيل إلى نيل قوة الرب, إلا بأن نلبس الرب يسوع نفسه. لأن قوة الرب ملازمة للرب القوي. وكم من كثيرين يخطئون إذ يقعون في خطيئة سيمون الذي تاق إلى قوة الرب من غير أن يطلب رب القوة. وكم من كثيرين يوقدون على مذابح حياتهم وخدمتهم ناراً من حماسهم الشخصي, فتستحيل إلى رماد لأنها "نار غريبة" عن روح الرب!! فلا يمكننا أن نتقوى في شدة قوة الرب إلا إذا تقوينا في الرب نفسه. هذا هو رأس جيشنا. فلسنا في حاجة إلى أن نستميله ليحارب في صفوفنا, كأن الحرب حربنا نحن, لكننا نحارب تحت لوائه لأن الحرب للرب, فلنتقدم بقلوب واثقة ونفوس مطمئنة, لأننا نحارب في صف رئيس عظيم قد "خرج غالباً ولكي يغلب" فالنصر حليفنا ما دمنا معه لأننا لا نغتصب الظفر, بل نُوهبه. فلنجعل قوة الرب قوتنا.

حسناً قال إيرونيموس: "إن من يقرأ هذا الفصل الجليل وَيقابله بما يماثله في الكتاب المقدس, لا مفر له من أن يخرج بهذه الحقيقة الواضحة, وهي: أن الرب يسوع هو المحارب, وأنه هو نفسه السلاح الكامل".

الكلمة المترجمة "تقوّوا" مجانسة للمصدر المشتقة منه كلمة "عزاء". فلنكن في قوتنا مطمئنين! واثقين, متعزين: "إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا".. "بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (إشعياء 30: 15). وقد استعملت في الأصل بالصيغة الحالية التي تفيد الاستمرار المتجدد. فهي إذاً تشير إلى حالة مستديمة نكون عليها, لا إلى درجة وقتية نسعى إلى إدراكها.

وقوله: "في الرب" ورد 35 مرة في هذه الرسالة. هذا هو منبع القوة, ومصدرها, والمحرك لها. "في الرب" أصبحنا معافين من كل دينونة (رومية 8: 1). "في الرب" نثبت فنحيا (يو 15: 4-7). "في الرب" نتقوى فننتصر نصراً مبيناً (يو 15: 5).

أما العبارة: "شدة قوة الرب", فقد وردت في 1: 19 من هذه الرسالة, وهي تفيد أن قوة المسيح نبعٌ تصدر عنه شدة متناهية. فالشدة تنبعث من القوة, على اعتبار أنها نتيجة القوة. فنحن نتقوى في شدة قوة الرب,إذ نتشدد بالرب القوي. لأن شدة القوة التي أقامت الرب يسوع من الأموات, هي ملك لنا في حربنا الروحية.

هذه هي "الشدة" اللازمة لنا لنتمكن بها من حمل السلاح, ولولاها لأصبح السلاح الكامل ثقلاً علينا, فيقصم ظهورنا ونحن ضعاف, ويعرقل سيرنا.

عدد 11 :

11الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.

نداء إلى الفريق الأول: "البسوا... لكي تقدروا"

(1)كلمة مجملة عن السلاح: "البسوا سلاح الله الكامل".

هذا سلاح كامل. فالكلمة المترجمة "السلاح الكامل" هي في اليونانية كلمة واحدة, ولم ترد في العهد الجديد سوى مرة أخرى (لوقا 11: 22) وقد استعملت هناك عن سلاح إبليس, لكنها استعملت هنا عن سلاح المؤمن. هذا يدل على أن هذا السلاح كتلة واحدة لا تتجزأ. فمع أن له عناصر مختلفة, لكن لا يحق للمؤمن أن يتسلح ببعض عناصره ويترك البعض الآخر, لأن من يتهاون في حمل جزء من هذا السلاح, يأتيه الهجوم من هذه الناحية المعرضة للخطر. "فأخيليس" غطسته أمه في ماء سحرية آملة أن تصون جسمه من سهام الأعداء, لكن لم يكن أمامها بُد من أن تمسكه من كعب رجله, وهي تدليه في الماء. فأصابه السهم في الموضع الذي أمسكته منه أمه –في الكعب!!

(2)مصدر السلاح: "الرب". لعل الإشارة هنا منصرفة إلى القوة الحربية التي تعدها الدولة للمتحاربين فيلبسونها. فما على المتجند إلا أن يتقدم ليلبس هذا السلاح, لا أن يلبس رداء يحيكه هو لنفسه, لأن هذا ليس سلاحاً "ملكياً" يشتريه لنفسه, لكنه سلاح مُعدّ من رئيس الجيش, فما على المحارب إلا أن يتقدم ويتقلده.

ولقد سبق الرسول فأشار في رسالتين إلى "لبس السلاح" كأنه رداء, إذ قال: "البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات" (رومية 13: 14) "لابسين درع البر" (1تس 5: 8).

فكما أن الخلاص من الرب أولاً وآخراً, كذلك النصرة من الرب –من ألفها إلى يائها. لأن الرب رئيس جندنا, وهو مُعدّ سلاحنا, وهو المحارب عنا, وهو الظافر فينا. فإذا أردنا أن ننتصر في مصارعتنا مع إبليس (عدد 12) وجب أن ننتصر أولاً في مصارعتنا مع الله (هوشع 12: 24, تكوين 32: 24- 29)

(3)غاية حمل السلاح: "لكي تثبتوا ضد مكايد إبليس".

يلوح لنا أن كلمة: "تثبتوا" هي "مفتاح" هذا الفصل. وقد وردت فيه ثلاث مرات –المرة الأولى حالما نلبس عُدتنا الحربية: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا" (عدد 11). المرة الثانية عندما نكمل لبس عدتنا الحربية: "بعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" (عدد 13), المرة الثالثة, عندما نتمنطق بالمنطقة: "فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق" (عدد 14). والمستفاد من تكرار كلمة "اثبتوا" على هذه الكيفية. إن الصورة التي أمامنا, ترسم لنا حرباً دفاعية أكثر منها هجومية. والإشارة فيها ليست منصرفة إلى دك حصون الأعداء, بل إلى الثبات في وجه الخصم ونحن محتفظون بحصننا

"ها المسيح الرب قادم فاحفظوا الحصون"

هذا يذكرنا بذلك الموقف التاريخي الذي وقفه لوثر عندما قال: "ها أنا أقف هنا. فليساعدني الرب!"

-ب-الفريق الثاني- صاحب المكايد –إبليس "مكايد إبليس". هذا هو إبليس الخداع صاحب "المكايد" الكلمة المترجمة "مكايد" تعني حرفياً "طرق" أو "أساليب منظمة", وهي التي مرت بنا في 4: 14. وكثيراً ما يحتال علينا عدو الخير بهذه "الطرق المنظمة", فيجربنا أحياناً في نقط ضعفنا عن طريق الخطايا المحيطة بنا بسهولة –كما جرّب داود. ومراراً يجربنا في نقط قوتنا كما جرب موسى الحليم, فأسقطه في خطية الغضب, وبطرس الشجاع فأوقعه في خطية الجبن. تارة يوجه إلينا سهماً مسموماً بمُرّ المواعيد. وأخرى يصوّب نحونا ريشة معسولة بعذب المواعيد. فما علينا تجاه تلوناته وألاعيبه, إلا أن نثبت في المسيح واثقين, فلا يُرعبنا الوعيد, ولا ترغبنا المواعيد, عالمين أن هذه كلها "طرق" وأساليب (اطلب 2كورنثوس 11: 14).

طبيعي أن يبتدع إبليس كل هذه "الطرق" و"المكايد" المتلونة لأنه هو الخداع, المشتكي, العنيد, الذي لا يفشل قط. فمثلما جرب فادينا في البرية متخذاً لكل تجربة شكلاً غير الذي أفرغت فيه التجربة الأخرى, ولم ييأس على رغم فشله "بل تركه إلى حين", كذلك في تجربة المؤمنين, لا تلين له قناة, ولا يهدأ له بال, حتى ينفث سمومه القتالة في ضحاياه. وكم لك يا إبليس من ضحايا!! وليس بخافٍ أن إبليس ليس مجرد تأثير, لكنه شخص.

وإذا كان إبليس صاحب "مكايد" وطرق, فلا عجب إذا سموه في العربية "الحارث"! (اطلب المزيد, راجع شرح 2: 2, واطلب 4: 27, أعمال 13: 10, 1تيموثاوس 3: 6و 7, 2تي 2: 26, عب 2: 14, زكريا 3: 1و 2)

عدد 12 :

12فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.

ثانياً: طبيعة الحرب: "لأن مصارعتنا... "

-أ-طبيعة الحرب: روحية: "لأن مصارعتنا ليست مع دم"

استنتج بعضهم من هذه العبارة ومثيلاتها (كما في 2تي 2: 4و 5), إن الرسول استعمل استعارة مركبة, فمزج الحرب بالمصارعة, لكن الحرب كانت قديماً "حرب التحام", كما تدل الكلمة العبرية التي يعبر بها اليهود عن الحرب: "ملحمة". وفي مثل تلك الحروب كان المجال متسعاً للمصارعة. فالرسول إذاً ملازم لنفس الاستعارة الواحدة –الحرب الروحية!!

الكلمة اليونانية المترجمة: "مصارعة" (بالي) لم ترد في كل الآداب اليونانية سوى هذه المرة وحدها.

هذه حرب روحية, لأن خصومنا فيها روحيون. وقد وصفهم بولس وصفين –أولهما: سلبي: "ليست مع دم ولحم".

والثاني: إيجابي: "بل مع الرؤساء... "

الوصف السلبي: "ليست مع دم ولحم". وردت هذه العبارة –مع تقديم وتأخير في كلمتيها- "لحم ودم" في متى 16: 17, 1كو 15: 50, غلاطية 1: 16 وعب 2: 14 –وهي تعني الإنسان- أو البشر- في حالته الجسدية الراهنة. "فاللحم والدم" لا يرثان ملكوت الله (1كو 15: 50) والإنسان الجسدي-"اللحم والدم"- لم يوحِ إلى بطرس بذلك الاعتراف الجليل. والإنسان الجسدي- "اللحم والدم"- لم يعلّم بولس حق الإنجيل (غلاطية 1: 16) فمراد الرسول إذاً: هو أن المصارعة التي نحن مجاهدون فيها, ليست مع البشر, لأن حربنا ليست مع مجرد أناس عائشين في هذا الجسد الهيولي, الفاني, لكنها حرب روحية ضد "قوات منظمة في عالم الروح". هذه أمرّ وأدهى.

الوصف الإيجابي: "مع الرؤساء مع السلاطين, مع ولاة العالم على ظلمة"

هذه تعبيرات مركزة متجمعة تصف: -أ-أركان حرب جيوش الأعادي في ثلاث كلمات: "رؤساء, سلاطين, ولاة".

والمستفاد منها: (1)أن قوات الشرير منظمة تنظيماً محكماً. (2)أنها ليست مجرد تأثيرات وهواجس لكنها شخصيات معنوية, تعمل تحت قيادة رئيسها الأعلى –إبليس الذي يدبر "مكايدها" ويديرها (عدد 11). (3) أنها منظمة على درجات ورتب, كأن هذه الطغمة التي كانت قبلاً ملائكة نورانية, فسقطت, قد اقتبست تلك الدرجات, من الحالة المجيدة التي كانت عليها قبل سقوطها (رو 8: 38, 1كو 15: 24, كو 1: 16, أفسس 1: 21, 3: 10, 2بط 2: 4 ويهوذا 6). فلقبوا ب"رؤساء وسلاطين", نظراً لسموّ مقامهم, واختلاف بعضهم عن بعض في زيادة القوة. ودعوا "ولاة العالم" بالقياس إلى سلطتهم على "البشر الساقطين", الذي يتخذون منهم أعواناً وجنوداً لتنفيذ "مكايدهم".

ألا يتخذ أعوان لخير والنور, درساً في النظام والترتيب, من أعوان الشر والظلام؟؟!!

-ب-طبيعة سلطان هذه القوات: "على ظلمة هذا الدهر".

هذه العبارة تصف الثلاث الكلمات التي مرت بنا: "رؤساء, سلاطين, ولاة" أي أن أركان حرب الشيطان تحكم –ولكن في عالم الظلام, لأن طبيعتها ظلام, وجوها ظلام, وأسلحتها ظلام, وأساليبها ظلام, والمحكومين بها, ظلام (5: 8), فهي إذاً ظلام في ظلام.

إن كلمة"هذا الدهر" تشير إلى "العالم الحاضر الشرير" الذي أحبه ديماس فترك خدمة مولاه, وإلى "الساعة الراهنة" الذاهبة –"الآن", المضادة للأبد الخلود: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو 22: 53) أو بعبارة أخرى هي "شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة".

طبيعة هذه القوات: "مع أجناد الشر الروحية": إذا كانت الثلاث الكلمات التي مرت بنا في غرة هذا العدد, تصف "أركان حرب" إبليس, فإن هذه العبارة تصف "جنوده" الذين يتلقون أوامره, وينفذون مؤامراته. وإذا كانت العبارة الرابعة الواقعة في قلب هذا العدد: "على ظلمة هذا الدهر" تصف طبيعة سلطان أعوان إبليس, فإن هذه الكلمة الخامسة: "أجناد الشر الروحية" تصف جنود إبليس في طبيعتهم الذاتية. فأجناد الشر هم أجناد أشرار, بل شر الأجناد. وكما أن الحرب روحية في طبيعتها وفي أسلحتها, فإن أجنادهم هم أجناد الشر الروحية. والشرور التي يصيبوننا بها ليست شروراً مادية: كالمرض والفقر, والفشل, وإنما هي التذمر الذي يختفي وراء المرض, والمرارة التي تستتر وراء الفقر, واليأس الذي يولده الفشل.

ثالثاً: ميدان الحرب: "في السماويات". هذه هي المرة الخامسة التي فيها وردت هذه العبارة في هذه الرسالة (1: 3و 20, 2: 6, 3: 10), فاطلب تفسيرها في 1: 3. وقد وردت في الإنجيل عبارات مجانسة لها (متى 18: 35, يو 3: 12, 1كو 15: 40و 48و 49, فيلبي 2: 10, 2تي 4: 18, عب 3: 1, 6: 4, 8: 5, 9: 23, 11: 16, 12: 12). ولكي نعرف معنى هذه العبارة: "في السماويات", علينا أن نذكر أنها هي "الدائرة" المقدسة التي تحيط "بالبركات الروحية التي باركنا الله بها في المسيح يسوع" (1: 3), أو أنها هي المقام الذي أُجلس المسيح فيه بعد صعوده عن يمين العظمة "في السماويات" (1: 20), وأنها هي "المرتبة" الروحية الممتازة التي رُفعت إليها الكنيسة مع رأسها وربها وفاديها "في السماويات" (1: 21). فمن المعقول أن هذه العبارة "في السماويات" تعني "الميدان الروحي العلوي" الذي تلتقي فيه قوات الظلام بقوات النور, محاولة –إذا أمكن- أن تنال من المختارين- وهيهات! لأن المسيح رأسنا الأعلى قد ارتفع فوق السماويات, وقد رفعنا معه إلى هذه الدرجة الروحية الممتازة (1: 21). فما دمنا ثابتين في رأسنا الأعلى, ومتمنعين في حصننا الحصين, فإن سهامه الشريرة الملتهبة تنطفئ قبلما تصل إلينا وإن بلغتنا, صارت علينا برداً وسلاماً, مَثلها مَثل "رش" بارودة الصبي, يطلقه على النسر المحلق في الفضاء, فينفضه عنه كما ينفض قطر المطر.

ولا نغفل ما جاء بهذا الصدد في تفسير العلامة إيرونيموس لهذه العبارة: "إن السماء غير الأرض. فالسماويات هي كل ما هو غير أرضي, وفوق الأرض, وفوق قدرة البشر الطبيعية, في العالم العلوي الغير المنظور"

رابعاً: أسلحة محاربتنا (6: 13- 20)

عدد 13 :

13مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا.

-أ-العدة الحربية الكاملة: "سلاح الله الكامل"

"من أجل ذلك" –أي إزاء هذه القوات "الجهنمية" المنظمة التي لا تني عن قصدها وإن طال بها الأمد؛ ليس لنا إلا أن نحمل السلاح الكامل الذي أعده الله لنا. فما أجلّ أفكار الله من جهتنا وما أجملها‍‍‍‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍لأنه إذا كان إبليس يحيك لنا الحيل ويدبر "المكايد" للإيقاع بنا في التهلكة, فإن الله من جانبه قد "دبر" سلاحاً كاملاً, وحبك لنا "بذلة عسكرية" كاملة العدد فما علينا إلا أن نتقدم فنحمل هذا السلاح الكامل. فلا نشغل أفكارنا بكيفية صنعه, بل نتقدم بقلب صادق, وإرادة حازمة, إلى حمل هذا السلاح. فالكلمة المترجمة "احملوا" تعني حرفياً "خذوا عليكم", أو "خذوا احملوا" أو ّاتخذوا" فهذا "السلاح" على قاب قوسين منا أو أدنى, فليس لنا أن نقول "من يصعد إلى السماء ليحدره لنا أو من يهبط إلى الهاوية ليصعده لنا".

-ب-خطتنا بعد حمل السلاح: "أن تقاوموا... أن تثبتوا"

مراراً يترتب علينا أن "لا نقاوم الشر" كما علمنا المسيح في موعظته على الجبل (متى 5: 39), ومراراً أخرى يتحتم علينا أن "نقاوم في اليوم الشرير" كما أوصانا الرسول هنا. وكلا الأمرين لازم في وقته. فأمام قسوة عدو الخير, علينا أن نتسلح بنية الوداعة, وعدم المقاومة. ولكن أمام "مكايد" الشرير وحيله, وأساليبه الحربية, لا يسعنا إلا أن نتسلح بنية المقاومة. لأن المقاومة في الحالة الأولى تحسب معاندة. وعدم المقاومة في الحالة الثانية يحسب استسلاماً. وما أجمل الشيء متى وضع في موضعه.

فوضع الندا في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندا

الكلمة المترجمة "تقاوموا" وردت أيضاً في يعقوب 5: 6, 1بط 5: 9 على أنه لا يتأتى لنا أن نقاوم, إلا إذا وطدنا موقفنا بالثبات في المسيح.. "أن تثبتوا"؛ فنثبت في مقاومتنا, ونقاوم في ثباتنا.

-ج-يوم الفصل في حربنا: "في اليوم الشرير" لا يكف الشرير عن مناوأتنا في وقت مناسب وغير مناسب. فكل يوم يُعتبر يومه, على نوع ما. لكن هذا العدو الخداع الذي أتقن أساليب الحرب منذ إسقاطه أبوينا الأولين تعلم كيف يختار "أنسب الأيام" لمهاجمتنا, "وأنسب" يوم عنده هو "شر" يوم عندنا. هذا هو اليوم الشرير الذي يركز فيه الشيطان كل قواه موجهاً إياها نحو أضعف نقطة فينا, لينال منا, ويظفر بنصر حاسم. هذا هو "اليوم الفصل" ومن بعده تتزايد قوى الغالب, وتتناقص قوة المغلوب. كأن قوة المغلوب تتسرب في دم الغالب, حالما يخر أمامه صريعاً‍‍‍!!

ومع أن في الإنجيل أقوالاً كثيرة تنبئنا بأنه قبيل مجيء المسيح ثانية تنشب حرب شديدة تتلظى نيرانها بين جنود الخير, وأجناد الشر الروحية, إلا أن الإشارة هنا منصرفة إلى مجاهدة المؤمن بوجه عام في كل عصر ومصر.

-ب-موقفنا في حربنا: "وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" أي بعد أن تكملوا استعدادكم لحمل السلاح, وتتحملوا ما يصيبكم من هجمات الأعداء, ليس أمامكم إلا أن تحتفظوا بموقفكم, لأن الهدف النهائي الذي يجعله عدو الخير نصب عينيه, هو أن يزحزحكم عن موقفكم. فلا تلينوا أمام هجماته, وترجعوا القهقرى هاربين, ولا تخدعكم حيله الحربية فتتركوا حصنكم المنيع ظناً منكم أنه أمامكم, لأنه إنما يستدرجكم لتتركوا مكانكم, وتدخلوا "أرضه" فيتمكن منكم ويضربكم الضربة القاضية. فاثبتوا بأقدام راسخة في صخر الدهور. ممسكين بالرجاء الموضوع أمامكم "الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما وراء الحجاب. حيث دخل يسوع كسابق لنا" (عب 6: 20).

عدد 14 :

14فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ،

-أ-"البذلة الحربية"- سلاح مثلث للجسم: "المنطقة, والدرع, والحذاء" (6: 14و 15)

من ختام العدد الماضي, استمد الرسول مطلع استهلال لهذا العدد: "أن تثبتوا... فاثبتوا". فالثبات يستلزم فعلاً حاسماً تأتيه الإرادة, وهو يتجدد في كل مناسبة. فيترتب على الجندي, بعد أن عرف أن موقفه الدائم هو الثبات في وجه العدو, أن ينهض في ثباته, وأن يتذرع "بالثبات" وهو يلبس "البذلة الحربية" التي تشتمل على مثلث للجسم:

(1)سلاح الحقوين –منطقة الحق: "ممنطقين أحقاءكم بالحق"

للعامل العادي منطقة تشد ملابسه حول حقويه, كيلا تعرقل سيره, فيصبح بها خفيف الحركة, متأهباً لكل خطوة يتطلبها عمله, من غير عائق لكن "المنطقة" المذكورة هنا, هي منطقة الجندي الروماني, التي كانت تُصنع قديماً من جلد, عليها صفائح صغيرة من الحديد أو "الفولاذ" وبها يُعلق السيف (2صم 20: 8).وكان شدُّ المنطقة قديماً, أولَ علامة للتأهب للقتال, لأن المنطقة تثبّت سائر الأسلحة في مواضعها, وتصون بعض أعضاء الجسد المعرضة للخطر. ولقد كانت المنطقة الحربية لازمة أشد اللزوم للجندي ولولاها لأضحت أسلحته ثقلاً عليه يعرقل حركاته.

أما منطقة الجندي المسيحي فهي: "الحق". "والحق" هنا لا يعني كلمة الله بالذات –هذه سيأتي دورها في الكلام عن سيف الروح. لكنه يشير إلى صفة يتدرع بها المحارب من جانبه هو. فالحق المقصود, هو خلاصة الإخلاص, والبساطة, والأمانة, والصدق, فيكون الجندي مسيحياً حقاً لا غش فيه. وليس بغريب أن تجمع منطقة "الحق" كل هذه الخصال, لأن منطقة الجندي هي رباط الكمال لكل الأسلحة, وبما أن سيف "الحق" كان يعلّق بالمنطقة, فمن المعقول أن يكون "حق" هذه المنطقة هو الحق المعلن في المسيح, أو هو "المسيح الحق" (4: 21) الذي نلبسه ونتمنطق به –وفيه- كما تدل الكلمة الأصلية. فكما كانت منطقة الجندي محيطة به, كذلك يكون الجندي المسيحي محاطاً بالحق ومحوّطاً به, فلا تصيبه سهام الباطل من أية ناحية, لأنه يصبح متسلحاً بالعزم القوي الذي يستجمع به كل قواه, ويظل مستمسكاً بشدة اليقين في الله وحقه, فيقال له حقاً: "البطل المتمنطق"

(2)سلاح للصدر –الدرع: "لابسين درع البر".

يتألف الدرع الروماني من جزءين –مقدم و مؤخر, قد وُصلا على الجانب. وكان القصد منه أن يغطي الصدر والظهر, وأحياناً الرقبة والبطن, وكان وزن درع جليات 5000 شاقل من النحاس, أي 32 رطلاً. ويرجح أنه كان مصنوعاً من صفائح نحاس مثل حراشف السمك. وكان يصنع أحياناً من قضبان صفصاف محاكة مثل السلال, ومغطاة بصفيحة من النحاس. وربما صنع أيضاً من صفائح جلد, أو قماش من كتان أو صوف, وكانت القطعة الصدرية مصنوعة غالباً من كتان مبطن. ولكون الدرع هو الجزء الرئيسي والأكمل في سلاح الدفاع, فقد أشير به إلى تمام الدفاع والأمن (إشعياء 59: 17).

هذا درع الجندي الروماني. أما "درع" الجندي المسيحي فهو: "البر".

يعتقد الدكتور وستكوت أن "البر" الذي يتدرع به الجندي, هو قبوله الحق الإلهي, وتطبيقه إياه, بالمحبة, في علاقته بالناس. هذا يوافق قول الرسول في رسالة سابقة: "لابسين درع الإيمان والمحبة" (1تس 5: 8) فبالإيمان نقبل الحق الإلهي, وبالمحبة نطبقه على معاملاتنا مع الآخرين. ويمكننا أن نختصر الطريق, فنقول إن "البر" المقصود هنا هو "بر المسيح" لأن السلاح المقدم لنا, هو "سلاح الرب" لا سلاحنا نحن.

كما أنا لا برّ لي أدنو من الفادي العلي

ويعتقد الدكتور موليه, أن هذا "البر" هو صفات المؤمن التي يتحلى بها نتيجة ولائه لله, ولإرادته الصالحة المرضية الكاملة. ولعله أراد أن يقول أن المؤمن بإيمانه بالمسيح, يقبل "بر" المسيح, فيلبسه هذا البر, ويصبح فيه صفات عملية جليلة, كأنها من عندياته. لأن "بر" المسيح لا "يحسب" لنا نظرياً وكفى, بل نختبره عملياً في حياتنا. في البداءة يكون لنا, ومن ثم يصبح فينا, فيحمي صدورنا ضد وساوس الشكوك في الله, ويقي أحشاءنا شر تحجر الشعور نحو الآخرين, ويحمي ظهورنا من ذئاب خطايا الماضي التي تتعقبنا ليل نهار لتفتك بنا.

هذا هو البر الذي نلبسه أولاً, ثم يلبسنا هو, فيبدّل ضعفنا بقوة المسيح, وينتزع نجاستنا فتحل محلها طهارة المسيح,فنفتكر –ولكن بفكر المسيح, ونحب ونبغض- ولكن بقلب المسيح, إذ يصبح بر المسيح فينا, ونحن فيه.

عدد 15 :

15وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ.

سلاح للقدمين –الحذاء: "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام". في هذا العدد أمران يدعوان إلى الغرابة:

أولهما: كيف يعتبر "الحذاء" سلاحاً؟ وجواباً عليه نقول: ظهرت في إحدى المجلات الواسعة الانتشار كلمة بقلم مدرب عسكري ماهر, عنوانها: "الأحذية المتينة الجيدة تلعب دوراً حاسماً في الحروب". ويقول العارفون أن من أهم أسباب اندحار الجنود الحبشية في ساحة القتال, أنهم كانوا حفاة الأقدام, لأن رواسب الغازات السامة لحست بطون أقدامهم!

فماذا يعمل الجنود المساكين الذين يسيرون أحياناً في مسالك وعرة, تمزّق بطون أقدامهم بأسنتها المتحجرة, وأحياناً أخرى يغوصون إلى أحقائهم في مستنقعات آسنة مليئة بالحشرات السامة والجراثيم الفتاكة, ومراراً يسيرون على طرق منتشرة فوقها قطع حديدية مدبَّبة, وضعتها يد الأعداء!

هذه بعض المسالك التي كان على الجنود الرومان أن يسلكوها. فكانوا يسيرون تارة بين صخور ووديان تدمي الأقدام, وطوراً في مستنقعات وأوحال تغوص فيها السيقان. فكان من اللازم أن "يتسلح" بحذاء جيد يحفظ قدميه في كلا الحالين. وإذا كان المصارعون قد اهتموا قديماً بحالة أقدامهم, لتكون خفيفة كأقدام الأيائل, فما أحرى بالجندي المسيحي أن يهتم شديد الاهتمام بحالة قدميه اللتين عليهما يتوقف ثباته في هذه الحرب. سيما وأن كلمة "اثبتوا" هي مفتاح النصرة في هذه الحرب!!

ولكن ما هو "الحذاء" الذي يتسلح به المؤمن؟ هو "استعداد إنجيل السلام" –هو التأهب الذي يولده الإنجيل في قلب من يسمعه ويقبله, فيصبح مستعداً و"جاهزاً" لتبليغ بشرى الإنجيل إلى العائشين في وادي الظلمات. لأن نور الإنجيل متى بلغ إنسان ما, يُمسي فيه ناراً مضطرمة تدفعه إلى حمل شعلة الإنجيل في يده, إلى الواقعين في أسر الظلام, وإذ يلمحه أولئك الأسرى عن بُعد, يقومون مهللين لقدومه الميمون فيحيونه بتلك الأنشودة القديمة الخالدة: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك" (إشعياء 52: 7), فتجاوب معها أصداء تلك الأنشودة الجليلة: "هوذا على الجبال قدما مبشر منادٍ بالسلام عيّدي يا يهوذا أعيادك أوفي نذورك. فإنه لا يعود يعبر فيك أيضاً المهلك" (ناحوم 1: 15).

أما الأمر الثاني الذي يدعو إلى الغرابة, فهو أن الرسول يتحدث عن استعداد "إنجيل السلام", كسلاح في الحرب الروحية –والسلام والحرب متناقضان!! ولكن هذا العجب يزول متى ذكرنا أن قدمي المبشر لا تثبتان في الحرب إلا متى كان متمتعاً بسلام الله الذي يحفظ قلبه وفكره في المسيح, وحاملاً سلام المسيح للواقعين في أسر الشر والفساد. فمع أننا نحارب في حرب روحية, إلا أننا ندخلها بقلب يفيض سلاماً مع الله, ومع أنفسنا, ومع الآخرين. هذا هو سلام الثقة واليقين, الذي به وقف بولس وقفة الشباب على غرار اهتزاز ركبتيه بحكم الشيخوخة, فقال: "أنا عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي" فلا يكفي الجندي المسيحي أن يكون حاصلاً على سلام مع الله, بل عليه أن يكون متمتعاً بسلام الله نفسه.

عدد 16 :

16حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ.

-ب-أسلحة الدفاع. (1)سلاح يقي القلب: الترس

الترس, على الأرجح, من أقدم أدوات الحرب. فإن الإشارات في كتابات الأقدمين عديدة (تكوين 15: 1, مزمور 5: 12 و18: 2). وكانت الأتراس مختلفة الحجم, وتُصنع على الغالب من الخشب الخفيف, وتغطى بطبقات متعددة من الجلود السميكة التي كانت تمسح بالزيت وتصقل جيداً (إشعياء 21: 5) وكانت أكثرها تلون بألوان مختلفة على هيئة دوائر في النصف (ناحوم 2: 3). أما الجلد فكان يُمدَ أحياناً على مشبك من قصب أو فروع الصفصاف. وكثيراً ما كان يصنع بحجلة من الذهب أو النحاس, أو كان يلبَّس بصفائح سميكة من المعادن المذكورة (1ملوك 14: 26 و 27). وكان يُحفر على الأتراس المعدنية صور ونقوش مختلفة.

كان الترس يحمل على الذراع اليسرى, وذلك بإدخال اليد تحت سيرين من الجلد على مؤخره, وقبض الأصابع على سير صغير عند حافته. واستعيض في الأزمنة المتأخرة عن السيور بقبضة من الخشب أو الجلد في وسطه. وأحياناً كان يعلق بسير في العنق عوضاً عن مسكه باليد. أما سطحه الخارجي فكان محدّباً, وذلك لمنع الأسهم من اختراقه, وكانت حوافيه ملبسة بصفائح من الحديد تمكيناً له, ولوقايته من فعل الرطوبة إذا ألقي على الأرض, وكانت الأتراس تُحمل أثناء الحرب فوق الرؤوس, أو تُصف في خط مستقيم لتكون حاجزاً عمومياً.

هذا هو الترس الذي كان يتسلح به الجندي الروماني. فما هو الترس الذي يتسلح به المسيحي؟ -هو ترسُ الإيمان. وليس بخافٍ أن الإيمان يُبدأ معرفة, فيتطور تصديقاً, فيصبح اتكالاً واعتماداً, وثقة. أي أنه يُبدأ غالباً في دائرة العقل, ويمر بالعاطفة, ثم ينتهي بالإرادة. وهو العين المرفوعة على الدوام إلى ربها منتظرة منه العون: "معونتي من عند الرب. الرب ظل لك عن يدك اليمنى... إليك رفعت عينيَّ يا ساكناً في السموات هوذا كما أن أعين العبيد نحو أيدي سادتهم, كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها, هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا" (مزمور 121: 1و 2, 123: 1و 2), وهو أيضاً اليد المفتوحة التي تتقبل بركات الله, بالثقة واليقين والشكران.

والإيمان, فضلاً عن كونه يتحد النفس بالله, فيحسب نصرته نصرتها فهو أيضاً يثبت النظر في المستقبل لأنه يرى مالا يُرى ومن لا يُرى. فإذا انهزم في معركة ما, لا يدركه الفشل لأنه واثق في النهاية من النصر المبين, وهو يرى النصر قبل أن يأتي فيخصصه لذاته, ويحسبه ملكاً له قبل أن يتمكن من الاستيلاء عليه فعلاً. فهو يعيش في المستقبل وإن تكن قدماه سائرتين في العالم الحاضر. لأنه هو الثقة بما يُرجى".

ومتى ذكرنا وعد الله لأبرام: "لا تخف يا أبرام. أنا ترس لك" (تكوين 15: 1), علمنا أن ترسنا هو الله نفسه, الذي به نحتمي بالإيمان.

أهمية هذا السلاح: "حاملين فوق الكل" –"أي زيادة على ما ذكر من الأسلحة, أو ما يمكن أن يوضع فوق كل الأسلحة لوقاية الجسد. ويجوز أن تترجم إلى "وفي كل حال" أي في كل دور من أدوار الحرب, وفي أي اتجاه تأتي منه السهام, وضد كل هجوم يقوم به الخصوم –كل هذا لأن الترس يُحمل بإحدى اليدين فيسهل تحريكه ذات اليمين وذات اليسار "في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار".

قوة فعل هذا السلاح: "الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة". هذا أول الأسلحة الدفاعية, التي يلبسها المؤمن ليحتفظ بموقفه. وقد اعتاد المتحاربون قديماً أن يربطوا بالسهام مواد قابلة الاشتعال –كالقار وما إليه, يرمون بها العدو وهي مشتعلة. وإلى ذلك أشار المرنم بقوله: "يجعل سهامه ملتهبة" و"سهام جبار مسنونة مع جمر الرتم" (مزمور 7: 13, 120: 4).

وقد كان الترس قوياً منيعاً, يكفي لإطفاء سهام الشرير الملتهبة فلا تصيب قلب المسيحي المجاهد. ويُكنى "بالسهام الملتهبة" عن التجارب المحرقة التي كانت مالئة جو أفسس –أمثال خطية الغضب المتأججة نيرانه والميول الجنسية التي كانت تذكيها عبادة أرطاميس, ونيران المطامع المادية التي تلتهب في القلب فتأكل الأخضر والهشيم, أو سَورة الفكر التي تزحزح ثقة الإنسان بالله. ناهيك عن نيران الجسد الآكلة.

هذه بعض سهام الشرير الملتهبة التي قد تأتينا مختبئة في الغنى أو مغلفة بالفقر. تارة تأتينا مستورة بالورد والرياحين في أيام نجاحنا, وأخرى تجيئنا محفوفة بالأشواك في أيام فشلنا. لكن الخطر ليس في الغنى أو الفقر, ولا في النجاح أو الفشل, بل في الشر الذي يستتر وراء كل منها.

عدد 17 :

17وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ.

(2)السلاح الثاني الدفاعي: سلاح يقي الرأس

الخوذة: "وخذوا خوذة الخلاص" الخوذة هي غطاء الرأس. كانت تصنع أحياناً من جلد سميك, وأخرى من نحاس (1صم 17: 38) وتزًّينت قمتها غالباً بعرف أو ريش. وفي الأزمنة المتأخرة, أضيفت إليها قطعة وجيهة لوقاية الوجه وتتبين لنا أهمية الخوذة متى تحققنا أنها تحمي الرأس الذي هو مركز الدماغ. ووازن الجسد, وموطن العينين. فكل سهم يصيب الرأس, يفقد الجسد قوة التوازن, أو يصيب منه مقتلاً.

أما "الخوذة" الروحية فهي "خوذة الخلاص". وقد أشار إليها بولس نفسه في رسالة سابقة بقوله: "وخوذة هي رجاء الخلاص" (1تس 5: 8). فهي خوذة "الخلاص" على اعتبار أن الخلاص فعلٌ تم منذ آمنّا, وهي خوذة "رجاء الخلاص" على اعتبار أن الخلاص عملية لم تتم بعد. المعنى الأول يفيد خلاص التبرير, والثاني يشير إلى خلاص التقديس والتمجيد حين نتمتع بكمال فداء الأجساد. لأننا خلصنا في الماضي (أعمال 16: 31), وها نحن متممون خلاصنا الحالي (فيلبي 2: 12), وسنخلص كمالياً عند مجيء المسيح ثانية (عب 9: 28). يتضح لنا ذلك متى ذكرنا أن الكلمة التي ترجمت إلى "خلاص" في هذا العدد ليست هي "سوتيريا" التي استعملت في 1تسالونيكي 5: 8, بل "سوتيريون" الأولى تعني الخلاص كعملية دبرها الله, والثانية تعني الخلاص كنعمة يقبلها الإنسان بالإيمان.

هذا هو الخلاص, الذي يتقبله الإنسان من الله كعطية مجانية مقدمة منه. فالكلمة التي ترجمت: "خذوا" تعني حرفياً "تقبلوا", أو تسلموا كما من يد رئيس جيشكم الأعلى, الذي أعد لكم هذا السلاح, كناية عن قبول الإنسان ذلك الخلاص العجيب الذي أكمله المسيح على الصليب.

وقد يحلو لنا أن نذكر أن إشعياء رأى فادينا ورئيس جيش خلاصنا "وخوذة الخلاص على رأسه" (إشعياء 59: 17). فما علينا إلا أن نرفع عيوننا إليه بالإيمان فنكون ظافرين. ومادام "الرأس" في حمى أمين, فلا خوف علينا نحن أعضاء الجسد!! وإذا كانت الخوذة تحمي عيوننا أيضاً, فلنرفع عيوننا لأن نجاتنا تقترب" (لوقا 21: 18).

-ج-سلاح الهجوم –سلاح اليد- السيف: "وسيف الروح الذي هو كلمة الله". كان السيف غالباً قصيراً ذا حدين (قضاة 3: 16), وكان له غمد (إرميا 47: 6), وعُلقّ بالمنطقة (2صم 20: 8). وهو السلاح الهجومي الوحيد الذي ذكره الرسول هنا, لأن الحرب التي نحن بصددها, هي حرب دفاعية أكثر منها هجومية: "اثبتوا".

أما سيف المؤمن فهو "كلمة الله", الموحى بها في الكتاب المقدس, وفي الكلمة "ريما" لا "لوجوس". هذا هو السيف الماضي ذو الحدين الذي استخدمه المسيح حين صرع الشيطان بقوة "المكتوب". بل هو السلاح الذي به تغلب بولس في ساعات مجده, وفي أوقات هوانه, إذ كان يرجع دائماً إلى المكتوب (قابل أعمال 14: 14و 15 بمزمور 145). بل هذا هو السلاح الذي حمله لوثيرس طوال مدة الإصلاح, مستمسكاً بقوة المكتوب "البار بالإيمان يحيا". لا بل هذا هو السلاح الذي به صرع يونان عدو الخير, ووقف على قدميه ظافراً منصوراً, حين جاءته "كلمة الرب ثانية"!! "فإلى الشريعة وإلى الشهادة"!!

هذا هو السيف المرهف الفاحص. فقد رأى أحدهم بعض الجنود في الحرب الكبرى يغرزون سيوفهم في أكياس الدريس, لأن أخباراً جاءتهم بأن جواسيس اختبأوا بين الدريس! هذا هو السلاح عينه الذي يستطيع أن يميز أفكار القلب ونياته. هذا هو السلاح الذي يرهف عقولنا, ويحدد عزائمنا, ويشدد إرادتنا. فكم من جندي جريح توكأ على سيفه بعد أن بترت إحدى ساقيه بشظايا القنابل!! "هذه هي تعزيتي في مذلتي أن قولك أحياني".

وقد نُسب هذا السيف إلى "الروح" لأن الروح القدس هو الموحي بالكلمة المقدسة, وهو الناطق بالأنبياء في كلا العهدين – القديم والجديد (عب 3: 7, 9: 8و 10: 15, 1بط 1: 11, 2بط 1: 12).

عدد 18:

18مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهَذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ،

خامساً: سهر الجندي المسيحي –الصلاة

ها قد رسم أمامنا الرسول, صورة للجندي المسيحي المتسلح بكامل عدته, "فمنطقة الحق" تشدد حقويه, "وردع البر" يقي صدره, وأحشاءه, وظهره, "وحذاء استعداد إنجيل السلام" يوطد قدميه. "وترس الإيمان" بيده اليسرى ليحمي قلبه من "سهام الشرير الملتهبة", "وخوذة الخلاص" فوق رأسه لتصون رأسه وعينيه, "وسيف الروح" في يده اليمنى يضرب به ذات اليمين وذات اليسار, فماذا بقي عليه بعد حمل هذا السلاح الكامل؟ بقي شيء واحد –إن أضاعه خسر كل شيء- هو السهر, المعبرَّ عنه بالصلاة هذا هو السلاح الذي سقط من يد بطرس فأسقط في يده, فنيا سيفه عن قصده ولم يصب سوى أذن عبد! وفي النهاية انغلب هو أمام جارية. هذا هو السلاح الذي أوصى به بولس أهل أفسس قائلاً:

"مصلين بكل صلاة وطلبة".

أولاً: الصلاة كسلاح: "مصلين بكل صلاة وطلبة" –تُعتبر الصلاة سلاحاً لأنها هي إحدى وسائل الاستنجاد برئيس جيشنا الأعظم ليرسل إلينا المدد

-أ-نوع الصلاة- "بكل صلاة وطلبة"

الكلمة الأولى: "صلاة" تعني الشركة مع الله, وهي تشمل الحمد والشكر والانتظار في حضرته بسكون والثانية: "طلبة" تعني الأدعية التي نتقدم بها إلى الله. والأولى أعم من الثانية وأشرف وأرفع. الأولى تعيّن صلتنا بالله حتى بعد ارتفاعنا إلى المجد. لكن الثانية قاصرة على أدعيتنا إليه ونحن على أرض الحاجة والعوز. وقوله: "كل صلاة" يعني الصلاة بكل أنواعها: من سرية وجهرية, شفوية وباطنية, مكتوبة ومرتجلة, شخصية وتشفعية.

-ب-أوان الصلاة:"كل وقت". لا أوان للصلاة, لأنها في كل أوان, فهي لا تحمل ساعة يد, ولا ساعة جيب, ولا تتطلع إلى ساعة حائط, لأن عينها على الدوام متوجهة إلى "ساعة" الله التي يتمم فيها مقاصده بحكمة. وليس معنى هذا أن يكون الإنسان متخذاً "هيئة المصلي على الدوام" –إن ساجداً, أو واقفاً أو جالساً- بل أن يكون على الدوام في "روح" الصلاة, إذ يكون قد عود نفسه على التوجّه إلى الله اتجاهاً علوياً كل يوم وكل اليوم!

-ج-جو الصلاة:"في الروح" –أي في الروح القدس الذي هو المحرك على الصلاة, والمرشد في الصلاة, والمعين في الصلاة, والناطق فينا "بأنَّات لا ينطق بها" في الصلاة.

-د-المواظبة على الصلاة: "ساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة" هذه هي المرة الثالثة التي تكررت فيها كلمة "كل" في هذا العدد –والحبل المثلوث لا ينقطع سريعاً وقد أريد بهذه "الكلية" الثالثة شدة المواظبة, ودوام المثابرة والسهر في الصلاة بكل أنواعها. ويُكنى "بالسهر بكل مواظبة" عن توقع انتظار إجابة الصلاة في حينها.

-ه-المصَّلى لأجلهم: (1)لأجل سائر الجنود: "لأجل جميع القديسين". على الجندي أن يوجه قلبه باستمرار إلى الله في الصلاة, ذاكراً إخوته المجاهدين معه في نفس الحرب الواحدة –وإن كانوا في ميادين مختلفة. لأننا وإن كنّا نختلف عن بعضنا البعض في حالاتنا وحاجاتنا, ومعداتنا ومحارباتنا, لا أننا واحد في المسيح, وأنه لمن أكبر المشجعات لنا في جهادنا الروحي, أن نذكر أننا نحارب وحدنا, لكننا نكوِّن جيشاً واحداً مع سائر أخوتنا في العالم: ولو أننا لا نراهم. بهذا كان يتشجع المتحاربون في الحرب الكبرى مع كونهم لا يرون أخوتهم المختفين عنهم في الخنادق! وهو خير امتياز يتمتع به صغيرنا: أن يكون سبب إتيان بركة الظفر والانتصار على كبيرنا ومن يدري! ربما في اليوم الأخير, تُرفع تيجان كبيرة وضعها البشر على رؤوس "عظيمة", لتلبسها رؤوس كانت مختفية عنا, اعتقاداً منا أنها صغيرة.

عدد 19:

19وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لِأُعْلِمَ جِهَاراً بِسِرِّ الإِنْجِيلِ،

(2)لأجل الرسول نفسه ولأجلي". أي امتياز في الدنيا يعدل هذا الذي يشعر بها العبد في المنزل المسيحي عندما يسمع بولس قائلاً له: "صل لأجلي". ما أعظم ديموقراطيتك يا بولس وما أجلَّ وداعتك! نعلم أن الأكثرين في حاجة إلى صلاتك لأجلهم, ولكن ما كنا ندري أنك في حاجة إلى صلاة الجميع –حتى أصغر الأصغرين!! أليس هذا دليلاً على وحدانية المؤمنين في المسيح الواحد, وأن ما يصيب أحدهم من ألم, يشترك فيه الآخر, وأن لا غنى لأكبرهم عن أصغرهم. فما عليك أيها الأخ العزيز إلا أن تثابر في الصلاة فلعلك بصلاتك تسعف عظيماً كبولس وأنت لا تدري!

كان بولس في حاجة إلى الصلاة لأجله, لكي يبلّغ رسالة الإنجيل بكل حكمة وفطنة وشجاعة إلى أهل تلك المدينة العظيمة –عاصمة الدنيا في وقته- روما. "لكي يُعطى لي كلام عند افتتاح فمي" –للوعظ والإرشاد- "لأعلم جهاراً"- بدون تحفظ ولا وَجَل فلا أخفى شيئاً من الحق, فأقول الحق, وكلّ الحق, ولا شيء إلا الحق, (فيلبي 1: 20 ورومية 1: 15و 16) "بسر الإنجيل" –هذه هي المرة السادسة التي وردت فيها هذه الكلمة: "سر" في هذه الرسالة (1: 9, 3, 3:4و 9, 5: 32) فاطلب تفسيرها في هذه المواضع.

عدد 20 :

20الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ.

تناقض ظاهري: "سفير في سلاسل" –كلمتان متناقضتان يفصل بينهما حرف صغير: "في". إحداهما ترينا الرسول في جلال ومجد: "سفير", والثانية ترينا إياه في موقف المجرمين: "سلاسل". الأولى ترينا إياه نائب ملك: "سفير", والثانية ترينا إياه في مكان العبد: "سلاسل".

هنيئاً لك يا بولس هذا المجد الممتاز, فلو كنت سفيراً فقط لاحترمناك مرة, أما وأنت سفير في سلاسل, فإننا نحترمك ألف مرة ومرة –لا على السفارة التي تمجد السلاسل, بل على السلاسل التي تزين السفارة! فلا التيجان على رؤوس الملوك بأجمل من هذه السلاسل في رجليك!! غيرك تقيده الدنيا العريضة ولو كان في قصورها, لأنه متعلق بأهداب مادتها ولكنك أنت حر ولو كنت مغلولاً بسلاسل سجونها. فأهنأ بما نلت وبشر جهاراً "بسر" الإنجيل ولو كنت في السلاسل!!

كلمة شخصية

 (6: 21و22)

21وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضاً أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ الأَخُ الْحَبِيبُ وَالْخَادِمُ الأَمِينُ فِي الرَّبِّ، 22الَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهَذَا بِعَيْنِهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ.

بكلمات شخصية اختتم بولس هذه الرسالة الخالدة, لأن صلات المحبة والمودة كانت تربطه بالمكتوب إليهم. ولما كان لزاماً عليه أن يحيطهم علماً "بأحواله", لم ير بداً من أن يكلف الأخ تيخيكوس بهذه المهمة, فيعرّفهم بكل شيء شفاهاً, كأنه حسب هذه الرسالة السماوية أرفع من أن يسيطر فيها شيئاً عن ظروفه الخاصة, وأحوال معيشته في السجن, وما له من مجال للتبشير ولقد خلع على تيخيكوس وصفين جميلين –كل منهما مزدوج: أولهما: "الأخ الحبيب"والثاني: "الخادم الأمين". أولهما يصفه في شخصه, والثاني يصفه في عمله. وقد ورد اسم الأخ الحبيب في أعمال 20: 4, كو 4: 7, 2تي 4: 12, تيطس 3: 12- والمستفاد من هذه الشواهد مجتمعة معاً, أن هذا الأخ من آسيا الصغرى مولداً, ولعله من أفسس نفسها, وهو محب صادق وصدوق لبولس, مما أكسبه حب بولس وثقته. وهو بين الذين وقفوا جانب الرسول حتى نهاية جهاده. ويقول تقليد قديم: إن هذا الأخ الحبيب أصبح أسقفاً على بيثينيَّا. ويقول مصدر آخر: إنه صار أسقفاً على نيابوليس في قبرص. ويقول الأسقف ليتفوت أن اسم "تيخيكوس" وُجد منقوشاً على عملة رومانية قديمة!! وسواء أكان هذا اسمه هو, أم لا –والأرجح لا- فيكفيه فخراً أن اسمه نُقش في رسالة أفسس –وهو الشخص الوحيد الذي حاز هذا الشرف بعد الرسول- هذا أجلّ له, وأشرف, وأبقى.

البركة الختامية

 (6: 23و24)

23سَلاَمٌ عَلَى الإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ اللهِ الآبِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 24اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ. (كُتِبَتْ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ مِنْ رُومِيَةَ عَلَى يَدِ تِيخِيكُسَ).

تمتاز البركة الرسولية التي اختتم بها الرسول هذه الرسالة عن تحيته التي استهلها بها, بأمرين:

أولهما: أن البركة موجهة إلى "الأخوة" في صيغة الغائب: "على الأخوة" والتحية موجهة إليهم في صيغة المخاطب: "نعمة لكم".

ثانيهما: أن البركة الرسولية أعم في مداها من التحية. فالتحية كانت مقصورة على " النعمة والسلام": "نعمة لكم وسلام" لكن البركة أضافت محبة مقترنة بالإيمان إلى النعمة والسلام: "سلام.. محبة.. إيمان.. النعمة" وكلها منبعثة من قلب الله. "سلام, محبة, إيمان, نعمة" –هذه هي الأضلاع الرباعية التي يتألف منها "هرم" هذه البركة. وهو أثبت من أقدم الأهرامات وأعظمها, لأن الله موجد أحجاره.

"النعمة مع جميع الذين" ... هذه مكافأة جامعة.

"يحبون ربنا في عدم فساد"... هذه مكافأة مانعة.

إن حب المسيح لنا يولد فينا نحوه حباً من جنسه: "محبة في عدم فساد". هذا أجمل ختام لأجمل رسالة خطها قلم بولس. فقد لاق حقاً بتاج رسائله أن تتوّج بخير النعم والفضائل –المحبة المنزهة عن الفساد فهي إذاً محبة حية خالدة لأنها مجردة عن الفساد الذي هو علة الفناء, وهي محبة عالية لأنها موجهة إلى ربنا يسوع المسيح. هذه هي الماسة الصافية النيرة التي لا تشوبها شائبة فساد, أو غرض, أو هوى. هذه هي الدرة الخالدة التي لن تفنى, ولن يفنى حاملها, ولو كان عائشاً في قلب أفسس عاصمة الفساد.

لأنه يحب المسيح "من كل قلبه, ومن كل نفسه, ومن كل فكره". هذه دلالة مصالحته مع الله, وثمرة هذه المصالحة, بل تاج هذه المصالحة.

هذه هي المحبة التي تحيا وتتحرك وتوجد في جو مقدس لا يعتريه الفساد.

 لأنها تحيا في الله. فلن تموت محبة يكون الإخلاص رائدها, وحب المسيح موجدها,

وشخص المسيح مجددها, ومجد المسيح متوجها وممجدها.

آمين فآمين