الرئيسية كتب للقراءة

الفصل الثامن: إيماني بخليقة الله

في القرن الثامن عشر صاح وليم بيلي صيحته الشهيرة قائلا: "لو انك وجدت ساعة وأنت تسير في واحة في قلب الصحراء لعرفت ولا شك أن أنسانا ما هناك هو صاحبها أو صانعها!!.. فإذا رأيت الكون كله يسير في الدقة التي تدانيها أي ساعة على الإطلاق، فصحت على الفور أن لابد أن هناك مبدعه وصاحبه". على أن هناك من أجاب على بيلي بالقول :"لعل الأصح أن الكون أشبه بالساعة الكهربائية  لا العادية،  إذ لو انك وجدت مثل هذه الساعة  في قلب الصحراء، لا يقنت على وجه التأكيد لابد متصلة بإحدى المحطات الكهربائية، وانه لا يوجد هناك من هو صاحبها ومالكها فحسب، بل أكثر من ذلك أن هناك المهندس المشرف على إدارتها وملاحظتها وصيانتها أيضا"!!.. وهكذا الكون لا يمكن أن نتأمله ذو فهم أو عقل إلا ويدرك اليقين باليقين أو صاحبه هو المهندس الأعظم الذي صاغه بمثل هذا الإتقان والإبداع الذي نراه، وفي الوقت عينه يرعاه، ويصونه بحكمته الأبدية وفهمه السرمدي، ولعلنا نستطيع إدراك هذا كله، وإذا تأملنا الخليقة من هذه الجوانب الأربعة التالية:

الخليقة والتاريخ

قبل أن نتعرض للحديث عن قصة الخلق كما جاءت في كتاب الله، لابد أن نقف هنيهة من هذه القصة كواقعة تاريخية تحدث عنها التاريخ، وجاءت في كتابات وأساطير الأمم في الشرق والغرب على حد سواء، بل لابد أن ندرس بعض هذه الأساطير التي تناقلتها الأجيال في الصين وبابل وآشور ومصر واليونان والهند، لنرى الفرق الباهر بين وحي الله وأساطير الأمم، وبين ما دونه موسى في نقاوة وسمو وبساطة وروعة وجمال وجلال، وبين ما دونته تلك في مبالغة وإسفاف وضعف وقصور ونقص واضطراب، فأين ذلك القول الدقيق الصغير الجميل الشامل مثلا :"في البدء خلق الله السموات والأرض " وما تقوله القصة الصينية القديمة المضطربة من أن بوانج كوبكر الوجود أبصر نفسه ذات يوم فوق صخرة والى جانبه العنقاء وتنين ذو وجه  إنسان ومخالب الطائر وسلحفاة ضخمة، ومعه أزميل وقدوم امسك بهما، وظل يضرب الصخور التي أمامه ثمانية عشرة ألفا من الأعوام حتى صنع الأرض والشمس والقمر والنجوم والسموات، وكان هو يتزايد كل يوم ستة أقدام، وعندما مات تحول رأسه إلى الجبال، وأنفاسه إلى الريح والغيوم، وأطرافه إلى الزوايا الأربعة، وشرايينه إلى الأنهار، وأعصابه إلى الشعاب الناتئة البارزة في الأرض، وجسده إلى الحقول، ولحيته إلى النجوم، وجلده وشعره إلى الحشائش والأشجار، وأسنانه وعظامه  ونخاعه إلى  المعادن والصخور والأحجار الكريمة، وعرقه المصبب إلى الإمطار المنهمرة...

أو ما تقوله الأسطورة اليابانية التي تزعم أن الخليقة كلها لم تكن إلا الآلهة المتصارعة المتقاتلة بعضها مع بعض، وان هذا الصراع تمخض عنه أخر الأمر، ما في السموات وما على الأرض من خلائق ونباتات وجماد، وان الإنسان نفسه لم يخلق إلا من دم إحدى الإلهات، ليصبح شيطانا بيد الآلهة وفي خدمتها..

أو ما تنادي به الأساطير اليونانية القائلة أن الخليقة ترجع إلى النار مرة، والى الطين مرات أخرى.. أو ما جاء في كتابات هزويد أو اوفيد أو أفلاطون.. أين هذه جميعا من تلك القصة الأخاذة الواقعة المدونة في كتاب الله، والتي جاءت في اللغة العبرانية في أربعمائة وسبعة وستين من الكلمات والتي وصفها بروفسور هاربر يقول: "أنها صافية وبسيطة"، والت يقال عنها بروفسور مور، الذي ظل لسنوات طويلة عميد كلية العلوم في جامعة سنسانتي بأمريكا، والمرجع والحجة التي لا تنازع ولا تبارى في أبحاث اسحق نيوتن في العصر الحاضر، قال :"أن البشرية لم تتقدم بعد خطوة واحدة رغم القرون الطويلة وراء الوصف الأخاذ المدون في سفر التكوين هن الخليقة".. اجل وهذا حق، فان  هذه القصص جميعا عندما تقف إلى جانب القصة الكتابية، ليست إلا لعب أطفال، كما يقول جيمس سايم –زميل كلية العلوم من جامعة ادنبرة- أو الظلال الباهتة الضعيفة المتنافرة للوصف الكتابي الواضح في سفر التكوين!!

على إننا ونحن نربط هذه القصة بالتاريخ ما يزال هناك السؤال الهام الذي يتردد في أذهان الكثيرين:كم عمر الخليقة؟ والى أي زمن يرجع هذا البدء الذي يشير إليه الكتاب!!. يعتقد الأسقف اشر بحسابه المشهور أن عمر البشرية يرجع إلى 4004 ق. م غير أن الكثيرين من المؤرخين والشراح والمفسرين  ودارسي الكتاب يختلفون معا اختلافا بينا كبيرا، وان كان في الوقت عينه قد وجد مؤخرا من وقف بجواره بكل حمية وغيرة وحماس ويقين، ونعني به توبني أعظم مؤرخ في القرن العشرين الذي كتب في مجلة "اتلانتك منثلي" عام 1948م مؤكدا أن التاريخ البشري لا يمكن أن يتجاوز هذا الرقم أي 4004 ق.م كثيرا.. ولعل السر في هذا الاختلاف يرجع على الأغلب إلى طريقة المؤرخ أو الشارح الحسابية، كما يرجع في الوقت عينه إلى الاختلاف في معنى الستة أيام المذكورة في سفر التكوين والمعنى المقصود من القول: "وكانت الأرض خربة وخالية" مما سنعرض له عند دراسة الأمر وشيكا من الناحية الكتابية.. وعلى أي حال فمما لا شبهة فيه أن القصة الكتابية ستقف على الدوام على رأس المراجع لكل بحث تاريخي عن عمر الخليقة واصل الإنسان!!.

الخليقة والكتاب

والكتاب يكشف عن عدة حقائق ثابتة وأساسية خاصة بالخلق لعل أهمها:

1-   الله مبدع الخليقة ومنشؤها، وقد أتيح لنا في مواطن متعددة مختلفة من هذا الكتاب أن نشير إلى هذه الحقيقة بما لا يدع المجال لمزيد من البحث والاستقراء، ويكفي الرجوع إلى شهادة الطبيعة صفحة (33) والفقرة الأخيرة من شهادة الكتاب المقدس صفحة (47)، في البحث الخاص بوجود الله.. أو الرجوع إلى المعتقدات المختلفة الخاصة بالكون صفحة (56) في البحث الخاص بطبيعة الله.. أو الله والمادة عند الحديث عن صفة لله غي المحدودة صفحة (84و 85) أو "الخلق" الواردة في أعمال الروح القدس صفحة (193).

2-   زمن الخليقة وقد جاء هذا فيقول : "1فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. 2وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.(تك1:1 و 2) وقد اختلف في هذا "البدء " تباعا لأمرين على الأقل:أولهنا ترجمة العبارة "وكانت" إذ يجوز عند البعض ترجمتها "وصارت" ومن ثم يكون الآية في نظر هؤلاء  : "في البدء خلق اله السموات والأرض وصارت الأرض خربة وخالية " وفي لغة أخرى أن الأرض قائمة موجودة من أزمان متباعدة سحيقة قبل أن تسكنها المخلوقات الحالية أو الإنسان، وإنها كانت في عرفهم مهبط أو مسكن مخلوقات أخرى لعلها الملائكة الذين سقطوا، وإذ طردهم الله و احد رهم من مجدهم الأسنى، أخرب الأرض وأخلاها منهم عندما حفظهم في قيود أبدية تحت الظلام، وقد عزز هذا الرأي  أن الكلمة "خربة"  وفي الأصل "توهو" والكلمة "خالية" وفي الأصل "فابوهو" قد وردتا في مواضع أخرى بما يفيد على الأقل سبق العمار والملء، إذ جاء في  إشعياء  عن ارض أدوم: "9وَتَتَحَوَّلُ أَنْهَارُهَا زِفْتاً وَتُرَابُهَا كِبْرِيتاً... 11وَيَرِثُهَا الْقُوقُ وَالْقُنْفُذُ وَالْكَرْكِيُّ وَالْغُرَابُ يَسْكُنَانِ فِيهَا وَيُمَدُّ عَلَيْهَا خَيْطُ الْخَرَابِ وَمِطْمَارُ الْخَلاَءِ. (اش34: 9و 11). كما جاء في ارميا أيضا القول: "نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية والى السموات فلا نور لها "(ار4 :23).وعلى رأس هؤلاء المفسرين يقف المفسر المشهور اللغوي ديلتش، وان كان ديلتش في الوقت عينه، يؤكد أن فترة الخراب والخلاء هذه لا يمكن أن تكون فترة طويلة، استنادا إلى ما ورد في إشعياء :" 18لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «خَالِقُ السَّمَاوَاتِ هُوَ اللَّهُ. مُصَوِّرُ الأَرْضِ وَصَانِعُهَا. هُوَ قَرَّرَهَا. لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلاً. لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا. أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. (اش45 :18). والكلمة "باطلا" هي ذات الكلمة "توهو" أي أن الله لم يقصد أن تبقى الأرض خربة وخالية، إذ للسكن صورها.. غير أن الأكثرية من المفسرين تعارض هذا الرأي تمام المعارضة، حتى لقد وصف تفسير ديلتش بأنه انحراف وسقطة فكرية، لعقل يعد من أعظم وابرع العقول التي فسرت الكتاب حتى اليوم. ويقولون أن الخراب والخلاء المقصود ههنا ليسا إلا حالات عدم العمران والتشويش، الأمرين الذين كانا في الأرض قبل خلق الحياة والمخلوقات فيها..

والأمر الثاني الذي آثار الخلاف الكبير حول زمن الخليقة هو تفسير كلمة "اليوم" وهل ينصرف معناها إلى "العصر" أو المدة المعروفة لنا بأربعة وعشرين ساعة؟!.. وكثيرين من المفسرين الآخذين بالرأي الأول يقولون أن اليوم يحتمل أن يكون العصر، لان الشمس لم تكن قد تكونت حتى اليوم الرابع بعد.. ويستطردون قائلين أن هذا لا يعني المناقضة للكتاب إذ أن كلمة "يوم" تفيد في الإصحاح الأول والثاني من سفر التكوين خمسة معاني مختلفة، إذ هي أولا النور المنبثق في اليوم الأول دون تحديد لمدة معينة (تك1: 3) ثم هي ثانيا الفصل بين النور والظلمة في وقت غير محدود، إذ لم تكن الشمس قد جاءت بعد (عدد5) وهي ثالثا لابد أن تكون أربعا وعشرين ساعة في القول "وتكون أوقات وأيام وسنين" إذ المقصود أن الشمس والقمر والنجوم وضعت للتحديد والفصل بين كل يوم وأخربالأربع والعشرين ساعة المعروفة، كما إنها قد تشير إلى الجزء المنير من النهار (عدد 16). وأخر الأمر قد تعني الزمن كله  الذي خلقت فيه السموات والأرض كما في القول: "هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت  يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات "(تك2 :4).

على أن مرقس دودز وآخرين لا يكادان يقتنعان بهذا الرأي على الإطلاق، ويتجهون إلى الرأي الأخر المغاير المضاد القائل بان اليوم لابد أن يكون أربعة وعشرين ساعة، إذ أن الله عندما تكلم إلى الإسرائيليين كان يكلمهم ولا شك بما يدركون ويفهمون، وهذا الصباح أو المساء في فهمهم أو فهمنا ليوم واحد إلا هذه الساعات.. والمشايعون لرأي دودز يضيفون إلى ذلك انه ليس ثمة مناقضة بالضرورة بين رأيهم هذا، الرأي العلمي الأشهر المعروف بالرأي السديمي، والقائل أن المواد الأصلية التي تكونت منها العوالم المختلفة، كانت على هيئة غازية ممتدة جدا كالضباب في الجو، ثم أخذت تبرد بالإشعاع، وتتقلص، وتنفصل أجزاؤها البعيدة عن الكتلة الأصلية الواحد بعد الأخر، ثم أن ما ينفصل  يستمر في دورانه، ويتحول إلى كرة مستقلة، ولما انفصل عالمنا هذا ابتدأ تكوينه بواسطة التغيرات المادية إلى أن صار يابسة وبحارا، ثم أبدع الله في الحياة الحيوانية والنباتية، وخلق أخر الأمر ادم أبا للبشرية!!

ليس ثمة مناقضة بين الرأيين عندهم، لان الأمر كله يرجع أولا وأخيرا إلى مدى ما تستطيعه قوة الله المبدعة الخالقة!! وهذه القوة تستطيع أن تفعل في لحظة واحدة، ما يتصور الإنسان انه يحتاج إلى ملايين الملايين من السنين  حتى يتم ويصنع، كيف لا والإنسان نفسه قد اختبر أن القوة الإلية البدائية أو القوة الميكانيكية أو القوة الكهربائية أو القوة الذرية قد تصنع شيئا أو تفتته، ولكنها تفعل هذا الشيء  الواحد في أزمنة مختلفة لا تكاد تتصور أو تصدق!!. فإذا ذكر أيضا أن الله سيقيم البشرية كلها بقوته القادرة في لحظة وصفت بالقول إنها "طرفة عين" أفيكون مستبعدا بعد ذلك؟

تصور أن الله يصنع الخليقة في الستة الأيام على المعنى المعروف والشائع عند الناس لكلمة "اليوم"؟.. في الواقع أن هذا هو الأدنى والأقرب، لا إلى الإيمان الوديع  الممسك بكلمة الله فحسب، بل إلى المفاهيم  والحقائق التي يتكشف لنا في هذا  العصر الذري من حيث علاقة المادة بالحركة  (صفحة  81) مما لم يكن يفهمه الأولون على الإطلاق قبلنا!!

3-   الترتيب التكاملي في الخليقة: ولعنا نلاحظ أن الستة الأيام قد قسمها الله إلى قسمين: قسم خاص بالجواهر، وهي الثلاثة أيام الأولى، والقسم الأخر بالمركبات، وهي الثلاثة الأيام التالية، فإذا قارنا اليوم الأول بالرابع، واليوم الثاني بالخامس، واليوم الثالث بالسادس، أمكننا كيف ترتبط المركبات بالجواهر. ففي اليوم الأول خلق الله النور وفي اليوم الرابع حاملات النور، وفي اليوم الثاني الجلد الذي فصل بين مياه ومياه، وفي اليوم الخامس ما يعيش في الجلد والمياه، وفي اليوم الثالث اليابسة، وفي اليوم السادس ما يعيش على اليابسة.. كما انه من اليسير أن نلاحظ أن الله خلق الجماد، ثم خلق النبات بعد ذلك، ثم خلق الحيوانات والطيور بمختلف أنواعها، وأخر الأمر خلق الإنسان!! وهذا متفق تمام الاتفاق مع ما هو معروف ومفهوم وثابت من الخطوط الرئيسية في عالم الجيولوجيا!!

4-   الخلق والعمل في قصة الخليقة!!.. وهناك فرق واضح بين الخلق والعمل في قصة الخليقة، إذ جاءت الكلمة "خلق" أو "برأ" ثلاث مرات في الإصحاح الأول من التكوين، ومع إنها لا تحتم في الأصل اللغوي إيجاد شيء م لا شيء، إلا إنها تفيد المعنى من ههنا إذ اوجد الله المادة (عدد1)، والحياة الحيوانية (عدد21)، وحياة الإنسان (عدد27). اوجد هذه كلها من لاشيء.. أما ما جاء عدا ذلك فقد عمله الله، أي عمله وصنعه من مواد قد سبق فخلقها وأوجدها.. ومن هنا ندرك أن قصةالخلق لا تعني في حد ذاتها مناهضة التطور أو التسلسل الطبيعي، إذ قد يصنع الله أشياء من أشياء أخرى سابقة عليها، لكن القصة ترفض التطور أو التسلسل الطبيعي، عندما يتوقف هذا أو ذاك عن فهم العلة الأولى المبدعة والمنشئة لسائر المدلولات الأولى في الطبيعة أو الحياة!!

5-   الاتجاه التصاعدي في الخليقة:  وهذا الاتجاه لا يمكن أن يقاس بالحجم أو الضخامة فالأرض قطعا ليست اكب الكواكب أو الأجرام السماوية، ومع ذلك فان الشمس وغيرها من النجوم أو الكواكب تقوم بترتيب الله وحكمته على خدمة هذه الأرض.. كما أن الإنسان في الأرض ذاتها ليس اكبر المخلوقات أو أضخمها  ومع ذلك فمما لا شبهة فيه انه هو أعظمها وأفضلها وارفعها واجلها على الإطلاق مما ذكرناه في مطلع هذا الكتاب (صفحة 20 و21) ومما سيتاح لنا أن نذكره ونحن نفرد بابا خاصا لأصل الإنسان في موضع آت لاحق في الكتاب أيضا.. وكل ما نبغي الإشارة إليه ألان هو هذا الترابط الحيوي  التام في الخليقة، إذ يحتاج بعضها إلى البعض الأخر،  ويقوم السابق فيها على خدمة اللاحق، كما قد ينتفع في الوقت عينه  بالرعاية والعناية التي تأتي من هذا الأخير، كمثل ما ينتفع الكثير من الحيوانات والسائمة من رعاية الإنسان، والإشراف عليها وبسط حمايته وحراسته لها..

الخليقة والعلم

والدراسة العلمية الدقيقة للخليقة تكشف على الأقل الحقائق الأساسية التالية:

1-   شهادة العلماء الرائعة للقصة الكتابية: ولعل في مقدمة هؤلاء تأتي شهادة الدكتور ارنولد جيوت، والذي ظل أستاذ الجغرافيا الطبيعية والجيولوجيا في جامعة برنستون لمدة ثلاثين عاما، وقد قال في كتابه "الخليقة ونظرية  تكوين العالم في الكتاب المقدس في ضوء العلم الحديث" ما يلي:

"تقف القصة الكتابية بما فيها من بساطة ونقاوة ويقين وجمال تاريخي على النقيض تماما من تلك الأساطير والخيالية والرمزية والمعقدة والتي شحنت بها الديانات الوثنية القديمة... وبجمالها الأخاذ وفكرها المنظم والتنسيق الفلسفي الرائع لسائر أجزائها المختلفة، وبالأولى في هذا الحرص الشديد في سرد الحقائق، والذي يترك أوسع المجالات للاكتشافات العلمية المتعددة، تفصح عن الإرشاد العلوي العظيم الذي وجه قلم الكاتب وصانه ليكتب داخل حدود الحق وفي نطاقه".. كما أن الدكتور الفونسوا سميث قال بهذا الصدد أيضا:  "ليس هناك إصحاح واحد في كل الكتاب المقدس اثر فيّ يعظمنه الأصيلة كمثل ما يفعل الإصحاح الأول من سفر التكوين!! ففي مزاجه الرائع من الجمال والقوة، وفي الطرقات الخفاقة، وفي الإحساس الجميل بالحق العظم المتضمن فيه، وفي الفخامة الشامخة التلقائية التي لا تتحف إلا لكل فكر عظيم يحسن الإفصاح عنه وتعبيره، سيبقى هذا الإصحاح عندي من غير مثيل أو ريب.. فليس في العهد القديم كله شيء اسمي واعلي من تلك الطريقة التي امسك بها كاتب الإصحاح الأول ن سفر التكوين العناصر الأولية للعالم وأزال عنها ما ترسب عليها من أغشية وطبقات... ويكفي ما تقرا ما فعل الفكر اليوناني والروماني بالأرض والماء والليل والشمس والقمر والنجوم لترى كيف دفنتها تحت رواسب متخلفة من الخيال والتاريخ السخرى، وليس هناك عدد واحد من هذا الإصحاح لم يسجل سموا روحيا يعلو على جميع ما خلفته  هذه في كل الأجيال... فإذا كانوا الشعراء في بعض الأحايين قد عزوا في بعض الأحايين ضياع الأساطير القديمة إلى الإعلانات المنبثقة من العلوم، فإننا يمكن أن نقول مع ذلك أن الذي دفع الأساطير إلى العفاء، ليس هو العلم الحديث بل الإصحاح الأول من سفر التكوين!!".. وما نحسب أن الأمر يحتاج بعد ذلك إلى مزيد من شهادات العامة والكتاب ورجال التاريخ لعظمة وجمال القصة الكتابية التي استهل بها موسى الصفحات الأولى لكتاب الله..

2-   عجز العلم عن تقصي الأصول الأولى للحياة والخليقة. الأمرالثاني الذي لابد من الإشارة إليه ونحن يصدد العلم والخليقة، هو هذا العجز الصارخ الذي أفصح به العلماء عن موقفهم، وهم بصدد تتبع أصول الحياة والنشأة الأولى للجواهر التي صنعت منها الخليقة، وفي هذا يقول سير اوليفر لودج في كتابه المشهور "الإنسان والكون" ما نصه: "أن العلم لم يشهد بعد الأصول الأولى التي تفرق بين الحياة والمادة الميتة..فكل حياة حسبما لوحظ وشوهد تنبثق عن حياة سابقة عليها، فإذا ما أعطيت الحياة في خلية واحدة، فان العلم يمكنه أن يتعقب تطورها إلى عشرات الآلاف من الخلايا الحية في النبات والحيوان والإنسان على حد سواء!! ولكن أصل النشاط البروتوبلازمي – الجبلة الأولى للخلية – ما يزال إلى اليوم مستعصيا عليه... وناموس التطور لا يقنع بدراسة التغيير والنمو فحسب بل يحاول أكثر من ذلك أن يرد التسلسلات إلى ما هو سابق عليها.. انه يقتفي آثار الأصول في كل الأشياء!! ولكن الأصول الأولى ما تزال مبهمة غامضة، ليس من سبيل إلى استقصائها وإدراك كنهها.. ومن واجبنا أن نعترف كرجال العلم أن الأصل الحقيقي لأبسط الأشياء لا سبيل لنا إلى معرفته على الإطلاق، حتى ولو كان هذا الشيء حصاة صغيرة!!". فإذا صح أن يقال أن اوليفر لودج قد نشر كتابه في مطلع القرن العشرين، وان الكثير من الحقائق والمعلومات، قد أمكن الوصول إليها بعد ذلك، فان الأقوال الآتية من عالمين يعدان من أعظم علماء  الدنيا المعاصرين قاطبة، تشهد بما لا يدع مجال للشك أن العلم لم يتقدم بوصة واحدة في هذا المضمار، وانه لابد أن يقنع بالافتراض والتسليم  دون الجزم والإخبار.. قال الدكتور ل. وود روف أستاذ علم الأحياء في جامعة بيل، والذي لخص في عبارة واحدة موقف العلم الحديث من أصول الأشياء : "أن علماء الأحياء في الوقت الحاضر عاجزون تماما، وربما سيظلون عاجزون على الدوام، عن الحصول على شهادات تجريبية تكفل الجواب على الأسئلة الدقيقة المتعلقة بأصول الحياة قي الأرض ".. ومثل هذا الكلام جاءنا من دكتور جورج سارتون أستاذ تاريخ العلوم في جامعة هارفارد، والذي يعد حجةالعالم كله في هذا العلم في الوقت الحاضر، إذ قال: "إن العلم يستطيع أن يشرح كل شيء ما عدا الإسرار الجوهرية في الحياة"..

3-   عودة العلماء إلى اليقين بقوة الله الخالقة.. وبعد هذا الإفلاس العلمي لم يجد العلماء بدا من العودة من الإيمان بقوة الله الخالقة، وفد أتيح لنا فيما سلف أن نشير إلى أقوال: "عموناوئيل كانط، واللورد كالفن، والفريد راسل ولاس، وكورسي موريسون (صفحة 35- 42).  ونحن بصدد الحديث عن وجود الله وشهادة العلم يكفي أن نضيف إلى هذه الأحاديث كلمات أخرى لعالم معاصر من أعظم علماء الفلك في العصر الحديث!! قال  دكتور سمارت روث أستاذ علم الفلك بجامعة جلاسكو في كتاب أصل الأرض الذي نشره في عام 1951 م ما يلي: "عندما ندرس هذا الكون ونؤخذ بما فيه من عظمة وجلال ونظام، يخيل إلي إننا منقادون للاعتراف بوجود قوة خارقة وغرض كوني يفوق كل ما يمكن أن تدركه عقولنا المحدودة ". وإذا كان لورد بيكون قد عبر في إحدى رسائله عن هذه الحقيقة بالقول : " إنني أوثر أن أومن بكل الخرافات في الأساطير والتلمود وما أشبه من أن أعتقد بأن هذا النظام الكوني قد جاء مصادفة ودون عقل جبار عظيم!!... علي إننا ونحن نعلم اليوم عن هذا النظام الكوني أكثر كثيراُ جداً مما كان معروفاً أيام بيكون، فإنه لا مندوحة عن القول إنه لكثيرين منا، علماء كنا أو غير علماء، ما يزال الإيمان بالله خالق ضرورة حتمية في الوقت الحاضر أو الماضي علي حداً سواء!! وعلي الأقل لي كواحد من رجال الفلك إذ : " السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه"!!

الخليقة والمعني

أما وفد إنتهينا من هذا كله، بقي سمة أمر أخير لابد من الإلماح إليه قبل أن ننتهي من الموضوع بجملته وهو المعني في الخليقة!!؟ ومع أننا نعلم إن السؤال أعلي منا وأعظم، وإننا في ذات الموقف الذي وقفه جورجواشنطن كارفر العالم الزنجي الأمريكي المبرز عندنا عندما سأل الله ذات يوم قائلا:" يارب ما هو الكون!!؟ وعندئذ أجابه الله بالقول : "ولكن الكون يا جورج أوسع واكبر من أن تدركه أنت، ولعلك تطالبني قيما بعد بالاهتمام به؟" وإذ أحس العالم المتواضع مركزه من الله والحقيقة سال إلهه: " يارب ما هو الفول السوداني!!؟ فأجابه الله :" الآن تسأل سؤرا لا يتناسب مع حجمك!! اذهب وسأعينك علي فهمه!".

وقضي جورج المتواضع كل حياته يجري بمعونة الله تجاربه العديدة علي هذا النبات حتى انتهي إلي النتائج المذهلة الرائعة التي خرج بها إلى الناس والعالم!!.. ومع إننا نعلم إن الحياة مفعمة بالإسرار والعجائب إلا إن هذا لا يمنع على الإطلاق لن نقف مع المرنم وهو يصعد البصر وينشد في المزمور: "السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يذيع كلاما وليل إلى ليل يبدي علما" (مز19: 1و 2) فما هذه الأحاديث والأخبار والإذاعات والحقائق التي لا يمكن إلا أن تعلنها الخليقة وتفصح عنها فيما تفصح وتذيع؟

إنها على الأقل تكشف عن عدة حقائق تتصل بمجد الله وجلاله إذ تكشف عن :

1-   قدرة الله المذهلة العجيبة التي أوجدت كل شيء من لا شيء بالأمر اللاهي القائل كن فيكون!! ومهما يكن من انبعاث المادة عن الحركة التي اشرنا إليها سلفا (صفحة 84)، أو إيجاد الحياة من النسمة أو النفخة أو الحركة التي أحثها روح الله عندما رف على وجه المياه!!.. بل إذا صدق ما يقوله رجال الفلك عن الأجرام والكواكب والنجوم من إن أرضنا ليست إلا كوكبا صغيرا يدور حول شمس صغيرة على أطراف مجرة تحوي 100 ألف مليون نجم، وان هذه المجرة ليست إلا مجرة واحدة من عدد لا يحصى من  المجرات المماثلة. وإننا كما يقول هارلو شيبلي أستاذ الفلك بجامعة هارفارد : "نزداد توغلا في الفلك دون أن  نجد له نهاية"!!.. إذ قد يصل عدد النجوم كما يعتقد هذا العالم الكبير إلى أكثر من ألف بليون بليون من النجوم!! وان هذه كلها معلقة في الفضاء ومرتبطة بعضها بالبعض دون اصطدام أو تشويش أو فوضى!!. إذا صح كل هذا، كم نكون اذاً إزاء قدرة الله التي تجل و تعلو على كل وصف أو تصوير.. حقا : "إن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركه بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" (رو1: 20).

2-   إرادة الله المطلقة الحرة في الخلق، إذ أن الله  لا يكشف في الخليقة عن قدرته المذهلة العجيبة فحسب، بل عن إرادته المطلقة الحرة في هذا الخلق، وحريته الكاملة غير المحدودة وفي وضعها وفي الأحجام التي يريد، وبالأسلوب الذي يشاء، وفي الوقت الذي يقصد!! وأمام هذه الحقيقة تتلاشى كافة الحماقات والخرافات المنادية بإلوهية الكون، الأمور الذي دحضناه ونحن نتحدث عن طبيعة الله  (صفحة 39و 40) أو بأزلية مواده الأصلية سواء في الصورة التي ابتدعها ديموقراط أو ليوسيوس أو ابيقور، والتي تزعم إن مواد الكون كانت قائمة منذ الأزل على غير هدى و نظام تائهة في الفضاء.. أو في الصورة التي اختلف عنها أفلاطون وأرسطو، إذ زعم الأول إن المادة والله أزليان، وكل منهما واجب الوجود، ومستقل عن الأخر، وان من الله صدرت أرواح الدنيا والبشر، وما بقي من الكون خلقه احد الإلهة الثانويين بينما نادى الثاني بأزلية كل من المادة والله واستقلال الواحد عن الأخر، وان كان الله في الوقت عينه قد اخذ ينظم هذه المادة منذ الأزل... ولعلنا لا نجد شهادة عن هذا التخبط والخلط مثل الشهادة التي جاءت في كتاب أفلاطون للدكتور عبد الرحمن بدوي إذ قال :"في محاورة طيماوس "  يذكر لنا أفلاطون كيف انه في البدء جاء الصانع فصنع من المتشابه واللامتشابه للنفس الكلية. ومن النفس الكلية صنع العناصر الأربعة الماء والهواء والنار والتراب، ومن هذه الأخيرة صنع الإنسانوبقية الإحياء والكائنات الموجودة تحت فلك القمر. ويضيف إلى هذا انه خلق الكواكب عن طريق الشمس الأولى. من اجل أن تكون حاسبة للزمن. كما يعني أيضا في البحث في الزمان باعتبار أن الزمان هو الصورة المتحركة للأبدية الثابتة. وكل هذه التصورات لا تدل على إن التصورات لا تدل على إن أفلاطون قد نظر إلى المسالة نظرة جدية. وإنما هو حديث أراد به إن يبين كيف نشا العالم من اجل إن يقيم على هذا الأساس نظرياته الأخلاقية ونظرياته في الإنسان. لكن يعنينا ونحن نبحث هذه المسالة إن نتحدث عن مسالتين رئيسيتين: هما مسالة خلق المادة ومسالة خلق الزمان. فانا نرى أفلاطون يصور هذه المسالة وكلأن الصانع قد خلق المادة ثم خلق منها من بعد بقية الأشياء.. ولكن هذا تصوير ظاهري فحسب، لأننا نجد أقوال أفلاطون في مواضيع أخرى تتنافى تمام التنافي مع هذا التصوير. ذلك انه يتحدث عن أزلية النفس، ولا يمكن إن يتحدث عن أزلية النفس إذا كانت المادة غير أزلية، لان النفس أيضا جزء من المادة، كما إن النفس لا يمكن إن توجد إلا إذا كانت متصلة بجسم – وحينئذ يمكن إن نقول بان النفس التي يتحدث أفلاطون عن خلودها هي فقط نفس عقلية غير متصلة بشيء من المادة، فلا ينطبق عليها ما ينطبق على هذا. ولكن هذا التوفيق يتعارض مع ما يقوله أفلاطون صراحة من إن النفس توجد دائما في جسم، ولو انه يصور المسالة وكأن النفوس الخالدة كانت موجودة في مكان معين قبل إن تحل في الأبدان (صفحة 189، 190 طبعة ثانية عام 1944 – مكتبة النهضة المصرية) بل إن نفس الفكرة عن الله عند أفلاطون محاطة بالغموض وفي هذا يول دكتور بدوي في نفس المؤلف : "فإذا انتقلنا من العناية الإلهية وتوكيد أفلاطون إلى ماهية الإلوهية، وجدنا الشكوك تحيط بأكثر الأفكار التي أدلى بها في هذا الباب : فنحن  نراه تارة يتحدث عن اله في صيغة المفرد، باعتبار انه الخير والعلم والحكمة، وتارة أخرى نراه يتحدث عن الإلهة بصيغة الجمع. فهل هناك اله فوق الإلهة وهل هذا الإله من جنس الإلهة!!؟ وهل الصانع هو الإلهالأعلى!!؟ هذه الأسئلة لا نستطيع إن نجد في محاورات أفلاطون بيانا وافيا عنها. ولكن يلاحظ مع ذلك انه بالنسبة إلى السؤال الخاص بوجود اله فوق الإلهة نجد إن أفلاطون يؤكد وجود هذا الإله. أما عن السؤال الثاني الخاص بطبيعة هذا الإله وهل هو من جنس الإلهة، فان أفلاطون ينكر كل الإنكار إن يكون هذا الإله  الأعلى من نوع الإلهة،  سواء كانت هذه الإلهة كونية مثل أورانوس اله السماء، أو كانت هذه الإلهة إلهة الاولمب. فان هذا الإله الذي يعلوها من طبيعة مختلفة كل الاختلاف. أما هذه الإلهة الشعبية فهي كواكب أو بعبارة أدق نفوس الكواكب. فان أفلاطون ينسب إلى هذه الكواكب نفوسا. بل ويضيف إلى هذه الكواكب عقولا لكي يتيسر لها إن تدور هذه الدورات الكونية في انسجام مع بقية الكون وفي انسجام مع بعضها البعض. وهذا مذهب مشهور عن أفلاطون. ونعني به قوله: "إن للكواكب نفوسا" (صفحة 133 و 134من نفس المؤلف).

ولعلنا لا نعرف تخبطا للذهن البشري على توالى العصور وامتداد الأجيال كهذا التخبط الذي سقط فيه أفلاطون وأشياعه وإضرابه من رجال الحكمة والعلم والفلسفة.. أليس هذا ما يعنيه الرسول في القول : "وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء "(رو1 :22) "19لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «سَأُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ وَأَرْفُضُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ». 20أَيْنَ الْحَكِيمُ؟ أَيْنَ الْكَاتِبُ؟ أَيْنَ مُبَاحِثُ هَذَا الدَّهْرِ؟ أَلَمْ يُجَهِّلِ اللهُ حِكْمَةَ هَذَا الْعَالَمِ؟ 21لأَنَّهُ إِذْ كَانَ الْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ اللهِ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ بِالْحِكْمَةِ اسْتَحْسَنَ اللهُ أَنْ يُخَلِّصَ الْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ الْكِرَازَةِ" (1كو1: 19 -21).. ومثل ما يقال عن نظرية إلوهية الكون، أو أزلية المادة، يمكن إن يقال أيضا عن نظرية النشوء والارتقاء القائلة :"إن الكون بكل ما فيه من الأجناس الحية على أنواعها نشا بالتقدم البطء من درجة إلى أخرى في سلم الارتقاء، وان جميع أنواع الحياة النباتية والحيوانية والعقلية أيضا نشأت عن تغيرات طفيفة كانت تزداد وتتقدم من دور إلى أخر إلى إن بلغت حالتها الحاضرة من الكمال، إي إن كل ما في الكون نشا من الطبيعة نفسها" وقد انقسم الآخذون بهذا المذهب إلى قسمين :قسم ينكر لزوم مداخلة الخالق في إبداع أصول الحياة على الإطلاق. وقسم أخر يتصور انه من اللازم إن يكون الخالق قد خلق جرثومة الحياة الأصلية فقط، ولكنه لا يتدخل بعد ذلك في ارتقاء الأنواع وتقدمها وتطورها.وعلى رأس هذا الفريق يقف دارون بنظريته المشهورة والقائلة: "إن تنوع الأشياء نشا عن الجهاد بينها دفعا لخطر الملاشاة بسبب ازدياد عددها أكثر مما تحتمله وسائط المعيشة فهلك منها الأضعف بسبب مضايقته من قلة المعيشة وبقي الأقوى والأصح. ولما كان من دأب ما بقي التقدم في سلم الحياة والارتقاء للسبب المذكور كان لابد له من التقدم البطء من درجة إلى أخرى في سلم الكمال، فنشا عن ذلك أنواع مختلفة لكل منها صفة التقدم إلى حالة أفضل واقوي، إلى إن صارت النباتات والحيوانات على ما نراها من التنوع المختلف في الدور الحاضر، وكذلك البشر، حتى انه لو قال قد أمكنني إن أجد الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد لقلت إن الإنسان أصله قرد". غير انه وجد من أتباع دارون من اعتقد إن هذه النظرية، تصدق على النباتات والبهائم دون الإنسان... وعلى كل حال فقد بينا عف هذه النظرية، عند من ينكر تدخل الخالق إطلاقا بما أوردناه من أدلة عند المناقشة والحديث عن الخليقة والعلم، كما إن التقدم العلمي اثبت وجود حقائق لم يكن دارون يعرفها كعجائب الموروثات Genes"" مثلا كما يقول كرسي موريسون (صفحة 27) كما إن العيب القاتل للنظرية هو إنها بدأت بالأسلوب التجريبي العلمي، وانتهت بالأسلوب التخيلي الافتراضي الذي جعل دارون نفسه لا يقطع بان الإنسان أصله قرد، وجعل تابعه "ولسن" العالم الانجليزي يخرج الإنسان من النظرية عند التطبيق.. بل إن التسليم بهذه النظرية، مع ما فيها من تعقيد وتناولها أزمنة تصل إلى ملايين الملايين من السنين، يحتاج إلى إيمان أعظم جدا من الإيمان الذي يتطلبه الدين.. فإذا أضيف إلى هذا كله انه امتهان كبير وغير متصور إن نقول إن الضمير والحياة الروحية في الإنسان، وتصور وجود الله، صدرت من الحيوان الأبكم وتطورت عنه!!. هذه النظريات المختلفة المشار إليها ليست في واقع الحال إلا الإسفاف الامتهان واللحظة للفكر الإنساني العظيم، بل إن تصورها يعدو في الحقيقة أكثر تعذرا واستحالة من الإيمان بان هذه الخليقة صدرت عن اله حي مريد عاقل، ولعل الأركان إلى واحد منها أو إلى بعضها، كالأركان إلى تلك الصورة التي تخيلها احدهم عندما تصور إن القلم قال ذات مرة: "إني اكتب كتابا" فأجاب الحبر مبتسما: "أنا الذي اكتب الكتاب فأنت لا تستطيع إن تفعل شيئا بدوني" وعندئذ قال الورق :"ولكنكما لا تستطيعان إن تفعلا شيئا من غيري "!! وقال القاموس: "ولكن أنا الذي املك الكلمات التي يدونها لا يمكن عمل كتاب" وخلال هذا الجدل والمناقشة كان المؤلف يبتسم!! ولعل الله يبتسم مرات كثيرة عندما نجادل في أمور خليقته جدلا غبيا سقيما أحمق!!

3-   ولعله من تحصيل الحاصل بعد هذا كله إن نشير إلى حكمة الله وجلاله وعظمته ومجده في صنع الخليقة. وقد أتيح لنا فيما سلف أيضا، اللالماع إليها والإشارة بها عند الكلام عن شهادة الطبيعة عن وجود الله (صفحة 19و 20) فإليه نحيل ونرجع.

4-   أما أخر ما ننتهي إليه في هذا الموضوع كله، فهو محبة الله اللانهائية الكاملة الشاملة العجيبة للخليقة كلها، فما صنع الخليقة في الواقع إلا برهانا وإعلانا وكشفا وإظهارا لقوتها وجلالها وسناها ومجدها!! كيف لا والوازع على الدوام للصنع والخلق لا يأتي إلا من العاطفة المشبعة الممتلئة بالمحبة؟! وهل يبني الإنسان بيتا أو ينشئ أسرة أو يبدع رسما أو يخلففنا إلا مدفوعا بهذا الوازع العظيم،  وازع المحبة؟ فإذا صح إن يقال هذا عن الإنسان، أفليس هو بالنسبة لله وصنع الخليقة أولى واصح؟ فإذا أضيف إلى هذا كله، هذه العناية والرعاية العجيبة المتولدة عن المحبة والتي تلف وتضم كل مخلوق، وهذا المجد الواسع العريض الأبدي الذي وضعه الله أمام الإنسان.. إلا يحمل بنا إذا إن نصيح مع المرنم : "1بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلَهِي قَدْ عَظُمْتَ جِدّاً. مَجْداً وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. 2اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ. 3الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ. الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ. 4الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ نَاراً مُلْتَهِبَةً. 5الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ..24مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنَةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ.. 35لِتُبَدِ الْخُطَاةُ مِنَ الأَرْضِ وَالأَشْرَارُ لاَ يَكُونُوا بَعْدُ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. هَلِّلُويَا. (مز104: 1-5 و42، 25).