الرئيسية كتب للقراءة

الفصل العاشر: إيماني بقضاء الله

تختلف أفكار الناس وإفهامهم اختلافا بينا متباعدا كبيرا حول الإيمان بقضاء الله، فمنهم من لا يكاد يؤمن بهذا القضاء على الإطلاق،استندا أو زعما إن لكل مجتهدا نصيب!. وان الإنسان يستطيع أن يدفع أموره في الحياة بكل ما يملك من قوة وجلد ونشاط وهمة!!..ومهم من يعتقد – على العكس تماما –انه لا يملك من أمره شيئا، وانه مسمار في آلة ضخمة أو ترس فيها، أو مندفع في قطيع شرود، لا يملك أن يتوقف أو يسكن أو يهدا أو يلوي عن شيء!! ومنهم من لا يقبل هذا الرأي أو ذاك، بل يتصور أو يزعم أن القضاء الإلهي مبني على المعرفة السابقة عند اله بما سيفعله الإنسان، ومن ثم فقد وضع الله الحكم قبل الحيثيات والنتيجة قبل إبداء الأسباب. فهو أدنى إلى القضاء المكتشف منه إلى إي شيء آخر!!. ومنهم من يؤمن بان قضاء الله شامل عام كامل، متضمن الكل، للحكم والحيثيات، والنتيجة والأسباب معا، ولكنه في الواقع القضاء الدقيق الحكيم العادل السرمدي المتوازن السرمدي العجيب!!. وها نحن أولا سنعرض لهذه الآراء والأفكار جميعا، في لغة أدنى إلى التيسير والتبسيط لعلنا نخرج آخر الأمر بالأمر الأدق والأصح  عن قضاء الله!.

القضاء المعدوم

وهذا الرأي يوسع في مقدرة الإنسان وحريته وسلطانه ونشاطه، حتى لا يكاد يؤمن على الإطلاق بوجود شيء خارجي عن هذا الإنسان.

وقد اخذ به البعض من اللااداريين المفتونين. أو المغرورين من البشر، الذين يظنون أن في قدرتهم صنع ما يرغبون أو يشتهون دون أن يجدون من يقف في طريقهم، أو يحد من نشاطهم، أو يقول لهم ماذا تفعلون؟. ولقد قيل أن نابليون قال في زهو وغرور ذات مرة: "إني أفكر وأدبر!". فردت عليه إحدى السيدات: "كلا بل أنت تفكر والله الذي يدبر؟". ولكنه لم يكن يؤمن بهذا عللا الإطلاق إذ ألف أن يقول في لغة السخرية والتهكم : " أن الله مع الأقوياء".. أي إن الأمر كله يرجع لا إلى قوة في ذات الله تساعد أو تساند الإنسان في حياته أو كفاحه أو صراعه على هذه الأرض، بل يرجع أولا وأخيرا إلى مدى ما يتجهز به هذا الإنسان من قدرة وقوة وعتاد ولكنه لم يدرك انه: "لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود" (زك4 :6). حتى انتهى إلى سانت هيلانة حيث قضى الجبار أتعس أيامه وأقسى لياليه. اجل فالزعم بان الإنسان سيد ظروفه وأوضاعه، وان لقضاء أو قدر يمكن أن يغير أو يحد من أسلوبه، أمر تصرخ في وجهه وأمامه كل حقيقة معروفة للناس، على توالي العصور وامتداد الأجيال.. فالتاريخ يصرخ ضده!!. إذ من منا استطاع أن يحدد القرن الذي يولد فيه، وآلامه التي ينتسب إليها، والعائلة التي منها يجيء، والاسم الذي يحمله بين الناس، والشكل الذي يكون عليه، والنصيب من الغنى أو الفقر الذي يحيط به، واللغة التي يستطيع أن ينطق بها، وحظه من الذكورة أو الأنوثة وما للجنس من تأثيره في الحياة.

والمجتمع البشري لا يقره، إذ أن الفرد في تفاعل دائم مع المجمع تتلون حياته وظروفه وأساليبه وأوضاعه تبعا للمجتمع الذي يعيش فيه، فأعظم قائد عبقري لا يمكن أن يفعل شيئا لأمة بلا سلاح. وانبغ رجل اقتصادي لا يمكن أن يقيم من التراب دولة بلا مال، والمجموع كله في تراكض لا يستطيع فيه الإنسان مهما أوتي من الذكاء والفطنة أن يحدد موقفه من السباق، أو نصيبه من الفوز، بل أن التكامل البشري يحتم أن يوجد الإنسان في موضعه المحدد الذي لا يمكن تجاوزه، إذ لا يمكنه على سبيل المثال أن يكون القائد والجندي والمهندس والبناء والمحامي والحكم، أو ما أشبه حتى ولو رغب تمام الرغبة في ذلك. كل هذا والكثير من الأمثال أو الصور المنبثقة عن العقل البشري تدفع فكرة القضاء المعدوم، وتبين أن هناك أشياء خفية وظاهرة هي التي تحدد مجرى الإنسان، وسبيل التاريخ، إلى جانب حرية البشر وإرادتهم ونشاطهم وقوتهم مهما اتسع مجال هذه جميعا.

القضاء الجهلي

وهو قضاء يأخذ بالنظرية المضادة، وقد قال به في مبدأ الأمر بعض الوثنيين  الأقدمين ممن كانوا يؤمنون بمبدأ القدر المطلق الكامل، على اعتبار أن كل الأمور مؤكدة الحدوث، لان النواميس لا تتغير،بل تجري مجراها دون تمييز عقلي، وبقوة لا تقاوم وبدون النظر إلى النتائج، وإنها مستقلة عن إرادة الخالق أو المخلوق، إذ ليس فيها مدخل للغايات والمقاصد العقلية، ولا محل للاختيار أو استعمال الوسائط إذ كل الحوادث تجري بالقدر أو القضاء الجهلي. ومن المؤسف أن هذا الرأي قد عرف طريقه بين الحين والأخر إلى بعض كتابات من لا يؤمنون بوجود الله، أو من اللااداريين، أو من استوت عليهم نزعة يائسة متشائمة من الحياة، من الكتاب أو الروائيين، المحدثين، ممن صورا الحياة من منظار رهيب اسود، ولعل البعض منهم لم يكن يعبر بالضرورة عن حقيقة معقدة فيما كتب أو روى من أقاصيص  وخيالات، كمثل ما قال زولا الفرنسي في إحدى رواياته "الوحش البشري" والتي فيها يصور سبعة من القاتلين يقتلون بالضرورة،لأنهم لا يملكون إلا أن يقتلوا في مثل ظروفهم، ثم يختم قصته بتصوير الحياة البشرية، في صورة قطار مندفع في أعماق الليل مزدحم بالجنود،وفقد قتل سائقه، والقطار هو العالم، والاندفاع هو الحظ، والجنود هم البشر، والليل هو الموت، والسائق الميت هو القضاء الأبدي المحتوم غير المتغير. أو كمثل ما ذكر لويس كوباريس الروائي الهولندي في روايته "القضاء والقدر" والتي فيها يصور أربعة من الناس وقد ربطوا بعضهم إلى بعض في قيد رهيب لا يمكن أن يحل أو يفك!. وواحد منهم قد سقط منهكا متداعيا فوق كرسيه وهو يتلوى من الألم والعذاب والعار الذي لحق به، وقد انهمرت الدموع من عينيه لتغمر وجهه  ووجنتيه،وقد انتصب أمامه عار الشبح الماثل، وإذ أحدق في عينيه الخائفتين – أي عيني الشبح – لم يرى ما يستدعي الندم أو اللوم لأنه مثل ما صنع الحظ أو القسمة له، فهو نذل، ولكن ليس من ذلك بد، والناس يدعونه جبانا، ولكن الجبن ليس عنده أكثر من لفظ.. إذ ما هو الجبن أو الشجاعة أو البساطة  أو الصلاح أو النبل؟. أنها ألفاظ تقليدية أو معان مصطلح عليها، ولكن العالم كله ليس إلا اصطلاحا أو خيالا أو ظنا أو وهما يراود الذهن.. ولا شيء حقيقي على الإطلاق لا شيء.." أو ما جاء في إحدى روايات ابسن والتي أطلق عليها "الأرواح" وهو يصور الحياة البشرية، ويصور كل لاعب فيها، وكأنما تتملكه الأرواح القديمة التي تنظر من خلال عينه، أو تتكلم من خلال لسانه،أو تعمل من خلال أفعاله، وأصداء العواطف المستهلكة، وأشلاء وضحايا الخطايا المرتكبة، واثمال وبقايا الماضي  ليست إلا النسيج التي يتكون منه الحياة، كقطعة بالية رثة من القماش في طاحونة الإحداث والحوادث العظيمة، المقامة على شاطئ نهر الزمن، والتي تحول وتكيف الحياة القذرة للرجال والنساء.

هل يمكن أن يكون الإنسان بهذه الصورة التي رسمها القضاء الجهلي؟. أن هذا القضاء يصور الإنسان كما لو كان مجرد آلة ميكانيكية يسير بالقوة الضاغطة عليه ويتحرك كما يتحرك بندول الساعة من دون ما إرادة أو سلطان!؟ أو يقربه من الوجهة التشريحية للحيوان أو النبات من دون ما حرية أو إدراك أو مسئولية!. ولكن هل الإنسان هكذا!؟. من حسن الحظ أن هؤلاء جميعا وان كانوا قد بلغوا بالإنسان هذا المنحدر التعس المشئوم من التفكير، إلا إن واحد منهم لم يجرؤ على القول بان الإنسان لا يمكن أن يزيد عن كونه آلة ميكانيكية، إذ أنهم لا يزالون يفرقون مع ت.ه. هكسلي بين القوة والمادة والشعور في الحياة البشرية، كما إن جميع الاتجاهات الحديثة تقف بالمرصاد لكل محاولة تحاول تصوير الإنسان هذا التصوير الآلي الميكانيكي المادي.. فالفلاسفة المحدثون وعلى رأسهم برجسون قد هدموا هذا الفكر وأصابوه بجرح بالغ، كما إن العلماء المبرزين قد شهدوا بالتفرقة الحاسمة بين المادة والحياة، وفي ذلك يقول لورد كالفن العالم الكبير: "إن اثر الحياة الحيوانية والنباتية على المادة ما يزال إلى اليوم خارج نطاق أي بحث علمي، فقوة الحياة في توجيه الحركات في أعضائنا المتحركة،والتي تسجل المعجزة الظاهرة اليومية في إرادتنا البشرية الحرة، وفي النمو من جيل إلى جيل  في النبات المنبثق عن بذرة واحدة، تختلف اختلافا بينا عن أي نتيجة محتملة للاتفاق العرضي للذرات.. وفي الواقع إن الظاهرة الحقيقية للحياة تتجاوز تماما أي علم بشري ".. فإذا تحولنا إلى رجال النفس أو الاجتماع رأينا إن أشدهم تعصبا لفكرة الوراثة أو البيئة لا يمكن أن يسلب الإنسان حريته أو إرادته.. ومن منهم جرؤ على أن ينفي عن الإنسان المسئولية أو التبعية أو الواجب أو الالتزام وان يعطل له الإجرام أو الشر أو الرزيلة أو الانحراف أو الفساد أو ما أشبه من العيوب أو الآثام على اعتبار إنها ضرورة لا مفر منها، أو لا عقاب عليها!!؟. إن القضاء الجهلي نشا في الواقع عن الآخذين به من ذلك اليأس الذي يدهمهم ويروعهم، وهم يرون الأوضاع المتعددة المقلوبة بين الناس حتى أنهم ليسلمون بما اصطلح على تسميته "بالصدفة" أو "القضاء العارض"  أو "الحظ الأعمى" وما أشبه من ألفاظ، التي إن دلت على شيء فإنما لتؤكد وتدل على إن العيب فيهم هم، لا في الحظ المسكين، إذ إن رؤاهم مهما توهمت إنها تبصر أو تدرك اعجز من أن تتبع جميع السلبيات أو العلل الرئيسية أو الثانوية.. وما الصدفة أو القضاء العارض، عند من يتصور أو يسلم به إلا أشبه بالكلمة التي لا معنى لها قبل أن توجد في جملة، أو السطر قبل أن يقرا في صفحة، أو الصفحة قبل أن تنضم إلى كتاب.. ومن المسلم به على أي حال إن القضاء الجهلي لم يعد لم يعد في المعنى المذكور مقبولا من العلم أو الفلسفة أو الاجتماع أو التاريخ أو المنطق أو الدين، إذ هو قضاء متشائم بالضرورة، ومضيع للنشاط الإنساني المدفوع بنوازع التقدم والطموح والاستعلاء والتسامي، والدافع للإخطار والماسي والمكارة والآلام.. بل هو القضاء الذي ينهي ويبدد كل إحساس أو دافع أو وازع أو حافز بالامتياز أو المسئولية بين الناس، مما لا يمكن أن يعقله عاقل أو يقبله شعور أو يرتضيه ضمير!!

قضاء العلم السابق

ويقوم هذا القضاء على الآخذين به على أساس العلم السابق أولا وأخيرا عند الله.. إذ قضاء الله في الاختيار أو الترك مؤسس على علمه السابق بأخلاق البشر، فالذين راوبسابق علمه أنهم يحفظون وصايا عينهم للخلاص والحياة الأبدية، وإما الآخرون الباقون فاللدينونة والعقاب الأبدي.. ولعل بيلاجيوس الراهب البريطاني كان في مقدمة الآخذين به في مطلع القرن الخامس الميلادي والذي انشأ المذهب اللاهوتي المعروف بالبيلاجي عام 400م، وتابعه في الأمر في القرن السابع عشر يعقوب ارمنيوس مبدع النظام الأرميني عندما كان أستاذا بجامعة ليون بهولندا عام 1602م.. وقد قام المعتقد الأرميني كالمعتقد البلاجي على إن القضاء الإلهي لا يمكن أن يكون قضاء مطلقا غير مشروط أو محدود، إذ هو مهما طال أو امتد لا يمكن أن يمتد إلى كل ما يتعلق بإرادة الإنسان الحرة، وان اختيار الله للبشر للخلاص، للاختيار الأزلي، اختيار محدود غير مطلق يتوقف أولا وأخيرا على المعرفة السابقة لله بما للمؤمن من إيمان وطاعة.. أو في لغة أخرى إن قضاء العلم السابق هو قضاء اكتشافي تسجيلي لا يعدو أن يقوم العمل الإلهي فيه بأكثر من الاكتشاف والتسجيل، فانه إذ اكتشف إن بعض الناس سيطيعونه ويحبونه ويخلصون له في الحياة، سجل أسمائهم من قبل في سفر الحياة الأبدي..والعكس صحيح بالنسبة لمالمحزن. إذ تركهم للمصير التعس الأبدي المحزن.. وقد رفض اغسطينوس من قبل، وكلفن من بعد، مثل هذه الآراء وهاجمها في أكثر من موضع أو ومظهر.. ولعله من المناسب قبل الحكم على الرأي البيلاجي أو الأرميني أو الحكم له أن نعلم بادئ ذي بدء لماذا امن بيلاجيوس وارمنيوس به واعتنقاه؟..

اغلب الظن أنهما آمنا وارتضياه مدفوعين نتصورهما للعدالة الإلهية من جهة والإرادة البشرية من الجهة الأخرى.. أو على الأقل إن هذا السبب المزدوج هو الداعي أو الدافع لبعض المذاهب المسيحية الحديثة التي ترفض أصلا فكرة الاختيار وتؤمن بالإطلاق الذي تركه الله للإنسان إن يقبل أو يرفض، أو يؤمن أو يرتد، من دون ما تدخل أو تعيين سابق الهي محتوم.. ومع إن هذا الرأي القائل بالقضاء على أساس العلم السابق يبدو للنظرة الأولى إن الفكر المتعجل الرأي الأدنى إلى الصحة والأقرب إلى المعقول، إلا إن الإمعان في التفكير فيه حكم عليه بالنقض والقصور وعدم السداد مما سنتنبه وشيكا عند مناقشة النظرية الأخيرة الأصح فيما نعتقد عن القضاء الإلهي.. غير إننا نسارع فنقول ههنا إن هذا الرأي لا يمكن إن يكون صحيحا أو منطقيا للأسباب الآتية :

1-   إن القضاء المقيد أو المحدود يتنافى مع سلطان الله وإرادته الكاملة وتدخله التام في أعمال خليقته، إذ هو الخالق والمحيي والحارس والمنبه والمعين والدافع، مما يشمل قصة القضاء من أولها إلى أخرها. فإذا قيل بان القضاء الإلهي لا يمتد إلى الإرادة البشرية أو يقصر دونها، كان هذا في المعنى الدقيق بمثابة التجزئة له، وان الله يعمل بعضه ثم يترك الباقي الأخر لمحض اختيار الإنسان وإرادته ومسئوليته. كما إن الحقيقة الواقعة هي إن هناك اختيارا أو تعيينا إلهيا أكيدا لا شبهة فيه، ولا نعلم كيف ينكره أو يرفضه أولئك الذين ينادونا أو يتصورون إن لا اختيار هناك!!؟

وكيف يمكن إن نفسر عندهم هذه الآيات الواضحة من كتاب الله: " وآمن جميع الناس الذين كانوا معيين للحياة الأبدية" (اع13: 48) " فالبسوا كمختاري الله القديسين" (كو3: 12) " إن الله اختاركم من البدء للخلاص" (2تس2: 13) " لأجل ذلك أنا اصبر على كل شيء لأجل المختارين" (2تي 2: 10) " بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، إلى... الْمُخْتَارِينَ 2 بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ ألآب السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لِتُكْثَرْ لَكُمُ النِّعْمَةُ وَالسَّلاَمُ.(1بط1: 1و 2).

2-   إن القضاء المؤسس على علم الله السابق عند الآخذين به، وان كان قد ادخل في الاعتبار عدالة الله، إلا إن هذا الاعتبار لم ينسه أيضا الرافضون لفكرته. وكل الفرق بين الاثنين إن العدالة كانت عند الفريق الأول هي الباعث الرئيسي والأساسي والظاهر للفكرة، واحد من بين الكثير أو العديد من البواعث الأساسية عند الله.. أو في لغة أخرى إن هذا القضاء إذا كان منبعثا من صفة العدالة عند الله- في رأي الفريق الأول- فانه في رأي الآخرين منبعث، لا عن هذه الصفة وحدها فحسب، بل عن سائر الصفات الأخرى المتعددة في الله، كالوجود والإحساس والمسرة والمحبة والرحمة والحكمة والسلطان والقدرة والقوة مجتمعة معا.

3-   إن الآخذين بفكرة هذا القضاء يعتقدون إن الإرادة البشرية في قدرتها إن تلعب دورا رئيسيا ينكره عليها الرافضون له.. فإذا فصلنا الإجمال قلنا أن بيلاجيوس كان يعتقد إن الإنسان ذو إرادة مطلقة، بمعنى انه يقدر من تلقاء نفسه أن يريد أو يعمل الخير أو الشر، فصلاح الإنسان وشره باعتبار طبيعته وأفعاله يتوقفان عليه مطلقا من غير ما تأثير أو فعل خارجي!! ولم يؤمن ارمنيوس بهذا الإطلاق عند الفكر البييلاجي، فقال إن الإنسان ليس لديه القدرة على إنشاء الصالح أو عمله بمجرد قوته ودون مساعدة النعمة الإلهية. ولكن هذه النعمة لا تزيد عن كونها حثا أدبيا يشجعه على الأفضل أو الأصلح، فإرادة الإنسان أولا وأخيرا هي الفيصل في كل الأمور، فبهذه الإرادة يمكنه العمل مع النعمة أو رفضها.. وما يصنع منه القديس أو الخاطئ هو حسن أو سوء استعمال النعمة الإلهية.. إما اوغسطينوس فقد أنكر على الإرادة إي مقدرة على الإطلاق.. ونعى عليها العجز الكلي عن عمل إي إصلاح، وقد شايعه في ذلك كالفن، بل بين الاثنان إن الإنسان بسبب السقوط ميال ونزاع  على الدوام لكل شر أو إثم وخطية وتمرد، فمن العبث أن يقال بعد ذلك انه يستطيع مجردا من النعمة الإلهية، أو بمجرد حث النعمة الأدبي له، ومثالها المشجع أمام عينيه، أن يقوم بأي خير أو صلاح، ما لم تعمل هذه النعمة فيه عملا أعمق واجل واقوي واقدر،، أو في لغة أخرى ما لم تقم بعمل سري فعال مغير، يلده من جديد وبنقله من الموت إلى الحياة، ومن السكون إلى الحركة، ومن السلبية إلى الايجابية، ويرجعه من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى سلطان الله.. أن الإنسان بدون النعمة هو الإنسان الصارخ : "وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ. 15لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ إذ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.... 18فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ أَيْ فِي جَسَدِي شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. 19لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ.(رو7: 14 و 18 -19). إما الإنسان في النعمة فهو القائل: " 10وَلَكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا أَنَا وَنِعْمَتُهُ الْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلَكِنْ لاَ أَنَا بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي.(1كو15 :10) "استطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني " (في4: 12). فإذا كان هذا الفكر الأخير، كما هو ظاهر، هو الرأي الكتابي، كان القول بان القضاء على أساس العلم السابق المجرد بما يفعله الإنسان غير صحيح أو سديد، يوضع في الجزء موضع الكل، ويعتبر فيه الترس في الساعة كأنه الساعة كلها، أو المسمار في الآلة كأنه الآلة نفسها، بل تحمل فيه الإرادة البشرية أكثر مما يستطيع أو تقدر أو تحتمل.. ولهذا فانه من الواجب أن نستدرك ههنا فنقول أن ما أشار إليه الرسول بطرس في القول : " بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ ألآب السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1بط1: 2). لا يمكن أن يتخذ حجة لتأييد القضاء بالعلم السابق، بل لعلة إثبات وتأييد لما اشرنا إليه من عمل النعمة الإلهية الكاملة في هذا القضاء،إذ يتحدث عن اشتراك الاقانيم الثلاثة في عملية الاختيار نفسها، إذ أن هذا الاختيار يتم بترتيب الأب وفداء الابن وتقديس الروح القدس، مما سنعرض له بإفاضة أوفر فيما بعد، فالعلم المذكور ههنا – دفعا لأي شبهة أو مجادلة في الموضوع – جزء من كل، وحلقة من الحلقات المتتابعة  المتراصة المتماسكة في الترتيب كله.. ولهذا فنحن نرفض أن يكون القضاء الإلهي مبنيا على أساس العلم السابق  بالأعمال الصالحة للمؤمنين، نرفضه لقصوره وجزئيته وضعفه عن مواجهة الأسئلة أو الثغرات التي  يمكن أن تفتح في هيكل هذه لعقيدة وبنائها الشامخ العظيم المتناسق الرائع المجيد!!

القضاء الحكيم

وهذا القضاء يتفادى ولا شك كل العيوب والثغرات التي وجدت في النظريات السابقة بل يقوم كالبناء المتراص المترابط الأجزاء والكاشف عن حكمة الله المطلقة الأولية المنظمة الدقيقة المسرة الجوادة المتوازنة العادلة.. وسنقف قليلا من كل عنصر من عناصر هذا القضاء الإلهي الحكيم فيما يلي:

1- القضاء المطلق

وما من شك بان هذا القضاء مطلق غير مقيد في شيء وهذا ما تقتضيه أولا طبيعة الله وسيادته وسلطانه، إذ أن الله كما هو بديهي عاقل، لا يفتقر إلى شريك أو مشير، وهو متعقل في التفكير والتدبير، ومقاصده اعلي وأعظم من كل فكر أو إدراك، وقدرته من غي قيود أو حدود، إذ : "19ليْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَل يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أو يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟ (عدد23: 19). "كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ فِي الْبِحَارِ وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ.(مز125: 6). "هوذا الله يتعالىبقدرته.من مثله معلما من فرض عليه طريقه أو من يقول له قد فعلت شرا؟" (اي26: 22 و 23) "13مَنْ قَاسَ رُوحَ الرَّبِّ وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟ 14مَنِ اسْتَشَارَهُ فَأَفْهَمَهُ وَعَلَّمَهُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ وَعَلَّمَهُ مَعْرِفَةً وَعَرَّفَهُ سَبِيلَ الْفَهْمِ.؟ (اش40: 13، 14) " 35وَحُسِبَتْ جَمِيعُ سُكَّانِ الأَرْضِ كَلاَ شَيْءَ وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أو يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟ (دا4: 35) " لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ أو مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟..6لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إلى الأَبَدِ. آمِينَ. (رو11: 34، 36) "...فإذا صح أن البستاني في الحديقة ينسقها وفقا للفكر الذي يتمشى  في ذهنه.. وإذا صح أن المهندس يقيم البناء وفقا للرسم الذي ابتدعه من مخيلته.. وإذا صح أن رب البيت يرتب الأوضاع في بيته وفقا للاسلةب الذي يريده دون معقب.. وإذا صح أن القائد ينظم وينسق ويدفع حركات الجيش الذي يتولى قيادته من دون ما تدخل أو اعتراض من غير.. فان اله – جل جلاله – لا يمكن أن يكون اقل من هؤلاء انفرادا أو تسلطا أو إحكاما أو تدبيرا، لهذا الكون الذي خلقه في المجموع أو التفصيل.. إذ ما القضاء الإلهي في حقيقته إلا الأخذ بيد الإنسان، لا من المهد إلى اللحد       فيقولون، بل من قبل المهد إلى ما وراء اللحد، أي من الترتيب الأزلي إلى المجد البدي،  أو كما جاءت إشارات متعددة في الكتاب إلى ذلك إذ قال المسيح نفسه  : " إذ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ.(يو17: 2) وقيل " أعطى الله الأمم أيضا التوبة والحياة (اع11: 18)  " أن الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق "(2تس2: 13) " 15وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ." (رؤ20: 15)  "27وَلَنْ يَدْخُلَهَا شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً، إِلَّا الْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْحَمَلِ.(رؤ21: 27).. وفي الواقع أن القضاء من الآلف إلى الياء ومن جملة التفصيل لابد يخضع ويتمشى مع سلطان الله المطلق الكامل غير المقيد أو المحدود..

2- القضاء الأزلي:

وهذا القضاء كما يتبين من لغة الكتاب ليس فكرا طارئا أو أمرا حدث أمام الله، بل هو من البدء الأزلي عند الله، إذ: "معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله" (أع15: 18) "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت25: 34) "الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا" (1كو2: 7) "كما اختارنا فيه- أي في المسيح- قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" (أف1: 4) "حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا" (أف1: 11) "عني رجاء الحياة الأبدية التي وعد بها الله المنزه عن الكذب قبل الأزمنة الأزلية" (تي1: 2) ولعل هذه كلها وغيرها من الآيات المماثلة الكثيرة تفصح عن ذلك القصد الأزلي العميق الكائن من قلب الله، بل هو القضاء الذي تتجمع فيه البشرية بأكملها، ويرتكز فيه التاريخ، وتتجه إليه، وتصب فيه، جميع المتعلقات المتصلة بسير الموكب البشري في كل العصور والأجيال: "حسب قصد الدهور".. وهو السابق لكل حركة أو نأمة في العالم، إذ فيه الملكوت المعد لأبناء الله والمؤمنين: "منذ تأسيس العالم" وهو الموغل في القدم والمكتوم والمعين والموعود به قبل الدهور والأزمنة الأزلية!!.. وهل يمكن بعد ذلك أن يقال أن قضاء الله المقصود والموعود به المعين من قبل الأزل هو قضاء مسبوق بالعلم أو المعرفة بما سيفعله البشر من خير أو شر..؟ كلا بل هذا في الواقع ما يعبر عنه رجال القانون بالمصادرة على المطلوب.. أو قلب الأوضاع.. أو عكس الترتيب.. أو ما أشبه من ألفاظ.. وحاشا أن يكون قضاء بهذا المعنى، إذ ليس يسبقه عند الله أية سوابق أو بوادر أو نية أفعال تصدر من البشر أو تتحرك فيهم على الإطلاق..

3- القضاء المرتب:

وهذا القضاء الأزلي لا يمكن إلا أن يكون قضاء مرتبا منسقا منظما عند الله، إذ ليس من المعقول بداهة أن الله يقصد أمرا ويحتم أمرا به ويعينه دون أن ينظم وينسق ويرتب كافة أوضاعه وتفاصيله بكلياته وجزئياته.. ولقد تبين فيما أوردناه  وأشرنا إليه من آيات مختلفة أن القضاء بدا أولا سرا إلهيا مكتوما أزليا من قبل الدهور لا يعلمه ملاك أو يدريه مخلوق، إذ هو كائن في قلب الله قبل أن توجد أية مخلوقات على الإطلاق أو لغة أخرى هو القضاء حسب القصد.. على أن الأمر إذ يتعدى القصد إلى الإنجاز أو التنفيذ، يتحول الأمر من القضاء المرسوم إلى القضاء الفعال.. إذ حاشا لله أن يقصد أمرا ثم يتراجع أو يندم أو يقصر أو يعجز عن تنفيذه، ومحطات الزمن تشهد وتؤكد أن القضاء المرسوم يتحول إلى القضاء الناجز أو القضاء الفعال، في الوقت المعين في القصد الأزلي. ومن المحال أن يترك في هذا القضاء شيء واحد مهما دق شأنه أو صغر أمره للصدفة والعارض.. ويكفي أن نذكر على سبيل القياس أو المثال، لا أمر الصليب كتدبير أزلي، فهذا الأمر هو مركز قضاء الله وجوهره، بل أن نذكر بعض الدقائق والجزئيات في قصة الصليب نفسها، لنعلم أن أبسط الأمور لم تترك غفلا من أ/ر الله وقضائه المحتوم، قبل نيف وألف عام من الصليب تنبأ داود ببعض ما سيحدث أو يتم فذكر من بين ما ذكره واقعتين جزئيتين، إحداهما عن لباس المسيح، والأخرى عن شرابه. أما الواقعة الأولى فهي: "يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز22: 18) والثانية: "وفي عطشي يسقونني خلا" (مز69: 21) وقد تمثلت الواقعتان يوم الصليب كما هو مكتوب: "ثم أ، العسكر إذ كانوا قد صلبوا يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام لكل عسكري قسما وأخذوا القميص أيضا. وكان القميص بغير خياطة منسوجا كله من فوق، فقال بعضهم لبعض:لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون. ليتم الكتاب القائل اقتسموا على ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة. هذا فعله العسكر" "بعد هذا رأى يسوع أم كل شيء قد كمل فلكي يتم الكتاب قال: أنا عطشان. وكان إناء موضوعا مملوءا خلا. فملئوا اسفنجة من الخل ووضعوها على زوقا وقدموها إلى فمه، فلما أخذ يسوع الخل قال قد أكمل" (يو19: 23، 24، 28-30) ولعله لا يمكن أن يوجد في الوجود كله دقة بعد هذه الدقة، وإحكام بعد هذه الإحكام في ترتيب القضاء الإلهي، إذ أن قميصا يمزق أو لا يمزق يخضع للمكتوب أكثر من ألف من الأعوام، وكذلك جرعة من الخل، وليست من الماء تعطى للمصلوب،إتماما للنبوءة القديمة الإلهية المحتومة.. فإذا أضيف إلى هذا كله أن سفر الرؤية لا يترك للبشرية حتى ينتهي به المطاف الأخير إلى الأرض الجديدة والسماء الجديدة، إلى حضرة الله بعد أن يكون كل شيء قد تم وفقا للترتيب الدقيق الإلهي العظيم للبشر جميعا.. إذا أدركنا كل هذا عرفنا أننا إزاء قضاء مرتب منسق عظيم..

4- قضاء المسرة الإلهية 

وهذه هي هدف هذا القضاء وغايته الأولى والأخيرة. وفي الواقع أن هذا القضاء المطلق، الأزلي، المرتب، لابد أن يكون قضاء ذا غاية أو هدف جدير بما له من الترتيب أو التنظيم أو الإحكام الإلهي.. وقد أفصح الكتاب عن الغابة الإلهية بأقوال متعددة منها : " أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هَذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. 26نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هَكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ." (مت11: 25، 26) "لا تخف أيها القطيع الصغير لان أباكم  قد سر أن يعطيكم الملكوت" (لو12: 52) "5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، 6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ" (اف1: 5،6). وهذه المسرة أن تحدثت عن شيء، فهي لا تتحدث عن استقلال القضاء الإلهي وبعده عن كل مؤثر أو حافز أو دافع خارج عن شخص الله فحسب إذ انه قد صنع الكل حسب مسرته الشخصية، ولكنها تتحدث أيضا عن نبل هذا القضاء وعظمته ومجده وجلاله.. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، ومسرة الله على الدوام خالية من كل أنانية أو أثرة أو إسفاف أو ضعف أو قصور أو ما أشبه من تلك العواطف التي يمكن أن تلوث أو تقلل أو تظلل حتى أجمل المسرات عند الناس..؟ أن مسرة الله في الواقع كلمة النقاوةوالاستقامة والجمال والإجلال والنور، كذا شخص الله الكامل المستقيم العظيم والجميل والذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران.. بل إن هذه المسرة وحدها هي التي تضع البشر موضع الخضوع والتسليم لقضاء الله عندما يبدو من المتعذر في بعض الأحايين فهم الكثير من الإلغاز والخفيات التي قد تخف أو ترتبط به، إذ ليس يجمل بالإنسان في مثل هذه الأوقات إلا أن يهتف : لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.. لتكن لا إرادتي بل إرادتك...

5- القضاء الجواد

 وظاهرة الجود في هذا القضاء أوضح من أن تذكر، إذ هو جود الاختيار وجود الفداء، وجود الإتمام، والتقديس والتكريس. ومرة أخرى نكرر ونقول أن الكتاب المقدس يؤكد بما لا يدع مجال للشك أو الريب، أن هناك اختيارا أكيدا ثابتا علويالكل مؤمن ومخلص، وان هذا الاختيار لا يرجع لشيء فينا على الإطلاق بل يرجع في كل شيء إلى شخص الله، كيف لا والرسول يقول: "26فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءُ حَسَبَ الْجَسَدِ. لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءُ. لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءُ. 27بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ 28وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ 29لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ. 30وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. 31حَتَّى كم هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ».(1كو1: 26-31) فإذا قيل بعد ذلك أن هذا الاختيار يرجع إلى شيء في الإنسان أو استعداد فيه أو عمل منه، لما كان ثمة تأكيد من أن يتحدث الوحي هنا عن أن الاختيار الإلهي لفظ كل أسباب الاختيار المصطلح عليه عند الناس، واختار على النقيض من ذلك أولئك الذين لم يكن يظن احد على الإطلاق أنهم موضوع الاختيار أو التمييز أو التفضيل.. إذ اختار الجهال والضعفاء والأدنياء والمزدرى وغير الموجود، أو في لغة أخرى أن العلم السابق عند الله بالنسبة لهؤلاء المختارين لم يكن في صالحهم على الإطلاق، بل على العكس من ذلك كان ضدهم، ومع ذلك فقد اختارهم الله حتى لا يكون لواحد منهم أدنى الحق في الاعتداد بشخصه أو ذكاءه أو أصالته أو أخلاقه أو مجهوده أو أعماله.. وإلا فهل تستطيع أن تعلل لي لماذا حرص الكتاب وهو يتحدث عن سلسة انساب المسيح أن يذكرنا برحاب الزانية وراعوث الموآبية وبثشبع التي لاوريا..؟ ولماذا حرص الرسول وهو بصدد يعقوب وعيسو على أن ينبر عن أن الاختيار حدث قبل أن يولدا أو يعرفا في حياتهما الخير والشر..؟ ولماذا سجل التاريخ، ويسجل كل يزم، صيحات تشبه صيحة ذلك الإنسان الذي إذ سئل عما فعل مع الله من اجل اختياره أجاب: "لقد فعلت كل ما هو سلبي وضد الله.. ومع ذلك فان أعجب ما في الوجود هذا هو الشيء الواحد.. لماذا اختارني الله واتي بي إلى ذاته وشخصه وملكوته الأبدي العتيد أن يكون؟".. أليس هذا عين ما قاله الرسول: " 9الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّة. (1تي1: 9).. بل لماذا يكون الموت هو المظروف الأسود، والذي يغلف جود الله في قصة  الملايين من الأطفال الذين يموتون كل عام، والذين قطع الله عليهم الإرادة البشرية التي كان من الممكن جدا أن توردهم مورد الهلاك الأبدي فيما لو عاشوا وضلت نفوسهم وحياتهم بين الناس.؟ ولعله من اللازم ما دمنا بهذا الصدد أن نشير مرة أخرى إلى أن الحجة التي يتصورها البعض مؤيدة للاختيار على أساس العلم السابق  تأتي في نظرهم من موضعين في كتاب الله أولهما قول الرسول بولس: " لان الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم(رو8: 29)" والثانية المشار إليها آنفا في قول الرسول بطرس: "المختارين بمقتضى علم الله السابق" (1بط1: 2).. ولكن من المسلم به أن المعرفة أو العلم المشار إليه ههنا لا يقصد به سوى الترتيب أو التنظيم، باعتبار أن العملية كلها منظمة ومرتبة من عند الله، فادم كلارك وهو كما نعرف لا يسلم بالاختيار غير المشروط،ويعترف بان المقصود بالتعبير" سبق فعرقهم أي سبق " فدبر ونظم.. ومثل هذا يمكن أن يقال أيضا عن المقصود في "علم الله السابق" إذ أن كلمة "علم" ترادف في الأصل الغوي كلمة المشورة أو التدبير أو التنظيم، وقد جاء في العهد الجديد كله مرتين، هنا، وفي سفر الأعمال حيث قيل عن ترتيب الفداء الإلهي في الصلب: "23هَذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ وَبِأَيْدِي آثمة صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ (اع2: 23)...هذا هو الجزء الأول في تدبير الخلاص وترتيبه، أو في لغة أخرى هي القضاء المتسم بالإحسان والكرم والجود في التدبير الإلهي العظيم.. على أن الأمر لا يقتصر على مجرد تدبير أو تنظيم يقف فيه الله مجرد موقف المراقب أو المشجع أو المنسق أو المنظم، بل يمتد الأمر إلى ما هو أعظم واجل وابهر، إلى البذل.. أو قضاء الفداء كما يقولون الله.ا هو جوهر أو مركز قضاء الله... وان ذبيحة الفداء ليست امرأ حادثا أو طارئا تم يوم الصلب، بل هو التدبير الأزلي المعروف سابقا قبل تأسيس العالم.. ويكفي أن نرى وجود الله ومحبته العجيبة والعظيمة المعروفة في الصلب، حتى نعلم كما يتسم هذا القضاء بالوجود...وليت الأمر وقف عند هذا الحد ولكنه امتد إلى ما هو أكثر أو أعظم، إذ امتد إلى ما يسميه رجال اللاهوت بالقضاء الفاعل، إذ أن الصليب لا يمكن أن يجدي أو يفعل مفعوله المنتج والقوي والعظيم إلا إذا قبله الإنسان  وامن به وانجذب إليه. وهذه الجاذبية لا يمكن أن تتم دون فعل الروح القدس في النفس، فالروح القدس هو الذي يكشف عن جمال الصليب ويقنع به، حتى يطيع الإنسان ويصدق وكما قيل.. " بتقديس الروح وتصديق الحق" (2تس2: 13) "في تقديس الروح والطاعة (1بط1 :2) وهكذا يتضح من قضاء الله من أوله لأخره معين ومرتب ومدبر من الله، والله وحده، قبل أن يعرف الإنسان كيف يفكر أو يقبل أو يريد أو ينتصر!!

6- القضاء المتوازن

 على أن هذا القضاء، بالإضافة إلى هذا كله، قضاء متوازن، يوازي في الدقة الرائعة وفي المنطق السديد، وببلاغة الإعجاز، بين إرادة الله وحرية الإنسان وليس يقدر على هذا سواء اله وحده، بل هذه هي المعجزة التي تحدث وتتكرر في حياة جميع الناس الموجودين على ظهر الأرض كل يوم.. وفي الواقع أن هذا القضاء لا يمكن إلا أن يسير على ساقين، هما إرادة الله وحرية الإنسان، كما ر يمكن أن يعمل إلا بيدين هما الأمر الإلهي، ويد التنفيذ البشري..فإذا ما قيل بغير ذلك فان هذا القضاء لا يمكن أن يكون إلا قضاء اعوج أو اقطع. وفي الواقع انك لا يمكن أن تفصل حرية الإنسان عن إرادة الله دون أن تمزق أو تحطم أو تجزأ أو تقضي الفضاء النهائي المبرم على فكرة القضاء الحكيم المقدس المبارك وفي الوقت عينه نحن نسال لماذا يستصعب الناس أن يسيروا الأمران معا دون تناقض أو تعارض أو انفصال مع أن واقع الحياة يشهد كل يوم على سيرهم معا فانا في حياتي، شخص حي حر مسئول، افعل هذا وامنع عن ذاك واقبل أو ارفض أو ارضي أو اسخط دون أن يصادر احد هذه الحرية التي لي على الإطلاق.. ومع ذلك فها أنا حر حقا.؟ كلا بل أنا في الواقع خاضع ادري أو لا ادري، كما سبق الإشارة – في نقض القضاء المعدوم إلى عوامل اعلي وارفع واقوي وارهب مني.. فإذا صح ما صوره البعض من إرادة الله وإرادة الإنسان أشبه بدائرتين احدهما صغيرة والأخرى كبرى، إما الصغيرة فهي الدائرة البشرية الموضوعة في نطاق وداخل الدائمة الكبرى، مهما افعل أو مهما اتسع أو مهما أضيق أو مهما أتخبط فدائرتي الصغيرة المحدودة تدخل وتسير في داخل الدائمة الإلهية وصورها آخرون في صورة " ترس" من ترس العجلات أو الساعات يتعانق أو يتشابك مع ترس آخر، كلاهما يسير ويندفع، فيدفعه بهذا الاندفاع المتشابك العجلة أو الآلة جميعا.. فأيهما يسير و أيهما لا يسير؟  وما من شك بان كليهما يسيرويندفع ويتفاعل مع الترس الأخر، وتسير وتندفع العجلة أو الآلة كلها.. وللوضوح الأكبر يمكن أن نذكر أو نشير إلى مثل آخر.. هب أن أبا رأى ابنه الصغير يقترب من النار الملتهبة وهو راغب ومصر على أن يمسك بالنار، والأب يريد أن يبتعد الابن عن ذلك.. فانه يستطيع أن يفعل ذلك بإحدى وسيلتين، إما أن يعدم الإرادة ذاتها في الابن إعداما كليا، بان يربط أو يمسك أو يشل جميع قواه البدنية، مبعدا إياه عن النار، وهما لم تعمل سوى إرادة واحدة، إما الأخرى فقد عطلت أو اعدم عملها على الإطلاق، إما الأسلوب الأخير فتتم بان تدخل الإرادة الصغرى تحت سيطرة واستعلاء الإرادة الكبرى دون أن تفقد حريتها ومسئوليتها، كأن يقدم الأب لابنه الذي يحب التفاح مثلا تفاحه يعلم إنها ستحوله عن النار، وهذا ما يصنعه الله على الدوام مع الإنسان.. وهذا هو الإعجاز في الاحتفاظ بين الإرادة الإلهية وإرادة الإنسان، ولعله هذا كله يتضح من القول: " تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، 13لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ.(في2: 12، 13) وقول الرسول بطرس: "10لِذَلِكَ بِالأَكْثَرِ اجْتَهِدُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَاخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إذا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَنْ تَزِلُّوا أَبَداً." (2بط1: 10) وهذا وحده هو الذي يدفع ما يمكن أن يقال من أن الإرادة الإلهية المحتومة ستعطل أو تصادر الحية البشرية، إذا مادام الله سيقضي بالأمر، فلا سبيل للإنسان بعد ذلك أن يفكر في التحرك أو النشاط أو القيام بهذا أو ذاك من ضروب العمل أو الامتناع عنه، لان الأمر سيتم على أي حال سواء رضي الناس أو كرهوا، عملوا أو لم يعملوا.. ولكن هذا مردود بان الإرادة الإلهية تطوي في ذاتها وتحيط بالإرادة البشرية، كما أن الله في حكمته البالغة قد أسدل ستارا كثيفا على النتيجة التي لابد أن تكون، حتى لا يحتج احد بأنه كل من العسير عليه أن يغير أو يتاضل هذا القضاء المحتوم.. فهو في مبدان الحياة أشبه بالجندي في المعركة، وان هذا الجندي من واجبه أن يناضل ويقاتل كيفما تكن، أو تنته المعركة بالفوز والهزيمة..أو أشبه بالمريض الذي يصارع في سبيل الحياة، ولو علم إن الموات دان منه قرب..بل إن الطبيب وهو يعلم إن الموت أكيد وقريب لا يكف عن بذل المجهود للإنقاذ في اقسي الحالات وادعاها إلى اليأس والقنوط، مادام هناك نبضة أو نأمة حركة مترددة في صدر المريض أو في قلبه أو إطرافه.. فإذا كان الإنسان يتمسك في الأصل بالصحة لا المرض، بالحياة لا الموت، بالقوة لا بالضعف، بالنجاح لا بالفشل.. فليس من حقه بعد ذلك أن يمتنع عن الخير، أو يستسلم لنازعة من نوازع الشر أو الإثم أو الخطية بدعوى أن الأمر مقضي أو مكتوب، وهو لا يملك أن يدفع عنه هذا المكتوب أو المقضي.. بل على العكس إن الإنسان مطلوب منه أن يستعمل حريته وإرادته مسئوليته في دفع الشر بكل ما يملك من قوة، والسعي وراء الخير بكل ما فيه من عزم ونشاط وهمة وغير وحماس كما لو إن إرادته هي الأول والأخر في الأمر، وان لا شيء إلى جوارها على الإطلاق.. كما إن له أنيستسلم بعد ذلك إلى ما يحدث من نتائج باليقين الخاص والثقة الكاملة، كما لو إن الإرادة الإلهية وحدها هي التي تعمل كل شيء.. وتبتلع وتسيطر سيطرة تامة على كل ما يمكن أن تفيض أو تنعكس عنه الإرادة البشرية. وقد يتصور البعض أو يتوهم بان هذا غير ممكن أو غير ميسور، ولكن الواقع والتاريخ يفيان ذلك. فمثلا لا يعر فالتاريخ مذهبا امن بالقضاء الإلهي المطلق غي والمشروط كما أمنت جماعة البيوريتان المشهورة في التاريخ؟، ولكن هذه الجماعة اعطتتا إعلاما من أعظم الأعلام والأبطال في العالم، فإنها الجماعة التي خرج منها وليم الصامت في هولندا، والأميرال كولوني في فرنسا، ويوحنا نوكس في اسكتلندا، واوليفر كروميل في انجلترا، وهي الجماعة التي إذ  أمنت بان كل شيء في يد الله لم يعد تخشى سوى الله والخطية، بل الجماعة التي أحس كل واحد منها بأنه مرسل من الله إلى العالم  ليؤدي رسالة معينة لا يمكن أن تقف في طريقها أي صعوبة أو معضلة أو مشكلة أو عقبة، اجل فان الإيمان بقضاء الله المطلق الصالح الأمين هو الذي يصنع من الضعيف بطلا ومن الجبان أسدا، ومن الحائر رسولا، أو كما قال ج. أ. فرويده في واحدة من كتاباته الصغيرة عن الكلفينيين : "لقد جذبوا إلى أنفسهم كل رجل في أوربا يكره الكذب، لقد سحقوا إلى الأرض ولكنهم نهضوا ثانية، لقد كسروا ومزقوا، ولكنه لم توجد قوة على الإطلاق تستطيع أن تخضعهم وتخيفهم. لقد ابغضوا كما لم تبغض مجموعة من الناس قط، كل إحساس بالكذب والنجاسة، وكل نوع من أنواع الأخطاء الأدبية مما يمكن أن تظهر أو تعرف، وما لم يوجد اليوم في انجلترا أو اسكتلندا من الخوف الوجداني بالخطأ ليس إلا البقايا الباقية من هذا الإقناع الذي زرعه الكلفينييون في قلوب الناس". ولا نحسب أن هناك شهادة تعادل هذه الشهادة عن الأثر العميق التي تحدثه الإرادة الإلهية في الحرية البشرية. بل لا حاجة بعد ذلك إلى القول إن التخبط أو الشر أو الإثم الذي قد يحدث من الإنسان لا يمكن أن يكون الله مسئولا عنه، مادام قد أتاح لحرية البشرية أن تعمل بكل ما لها من قوة وسعة وسلطان في توازن تام كامل مع الإرادة الإلهية.

7- القضاء المطلق

وهذا آخر ما نود أن نشير إليه ونحن بصدد القضاء الإلهي العظيم الحكيم، ونعني به إن هذا القضاء لا يمكن إلا أن يكون القضاء العادل إلى آخر ما يمكن أن تعني أو تشير إليه كلمة العدالة من معنى، وإذا كان الإطلاق هو القاعدة والأساس في قضاء الله، فان العدالة هي حجر الزاوية في هيكله وبنيانه الفخم الإلهي العظيم. وكل قضاء يتجرد من هذه العدالة أو ينحرف عنها ليس جديرا بان ينتسب إلى الله أو يتصل بشخصه من قبل أو من بعد، كيف لا وقد كان السؤال الحاضر في ذهن إبراهيم عندما استمع إلى مصير سدوم وعمورة ومدن الدائرة: "25حَاشَا لَكَ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ هَذَا الأَمْرِ أَنْ تُمِيتَ الْبَارَّ مَعَ الأَثِيمِ فَيَكُونُ الْبَارُّ كَالأَثِيمِ. حَاشَا لَكَ! أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تك18 :25)!!؟ كما أن المرنم دعى الطبيعة كلها لتهتف وتترنم معا: " 9أَمَامَ الرَّبِّ لأَنَّهُ جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ. يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ وَالشُّعُوبَ بِالاِسْتِقَامَةِ. (مز98 :9). فإذا كان الله في عدله يبدو بهذه الدقة العظيمة الرائعة، فمهما يكن قضاء اله حافلا بالخفيات والإسرار، فانه لابد أن يكون في الخفي أو المنظور، في المدرك أو البعيد عن الإدراك، القضاء العادل بل الدقيق والمطلق والكامل في عدالته!! وعدالة الله تبدو أول ما تبدو في القضاء الإلهي في إعطاء الفرصة الكاملة للحرية البشرية في القبول أو الرفض، بالمعنى المفهوم المشار إليه والمذكور آنفا. كما إن هذه العدالة تحمل معها في الوقت عينه معنى المكافأة أو العقوبة على حد سواء، إذ انه لو تكن هناك حرية أمام المؤمن المختار لكي يعمل فيثاب، لما حق له أن يكافأ، مادام هو مجبر أو غير مخير في عمل الحسن والطيب والكريم والصالح، والعكس صحيح، إذ لا يجوز على الإطلاق محاكمة أو عقاب أي مذنب لم تعط له الحرية في الرفض أو القبول، أما أولئك الذين قالوا بان الله قد قرر مصير المؤمن والشرير ثم دفع كل منهما إلى المصير المحتوم الذي ينتظره، فهؤلاء ينسون أو يتجاهلون أو قضاء الله المطلق هيهات إن يكون متعسفا أو ظالما أو منحرفا عن العدالة والحق، ولعل هذا هو ما عناه الرسول بولس عندما فرق بين المؤمنين والأشرار في القول : 5بَيِّنَةً عَلَى قَضَاءِ اللهِ الْعَادِلِ، أَنَّكُمْ تُؤَهَّلُونَ لِمَلَكُوتِ اللهِ الَّذِي لأَجْلِهِ تَتَأَلَّمُونَ أَيْضاً، 6إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقاً، 7وَإِيَّاكُمُ الَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ،(2تس1: 5-8).

هذا هو المشجع لنا على رفض النظريات الثلاثة الأولى سواء في ذلك القضاء المعدوم أو الجهلي أو المبني على مجرد العلم السابق عند الله بما سيفعله الإنسان، لنقبل بالتأكيد واليقين عقيدة القضاء الإلهي الحكيم المتزن بالإطلاق، والأزلية، والتنظيم، والمسرة، والجود، والتوازن، والعدل، ولنهتف آخر الأمر لان: " الله هو القاضي، هذا يضعه وهذا يرفهه" (مز75: 7)  " 5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، 6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، 7الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، 8ﭐلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، 9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ 11الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ" (اف1: 5-11).