01 الأصحاح الأول

الديباجة

1: 1- 18

تذكرنا هذه الديباجة بديباجة سفر التكوين. فما أكثر ما بينهما من أوجه الشبه وأوجه التباين. فمن أوجه الشبه أن الديباجتين تبدآن بكلمة واحدة: "في البدء". وفي العدد الثالث من كل منهما تتجلى لنا علة الخلق "قال الله" (تك 1: 3)، "كل شئ به (بالكلمة) كان" (يو 1: 3). في ديباجة التكوين نجد ذكراً "لروح الحياة"، والنور" (تك 1: 2 و3)، وفي ديباجة بشارة يوحنا نجد القول: "فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس" (يو 1: 4).

هذه بعض أوجه الشبه، وإليك بعض أوجه التباين: أن موسى ويوحنا التقيا معاً عند كلمة "في البدء" (تك 1: 1، يو 1: 1)، ثم انحدر موسى متمشياً مع التاريخ حتى حدثنا عن المخلوقات، وارتقى يوحنا صاعداً حتى أرانا من هو على الخلق. مثلهما مثل شخصين التقيا عند نقطة في نهر، ثم انفصلا، فمضى أولهما متتبعاً مجرى النهر حتى بلغ مصبه، وارتقى ثانيهما إلى أعالي النهر حتى اكتشف منبعه.

على أن التشابه بين الديباجتين لا يخرج عن كونه ظاهرياً لفظياً. "فالبدء" الذي تحدث عنه موسى، غير البدء الذي يحدثنا عنه يوحنا، "البدء" في التكوين هو بدء الخليقة. لكن البدء في يوحنا هو البدء المطلق الذي عنده ينتهي الفكر، أو هو البدء السابق للزمن "قبل كون العالم" (يو 17: 5 و24).

من هذا "البدء" ارتفع يوحنا بجناحي النسر، فرأى المسيح موضوع بشارته، وكما رآه حدثنا عنه، في هذا يتميز عن متى الذي رأى المسيح لكنه رجع بتاريخه إلى سلسلة نسبه –حتى انتهى إلى إبراهيم، (عن لوقا الذي رأى الفادي فتتبع سلسلة نسبه راجعاً حتى بلغ آدم، وعن مرقس الذي رأى المخلص فرجع بتاريخه إلى نبوات العهد القديم) – لكن يوحنا رجع بنسب المسيح إلى النبوة الآزلية.

تتضمن هذه الديباجة أربعة أفكار رئيسية. أولاً: الكلمة في جلاله 1: 1- 5 ثانياً: الكلمة في ظهوره 1: 6- 9  ثالثاً: الكلمة المرفوضة 1: 10 و11 رابعاً الكلمة المقبول: 1: 12- 18

فالعدد الخامس هو نقطة الانتقال بين الفكر الأول والثاني، كما أن العدد الثاني عشر يكون حلقة الاتصال بين الثاني والثالث ،

أولاً: الكلمة في جلاله 1: 1- 5. يحدثنا ها الفصل الموجود عن :

(1) الكلمة في جلاله الذاتي 1: 1

(ب) الكلمة في جلاله النسبي 1: 2- 5 أما جلاله الذاتي فيتضح لنا من كونه:

كَانَ الْكَلِمَةُ

(1) منشىء الخلق في مشورة الله ع 2

(2) علة الخلق عدد 3

(3) نبع الخلق ومصدره ع 4و5

عدد 1.

 1 فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ.

(أ) الكلمة في جلاله الذاتي 1: 1 "في البدء كان الكلمة"- هذا هو الكلمة في أزليته. "والكلمة كان عند الله" – هذا هو الكلمة في ذاتيته. "وكان الكلمة الله"- هذا هو الكلمة في طبيعته. هذا هو الوصف الثلاثي الذي به يصف يوحنا جلال الكلمة الذاتي في العدد الأول من بشارته

الكلمة في أزليته- "في البدء كان الكلمة". "الكلمة"! ما أعمق هذا الوصف العجيب الذي وصف به المسيح هنا إذ وصف "الكلمة" وفي اليونانية "لوجوس"!

لقد هيأت العناية أفكار البشر، لفهم هذه اللفظة: "الكلمة" قبل أن نطق بها يوحنا. فالعقلية اليهودية كانت قد ألفتها من كتابات "انقيلوس" اليهودي الذي ترجم التوراة من العبرية إلى الآرامية في القرن الثالث قبل الميلاد وفي ترجمته استعاض عن اسم الجلالة بلفظة "ممرا" – وتقابلها في العربية: "الكلمة"- في المواضع الآتية: تك3: 8، 7: 16، 21: 20،28: 20، وخروج 19: 17، أما العقلية اليونانية فقد كانت مشبعة بلفظة "لوجوس" من كتابات فيلو الفيلسوف الإسكندري. غير أن المعنى الذي تحمله "الكلمة" في كتابات يوحنا يسمو عن معناها في آداب اليونان. كان اليونان يشيرون بـ "الكلمة" إلى الذهن،والفكر، لكن يوحنا أراد بها الذات والشخصية. فوصفه المسيح "بكلمة الله" لا يقتصر معناه على أن المسيح هو ذات الله المتكلم. فإذا كان الله قد تكلم بواسطة أنبياءه لكنه كلمنا في المسيح. من سمع المسيح قد سمع الله بالذات، ومن رآه فقد رأى الله. أن "الكلمة" في يوحنا هو على الكون (1: 3)، وهو الذي ظهر قديماً لاشعياء (قابل يو12: 41 مع اشعياء 6)، وهو الذي بقبوله يولد المرء ثانية (يو1: 12 و13)، وهو صاحب السلطان المطلق على كل ذي جسد (يو17: 2).

إن "كلمة" شخص ما، هي ما يعبر به عن نفسه، وهي أداة اتصاله بالآخرين، وتفاهمه معهم. بكلمته يظهر فكره، ويلقى أوامره، ويبلغ إرادته. فالكلمة تحمل معها الشخصية بما فيها من ذات وصفات. فهي إذاً ليست مجرد حروف تتصل بعضها ببعض، لكنها صورة، من ورائها العقل، ومن وراء العقل الذات، ومن وراء الذات الجوهر.

في إمكان المستمع أن يعرف المتكلم من كلامه، ولو كان المستمع ضريراً، فكلمة المتكلم هي الرسم الذي أفرغت فيه الذات. "وكل من رأى المسيح فقد رأى الله" فهو كلمة الله، وهو صورة الله غير المنظور، ورسم جوهره.

"وكلمة الله" هو الشخصية المتمثلة فيها قدرة الله. الآمرة والناهية في الكون. لذلك قيل أيضاً فيه "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب1: 1-3).

إن العبارات الثلاث الواردة في العدد الأول تتمشى في ترتيب عكسي مع الثلاث العبارات الواردة في عدد 14:

عدد 1

عدد 14

"في البدء كان الكلمة"-(في الأزل)

"الكلمة صار جسداً-(في ملء الزمان)

"الكلمة كان عند الله"-(مستقل في كيانه مع الله)

"حل بيننا" – (مع الناس)

"كان الكلمة الله"-(ذو جوهر واحد مع الله)

"صار جسداً"-مشاركاً للناس في اللحم والدم

 

هذا الإعلان المثلث هو أساس بشارة يوحنا، وموضوعها، وهو هو برنامج الفداء: "في البدء كان الكلمة" – هذه حجة دامغة ضد القول بأن المسيح وجد مع الزمن عند التجسد..

"كان الكلمة عند الله" – هذا برهان قاطع على أن المسيح ذو شخصية مستقلة في كيانه، وعلى أن له أقنوماً متحداً بالله من غير امتزاج، مستقلاً عنه من غير انفصال…

كررت كلمة "كان" ثلاث مرات على التوالي مع "الكلمة"، وهي لا تفيد الماضي الذي انقضى بل تعين الكيان المطلق المستمر، المشفوع بالدوام المتواصل-"كان ولم يزل". "كان الكلمة الله" - هذا تعبير يصف المسيح في طبيعته - له طبيعة الله وجوهره.

(ب) الكلمة في جلاله النسبي (1: 2-5):

عدد2-

(ا) الكلمة من حيث كونه منشئ الخلق في مشورة الله : 1 : 2

2 هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ.

يلوح لنا أن "البدء" في العدد الول، غير"البدء" في العدد الثاني.

"البدء" في العدد الأول يشير إلى الأزل المطلق- قبل كون العالم. "والبدء" في العدد الثاني يشير إلى بدء الخليقة- البدء الذي استهل به سفر التكوين. كذلك نجد أيضاً فرقاً بين العبارة "عند الله" في كل من العددين، في العدد الأول تشير إلى المعية المطلقة. وفي العدد الثاني تشير إلى المعية عند الخلق (أمثال 8: 22-31).

عدد3

3 كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ.

(2) الكلمة من حيث كونه على الخلق 1: 3 – "كل شيء به كان"- هذا وصف جامع، "وبغيره لم يكن شيء مما كان"- هذا وصف مانع. إن هذا الوصف الجامع المانع ينفي كون المسيح أحد الخلائق، ويهدم المذهب الأفلاطوني القائل بأزلية المادة، وينقض مذهب الغنوسيين المدعي بأن الملائكة هم علة الخلق وأداته…

غير أن كلمة "به" لا تنقص من قدر المسيح كخالق، ولا تجعله مجرد أداة للخلق، فأن هذه الكلمة عينها: "به" قيلت عن الله الخالق (رومية11: 36، غلاطية1: 1، عب2: 10). ألم يقل الله عن ذاته: "بي تملك الملوك" (أمثال8: 15)؟

وقد ذكر هذا الوصف بجانبيه الإيجابي والسلبي من قبيل التوكيد والتوكيد في الوحي له دلالات عدة. فالتوكيد في الصلاة يفيد اللجاجة، وفي النبوة يعني اليقين، وفي المواعيد يراد به التشجيع، وفي الوعيد يقصد به المفاجأة وفي الأسرار الإلهية يدعو إلى التسليم.

عدد 4و 5

4 فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ. 5 وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ.

(3) الكلمة من حيث كونه نبع الخلق ومصدره 1:4و5 – "فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه"

كما أن عددي 1 و 2 مهدا للكلام عن الخلق في عدد3، كذلك عدد 4 يمهد للكلام في عدد 5. وفي هذين العددين 4 و5 نجد تدرجاً من الحياة الذاتية إلى الحياة المنبعث منها النور للخليقة الساقطة. من "به" إلى"فيه" ما أشبهه بالتدرج الوارد في كولوسي 1: 16 و17 "الكل به وله قد خلق..وفيه يقوم الكل" – فالمسيح علة خلق العالم، ومصدر كيانه وبقائه.

يتألف هذان العددان من أربعة مقاطع، كل مقطع منها يبتدئ بالكلمة التي بها ينتهي المقطع السابق، كدرجات سلم تقوم إحداها على الأخرى - "فيه كانت الحياة - والحياة كانت نور - والنور يضيء في الظلمة - والظلمة لم تدركه".

الظلمة المقصودة هنا، هي ظلمة الروح - ظلمة السقوط، بل هي ظلمة البشرية الساقطة. ألم يقل الله "لأنكم كنتم قبلاً ظلمة" (أفسس 5: 28)؟ فالبشر الساقطون ليسوا مظلمين وكفى، وهم مجرد عميان لا يبصرون، بل هم الظلمة المجسمة.

غير أن الله لم يترك نفسه بلا شاهد- حتى في أحلك الأوقات "والنور يضيء في الظلمة" ليضيء للذين يريدون أن يروا، وليدين الذين اختاروا العمى الروحي لنفسهم.

كلمة "لم تدركه" تفيد أربع درجات متتابعة:

(أ) عدم الاكتراث لوجود النور

(ب) عدم فهم كنه النور وسره (أفسس3: 18)

(ج) عدم البلوغ والوصول إلى النور لنواله (رو9: 30 وفيلبي3: 13)

(د) عدم الانتصار على النور. والعجز عن الظفر به (أفسس5: 4).

عدد 6- ثانياً: الكلمة في ظهوره 1: 6-9

6 كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا.

في الأعداد السالفة، رأينا الكلمة في كيانه الأزلي، وفي الأعداد التي أمامنا نرى الكلمة في ظهوره، وأول من نادى به وشهد له، يوحنا المعمدان حلقة الاتصال بين العهدين..

"كان إنسان…اسمه…هذا…"- هذا أسلوب خاص بيوحنا البشير. ما أشبهه ببدء الإصحاح الثالث: "كان إنسان…اسمه…هذا.." التعبير "كان…هذا" شبيه بالتعبير عن المسيح في استهلال هذه البشارة "كان هذا.." (1: 1 و2).

تصف لنا هذه الأعداد الشخص الذي أعدته العناية الإلهية ليكون أداة لإظهار "الكلمة" للناس. فهي تصفه في (أ) حقيقة "كان". ما أعظم الفرق بين "كان" المستعملة هنا (ع6) وبين "كان" التي وردت ثلاثاً في العدد الأول عن المسيح. هذه تفيد الوجود الحادث في زمن معين، ومعناها الحرفي "نشأ" أما تلك فإنها تفيد الوجود المطلق الأزلي. يوحنا "مرسل من الله" و"الكلمة" هو الله. هذه شهادة صادقة لأنها جاءت من شخص كان تلميذاً ليوحنا المعمدان قبل أن يكون تلميذاً للمسيح، (فهو عارف بحقيقتهما. في هذا يصدق القول: "وشهد شاهد من أهلها" (ب) اسمه- "يوحنا" ومعناه "الرب يتحنن" وقد تسمى يوحنا بهذا الاسم بعناية إلهية خاصة (لو1: 13). ومما يسترعي الالتفات، أن البشير لم يذكر يوحنا المعمدان بلقبه، بخلاف سائر البشرين الذين احتفظوا في كتاباتهم بلقب "المعمدان" تمييزاً له عن يوحنا البشير، أما البشير، وقد تغاضى عن وجود شخصيته لم يجد داعياً لهذا التمييز حياء منه واتضاعاً، ورغبة منه في إخفاء نفسه. وربما لأن لقب "المعمدان" لم يخلع على يوحنا إلا بعد أن ذاعت شهرته. لكن يوحنا البشير وهو أحد تلاميذ المعمدان الأولين، كان قد عرف أستاذه مجرداً عن هذا اللقب، فاحتفظ بعذوبة هذا الاسم، خلواً من كل لقب.

عدد7-

7 هَذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ.

(ج) غاية حياته "هذا جاء ليشهد للنور" 1: 7- إذا لم تكن حياته مجرد أيام يقضيها على الأرض، بل كانت تحمل معها رسالة خاصة لعمل خاص- الشهادة. "الشاهد" لغة هو "اللسان" فيقال "ما لفلان رواء ولا شاهد" ومعناه "ماله منظر ولا لسان". والشهادة هي الخبر القاطع. فالشاهد إذا هو من يرى رؤيا واضحة، ويقتدر على الإفصاح عما رأى بكل دقة وأمانة، بلسانه وبحياته وإن لزم الأمر بموته أيضا. لأن الشهادة والاستشهاد مشتقان من مصدر واحد. وكذلك شهد يوحنا بلسانه الفصيح، وحياته النقية الجريئة، وموته البريء، فأضحى شاهداً وشهيداً… "ليشهد للنور" – وهل من حاجة للنور إلى الشهادة؟ أليس النور خير شاهد لنفسه؟ بلى. ولكن الناس يحتاجون إلى الشهادة عن النور- المسيح، لأن المسيح لم يأتنا في شكل ممجد بل أتانا في "شبه الناس". فكان من الضروري أن يحتاج الناس إلى من يوجه نظرهم إليه، سيما لأن جل البشرية عائش في وادي الظلمات.

(د) غاية رسالته: "لكي يؤمن الكل بواستطه" والمقصود بهذا، أن الإنجيل العام المقدم لجميع الناس، قدمته كرازة يوحنا بالتوبة الممهدة للأيمان "والكل" هنا هم كل من يؤمن من جميع الطبقات. والهاء في "بواسطته" تعود علة يوحنا المعمدان لا على المسيح. فالمسيح هو موضوع الأيمان، ويوحنا المعمدان هو واسطة البشارة. والطريق الذي رسمه الله للخلاص، قد رسمه لكل الناس سواء بسواء من دون تمييز.

عدد8.

8 لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ.

(هـ) طبيعته: "لم يكن هو النور بل ليشهد لنور" – يستنتج من هذه الآية، ومن سواها مثل 1: 20، 3ك 28 أن يوحنا البشير يجابه ضلالة كانت قد فشت وقتئذ. وكان يرمي مروجوها إلى مساواة يوحنا المعمدان بالمسيح. فقرر البشير أن المعمدان لم يكن هو النور، بل ليشهد للنور وكل ما قيل عن المعمدان في هذا الباب هو أنه "سراج" (5: 35) وشتان بين السراج والنور.

عدد 9- 11.

9 كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ. 10 كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ. 11 إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ.

بعد أن وصف البشير خدمة يوحنا المعمدان أنها شهادة للنور تقدم ليوضح لنا في هذه الأعداد، عمل هذا النور، وتأثر الناس به:

عدد9.

عمل النور. "كلمة النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم". أما إن نعتبر كلمة "النور" خبر كان، واسمها مستتر جوازاً تقديره هو- أي المسيح، أو أن نعتبرها اسم كان، وخبرها "آتياً". فإن أخذنا بالرأي الثاني، كان معنى هذا العدد أن المسيح عند شروع يوحنا المعمدان في تأدية شهادته، كان يتهيأ للدخول إلى خدمته الجهارية في العالم. وقد تحمل إشارة إلى الأدوار المتدرجة في تدبير التجسد. ويجوز- كما في الأصل أيضا – أن نعتبر كلمة "آتياً" صفة لـ "كل إنسان"، بذلك يحمل المعنى على الوجه الآتي: أن جميع الناس الذين يدخلون إلى العالم، يستمدون نور بصائرهم من المسيح وحده- سواء في ذلك من كان منهم مسيحياً مؤمناً مستمتعاً بالإنارة الخاصة، أو من كان غير مسيحي مستنيراً بالإنارة العامة، التي تنير الذهن والضمير لكنها لا تتعداها إلى النفس فتغيرها.

عدد10

في العدد الماضي أرانا البشير عمل المسيح كنور مشرق في العالم، وفي الجانب الأول من هذا العدد يرينا باعتبار كونه على خلق العالم. فإذا كانت الحياة نور الناس (عدد4) فأن النور هو حياة العالم (عدد10) إن في هذا العدد استدراكاً لما يمكن أن يتبادر إلى الذهن من قوله" آتياً إلى العالم" – كأن يفهم خطأ أن حياة المسيح بدئت عند التجسد. لذلك قرر البشير، بقوله" كان في العالم"، إن المسيح كان موجوداً قبل التجسد، وان العالم كون به، فهو الذي خلق العالمين، وهو الذي هدى إسرائيل وعالهم "جميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً، وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم. والصخرة كانت المسيح" (1 كو10: 3و4) هذا تؤيده شهادة المسيح أمام اليهود: "أبوكم (إبراهيم) تهلل بأن يرى يومي فرأى وفرح..قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو8: 57و59)

ثالثاً: الكلمة المرفوض1: 10و11

عدد10(ب) و11 مبلغ تأثر الناس بهذا النور 1:10(ب) و11 "ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله". هنا يتنقل الوصف من التعميم: "العالم" إلى التخصيص: "خاصته"، ويتدرج من الكلام عن التغافل السلبي الناتج عن الجهالة "لم يعرفه"، إلى المقاومة الإيجابية الناتجة عن العناد والتعصب "لم يقبله". إن تهمة تجاهل المسيح منصبة على العالم- أي البشر الذين لم يعرفوا المسيح من الطابع الخاص الذي طبعه المسيح على العالم أي الكون المادي-. ووجه مسئولية العالم في هذا التجاهل هو أن الله أودع نوراً طبيعياً في ضمائر جميع الناس "حتى أنهم بلا عذر" رومية1: 19-23 أما خطية الرفض فهي موجهة إلى اليهود- خاصته – الذين لم يعرفوا المسيح من نور إعلانات العهد القديم ولا من نور شهادة يوحنا المعمدان. الكلمة المترجمة "خاصته"، ترجمتها الحرفية "بيته" كما في (19: 27). وفي العهد القديم استعملت "خاصته" عن الهيكل (ملاخي3: 1)، وهي أيضا تفيد الملكية (مزمور135: 4 وخر19: 5) أليس من المحزن أن اليهود، وهم أهل بيت الله، رفضوا المسيح، وانتهى بهم هذا الرفض إلى صلبه، فأمسى غريباً في بيته، مهاناً من أهله وعشيرته؟ هذا تاج خطية البشرية.

يلاحظ أن عددي 10 و11 يتمشيان معاً في توازن طباقي، وكل منهما يصف حقيقة مثلثة:

عدد 10

عدد 11

(1) حقيقة حاله: "كان في العالم"

"جاء"

(2) مجال ظهوره: "كون العالم به"

"الى خاصته"

(3) مآل شهادته: "لم يعرفه العالم"

"خاصته لم تقبله"

 

 

 

 

رابعاً: "الكلمة" المقبول 1:12-18

إذا كان اليهود كشعب، قد رفضوا المسيح، إلا أن أفراداً من المؤمنين – من اليهود والأمم- قد قبلوه. ومحور الكلام في هذا الفصل يستند إلى حقيقتين (1) امتياز قبول الكلمة (1: 12 و13). (2) تجسد الكلمة المقبول (1: 14- 18). أما امتياز قبول الكلمة فالكلام يتناوله من حيث

(أ) حقيقته عدد12

(ب) خواصه عدد13.

والكلام عن تجسد الكلمة له جانبان - الجانب الأول: حقيقة لتجسد عدد14

(أ) الجانب الثاني: الشهادة المثلثة لهذا التجسد (14(ب) – 18).

عدد12- أ-

12 وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.

حقيقة امتياز قبول الكلمة1: 12. "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه" – هذا هو الامتياز من حيث حقيقته - هو سلطان البنوة الله. "وأما" – ذكرت هذه الكلمة استدراكاً لما قبلها،وتحقيقاً لما بعدها. "كل" تفصيلية تعميمية. فهي تعني ما يليها أفراداً لا جماعات فالكلام عن الرفض في العدد السابق يتناول اليهود كأمة، والعالم ككتلة، لكن الكلام عن الأيمان مخصص للمؤمنين أفراداً. غير أن كلمة "كل" ليست قاصرة على المؤمنين من اليهود فقط، بل هي تعميمية تشمل أفراد المؤمنين من كل أمة وفي كل جيل. "الذين قبلوه" هم الذين رحبوا به في قلوبهم فصاروا "خاصته" الروحية الحقيقية وبذلك نالوا امتياز البنوة لله- ذلك الامتياز الذي حرم منه اليهود بسبب عدم أيمانهم. فمع أن اليهود يدعون باطلاً أنهم أبناء إبراهيم إلا أن المؤمنين بالمسيح هم أبناء الله بحق وسلطان، وقد أعطوا هذا الحق والسلطان من الله رأساً. فما أكرم هذا الضيف السخي الذي يحل في قلب من يؤمن به فيمنحه هبتين - أحدهما: نسبة جديدة تربطه بالله - "أبناء الله". والثانية: حقاً جديداً ينال به بركات هذه البنوة- "سلطاناً". ومما يدعو إلى الالتفات أن يوحنا ألبس هذه النسبة الجديدة ثوباً غير الثوب الذي ألبسها إياه بولس. يوحنا يصفها بالقول "أولاد الله" لكن وصف بولس لها هو"أبناء الله" غلاطية (4: 6). ذلك لأن يوحنا يصف هذه النسبة في طبيعتها وبولس يصفها في بركاتها. أولهما نظر إلى جذع الشجرة والثاني نظر إلى ثمرها.

ليست حقيقة التبني قاصرة على معلنات العهد الجديد. فلقد ذكرت في العهد القديم أربع مرات (مز 103: 13 وأشعياء63: 16 وارميا31: 20 وهوشع11: 1). لكنها أطلقت في العهد القديم على الأمة كمجموع وأما في العهد الجديد فقد استعملت للفرد، ويراد بها بذرة الحياة الروحية في قلب المؤمن.

ولكي لا يترك البشير مجالاً للشك في تأويل معنى قبول المسيح، أوضحه بقوله "أي المؤمنون باسمه". فالأيمان هو قبوله في القلب، لأن الأيمان هو الذي يرى الفادي، ويثق به، فيفتح له القلب، ليحل فيه ضيفاً، حتى يصير فيه مضيفاً، ثم يضحى ملكاً، ثم يكون فيه رباً.

إن موضوع الأيمان هنا هو "اسم المسيح". "والاسم" هو التعبير الذي يحمل إلى الفكر جوهر المسمى، وذاته، وصفاته. هذا هو موضوع الإعلانات الإلهية، بل هذا هو روح البنوة.

عدد 13

13 اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ.

- ب – خواص امتياز قبول الكلمة- يصف يوحنا طبيعة هذا الامتياز وصفاً مزدوجاً- سلبياً وإيجابيا. أما سلبياً فعلى ثلاث درجات متصاعدة. (1) "ليس من دم" أي ليس من دم وراثي، كما كان يفتخر اليهود، عادة، أنهم أبناء إبراهيم، فيباهون بسلسلة نسبهم الشريف. وفي الأصل وردت كلمة "دم" بصيغة الجمع إشارة إلى التسلسل الجنسي الذي تجتمع فيه عناصر كثيرة، وكما يقول "ماير" – إشارة إلى التناسل الطبيعي في درجته السفلى- بالجسد. (3) "ولا من مشيئة رجل" إشارة إلى التناسل الإنساني في درجته الراقية- بالإرادة[1] وأما إيجابياً فبكلمة واحدة: "من الله" أي بإرادة الله. تدفعها محبته، وترافقها نعمته.

عدد 14

14 وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداًكَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.

تجسد الكلمة 1: 14-18 رأينا فيما سبق، حقيقة امتياز الأيمان وطبيعته. وها نحن نتقدم إلى معرفة موضوع هذا الإيمان:

 تجسد الكلمة، وفي عدد 14 نواجه حقيقة التجسد في كلمتين – إحداهما: التجسد كحقيقة مطلقة "والكلمة صار جسداً". "صار" لا تفيد التحول. فهي ليست من قبيل القول: "صار الطفل رجلاً" – أي انه لم يعد بعد طفلاً، لكنها تفيد الاتخاذ- أي أن الكلمة اتخذ جسداً وصار انساناً بدون تغير في لاهوته. فاللاهوت ملازم للناسوت من غير انفصال ولا امتزاج. والكلمة "جسد" مستعملة هنا من باب التغليب، فهي تعني الإنسان كله – "جسداً ونفساً" وإنما عبر بها هنا عن الجانب الضعيف في الإنسان (تك6: 3) إن المسيح صار إنسانا كاملاً لكي يفتدي الإنسان كله (7: 23). والثانية: التجسد كحقيقة تاريخية "وحل بيننا". الترجمة الحرفية لكلمة "حل" كما وردت في الأصل هي "خيم" أو "ضرب فسطاطاً". وقد وردت عدا هذه المرة أربع مرات في العهد الجديد، وهي من الكلمات التي طبعت بها كتابات يوحنا (رؤ 7: 15و13:6 و12: 12 و21: 3).

قديماً حل الله بين الأمة اليهودية، في خيمة الاجتماع، في البرية. إلا أن تلك الخيمة كانت ذاهبة زائلة. أما هذه الخيمة الجديدة: "جسد المسيح" فقد تمجدت بعد القيامة، وها هو المسيح بناسوته ولاهوته في السماء الآن. فالتجسد إذاً، هو جواب الله على أشواق البشر، ومحط آمالهم وانتظاراتهم فيه حده تكون للبشر شركة حقيقية مع الله.

الجانب الثاني: الشهادة المثلثة لحقيقة الجسد 14(ب) –18(ا) شهادة يوحنا البشير ورفاقه عدد 14(ب) (2) شهادة يوحنا المعمدان عدد15 (3) شهادة الكنيسة المسيحية ع 16-18

(1) شهادة يوحنا البشير ورفاقه 14(ب) "رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً" – فما هو هذا المجد الذي رآه يوحنا ورفاقه؟ أهو مجد المعجزات التي أجراها المسيح "وأظهر بها مجده فآمن به تلاميذه" (2: 11)؟ أم هو مجد صفاته، الذي كان يحف بشخص المسيح مدة خدمته على الأرض؟ أم هو المجد الخاص الذي ظهر في تجلي المسيح على الجبل فشهده يوحنا واثنان من رفاقه؟ أننا نميل إلى الرأي الأخير. وربما تحتمل هذه الكلمات إشارة ضمنية إلى المجد الممتاز الذي تحدث عنه يوحنا في ديباجة سفر الرؤيا. "مجداً" – كررت كلمة "مجداً" بعد كلمة "مجده" على سبيل التوكيد لا الوصف. أنها ترجع بذاكرتنا إلى "نار الشكينا" في العهد القديم، التي كانت في الهيكل رمزاً لحضور الله. وهي إحدى مميزات كتابات يوحنا(2: 11، 11: 40 و12: 41 و17: 5و24 ورؤيا 21: 11). "كما" – ليست تشبيهية، بل وصفية (هوشع4: 4ومز 122: 3). "لوحيد من الآب". كان موسى والأنبياء خداماً وعبيداً لله. أما المسيح فهو ابن الله، بمعنى ممتاز لا يدانيه فيه سواه. وبنسبة رفيعة لا يشاركه فيها إنسان. وقد ذكرت كلمة "وحيد" وصفاً للمسيح، في كتابات يوحنا وحده(1: 14 و3: 16و18و1 يو4: 9)- وهي تميز بنوة المسيح لله عن بنوة المؤمنين له(1: 12). "من الآب"- معناها الحرفي "من حضرة الآب" وهي تفيد الإرسالية التي من قبل الله. "مملوءاً نعمة وحقاً" –"النعمة" ضد الناموس، "والحق" – ضد الطقوس. "النعمة" هي الله جواداً محسناً "والحق" هو الله معلناً ذاته. "النعمة" كما استعملت في الاصل، معناها: "كل ما يجلب الانشراح". وهي تطلق على (أ) كل ما هو مقبول وجذاب (لو4: 22)، (ب) كل ما هو مسر (لو2: 52 وأعمال2: 47) (ج) الفضل المجاني الذي غمر الخطأة. والمعنى الأخير هو الأعمق، وهو المقصود بالذات في هذا العدد.

تختلف النعمة عن المحبة في أن المحبة قد تتجه إلى الأعلى، أو إلى الأدنى أو إلى الند، لكن النعمة لا تعرف إلا اتجاهاً واحداً- من الأعلى إلى الأدنى "والحق" هو النور الذي به نرى الله كما هو. وفي نور الله نرى كل شخص وكل شيء في حقيقته.

فما أغنى المسيح الذي فيه اجتمع هذان الضدان - "النعمة والحق" - الرحمة والعدالة - اللطف والشدة. هذه خلاصة ما أعلنه الله للبشر عن نفسه في العهد القديم (خروج34: 6 ومزمور1: 5 و1يو4: 18)، "فالنعمة" هي الله محبة، و"الحق" هو الله نور. هاتان الكلمتان، مجتمعتين معاً، تصفان المسيح باعتبار كونه منجز الفداء، وخاتمة الوحي الإلهي.

ليس المسيح شخصاً "منعماً عليه" ولا هو مجرد شخص عارف بالحق لكنه مملوء نعمة وحقاً. أو قل: هو النعمة مجسمة، وهو الحق متأنساً. العبارة "مملوءاً نعمة وحقاً"، حالية تصف الكلمة.

عدد 15.

15 يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى: «هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».

(2) شهادة يوحنا المعمدان "يوحنا شهد له ونادى قائلاً: "هذا هو الذي قلت عنه أن الذي يأتي بعدي، صار قدامي، لأنه كان فبلي" ظلت شهادة يوحنا المعمدان حاضرة في ذهن يوحنا البشير، وصوتها يؤن في أذنيه، لذلك استعمل في وصفها كلمة تفيد(في الأصل) الاستمرار المتجدد وقد ذكرت شهادته، ثلاثاً في هذا الفصل (ع15، 27، 30). كانت شهادة يوحنا المعمدان، للبشير خير ذكرى، وهي لنا نبراس وهدى.

في هذا العدد يصف البشير شهادة المعمدان في قوتها، وفي موضوعها. أما قوتها فظاهرة من قوله "نادى"- هذه كلمة حماسية، تفيد ارتفاع الصوت والغيرة الملتهبة لأجل الحق (7: 28و37و12: 44 واشعياء 40: 3).

وأما موضوع شهادة المعمدان فهو: شخص المسيح: "هذا هو الذي قلت عنه": -

(أ) في ظهوره تاريخياً: "يأتي بعدي".

(ب) في سمو رتبته "صار قدامي".

(ج) في أزليته: "الذي كان قبلي". الكلمة"قبل" كما وردت في الأصل لا تقتصر على الأسبقية النسبية- كما لو كان المسيح قبل يوحنا فقط، لكنها تعني الأزلية المطلقة.

يستفاد من عدد 30 أن يوحنا المعمدان فاه بهذه الشهادة في غد اليوم الذي أرسل فيه اليهود من أورشليم كهنة ليسألوه عن حقيقته. وهي تصف كل خدمة يوحنا وصفاً مجملاً. وإذا ما رأينا منها أن يوحنا المعمدان الذي يقل عن المسيح في المقام قد صار له سابقاً بالنسبة لزمن ظهوره، فلا عجب، لأن كوكب الصبح يسبق الشمس في الظهور. ولأن المخبر بقدوم الملك يظهر قبل الموكب الملكي. كذلك كان يوحنا المعمدان بالنسبة للمسيح.

عدد 16.

16 وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ.

(3) شهادة الكنيسة المسيحية 1: 16-18. "من ملئه نحن جميعاً أخذنا نعمة فوق نعمة". إن شهادة المعمدان المذكورة في العدد السابق، تؤيدها اختبارات المؤمنين الذين ينطق بلسانهم يوحنا البشير في قوله "نحن جميعاً". شاهد المعمدان فشهد! والمؤمنون شاهدوا فنالوا. "من ملئه" – الملء هو مجموع الهبات والكمالات الإلهية، ولعله في طاقة كل من يؤمن به أن ينال قسطاً من هذا الملء على قدر إيمانه وقابليته (أفسس1: 3) فهو ملء غير قابل للنفاد. "نعمة فوق نعمة"، وردت في غير هذا الموضع، أربع مرات في العهد الجديد:

(أ) بمعنى "عوضاً عن" مت2: 22.

(ب) بمعنى "عن أو بسبب" (رومية12: 17)

(ج) بمعنى "حسب أو بمقتضى" (أعمال13: 22)

(د) بمعنى "من اجل" )أفسس5: 31) وهي كما وردت هنا تحتمل معنين: (أ) نعمة مزادة على نعمة (ب) نعمة مكافأة لنعمة. فكل نعمة نقبلها بالشكر ونستخدمها، تمهد الطريق لنعمة أفضل. فنعمة الرجاء تعطى مكافأة على نعمة الصبر. "كنت أمينا على القليل فأقيمك على الكثير".

عدد 17.

17 لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا.

مقابلة مزدوجة "لأن الناموس بموسى أعطى: أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا " : الناموس الأدبي- تقابله "النعمة". والناموس الطقسي- يقابله "الحق". في ع16 نجد وصفاً للنعمة، وفي ع18 نرى وصفاً للحق. وعدد17 يكون حلقة الاتصال بين النعمة والحق.

بل في عدد17 نجد خلاصة العهدين القديم والجديد:-

"الناموس بموسى أعطى" – هذه خلاصة العهد القديم

"أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" – هذه خلاصة العد الجديد

"الناموس بموسى أعطى" – إذاً لم يكن موسى سوى أداة تحمل الناموس إلى الشعب. ولو لم يكن موسى قد حمل هذا الناموس، لحمله غيره "أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا".

إذاً فالمسيح هو مبدع النعمة والحق، وهو نبعها، بل هو حياتهما

"النعمة"- هي خلاصة هبات الله لنا: "الحق" هو خلاصة إعلانات الله لنا".

عدد 18.

18 اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ.

خاتمة الديباجة"الله لم يره أحد قط…الابن الوحيد…هو خبر". بهذا العدد اختتم يوحنا ديباجة بشارته بكلمة لها جانبان(1) أحدهما مانع: "الله لم يره أحد قط"، والثاني جامع: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر". ومما يسترعي الالتفات أن يوحنا البشير بعد أن حدثنا في عدد14 عن "الكلمة المتجسد" ع14 صار فيما بعد يحدثنا باعتبار كونه "ابن الله الوحيد".

الجانب الجامع "الله لم يره أحد قط"- ولا موسى استطاع ان يراه! وكل المرات التي أعلن الله نفسه للبشر (خروج24: 10و33و23و1 مل19: 13 واشعياء6: 1)، لا تخرج عن كونها تجليات وقتية،

رمزية، جزئية، يصدق فيها القول: "فأننا الآن ننظر في مرآة في لغز" (1كو13: 12). لكن الرؤية المذكورة هنا، هي الرؤية الحقيقية الثابتة التي هي تاج الكمال المسيحي(1 يو4" 12).

الجانب الجامع: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر". في هذا الجانب الجامع نجد وصفاً مثلثاً للمسيح (1) في طبيعته: "الابن الوحيد"- الذي له جوهر واحد مع الآب في طبيعته (ع14). (2) في رفعته: "في حضن الآب" هذا تعبير رمزي يكنى به عن مركز المحبة، والتقرب، والسمو، والاطلاع على الأسرار، والسلطان (13: 23). ان حضن الآب هو حالة، لا مكان. (3) في سمو رسالته: "هو خبر" – بما له من الطبيعة الإلهية، قد رأى. وبما له من الطبيعة الناسوتية، استطاع أن يخبر البشر بما رأى. المعنى الحرفي لكلمة "خبر" هو "ترجم عن الإرادة" وهي تستعمل في اللغة اليونانية الفصحى بمعنى "حل الألغاز".

شهادة يوحنا المعمدان

1: 19-37

شهادة يوحنا المعمدان أمام الوفد السنهدريمي 1: 19-28

شهادة يوحنا المعمدان في محضر المسيح 1: 29-37

أ- شهادة يوحنا المعمدان أمام الوفد السنهدريمي 1: 19-28

نجح يوحنا المعمدان في خدمته، فذاع صيته وملأ الأسماع. وانجذبت إليه جماهير غفيرة، فاهتز لنجاحه مجمع السنهدريم اليهودي. وكان مؤلفاً منسبعين شيخاً، يرأسهم عظيم الكهنة. وأعضاؤه يؤلفون من ثلاث فئات:

(1)"رؤساء الكهنة"- من المتقاعدين والقائمين بالخدمة الكهنوتية، من العائلة الكهنوتية العليا

(2) "شيوخ الشعب" – وهم خدام الهيكل من اللاويين

(3) "الكتبة" وهم العارفون بالشريعة وأحكامها والمخصصون رسمياً للتعليم بها. وبالإجمال كان هذا المجمع اليهودي صورة منقحة لمجلس الشيوخ القديم (عدد11: 16).

إلى الآن كان مجمع السنهدريم متغاضياً عن وجود يوحنا المعمدان وعن عمله، ولكن إذ وجد أن الشعب قد بهر بخدمة يوحنا، وأن بعضاً ظنه المسيح المنتظر. واضطر السنهدريم إلى أن يتدخل في الأمر ليوقف تيار الأقاويل التي يسهل انتشارها سيما في الشرق. وقد جاء في "المشنا" أن محاكمة رئيس سبط من الأسباط، أو أي نبي كاذب، أو أي رئيس من رؤساء الكهنة، من اختصاص مجلس الواحد والسبعين(سنهدريم1: 5).

لقد كانت هذه نقطة فاصلة في خدمة يوحنا. بل كانت محكاً صادقاً لأخلقه. لأن الأفكار كانت مشبعة وقتئذ بانتظار مسياً (المسيح) الموعود به في الأنبياء. فلو كان المعمدان ممن يستهويهم النجاح، لا ندفع مع التيار وأجاب على الفور بأنه هو المسيح، فيفوز بإعجاب الجماهير. لكن المعمدان كان أرفع واثبت من ذلك بكثير، فأجابهم جواباً صريحاً قاطعاً. ولاشك في أن شهادة يوحنا لها قيمة ممتازة، لأنها شهادة رسمية أمام وفد رسمي.

عدد19.

19 وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: «مَنْ أَنْتَ؟».

كلمة تاريخية. "وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت". يقدم لنا هذا العدد-1- وصفاً للمستجوبين: "كهنة ولاويين" – بخلاف الصدوقيين الذين لم يبالوابأخبار نجاح يوحنا، لأنهم كانوا يستمدون من رومية السياسية. أما الكهنة واللاويون فكانوا يستمدون سلطتهم من وظيفتهم الدينية. وقد كانت منوطة بهم خدمة الهيكل. وهم الذين حملوا التابوت قديماً (يشوع3: 3). أليس من العجيب أن اللاويين يتفقون مع الكهنة ضد يوحنا المعمدان وهو لاوي مثلهم (لوقا1: 5)؟ وكذلك يعمل التعصب في القلوب فيطمس البصائر ويعوج الضمائر. هذه هي المرة الوحيدة، التي وردت فيها كلمتا "كهنة ولاويين" متحدتين معاً في العهد الجديد.

كان اللاويون والكهنة موفدين رسمياً من اليهود في أورشليم. والكلمة "يهود" – يحصر اللفظ وبحسب اشتقاقها- تعني الخارجين من سبط يهوذا. لكنها أطلقت بعد السبي على كل الأمة الإسرائيلية، لأن الراجعين إلى بلادهم، بعد السبي، كان جلهم من سبط يهوذا. وهي في هذه البشارة –إلا في موضع واحد 4: 9- تعني الكتلة اليهودية المعادية للمسيح، وعلى الغالب تستعمل عن رؤساء الكهنة. وليس من الغريب أن يطلق يوحنا البشير –وهو يهودي- كلمة "يهود" على الفئة المعادية للمسيح، لأن هذه الكلمة فقدت قوتها المميزة لليهود كجنس، بعد أن خربت أورشليم، فصارت تطلق على الفئة المتعصبة التي صلبت المسيح. وقد وردت 70 مرة في هذه البشارة (ب) وقت استجوابهم ليوحنا" "حين". لم يعين البشير موعد هذا الاستجواب بالضبط، وفي الغالب قد وقع بعد معمودية المسيح مباشرة.

لأن شخصية "المسيح" لم تتعين لدى يوحنا إلا عند المعمودية (ج) مصدر وفادتهم" "من أورشليم". (د) موضوع استجوابهم: "من أنت"؟ كان استجوابهم يحوم حول شخصية المعمدان، ليصلوا منها إلى معرفة شخصية مسيا (المسيح) المنتظر. وسنرى في عدد 24 أن اليهود وضعوا فياستجوابهم فخاً أمام يوحنا المعمدان ليوقعوه فيه، فيما إذا رفض أن يعرفهم بشخصه.

تناول يوحنا المعمدان في شهادته أما الوفد اليهودي الرسمي، أمرين:

أولاً: حقيقة القيامة 1: 20-23. سلبياً: 1: 20-21

وإيجابياً: 1: 22 و23

ثانياً: حقيقة رسالته 1: 24-27

عدد20.

20 فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ.

أولاً: حقيقة قيامته20: 23. إن شهادة يوحنا المعمدان هي غرة تاريخ الإنجيل. وهي تعين أول مرة سمع فيها رؤساء اليهود كلمة الإنجيل مواجهة. فهي أول شاهد يقوم في وجههم يوم الدين.

"فاعترف ولم ينكر، وأقر أني لست أنا المسيح". "اعترف، ولم ينكر، وأقر" – ثلاث كلمات- الكلمتان الواقعتان في الطرفين هما إيجابيتان والكلمة المركزية سلبية. وذكرت الثلاث معاً لتوكيد استعداد يوحنا، وصراحته ويقين شهادته. باعترافه اظهر استعداده. وبعدم إنكاره بين صراحته. وفي إقراره قدم برهاناً على إيقانه من شهادته. "اعترف" – هذا قول بلا إبطاء. "ولم ينكر" – هذا اعتراف بلا إخفاء. "هذا أقر" – يقين بجرأة وإباء.

لشهادة يوحنا جانبان- سلباً: (1) "لست أنا المسيح" عدد20 (2) "لست أنا ايليا" عدد21 (1) (3) لست أنا النبي21 (ج) إيجابياً. "صوت.." ع 22 و23.

عدد 21.

21 فَسَأَلُوهُ: «إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا». «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ: «لاَ».

الجانب السلبي-1: 20و21 كان الكتبة يعملون أن إيليا ينبغي أن يأتي قبل المسيح (مت17: 10) ولهذا الاعتقاد الخاطئ أسانيد كثيرة في التلمود، اغلبها ناشئ عن سوء فهم ملاخى4: 5. ولو كان في نية يوحنا المعمدان أن يخدع أولئك المستجوبين، لتمسك بأهداب قول المسيح في مت11: 14 وأجابهم بالإيجاب. لكنه كان يعلم علم اليقين، أن المسيح تكلم مجازياً قاصداً "روح" إيليا لا "ذات" إيليا (لو1: 17). أن المستجوبين كانوا يتكلمون حرفياً، قاصدين "شخص إيليا بالذات". لذلك كان يوحنا جريئاً وصريحاً في قوله "لست أنا". جاء في التلمود: سوف يظهر إيليا قبل مسياً ويقول لهذا: "أنت طاهر"، ولذلك "أنت نجس".

لم يكتف المستجوبون بهذا الجواب. وكيف يسكتون ولم يزل في جعبتهم بعض السهام؟ لذلك سألوه قائلين "النبي أنت"؟ لاشك أنهم قصدوا "النبي" الذي تنبأ عنه موسى بقوله "يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي. له تسمعون (تث18: 15). وفي هذه المرة أيضاً كان جواب يوحنا صريحاً قاطعاً "لا".

قد استنتج بعضهم خطأ، أن " النبي" هو ذاك الذي ظهر في بلاد العرب في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع بعد الميلاد. ويظهر بطلان هذا الاستنتاج من الاعتبارات الآتية":

(أ) واضح من سؤال هؤلاء الفريسيين أنهم كانوا يقصدون نبياً يأتي قبل المسيح ليهيئ الطريق له، وأما نبي العرب فقد ظهر بعد المسيح بزمان هذا مقداره.

(ب) أن الأخوة المقصودين بقوله "من أخوتك" هم الأخوة الأقربون لا البعيدون، بدليل قوله: "من وسطك" أي من أخوتك العائشين معك من بني اسحق لا من بني إسماعيل – الأخوة البعيدين. لأن إسماعيل لم يكن أخاً شقيقاً لإسحق، ولأن نسله كانوا عائشين بعيداً عن الإسرائيلي، فلا يمكن أن ينطبق عليهم القول "من وسطك".

(ج) تقرر التوراة صراحة أنه لن يقوم نبي من إسماعيل لأن الله قطع عهده مع اسحق لا مع إسماعيل- (تك17: 18-21و21: 10-12). (أطلب سورة العنكبوت آية27).

(د) مكتوب عن النبي الذي تنبأ عنه موسى أنه "مثل" موسى. وموسى كان عالماً لكن ذلك النبي كان أمياً (سورة الأعراف 156و160). وموسى عمل معجزات كثيرة (سورة الأعراف 101-116و160)والقرآن نفسه يشهد أن نبي العرب لم يعمل معجزات (سورة الأعراف 126-129 والاسراء59).

(هـ) من أهم أوصاف النبي الذي تنبأ عنه موسى "أن الرب يقيمه لإسرائيل" وأنهم يسمعون له "يقيم لك..له تسمعون". وواضح أن نبي العرب ظهر للعرب لا لليهود، ولم يستمع اليهود لرسالته. لكن المسيح قيل فيه عند المعمودية "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.. له اسمعوا" (مر9: 2 ولوقا9: 35).

ومما يستدعي الملاحظة أن جواب يوحنا كان في كل مرة يزداد اقتضاباً واختصاراً عن المرة السابقة لها- فمن قوله "أني لست أنا المسيح". إلى قوله "لست أنا"، إلى قوله"لا". هل الثلاث الكلمات "اعترف"، "ولم ينكر"، "وأقر" تسير بالتتابع مع جواب يوحنا في كل مرة من الثلاث المرات التي أجاب فيها على أسئلة الموفدين من اليهود؟!!

ع 22و23

22 فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟». 23 قَالَ: «أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ».

 الجانب الإيجابي "فقالوا له..قال أنا صوت".

استنفذ أولئك الموفدون سهامهم التي كانوا محتفظين بها في جعبتهم. فلم يبق لديهم إلا أن يجعلوا المعمدان نفسه يقرر حقيقة أمره بطريقة إيجابية: "من أنت لتعطي جواباً للذين أرسلونا. ماذا تقول عن نفسك"؟ فأجابهم جواباً لم يقل في صراحته ومضائه عن أجوبته السابقة، مقتبساً من اشعياء النبي (اش40: 3). بذلك أقام المعمدان حجة دامغة على أن له شخصية مستقلة عن أحد الأنبياء السابقين، وعلى ان مقامه مكين، يرتكز إلى أساس متين في العهد القديم. "أنا صوت صارخ في البرية". ترمز" البرية" إلى (أ) الجفاف- معطشة بلا مطر. (ب) الجدوب-تربة بلا ثمر. (ج) التيه- واد بلا ممر. هكذا كانت خدمة المعمدان لشعب في برية حسا ومعنى.

العبارة "كما قال أشعيا النبي" – من كلام المعمدان لا من تفسير البشير (مت3: 3 ومر1: 3) والاقتباس مأخوذ من الترجمة السبعينية. وقد اقتبسه أيضاً يوستنيان الشهيد.

في هذا الجواب يتمثل أمامنا ملك شرقي في موكبه. والمنادى يتقدم طليعته صارخاً "هو ذا الملك القادم! فأعدوا الطريق أمامه".

بل في هذا الجواب أخفى المعمدان ذاته وأظهر حقيقة رسالته. أما إخفاؤه ذاته فواضح من قوله "أنا صوت" وأما إظهاره حقيقة رسالته فمستفاد من اقتباسه كلمات نبي قديم له اعتبار عظيم لدى السائلين.

عدد 24و25.

24 وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ. 25 فَسَأَلُوهُ: «فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلاَ إِيلِيَّا وَلاَ النَّبِيَّ؟».

ثانياُ: شهادة المعمدان بحقيقة رسالته1: 24-27 (أ) الدور الأول من استجوابهم 1: 24و25 (ب) جوابه 1: 26و27

(أ) الدور الأول من استجوابهم 1: 24و25. " وكان المرسلون من الفريسيين" – تمييزاً لهم عن الصدوقيين الذين كان يتألف منهم أيضاً مجمع السنهدريم. وقد كان هؤلاء المرسلون الفريسيون مطبوعين بطابع التعصب الفكري لدرجة أنهم خرجوا عن حدود مهمتهم التي انتدبوا لها، فبدلاً من أن يكتفوا بأن يستجوبوا المعمدان عن شخصه، شرعوا يستجوبونه عن معموديته. ولابد أن معموديته جرحت كبريائهم، لنهم كانوا يعتقدون أن المعمودية هي الباب الذي منه يدخل الأممي إلى الدين اليهودي ولعلهم استنتجوا مما جاء في حزقيال 36: 25 واشعياء 52: 15 وزكريا13: 1 أنه لابد من معمودية ممتازة يقوم بها "مسيا" أو النبي الذي يهيئ الطريق له، لذلك سألوه قائلين: "فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح، ولا إيليا، ولا النبي"؟

يلاحظ لوثر أن نغمة كلام الفريسيين قد تغيرت ابتداء من عدد 25. قبلاً كان كلامهم مسبعاً بروح المسالمة، والآن أضحوا ينفثون تهدداً ومقاومة (لو 7: 30).

26 أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: «أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. 27 هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ».

(ب) جواب المعمدان 1: 26و27 "أجابهم يوحنا قائلاً.." – هذا جواب حكيم في أسلوبه، قوي بصراحته، جارح بصرامته. بهذا الكلام أجابهم المعمدان عما كان يجب عليهم أن يسألوا عنه، لا عما سألوا عنه بالذات. وكأني به، يقول لهم "تسألونني عن المعمودية، على اعتبار أنها عمل خاص بعصر المسيح؟ هوذا المسيح قائم الآن في وسطكم. إذاً لست أنا نبياً مخبراً عن مجيئه العتيد، إنما أنا مبشر بحضوره الآن. لا تهتموا بمعموديتي فهي من ماء. بل بمعموديته هو، فهي من نار.". إذا كان تعصب الفريسيين قد أنساهم حدود مأموريتهم، فأن حب يوحنا المعمدان للمسيح، قد أنساه عظمته الذاتية فانطلق لسانه متدفقاً كالسيل، شاهداً لمقام المسيح الممتاز وسمو طبيعته.

طبيعة معمودية يوحنا ع26و27. لهذا الجواب، طرفان وقلب. طرفاه يصفان (أ) حقيقة معمودية يوحنا: "أنا اعمد بماء"ع26. فهي إذاً معمودية رمزية، تمهيدية، خارجية. (ب) مقام يوحنا: "لست بمستحق أن احل سيور حذائه" ع27 – هذا مقام الخادم الوضيع. جاء في التلمود: يجب على التلميذ أن يقوم لمعلمه بكل الخدمات التي يقوم بها الخادم لسيده- ماعدا حل سيور حذائه. لكن يوحنا تخطى هذا الاستثناء وحسب نفسه غير مستحق أن يحل حذاء سيده. فهو إذاً اقل من تلميذ- انه خادم وضيع.

أما قلب هذا الجواب فأنه يرينا: (أ) المسيح حاضراً: "في وسطكم قائم" ع26. كلمة "قائم" تفيد الجلال، والثبات، ومقام الامتياز (مر11: 25و1 تي3: 8) (ب) المسيح مستتراً: "لستم تعرفونه" ع26.

لم يأت المسيح بمظهر الملوك، بل جاءنا وضيعاً، "لا صورة له ولا جمال فننظر إليه". إذا كانت هذه العبارة تصف المسيح في بساطة ظهوره، فهي أيضاًَ تصف الغفلة التي كانت مستولية على أذهان أولئك الفريسيين الذين تصدروا زعامة الشعب. وكم كان جارحاً لهم أن يسمعوا من فم المعمدان هذه الكلمة: "لستم تعرفونه"، في وقت كانوا يدعون فيه أنهم "حملة مفاتيح المعرفة"ز وكم من المرات يكون المسيح في وسطنا ونحن لا نعرفه، إما لخطية فينا، أو لغلاظة قلوبنا، أو بسبب غشاوة المادة التي على عيوننا

(ح) المسيح منتظراً: "يأتي بعدي ع27- باعتبار الزمن، وكان هذا طبيعياً، لأن خدمة المعمدان كانت ممهدة لعمل المسيح. (د) المسيح منتصراً ممجداً: "صار قدامي" ع27 باعتبار الدرجة والمقام، لأن المسيح كائن قبل كل الدهور، "وفيه يقوم الكل، لكي يكون هو متقدماً في كل شيء" (كو1: 17و18).

عدد 28.

28 هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ.

مكان لقاء المرسلين بالمعمدان_ "هذا كان في بيت عبرة في عبر الأردن حيث كان يوحنا يعمد". "بيت عبرة" معناها: "بيت العبور" وهي واقعة جنوبي بحر الجليل على بعد 14 ميلا. ويعتقد بعض الثقات أنها هي "بيت عنيا" الثانية الواقعة على الشاطئ الشرقي لنهر الأردن، حيث كانيمكن عبور النهر لقلة عمق مياهه هناك. ولهذا كان ذلك المكان يسمى أيضاً "بيت عبرة" ويميل أوريجانوس المصري إلى الرأي الأول. وعلى كل فإن معنى الكلمتين واحد. لأن "بيت عنيا" كلمة أرامية – "بيت أنية" – أو "بيت السفينة" – أي "بيت المعدية" أو "عبور النهر". وهذا هو نفس المعنى الذي تحمله كلمة : "بيت عبرة".

(ب) شهادة يوحنا المعمدان في محضر المسيح 1: 29 – 34

انصرف هذا الوفد اليهودي المعمدان، فانصرف هو أيضاً إلى عمله، وفي غد ذلك اليوم وقد بدأت شمسه أن تميل وراء الأفق، أقفلت الجماهير المعتمدة من يوحنا، رجوعاً إلى المدن والضياع التي منها أتوا، فلم يبق مع المعمدان سوى تلاميذه وحدهم. وفي تلك الساعة الرهيبة بسكونها، المهيبة بعزلتها، أقبل المسيح وعلى محياه ترتسم علائم الظفر والفوز، وهو خارج من برية اليهودية حيث ظفر بالشيطان في معركة فاصلة، وهو على أتم الاستعداد أن يقدم نفسه حملاً فدائياًَ ليرفع خطية العالم. ومن غرائب الاتفاق أن تجربة الشيطان للمسيح في البرية، تمت في يوم تجربة الفريسيين ليوحنا المعمدان. ولا فرق بين المجرب في الحالين: سوى أن إبليس كان شيطاناً سافراً لكن الآخرين كانوا شياطين مقنعة.

وفيما كان المسيح مقبلاً إلى يوحنا – في طريقه من برية اليهودية إلى الجليل – استقبله يوحنا بشهادة جديدة معلنة (أ) كفاية كفارته "هوذا حمل الله" ع 29 (ب) سمو رفعته "هذا هو......" ع30 و31 (ج) حقيقة مسيحيته "وشهد يوحنا قائلاً.." ع 32 و33 (د) امتياز بنوته "وأنا قدرأيت وشهدت" ع34. ويجمل بنا الآن أن نذكر الدرجات التي ارتقت وتدرجت عليها شهادة المعمدان عن المسيح: فمن وصفه إياه بكلمات عامة: "الذي يأتي بعدي" ع15، إلى تعيين شخصه بالذات بقوله: "في وسطكم قائم" ع26، إلى شهادته بكفارته ع29، إلى اعترافه بمسيحيته ع33، حتى بلغ الدرجة القصوى في سلم شهادته إذ نادى بلغة الوثائق المقتنع بامتياز بنوة المسيح: "وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله"ع34.

عدد 29.

29 وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.

(أ) كفاية كفارة المسيح: "هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم".

"هو ذا" – تقال هذه الكلمة لتوجيه الالتفاف إلى شخص عجيب، أو إلى ضالة كان ينشدها أحدهم فوجدها، أو للفت النظر إلى شخص قريب. وهنا نطق بها المعمدان موجهاً أنظار تلاميذه – والعالم أجمع – إلى أعجب شخصية في التاريخ، وإلى الحمل الممتاز الذي كانت ترمز إليه ذبائح العهد القديم فوجده هو، إذ كان منه قاب قوسين أو أدنى.

"حمل الله" الحمل المعين من الله والمقدم من الله، والمقبول من الله،أكان يوحنا مشيراً إلى حمل الله الذي رمز الحمل الذي قدم بدل اسحق (تك 22: 13) أم إلى الذي رمز إليه حمل الذبيحة اليومية (خروج 29: 48)؟ أم إلى الذي أشار إليه حمل الكفارة، ويوم الفصح كان آنئذ قريباً؟ (2: 12 و13)؟ أم إلى الحمل الذي تنبأ عنه أشعياء(إش 53: 7)[2] وكان فكر المعمدان مشتغلاً وقتئذ بنبوات أشعياء (1: 23) أم إلى الحمل العظيم الذي نسب إلى اسم الجلالة؟ أم إلى كل هذا معاً؟؟؟ ومن الأهمية بمكان، أن نذكر أن الصفة الممتازة التي يقصدها يوحنا في الحمل هي تضحيته. فمع أن الحمل صامت، ووديع، وكامل، لكن وجه الشبه الرئيسي هو الكفارة. إن مركز الدائرة في المسيحية، هو المسيح. ومركز الدائرة في حياة المسيح هو الصليب. "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فالصليب أولاً، ثم الكمالات الأدبية الأخلاقية. إن إنشودة المسيحية الخالدة هي "مات لأجلي".

"الذي يرفع" – أي الذي يحمل على عاتقه، ويزيل خطية العالم، ليطرحها في برية النسيان (إش 53: 11). وهي في اللغة الأصلية تفيد الدوام المتواصل. إن رفع الخطية لا يقف عند حد مغفرتها، بل يقصد به أيضاً كسر شوكتها وسحق قوتها وإبطال سلطتها. "خطية العالم" – استعملت هنا كلمة "خطية" بالمفرد لا بالجمع للدلالة على أصل الخطيّة، ومبدأها، ونبعها، فشجرة التين يقال لها "تينة" مع أن ثمارها يقال لها "تين". كأن كل خطايا الجنس البشري تجمعت على شخص واحد، كما تتركز أشعة الشمس وتتجمعفي نقطة واحدة هي نقطة الاحتراق. "والعالم" هو البشرية البعيدة عن الله، المتمردة عليه، والمحبوبة منه، على رغم كل هذا (3: 16). ومن العجيب أن يوحنا المعمدان، وهو يهودي، وقد ارتفع ببصره فتخطى حدود اليهود وقال "العالم".

إن كفارة المسيح كافية شافية. فهي كافية للجميع، وشافية للمؤمنين بها فقط.

عدد 30

30 هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي.

(ب) سمو رفعة المسيح "هذا هو.." 30 و31. هذه نغمة المؤمن، الواثق مما يقول. (انظر عدد 7 و8 و15 و19 و24).

"قلت عنه" – في اليوم السابق عدد 15. "رجل" – وفي اليونانية تعني أفضل من رجل. استعملها هوميروس بمعنى "الأمير". وفيما بعد صارت لقباً تقابله كلمة "نبيل" في العربية. واستعملت أيضاً بمعنى "البطل" كما يقول عن رجل شريف مقدام: "هذا رجل". وهي تطلق على الإنسان في سموه ورفعته. "صار قدامى" – في المقام. "لأنه كان قبلى" – منذ الأزل.

عدد 31.

31 وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لَكِنْ لِيُظْهَرَ لِإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ».

جهل المعمدان لحقيقة المسيح "وأنا لم أكن أعرفه...." يظهر لأول وهلة من متى 3: 14، أن المعمدان كان يعرف المسيح، فكيف يقول هنا أنه "لم يكن يعرفه"؟ المعرفة المقصودة هنا هي معرفته بأن يسوع هو المسيح المنتظر – معرفته من حيث رسالته ومسيحيته. لا من حيث شخصه حسب الجسد. لأنه من الطبيعي أن يكون المعمدان قد عرف يسوع حسب الجسد لما بينهما من صلة القرابة، لكنه ظل يجهل أن يسوع هوالمسيح ابن الله، "حتى رأى الروح نازلاً مثل حمامة من السماء ومستقراً عليه" "لكن ليظهروا" – هذا هو الغرض الثاني من خدمة المعمدان، والغرض الأول هو إعداد الطريق أمام المسيح الملك. الكلمة "ليظهروا" كثيرة الورود في كتابات يوحنا البشير (2: 11، 3: 21، 7: 4، 9: 3، 17: 6 و21: 1 و14 و1 يوحنا 1: 2 و2: 19 و28، 3: 2 و5 و8 و9 ورؤ 3: 18، 15:4) ولعله أخذها عن أستاذه يوحنا المعمدان، "إسرائيل" – بحسب استعمالها في هذه البشارة تعني العنصر الروحي الرشيد في الأمة اليهودية (1: 49 و3: 10 و12: 13).

عدد 32

32 وَشَهِدَ يُوحَنَّا: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ.

(ج)حقيقة مسيحية المسيح: "وشهد يوحنا قائلاً..." 1: 32 و33. هذه شهادة مبنية على ما رأته العينان "قد رأيت"، وما سمعته الأذنان "قال لي"، وعلى فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل حجة. "رأيت" – معناها في الأصل "تفرست". لم يتحقق من الرؤيا ويميزها سوى المسيح والمعمدان (مت 3: 16 و17 ومرقس 1: 10 و11 ولوقا 3: 21) إن روح الله الذي به يقترب الناس من الله، قد استقر على كلمة الله الذي به يقترب الله من الناس. "حمامة" هذه ترمز إلى اللطف، والطهارة والوداعة، وعدم الأذى[3]. الكلمة "استقر" تحمل أفكارنا إلى يوم الخمسينحين استقر الروح في الكنيسة التي هي جسد المسيح (أعمال 2: 3) كما استقر هنا على رأس المخلص. في العهد القديم كان الروح القدس يعطى لأجل خدمة خاصة، لكنه استقر الآن على شخص المسيح. "الذي أرسلني" – الله الآب – الأقنوم الأول في اللاهوت. هذا العدد الواحد يحمل إشارة إلى عمل الله الواحد، المثلث الأقانيم: "الذي أرسلني" – الله الآب، "الروح" – الله الروح القدس الأقنوم الثالث. "عليه" الله الابن الذي هو الأقنوم الثاني. فالأقنوم الأول أرسل. والأقنوم الثاني مسح بالروح القدس. والأقنوم الثالث نزل. ولقد تعمّد المسيح بالروح القدس، لأنه هو سيعمد غيره بالروح القدس. وهنا فضل خدمة المسيح على خدمة المعمدان. خدمة المعمدان بماء – خدمة رمزية، خارجية، جسدية، وقتية. لكن خدمة المسيح بنار _ خدمة جوهرية، داخلية، روحية، دائمة.

عدد 34

33 وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. 34 وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ».

– د – امتياز بنوة المسيح: "وأنا قد رأيت وشهدت" 1: 34 هذا ناتج عن شهادة المعمدان – أن المسيح هو ابن الله بكيفية ممتازة لا يدانيه فيها سواه. إن جميع المؤمنين يحسبون أبناء الله بالتبني فقط لأنهم كانوا غرباء عن الحظيرة السماوية فأدخلهم الله إليها بفضل نعمته. لكن المسيح هو ابن الله بالجوهر، والذات، والطبيعة. فهو صورة الله غير المنظور. وهو بهاء مجده. ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته.

هذه خاتمة شهادة المعمدان التي أدّاها للمسح بلسانه، وقد أردفها بشهادته التي قدمها بموته واستشهاده.

ج- الشهادة الثالثة التي أدّاها يوحنا المعمدان

شهادته أمام تلميذيه: اندراوس ويوحنا البشير 1: 35 – 37

ها قد بلغنا الآن، نقطة الاتصال بين خدمة يوحنا المعمدان وخدمة المسيح. بل هذا ملتقى العهد القديم بالعهد الجديد. لأن اثنين من تلميذ المعمدان صارا تلميذين للفادى. وهذه أكبر مكافأة لخدمة المعمدان: أن اثنين من تلاميذه نقلا من القسم الإعدادي إلى القسم العالي. بل هذا مظهر من مظاهر الخلق المتين الذي تحلى به المعمدان إذ قبل على نفسه أن يخسر اثنين من أحب تلاميذه إليه – خسارة هي نعم الربح للمعمدان فلأنها دليل على تقدير سيده لخدمته، وأما للتلميذين فإنهما صارا فيما بعد رسولين، بل عمودين في هيكل الكنيسة الأبدي، بل لؤلؤتين لامعتين في تاج الخلود.

أن الطابع العام الذي طبعت به هذه البشارة – التدرج، قد طبعت به أيضاً دعوة التلميذين إلى المسيح. كانا تلميذين للمعمدان. ثم وجهت أنظارهما إلى المسيح حمل الله عدد 29 و36، ثم دعيا إلى البيت الذي كان المسيح ساكناً فيه عدد 39، ثم شاهدا معجزاته فرأيا مجده 2: 11.

شهادة التلاميذ الأولين

إن الشهادة الحيّة تهيئ الطريق للإيمان الحي، ولن يكون الإيمان حيّاً إلا إذا اتصل بشخصيّة حية. ولن تكون الشخصية حية موضوع الإيمان الحي إلا متى كانت شخصية قوية وجامعة- كذلك كانت شخصية المسيح التي حجت إليها شخصيات كثيرة متباينة الجنسيات، والنزعات، والدرجات. فمن سمعان، ويوحنا، ونثنائيل، الذين يحملون أسماء عبرية[4]، إلى أندراوس وفيلبس اللذين يحملان اسمين يونانيين. من بطرس المجازف المقحام، إلى نثنائيل الوداع، الجالس تحت تينة، إلى يوحنا ويعقوب ابني زبدى.

إذا تأملنا شهادات التلاميذ على المسيح، رأينا فيها تدرجاً متمشياً مع روح البشارة كلها. فمن شهادة اندراوس العامة: "قد وجدنا مسيا" عدد 41، إلى شهادة فيلبس المخصصة: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء: يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة" عدد 45، إلى شهادة نثنائيل العميقة "أنت ابن الله. أنت ملك اسرائيل" عدد 49.

وإذا نظرنا إلى الوسائل المختلفة التي بها دعا تلاميذ المسيح، وجدنا أنفسنا أمام غنى الحكمة الإلهية المتنوعة. فالطريقة التي بها اهتدى أحد التلاميذ إلى المسيح، هي غير الطريقة التي اهتدى بها الآخر. يوحنا وأندراوس أتيا إليه نتيجة شهادة أستاذهما، وتوطد إيمانهما به بعد محادثة هادئة تمت بينه وبينهما في البيت. وسمعان جاء إليه نتيجة شهادة أخيه، وتعمق إيمانه به بعدأن سمع منه كلمة فاحصة كشفت له ماضيه وحاضره ومستقبله في لحظة.وفيلبس الرجل العملى استأثرته شخصية المسيح القوية، فأقبل إليه نتيجة كلمة حاسمة لم تترك أمامه مجال للشك والتردد، ونثنائيل الوادع وجده نتيجة كلمة هادئة كالنسيم سمعها فملأت قلبه رجاء وعزاء. من التلاميذ من جاء إلى المسيح بدعوى من سواه، ومنهم من طلب المسيح باحثاً، ومنهم من دعاه المسيح بالذات. منهم من جاءه متسربلاً برداء الشك، ومنهم من جاءه مطمئناً واثقاً.

طليعة التلاميذ– يوحنا وأندراوس 1: 38 – 40 (أ) سؤال المسيح لهما: "...ماذا تطلبان". (ب) جوابهما على سؤال المسيح: "يا معلم أين تمكث" ع 38. (ج) دعوة المسيح لهما: "تعاليا وانظرا". (د) تلبيتهما للدعوة: "فأتيا ونظرا...." ع39. (هـ) اسم أحدهما: "كان أندراوس أخو سمعان..." ع40.

عدد 38

35 وَفِي الْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ تلاَمِيذِهِ. 36 فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ». 37 فَسَمِعَهُ التِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ فَتَبِعَا يَسُوعَ. 38 فَالْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ: «رَبِّي أَيْنَ تَمْكُثُ؟»

(أ) سؤال المسيح لهما:"فالتفت يسوع ونظرهما يتبعان فقال لهما ماذا تطلبان؟".

سمع هذان التلميذان شهادة معلمهما المعمدان عن المسيح أنه خمل الله، فتركا معلمهما وتبعا فاديهما، ومنذ تلك اللحظة وهما إلى الآن يتبعان "الحمل الذي في وسط العرش وهو يرعاهما ويقتادهما إلى ينابيع ماء حيّة" (رؤ7: 17). كان هذان التلميذان يتبعان يسوع في وقت كان قد حول فيه وجهة عنهما ذاهباً في طريقه. إلا أن قلبه العطوف لم – ولن – يتحوّل عنهما، بل كان مراقبا مبادئ الحياة الجديدة وهي تدب في قلبهما كالنبتة الضعيفةالمحتاجة إلى أشعة الشمس لتقويها وتغذيها، وقطرات الندى لتنعشها وترويها. فحول المسيح وجهه إليهما وسلّط عليهما شعاعاً شافياً من أشعته النورانية المحيية قاصداً أن يشجع توجهات حياتهما الجديدة. "ونظرهما" – هذه الكلمة تفيد التفرس والإعجاب، والاهتمام (6: 5، 1يو 1: 1)، "وقال لهما ماذا تطلبان" – هذه أول كلمة للمسيح في بشارة يوحنا. إن أولى كلماته في بشارة متى هي: "اسمع الآن. لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر" (مت 3: 15)، وفي بشارة مرقس: "قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالأنجيل" (مر1: 15)،وفي بشارة لوقا: "فقال لهما لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون في مالأبي" (لو2: 49).

"التفت"... "ونظرهما"... "فقال لهما"، هذه عبارات ثلاث تعين لنا الدرجات الثلاث التي بها عالج المسيح إيمان التلميذين في مهده. "التفت" – أراهما وجهه. "نظرهما" – رأى قلبيهما. "فقال لهما" – أراهما حقيقة قلبيهمل. "ماذا تطلبان" – كنّا ننتظر أن يسألهما المسيح قائلاً "من تطلبان" بدلاً من قوله "ماذا تطلبان". كأن يسألهما عن الشخص، لاعن الشيء الذي يطلباته. لكن للأسف كثيرون يقصدون المسيح لأنهم يطلبون عطاياه لا شخصيّته كم من كثيرين يطلبون الفادى من غير قصد معيّن. فهم كريشة في مهب الرياح وكغيوم من غير ماء. أن عارف القلوب تجلى لهذين التلميذين فرأيا فيه أكثر من "معلم"، وان "حمل الله" تمثل لهما"كاهناً" فأحصى الكلى، وإن السيد ظهر لهاما ورفشه في يده لينقي بيدره الجديد.

لم يقصد المسيح بسؤاله أن يلقي العثرات أمامها، ولا مجرد فحص ولامجرد فحص غاياتهما، بل قصد أن يهيئ الطريق أمام أشواقهما الجديدة، يسندها في طفولتها، ويوجهها اتجاهاً آمناً مطمئناً.

(ب) جوابهما على سؤال المسيح: "فقالا ربي، الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث". وحسنا أجابا. هل قدما هذا الجواب لأن المسيح فاجأهما بسؤاله فلم يجد أفضل من أن يجيب على سؤاله بسؤال آخر؟ أم أنهما أرادا أن يظهرا له أن قلبيهما محملان بالأشواق نحوه، وأن حديث الطريق لا يشبعهما لذلك طلبا فرصة خاصة في مكان هاديء؟ أم أنهما خافا لألّا يكون هو "عابر سبيل" ينظرانه الآن ثم يمضي عنهما غداً، فقصدا أن يتأكدا من محل إقامته؟ أم أنهما بسؤالهما هذا، قصدا أن يقولا له: "نريدك أنت. ولا نريد سواك. فقل لنا أين تمكث حتى نتملى برؤياك، ونشبع من سنا سناك"؟؟

الكلمات: - "الذي تفسيره يا معلم" من أقوال البشير. ولعل يوحنا فسر كلمة "ربي" لأنها كانت حديثة الاستعمال وقتئذ، فهي لم تستعمل إلا منذ أيام هليل، قبل المسيح بثلاثين عاماً.

عدد39.

39 فَقَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَانْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ الْعَاشِرَةِ.

(ج) رد المسيح: "فقال لهما تعاليا وانظرا". إن سؤال المسيح الفاحص، ودعوته الحبية، يرمزان إلى عمل النعمة الذي يعملهبروحه في قلوب الآتين إليه. الترجمة الحرفية للكلمتين "تعاليا وانظرا" هي "تعاليا الآن ومن ثم تنظران". هذه دعوة مزدوجة: "تعاليا" – دعوة إلى إطاعة الإيمان. "وانظرا" – دعوى إلى التعلّم، والطاعة دائما تسبق المعرفة. والإيمان يسبق العلم ويسايره هذه دعوى معجلة. لأن لمسيح خرج في الغد إلى الجليل (1: 43). فلو تأخر أو ترددا في قبول الدعوة لضاعت عليهما الفرصة إلى الأبد.

(د) إجابة الدعوة: "فأتيا ونظرا ومكثا". أطاعا. ونظرا. وانتظرا. وكما كانت الدعوى معجلة كذلك كانت تلبيتها. إن لذة هذه الزيارة بقيت عالقة في ذهن أحدهما – يوحنا البشير – إلى ما بعدها بستين عاماً لأنه ذكر موعدها بالضبط: "وكان نحو الساعة العاشرة" – بالحساب الأفرنكي الذي كان الرومان قد اعتمدوه. وهو يتفق والتوقيت المتبع الآن، أي قبل الظهر بساعتين. ويعتقد "ليتفوت" أنها الساعة العاشرة بالحساب اليهودي. أي قبل الغروب بساعتين، ويضيف إلى هذا، قوله: أن غد ذلك اليوم كان سبتاً. فلم يكن لديهما متسع من الوقت للسفر لذلك مكثا عنده حتى اليوم التالي. وما أجمل أن يصرف التلميذ أول سبت من حياته الجديدة في حضرة فاديه ومخلصه. إن السماء سبت أبدى لأنها تصرف بين يدي الله.

عدد 40.

40 كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ الاِثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ.

أندراوس "كان أندراوس أخو سمعان بطرس.. " واضح من هذا العدد، أن هذه البشارة كتبت في وقت كان قد صار فيه بطرسعلماً من أعلام الكنيسة وأوسع شهرة من أندراوس حتى وُصف بأنه "أخو بطرس". ومن الأهمية بمكان، أن نذكر أن أندراوس دخل الإيمان قبل بطرس. فمن المحال عندنا أن يكون بطرس أساس الكنيسة.

عدد41.

41 هَذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ فَقَالَ لَهُ: «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ).

سمعان بطرس 1: 41 و42 "هذا وجد أولاً أخاه سمعان". (أ) ما ظفر به أندراوس: "هذا وجد أولا": ويستفاد من كلمة "أولاً"، أن أول عمل قام به أندراوس بعد أن وجد المسيح – أو بالحرى بعد أن وجده المسيح – هو أنه وجد أخاه سمعان. وأيضاً أن كلاً من التلميذين ذهب مفتشاً على أخيه حتى يجده، فكان أندراوس السابق في هذا المضمار فوجد أولاً أخاه. أما التلميذ الآخر – يوحنا – فقد وجد أخاه فيما بعد. هذا برهان على تواضع يوحنا البشير في تسجيله حسنات غيره. "وجد" تنطوي هذه الكلمة على: البحث والسعي والجد المتواصل "ومن جد وجد".

ليست هذه المرة الأولى والأخيرة التي فيها أتى أندراوس بشخص إلى المسيح (أنظر يو6: 8، 14: 22). ومما يلفت أنظاراً أن أندراوس ووجد المسيح قبل أن يجد أخاه. إن الرابطة الروحية التي تربط الإنسان بالمسيح، أقرب، وأسبق، وأمتن من أية رابطة جسدية.

(ب) ما قاله أندراوس: "قد وجدنا مسياً" هذه شهادة النفس المتواضعة التي لم تحتكر امتياز هذا الاكتشاف لذاتها. فبدلاً من أن تقول "قد وجدت" أعطت لغيرها حقاً معها وقالت "قد وجدنا مسياً". هذه شهادة النفس الظافرة التي وجدت "اللؤلؤة الكثيرة الثمن". اكتشفت "الكنز المخفي". إن فرح هذه النفس أعظم من فرح أرشميدس باكتشافه العظيم. بل هذه شهادة النفس المتيقنة الواثقة مماوجدت لأن "قد"حرف تحقيق. لا بل هذه شهادة النفس الباحثة المستنيرة "وجدنا مسيا". ومن العجب أن كلمة "مسيا" لم ترد على لسان أستاذه المعمدان. لكن أندراوس استطاع أن يفهم من الكتب أن "حمل الله" هو "مسيا المنتظر". الكلمة "مسيا" هي الصيغة اليونانية للكلمة الآرامية: "مشيحا"، والعبرية: "مشيح"، والعربية "مسيح" أي الملك العظيم الممسوح من الله والمنتظر من الشعب اليهودي، وفيه تتم نبوات العهد القديم. هذا المسيا كان منتظراً أيضاً من السامرين (4: 25). جاء في المدراش اليهودي شرحاً لما جاء قفي خروج 4: 22 ط بكر الله هو مسيا". وجاء في التلمود "إن اسم مسيا هو قبل كون العالم". ولأن يوحنا كان يكتب إلى الأمم، اضطر أن يفسر لهم كلمة "مسيا" اليهودية بقوله "الذي تفسيره المسيح".

عدد 42.

42 فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ).

(ج) ما فعله أندراوس: "فجاء به إلى يسوع" – وهذا يكفي. هذا عمل بسيط لكنه كامل. فإذا ما نجحنا في إحضار العطشان إلى الينبوع الصافي فقد عملنا كل مل يمكن عمله. هذا مثال لما ينبغي أن يعمله كل خادم للمسيح. فإذا لم يستطع أن يقدم المسيح للناس، فعليه أن يتقدم بالناس إلى المسيح.

إلى هنا ينتهي عما أندراوس ويبتدئ عمل المسيح.

(أ) نظرة:"نظر إليه يسوع" – هذه نظرة مشجعة. ما أعظم الفرق بين هذه النظرة وبين تلك التي وجهها المسيح إلى بطرس بعد خطيته المعهودة (لوقا 22: 61)!

(ب) إعلان: "أنت سمعان بن يونا" – هذا وصف لبطرس في ضعفه الحاضر. لأن سمعان تفسيره "المطواع، الضعيف، المستلين"،

(جـ) نبوة وتشجيع ""أنت تدعى صفا" – هذا وصف لبطرس في قوته التي يمنحه المسيح إياها فيما بعد. كلمة "صفا" آرامية الأصل تقابلها في العربية: "كهف" وفي اليونانية "بطرس"[5]،أي "حجر". عجيب هذا الفرق بين حال بطرس ومآله. لكن لا يبقى وجه لهذا العجب متى ذكرنا أن حلقة الاتصال بينهما هي نعمة المسيح المحددة.

هذا برهان جديد على أن المسيح اتخذ لنفسه كل حقوق يهوه في العهد القديم. فكما دعا يهوه يعقوب إسرائيل. كذلك دعا المسيح سمعان بطرساً، على أنه لا فائدة من تغيير الاسم إلا إذا تغيرت الحياة. والمسيح هو المغير لهما كليهما.

عدد 43.

43 فِي الْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْجَلِيلِ فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي».

دعوة فيلبس 1: 43 و44 نحن الآن محاطون باكتشافات جديدة. دونها اكتشاف المريخ: أندراوس وجد بطرس، ويسوع وجد فيلبس، وفيلبس وجد نثنائيل.

"في الغد" – هذا هو اليوم الرابع منذ أرسل الفريسيون وفدهم إلى يوحنا المعمدان. "أراد يسوع" أي وضع في فكره كما يفيد الأصل. إذاً دعوة المسيح لفيلبس لم تكن أمراً ارتجاليا، ولا فكرة بنت ساعتها، بل كانت نتيجة تفكير وتدبير سابقين. هذه الحادثة تصلح لأن تعتبر رمزاً لدعوة الله للمؤمنين (رومية 8: 30). ويعتقد هنستنبرج أن المسيح وضع في فكره أن يذهب إلى الجليل إتماماً للنبوات القديمة القائلة بأن الجليل يكون مهبطاً لخدمة مسيا. ويعتقد آخرون أن المسيح قصد أن يفسح مجالاً لخدمة المعمدان، ولعله قصد أن يرجع إلى الجليل لينتظر هناك ريثما يحين موعد الفصح فيذهب إلى أورشليم في العيد. "فوجد فيلبس – فقال له اتبعني" – إذاً يكون فيلبس[6]، أول شخص دعاه المسيح بالذات بقوله: "اتبعني" فالثلاثة الأولون – أندراوس، ويوحنا وبطرس – وجدوا المسيح. لكن فيلبس قد وجده المسيح. في كل هذايصدق القول: "نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". كلمة واحدة قالها المسيح لفيلبس: وكذلك لمتى أيضاً مت 9: 9، "اتبعني" (فيها خلاصة الحياة المسيحية) فهل فهم فيلبس في الحال كل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من أتباعه إلى جشيماني وإلى الجلجثة، وإلى القبر، وإلى المجد؟ أم فهم منها أن المسيح يدعوه ليتبعه في رحلته إلى الجليل وكفى؟

عدد44.

44 وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ.

موطن فيلبس "وكان فيلبس من بيت صيدا.." – ومعناه محل الصيد – "من مدينة أندراوس وبطرس" يا لها من مدينة عجيبة خرج منها كثيرون من خير صيادي الناس. لم يذكر البشير شيئاً عن نفسه ولا عن موطنه، تواضعاً منه كعادته. وقد اندثرت مدينته وذهبت معالمها ولم يبق منها سوى أكوام معروفة بـ "تل حوم". أما مدينة فيلبس فهي "بيت صيدا" الجليل، الواقعة في الجهة الغربية من نهر الأردن قرب بحيرة طبرية بقرب "خان منية". "وهي غير بيت صيدا" الواقعة شرقي الأردن قرب مصبه في بحر طبرية. ويظن طمسون الرحالة أن ليس إلا بيت صيدا واحدة وأنها عند "أبي زاني"الحالية، بجانب مصب الأردن في بحر طبرية.

عدد 45.

45 فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ».

نثنائيل – أول ثمرة التين الناضجة 1: 45- 51 إن أول تلميذ وجد المسيح، وأول تلميذ وجده المسيح، صار كلاهما مبشرين ناجحين. فأندراوس وجد سمعان، وفيلبس وجد نثنائيل. كلمة "نثنائيل" – عبرية تقابلها في اليونانية "ثيودور" المعربة بـ "تاوضروس". ومعناها "عطية الله". نثنائي المذكور في بشارة يوحنا هو برثولماوس المذكور في سائر البشائر.

لأن ذكره في اسنهلال بشارة يوحنا وفي خاتمتها (1: 45 و21: 2) يدل على أنه كان ذا مقام ممتاز بين التلاميذ. ولأن سائر البشيرين ذكروا اسم برثولماوس بجانب اسم فيلبس (مت 10: 3 ولو 6: 14 ومر 3: 18) وكذلك فعل يوحنا باسم نثنائيل. فمن المرجح جداً أن نثنائيل هو برثولماوس، سيما وأن برثولماوس ليس اسماً بل كنية ومعناه: بن تلماي – أي "ابن الحارث" وربما عرف في بعض الأوساط باسمه "نثنائيل" وفي البعض الآخر بكنيته: "ابن الحارث".

لقد اتخذ دعوة نثنائيل دورين: أحدهما تمهيدي – حدث بينه وبين فيلبس 1: 45 و46. وثانيهما نهائي حدث بينه وبين المسيح 1: 47 – 51.في الدور الأول نرى نثنائيل متحيراً في شكله. وفي الدور الثاني نرى نثنائيل باحثاً، ومتعجباً، ومعجباً، ومؤمناً.

الدور الأول – نثنائيل متحيّر في شكله 1: 45 و46. هنا نرى (1) كلام فيلبس مع نثنائيل: "وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء". يقول البشير: "المسيح وجد فيلبس" عدد 43 – هذا هو الصوت. ويقول فيلبس: "وجدنا المسيح" ع45 – هذا هو الصدى. هذه شهادة (أ) المتواضع: "وجدنا" لا "وجدت" (ب) الباحث عن الحق: "الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء"(ج) المدقق في بحثه: "يسوع بن يوسف" – كما كان يظن – "الذي من الناصرة" – بذلك قد ربط القديم بالجديد (د) الفرح باكتشافه.

عدد 46.

46 فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «أَمِنَ النَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «تَعَالَ وَانْظُرْ».

(2) رد نثنائيل: "أمن الناصرة..." هذا هو الجواب المتحير في شكله. مع أن الجليلين كانوا وقتئذ محتقرين لخشونتهم، وعدم تهذيبهم، لكنا نرى هنا جلياً يحتقر الناصرة. والإنجيل نفسه لا يضع الناصريين في مكان يحسدون عليه، فالمسيح تركهم وفضل أن يعيش بين أهل كفرناحوم (مت 4: 13)، ولم يقدر أن يعمل معجزات في الناصرة بسبب عدم إيمان أهلها. (مت 13: 58). وفي ذات يوم شرعوا في قتل المسيح الذي هو مفخرة وطنهم (لو 4: 29). ولعل نثنائيل قصد أن يقول آمن الجليل الحقير – والناصرة جزء منه – يمكن أن يكون شيء صالح؟ فيكون قد فاه بهذه الكلمة من قبيل التواضع والتعجب، لا من قبيل التحقير – لأنه هو أيضاً جليلي.

عدد. الدور الثاني – نثنائيل باحث 1: 47 – 51.

47 وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ عَنْهُ: «هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ».

في هذا الدور نرى طابع التدرج المطبوعة به كل البشارة. نلاحظ هذا التدرج في اختبارات نثنائيل، وفي إعلانات المسيح لنثنائيل. في اختبارات نثنائيل نراه مقبلاً عدد47، فمتعجباً عدد48، فمؤمناً مقراً بإيمانه عدد 49. وفي إعلانات المسيح نراه معلناً حقيقة نثنائيل للواقفين معه عدد 47، ثم مظهراً قوتّه الفاحصة لنثنائيل عدد 48، ثم واعداً إياه بإعلانات أعمق وأتم في المستقبل القريب والبعيد عدد 50 و51.

الكلمة المركزية في هذا الفصل هي: "إسرائيلي"، وهي عبرية معناها "يسود الله". إنها تصوّر لذاكرتنا يعقوب أبا الأسباط، الذي أعطى هذا اللقب المجيد بعد صراع عنيف، فناله بضعفه لا بقوته. إن ما جاء في يو 1: 47 عن إسرائيل الجديد، يقابله ما جاء في تكوين 32، عن إسرائيل القديم، وما جاء في يو 1: 51 يتمشى مع ما جاء في تك 28. تمت مصارعة الأول وهو منفرد في وحدته، كذلك كانت مصارعة الثاني. على أن مصارعة يعقوب تمت في ظلمة الليل، لكن مصارعة نثنائيل تمت في نور النهار، وهو جالس تحت ظل تينته – والتينة ترمز إلى الهدوء والاطمئنان. وتحت تينة أيضاً اهتدى أغسطينوس إلى الله. كان يعقوب إسرائيل محاطاً بشكوكه ومخاوفه كذلك كان نثنائيل. نال يعقوب لقب "إسرائيل" من شخص عجيب، هو الله – الإنسان، أو الإله المتأنس إذ قيل له: "جاهدت مع الله والناس"، وكذلك نال نثنائيل لقب "إسرائيلي حقاً" من المسيح الذي هو الله المتجسد (يوحنا 1: 14).

حوار بين المسيح ونثنائيل. لنتأمل في هذا الحوار البديع فنلاحظ (أ) المسيح ناظراً إلى نثنائيل في وقت إقبال نثنائيل إليه: "ورأى يسوع نثنائيل مقبلاً إليه" – هذه نظرة مزدوجة – ظاهرية وباطنية. فالمسيح رأى نثنائيل كما يراه أي إنسان، ورأى أعماق نفسه كما يراه الله وحده. "مقبلاً إليه" – إقبالاً مزدوجاً: بالجسد، وبالروح. (ب) المسيح شاهداً عن نثنائيل "هوذا إسرائيلي حقاً لا غش فيه" أي هذا هو الإسرائيلي الروحي، المخلصظ، الحقيقي (رو 2: 29). هل في هذا القول مفاضلة ما، بينإسرائيل الجديد – نثنائيل، وبين إسرائيل القديم – يعقوب، الذي كان معجوناً بالمكر والدهاء؟ أم هذه عبارة تفسيرية لما قيل عن إسرائيل القديم في تك 25: 27، فيكون معناها: "هو ذا إسرائيلي بالحق"؟ يغلب على اعتقادنا أن المعنى الثاني هو أقرب الاثنين إلى الصواب (ج) نثنائيل متعجباً من علم المسيح الفاحص.

عدد 48.

48 قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ».

نثنائيل يتعجب لما أدرك نثنائيل أن المسيح عالم بحقيقة قلبه، ملكه العجب فقال له: "من أين تعرفني؟" هذه – ولا شك – معرفة إعجازية إلهية. وإلا لما أثارت تعجب نثنائيل واندهاشه.

(د) جواب المسيح على تعجب نثنائيل "قبل أن دعاك فيلبس وأنت تحت التينة رأيتك" – من هذا الجواب نرى أن المسيح أجاب على تعجب نثنائيل بما يزيد هذا التعجب لا بما يزيله. لأن المسيح أعلمه أن له قوة إلهية خارقة تجتاز الأبعاد المسافات، وتخترق حجب أوراق التين الخضراء. فهو يعلم كل شيء لأنه يرى كل شيء.

عدد 49.

49 فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: «يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».

(هـ) تعجب نثنائيل ينقلب إعجاباً، وإيماناً، وإقراراً: "يا معلم أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل". في هذا الإقرار ثلاث كلمات – كل منها تصف المسيح في ناحية معينة: "معلم"، "ابن الله"، "ملكإسرائيل". "معلم" – هذا هو اللقب الذي كان المسيح معروفاً به عند عامة الناس. وإذا كان نثنائيل قد أقر بأن المسيح معلم فقد اعترف ضمناً بأنه تلميذ لهذا المعلم. "ابن الله" هذا وصف للمسيح في شخصه الإلهي الذي له طبيعة واحدة مع الله. وإذا كان نثنائيل قد أقر بأن المسيح ابن الله فقد اعترف ضمناً بأنه متعبد له. "ملك إسرائيل" – هذا وصف للمسيح في وظيفته الإلهية. وإذا كان نثنائيل قد أقر بأن المسيح "ملك إسرائيل" فقد اعترف ضمناً بأنه عبد له. هذا برهان جديد على أن نثنائيل هو "إسرائيلي حقاً لا غش فيه". كأن نثنائيل قصد أن يقول للمسيح: "إذا كنت أنا إسرائيلياً، فأنت ملك إسرائيل، بل ملكي أنا". نثنائيل هو آخر التلاميذ الذين أتوا إلى المسيح – في هذا الإصحاح – لكنه كان أسبق التلاميذ إلى الاعتراف بلاهوت المسيح، وسمو ملكوته. إذاً قد صار الآخرون أولين. وإذا كان كثيرون يقعون في شك بعد إيمان، فإن نثنائيل قد ارتقى إلى الإيمان بعد الشك، ومن عجائب الاتفاق أن غرة هذه البشارة ترينا تلميذاً قد شك ثم آمن، وأن خاتمها تتوج بتلميذ كان مؤمناً، فشك ثم عاد إلى الإيمان – توما. وربما كان أقوى أنواع الإيمان، ذاك الذي يتوطد بعد شك.

عدد 50 و51

50 أَجَابَ يَسُوعُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا!». 51 وَقَالَ لَهُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً وَملاَئِكَةَ اللَّهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ»

(و) المسيح يعد نثنائيل بإعلانات أجل وأكمل، في المستقبل البعيد عدد 50، والقريب 51. إن ما رآه يعقوب إسرائيل في حلم الليل: "سلماً منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء وملائكة اللهصاعدة ونازلة عليها" سيحققه نثنائيل – الإسرائيلي الروحي – في وضح النهار. وما السلم التي رآها يعقوب سوى رمز ليسوع المسيح المتجسد، الذي يسمو بلاهوته إلى أعلى السماوات، ويلامس بناسوته أعماق الأرض. لقد فتحت الخطية هوة عميقة بين السماء والأرض. وفي العهد القديم، سمح الله لبعض بني البشر أن يروا شعاعاً ضئيلاً من أنوار التجسد الذي ملأ هذه الهوة. فرأى يعقوب في حلمه شعاعة من التجسد، ولمح أيوب بصيصاً منه، لكن الطريق بين السماء والأرض كان غير مطروق إلى أن جاء "الطريق والحق"، والحياة، وفي غرة خدمة المسيح الجهرية – عند المعمودية – انفتحت السماء وانفرجت شفتاها عن قبلة الأرض، وفي جشيماني ظهرت الملائكة خادمة لابن الإنسان، وعند مجيئه ثانية ستنفتح السماء، ويظهر منها رب الأكوان، حاملات تعطفات السماء على الأرض، ومبلغاً أشواق الأرض إلى السماء، بل مصيراً الأرض سماء.

لأول مرة في هذه البشارة نسمع الفادي يقول: "الحق الحق"، ولأول مرة فيها نسمعه يقول عن نفسه إنه: "ابن الإنسان"، بهذا اللقب تختتم قائمة الألقاب التي خلعت على المسيح في هذا الإصحاح: "حمل الله": (29 و36)، "ابن الله": (34 و39)، "مسياً": (41 و45)، "ملك إسرائيل" (49) "ابن الإنسان": (51).وقد ورد هذا اللقب 79 مرة في البشائر: 11مرة في يوحنا، 12 في مرقس، 26 في لوقا، و30 في متى. ولم يرد لها ذكر في العهد القديم سوى مرة واحدة في دانيال 7: 13. ومما يستحق الاعتبار، أن هذا اللقب قد خلعه المسيح على نفسه ولم يجسر أحد سواه أنيطلقه عليه[7]،ويغلب على اعتقادنا أن التلاميذ لم يجسروا أن يطلقوا هذا اللقب على المسيح، تحاشياً من نغمة الاتضاع التي تحيط بهذا اللقب. غير أنه لقب ممتاز ومجيد. فهو يتميز عن القول: "ابن الله" في كونه ينبر على الجانب الإنساني في المسيح. وعن القول: "ابن داود" في كونه يشير إلى سعة شخصية المسيح التي تضم كل البشرية معاً. وعن القول: "ابن آدم" في كونه ينبر على المجد الذي كلل به المسيح المتألم، الكامل، وقصارى القول: أن ما قصده المسيح بهذا اللقب هو مشاركته لنا في اللحم والدم، على كيفية تجعله ممثلاً للبشرية جمعاء، وفيه نرى الصورة الممتازة التي كانت تظل عليها البشرية ولم تخطئ، والحالة المجيدة التي ستصير إليها بعد إتمام الفداء في المجد.

أليس من الملذ أن نذكر أن المكان الذي رأى فيه يعقوب حلمه، هو بيت أيل – نفس المكان الذي كان المسيح واقفاً فيه مع نثنائيل، في طريقه من اليهودية إلى الجليل؟؟!!.

 

 


[1] يقول اغسطينوس إن الكلمة "ليس من دم" كلمة إجمالية تعني التناسل الشريف وان الكلمتين-الثانية والثالثة تفصيليتان،تشير أولاهما إلى إرادة المرأة والأخرى إلى مشيئة الرجل.

[2] يقول ابربنئيل وهو أحد أحبار اليهود: "قال الراب يوناثان من عزئيل أن الإصحاح الثالث والخمسين من أشعياء يشرح آلام "مسيا" المنتظر. ويؤيد هذا, آراء كبار أحبارنا, تباركت ذكراهم".

[3] للمزيد من الإيضاح انظر شرح بشارة لوقا على صحيفتي 94 و95

[4] لمعرفة معنى كل اسم بالذات انظر شرح بشارة لوقا المؤلف صحيفتي 155 و156

[5] قديلذ لنا أن نعرف أن الكلمة التياستعملت لبطرس في الأصل هي "بتروس" ومعناه حجر، لا "بترا" التي معناها صخرة، وليس من المعقول أن الكلمة الثانية هي التي قيلت لبطرس لأنهامؤنثة.. إننا نسوق هذا الحديث للذين يعتقدون أن بطرس هو الصخر الذي بنى عليهالمسيح كنيسته. ونؤكد لهم أن الصخر إنما هو إيمان بطرس بأن المسيح هو ابن الله. وأمابطرس، فمعناه "حجر" – لا أقل ولا أكثر.

[6] بملاحظةالمواضع الأخرى التي ورد فيها ذكر فيلبس في هذه البشارة، يتضح لنا أن فيلبس كانرجلاً حكيماً – في ص6: 5 تنكشف لنا حكمته العملية في تقدير حساب النفقة، وفي 12: 21 و22 تنجلي لنا حكمته في السياسة والتصرف مع الناس، وفي 14: 7 تظهر لنا حكمتهالمنطقية في حسبانه أن رؤية الله تكفي لحل جميع الأسرار والألغاز. ويحدثنا التاريخأن فيلبس صار أحد الأنوار المتلألئة فيآسيا. وهو غيرفيلبس المبشر الذيتبأتبناته (أعمال 8و 21: 8).

[7] إلا فيالمرتين اللتين ورد فيهما هذا اللقب على لسانيأسطفانوس(أعمال 7: 56)، ويوحنا البشير في الرؤيا (رؤيا 1: 13)، لأنذكرهمالهذا اللقب كان تردياً لصدى صوت المسيح من قبيل الاقتباس ليس إلا، علاوة على أنهلا يحسب مقاساًلندورته.