08 اَلأَصْحَاحُ الثَّامِنُ

عطف المسيح وصفحه

هذه حادثة فريدة في بابها، موسومة في طابع خاص في أسلوبها وموضوعها لذلك قد أحيطت بشيء من الشبهة، سيما من جانب الذين لم يفهموا حقيقة مراميها، فظنوا خطأ أنها تعلم التساهل في الشر، وقد فاتهم أن الصفح عن الشر شيء، وأن التساهل في شيء آخر. هؤلاء يمسخون رسالة هذه الحادثة إذ يبترونها، فيذكرون الجزء الأول من قول المسيح للمرأة: "ولا أنا أدينك" وينسون – أو يتناسون – الجزء الثاني منه : "اذهبي ولا تخطئي أيضاً". لم يقصد المسيح بالجزء الأول من كلامه، أن يشجع المرأة على الشر، وإنما أراد أن يشجعها على ترك الشر. فكانت كلمته لها، مشرطاً حاداً قطع به كل صلة بينها وبين ماضيها الأسود. بل كانت يداً لطيفة رفعت عنها حملاً أثقل كاهلها، وبلسماً شافيا للشلل النفسي الذي أصابها بسبب الخوف، والفزع، وتأنيب الضمير. لا بل كانت قوة سحرية، فتحت أمامها باباً متسعاً من الرجاء.

ما أشبه هذه الحادثة بشعاع قوة كشاف، كشف لنا عما في قلب المسيح من طهر وصفاء وتسامح. وأعلب ما في قلوب الكتبة والفريسيين من خبث، وقسوة، وعدم نزاهة.

في هذا الحادث، يتجلى أمامنا سلطان المسيح البار، وجبن الفريسيين الأشرار. كلمة واحدة وجهها المسي إليهم، كانت شبيهة بقذيفة شتت شملهم، فخرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ. وما هي إلا كلمة الحق أمتد أمامهم فلول البطل. ولا شيء يعدل شجاعة البار، سوى جبن الشرير.

عدد 1

أََمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ.

كلمة تاريخية عامة: "أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون". هذه الكلمة التاريخية، مكملة لتلك التي أختتم بها الإصحاح السابق: "فمضى كل واحد إلى بيته.. اما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون" – هذا هو بيت المسيح الذي قضى فيه ليلي عديدة منفرداً في الصلاة.

من السنهدريم إلى جبل الزيتون! لعله وجد في وحوش البرية قلوبا أكثر إيناسا من قلوب أولئك الوحوش المتسربلين لباس البشر. فكم من وحوش مستأنسة، وكم من بشر مستوحشين! "إلى جبل الزيتون"! في بيوت البشر لم يجد مكانا يسند إليه رأسه، فوجد هذا المكان بين أحجار الجبال فيا لظلم البشرية، ويا لتعاستها. فقد جهلت فاديها. وأنكرت أكبر محسن إليها.

عدد 2.

2 ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الْهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ.

كلمة تاريخية خاصة بالحدث: "ثم حضر أيضا إلى الهيكل في الصبح.. ". طلعت شمس الطبيعة من وراء أفق جبل الزيتون، وأطلت على العالم الذي خيم عليه ظلام الليل الدامس، فنثرت عليه أشعتها الذهبية حاملة ضياء وشفاء. وفي هذا الوقت عينه، "في الصبح"، خرج "شمس البر"، تاركا جبل الزيتون عينه، وأطل بوجهه الوضاح على الساكنين في وادي ظلال الموت، "فأشرق عليهم، وفي أجنحته شفاء". وأول ما كان نشر في أشعة أنواره، هو "الهيكل": "وجاء إليه جميع الشعب" المتشوق للنور، "فجلس يعلمهم". والعلم نور سواء كان في عالم الأدب أم في عالم النور.

عدد 3.  

3وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الْوَسَطِ 4 قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ 5وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ.

(أ) عدم نزاهة الفريسيين ووحشتهم: "وقدم إليه الكتبة الفريسيين امرأة أمسكت في زنا" – هذا برهان عدم نزاهتهم. لم فشل هؤلاء القوم في إلقاء القبض على المسيح، وعجزوا عن أن يقاوموا حكمته المقنعة، لجأوا إلى حيلة مقنعة، ليقيموا منها فخا يمسكون فيه المسيح بكلمة. ولا شيء دل على عدم نزاهتهم أكثر من انتهازهم فرصة ضعف امرأة مسكينة اغويت على الشر، وذلت بها القدم، فاتخذوا منها وسيلة بها يمسكون المسيح بكلمة. فكأنهم جعلوا من ضعف المرأة وقودا لتغذية نيران حقدهم على المسيح. وإن أناسا هذا شأنهم، لو لم يجدوا امرأة ساقطة، لأسقطوا امرأة لينالوا مأربهم. "ولما أقاموها في الوسط" – ياللقسوة! بدلا من أن يقيموها من سقطتها، ويعالجوا بقوتهم ضعفها، عرضوا بها وشنعوا بخطيتها. إذ "أقاموها في الوسط"، فأقاموا منها جحة على قسوة قلوبهم وهم لا يدرون. لم يبالوا بانكسار قلبها، وتعاموا عن مرارة نفسها وهم فرحون شامتون. وأي شخص انحدر إلى مهاوي الرذيلة، مثل إنسان يهنىء نفسه على سقوط غيره. هذه هي المرة الوحيدة التي وردت فيها كلمة: "كتبة" في بشارة يوحنا، مع أن كلمة "الفريسيين" وردت فيها 20 مرة.

عدد 4.

(ب) عدالتهم العرجاء : "قالوا يامعلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل". ما هي الصفات التي يوسم بها قوم نصبوا أنفسهم بوليساً على الآداب، تطفلا منهم، حتى يمسكوا امرأة في ذات الفعل؟ وإذا أرادوا أن يكون حماة الآداب حقاً، فلماذا أتوا بالمرأة وحدها؟ أين الرجل الساقط الذي شاركها، بل أسقطها في فعلتها؟ حقاً إن الحياء يستحى منهم!

عدد 5و6.

5 وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟». 6 قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ

(ج) خداعهم المبرق "وموسى في الناموس" – كلمة: "موسى في الناموس"، اختص بها يوحنا البشير وحده (1: 45و9: 4).

كان الوقت عيداً، والمنازل مزدحمة بساكنيها مع الضيوف الآتين إلى العيد، فاضطر كثيرون وكثيرات أن يناموا في الخلاء. هذه الظروف هيأت مزالق انحدرت عليها قدما تلك المرأة المسكينة، وكان في إمكان أولئك الكتبة والفريسيين أن يرثوا لحالها، وينظروا إليها نظرتهم إلى مريضة تحتاج إلى الشفاء، لا إلى مجرمة يتقدمون بها إلى القضاء.

"موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم" – تظاهروا بالحرص على وصية موسى، لكنهم كانوا حريصين على الإيقاع بالمسيح. فوجهوا هذا السؤال إلى المسيح، لا لكي يستنيروا برأيه، فقد اعترفوا بأنهم عالمون بالناموس (تت 22: 23و24، ولاويين 20: 10)، بل قصدوا من سؤالهم هذا، شركاً يوقعون المسيح فيه. فان قال لهم: "ارجموها واقتلوها"، ألصقوا به تهمة الاعتداء على حقوق قيصر (أنظر يوحنا 18: 31)، واشتكوا عليه لدى بيلاطس.وإن قال لهم: "ارحموا واعفوا عنها"،نسبوا إليه تهمة الاعتداء على حقوق موسى الذي قال في ناموسه: "إن مثل هذه ترجم"، واشتكوا عليه لدى مجمع السنهدريم. هذه أحبولة خفية دنيئة، نصبوا ليوقعوا فيها مخلص البشرية، فهي شبيهة بحرب الخنادق. إن قوما كهؤلاء لا يستحقون أن يحسبوا في عداد بني آدم. بل هم من أبناء المجرب (8: 4)، فالكلمة التي استعملت عنهم في عدد6: "ليجربوه"، هي عين الكلمة التي استعملت عن إبليس المجرب (مت 4: 1و3).

فلا عجب إذا امتلأ قلب المسيح بالحزن عليهم: "فانحنى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض". إن في صمت المسيح أبلغ جواب على سؤالهم المليء بالمكر. ولعله امتنع عن الجواب لأن مثل سؤالهم لا يستحق جواباً، ولأنه صرح مراراً وتكراراً، أنه لم يأتي ليدين بل ليخلص.

تشعبت أفكار المفسرين في محاولة أن يعرفوا السبب الذي من أجله أجاب المسيح بالكتابة على الأرض، يقول بعضهم إن المسيح كان يكتب على الأرض بعض الكلمات التي تفض هذا الأشكال، كتلك التي جاءت في لاويين 20: 10، وتث 22: 22. ويقول الآخر إنه كان يكتب ما جاء في عدد 5: 17، عن شريعة تقدمه الغيرة المتعلقة بامرأة تحيد عن رجلها وتخونه: "يأخذ الكاهن وتخونه من الغبار.... ويجعل في الماء ويوقف الكاهن المرأة أمام الرب.. ". ويقول آخرون إن المسيح كان يشير بكتابته إلى ما جاء في أرميا 17: 13 "الحائدون عني في التراب يكتبون". ويقول قوم إن المسيح لم يقصد بكتابته على الأرض شيئاً، سوى عدم إجابة المشتكين على سؤالهم. ويقول آخرون إن المسيح أشار بكتابته إلى الشريعة المكتوبة على صفحات ضمائرهم بإصبع الله. ويعتقدون آخرون كتابة المسيح على الأرض، تشير إلى كآبته وحزنه على القوة التي تملكت بها الخطية على قلوب الناس، فأغرت امرأة على السقوط، وهوت بالزعماء الدينيين إلى حضيض الخبث. ويقول غيرهم أن المسيح كان يكتب حكم القضاء عليهم، وأنه كتبه على دفعتين. وربما كان الفكران الأخيران أقرب الجميع إلى الصواب.

وجدير بنا أن نلاحظ أن هذه هي المرة الوحيدة التي نرى فيها المسيح يكتب.

عدد 7.

7وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!»

الجواب الفاحص. "ولما استمروا يسألونه انتصب وقال:". لم يعتبر أولئك القوم بصمت المسيح. ولعلهم ظنوه صمت العجز، فألحوا عليه في الكلام، "ولما استمروا يسألونه" ألقى سلاح الصمت جانباً، وصوب إليهم جواباً قاطعاً كالسيف، نافذاً كالسهم، كاشفاً كالنور، لاذعاً كالسوط، ملهباً كالنار.. "فانتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر". أمام هذا القول الفاحص وقعوا في الهوة التي حفروها بأيديهم.

عدد8.

8ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ.

تتمة القضاء. ولكي يترك المسيح لضمائرهم مجالا لتحتج عليهم، عاد إلى صمته الأول: "ثم انحنى أيضا إلى أسفل وكان يكتب على الأرض". ومن المهم أن نذكر أن المسيح لم يجبهم بهذا الجواب، من قبيل التحدي والإفحام وكفى، لكنه قدم بقوله هذا، مبدأ أساسيا للدينونة الحقيقية. لأنه لا يحق لشخص أن يجلس على كرسي الدينونة إلا المسيح الكامل الأوحد. بهذا الجواب أراهم المسيح أن سلطة القضاء قد ذهبت عنهم بسبب خطاياهم واستعبادهم للنير الأجنبي. على أن المسيح لم يقدم هذا الجواب باعتبار كونه ديانا، إنما قدمه باعتبار كونه مخلصاً ومعلما أدبياً، وروحياً. فكان جل قصده أن يحمل أولئك المشتكين على أن ينصرفوا عن مراقبة الناس، إلى إصلاح ذواتهم – هذا خير وأبقى. سيما وأنهم لم يكونوا قضاة بحكم وظيفتهم بل بحكم ادعائهم. بهذا القول أنقذ المسيح المرأة من الموت، من غير أن ينقض ناموس موسى، إذ عطل الأيادي المنفذة من غير أن يعطل الشريعة. أما احترامه لناموس موسى، فظاهر من قوله، "فليرمها أولا بحجر". وأما تعجيزه للأيادي المنقذة، فواضح من القول: "من كان منكم بلا خطية".

عدد 9.

9 وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الْوَسَطِ.

(أ) القضاة يدخلون قفص الاتهام: "وأما هم فلما سمعوا.. " في الفترة التي انحنى فيها المسيح ليكتب على الأرض، استراح أولئك الناس

وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ

من نظرات الفادي التي كانت مصوبة إليهم، لكنهم لم يستريحوا من تأنيب ضمائرهم. ومن العجب، أن ضمائرهم ظلت حية متيقظة رغم خطاياهم المنوعة التي كانوا عائشين فيها. فقد كنا نخشى، ومع تلك المرأة المسكينة، أنه بمجرد خروج آخر كلمة من فم المسيح، ينهال عليها أولئك الناس بالأحجار، ليبينوا بذلك أنهم بلا خطية، لكننا نحمد الله على وجود الضمير في قلب جميع الناس حتى المنحطين. فهو البقية الباقية من نور الله في قلب الإنسان بعد سقوطه. إن كلا منهم تطلع إلى الآخر منتظراً أن يكون هو البادىء برمي أول جحر، فخاب انتظارهم في بعضهم البعض، بعد أن خاب انتظارهم في أنفسهم. فلم يبق أمامهم إلا أن ينسلوا خارجين، مبتدئين من المعتبرين. وهنا أمسى القضاة متهمين، فتطوعوا بالدخول إلى قفص الاتهام فرداً فرداً، لأن الضمير يحاكمنا أفراداً لا جماعات. ولأن قضاءه يبتدىء من المتقدمين فالآخرين. كذلك قضاء الله العادل – فردي، ويبتدىء أولاً من بيت الله (1 بط4: 17). عجيب أن شيخوخة الشيوخ لم تنسهم خطاياهم، وأن نزق الشباب لم يدفعهم إلى الاقتحام. وربما خرج الشيوخ أولا لأن قائمة خطاياهم كانت قد طالت بطول أعمارهم.

إن كل خاطىء يحمل في قلبه أسداً رابضة، وعند أقل إشارة من الضمير، تثور هذه الأسد الضارية فتسلب الإنسان كل سلام واطمئنان.

(ب) الكامل الأوحد: "وبقي يسوع وحده والمرأة واقفا في الوسط"

إننا نحتاج إلى ريشة ملائكية لتصوير إحساس تلك المرأة المسكينة، بعد أن وجدت نفسها أمام يسوع وحده. هنا التقت الإنسانية في أحط دركاتها – ممثلة في تلك المرأة الساقطة، بالإنسانية في أسمى درجاتها – ممثلة في المسيح. هنا تلاقى قلب الليل بصدر النهار. هنا شعرت المرأة أن غمامة سوداء قد أزيحت عنها ورأت نفسها وجها لوجه أمام "شمس البر". "يسوع وحده"- هذا هو الكامل الأوحد الذي لم يعرف خطية. فهو وحده الذي له الحق أن يرميها أولا بحجر، وهو وحده الذي لم يفعل ذلك. لأنه لم يأت ليدين بل ليخلص. إن أسرع الناس إلى الحكم على الناس، هم أحط الناس لا أشرفهم. وكلما ارتقى الإنسان على سلم الشرف صار أكثر عطفاً على الجهال والضالين. العين الشريرة ترى لتحكم. والعين الطاهرة ترى لتنصح وتصلح. القلب الدنس يفتش عن المعايب بمصباح ديوجين ليشهرها، والقلب الطهور يفتش عن المحاسن ليشجعها. يسوع وحده‍ هذا جبل تجل آخر رفعت عليه المرأة (قابل مت 17: 8). الآن وقد انصرف عنها الوحوش المتأنسة رأت نفسها أمام الله المتأنس.

الآن سكتت عنها أصوات المشتكين لكن لم يسكت عنها صوت الضمير. وذهب عنها حكم الناموس فبقى لها أن تسمع حكم النعمة.

"وقفت في الوسط"- في المكان الذي أوقفها فيه المشتكون، بل في المكان الذي أوقفتها فيه خطيتها، بل في المكان الذي ينبغي أن يقف فيه كل خاطئ أمام الله، ولولا أن أدركها المسيح بكلمة الغفران لظلت واقفة في ظلام وحدتها ووحشتها إلى الأبد.

عدد 10.

10فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى الْمَرْأَةِ قَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟» 11فَقَالَتْ: «لاَ أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ولاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضاً».

استجواب النعمة "قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتمون عليك. أما دانك أحد"؟ كان في إمكان المسيح أن يرميها بحجر، وأن يوقع عليها أي قصاص، ليبرهن أنه هو بلا خطية، وليعلن تفوقه في السلطان على المشتكين. إلا أنه أظهر فعلاً هذا النفوق في السلطان، ولكن برحمة النعمة، لا برجمه الناموس. فإذا كان رجم المذنب يستلزم سلطان القاضي، فإن غفران الخطايا يستلزم سلطاناً أعظم – سلطان الله نفسه، لأن غفران الخطايا، حق لله وحده.

سأل المسيح هذين السؤالين لكي يعيد إلى المرأة المسكينة اطمئنانها، ولكي يفهم الموجودين من الجمع – وهم غير المشتكين – أن القضية سقطت، لأن المشتكين انسحبوا من الجلسة. فلا مدع ولا شاهد.

عدد 11.

حكمة النعمة. "فقال لها يسوع ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضا". في جواب المسيح هنا، نرى رحمة، فتبريراً، فقضاء. أما الرحمة فظاهرة من القول: "ولا أنا أدينك". إذا كان الذين أجلسوا أنفسهم على كراسي الدينونة قد تنازلوا عن الدينونة، فهل يدينها الفادي الذي جاء ليخلص (يو 3: 17)؟ تذكرنا هذه الكلمة بما جاء في رومية 8: 34 "من هو ليخلص الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات". أما التبرير فواضح من قوله: "اذهبي".

ولا يبرحن عن أذهاننا أن البراءة شيء والتبرير شيء آخر. فالبراءة إعلان برارة البار. لكن التبرير هو حسبان المذنب كأنه بار ومسامحته على ذنبه. لم يقل المسيح للمرأة: "اذهبي بسلام"، كما قال لغيرها (لوقا 7: 50، 8: 48)، ذلك لأنها لم تأت طائعة مختارة طالبة الغفران، لكن غيرها قد أتى بها. إنما هذه هي هبة الغفران قدمت لها، ولها الحق أن تقبلها أو أن ترفضها. هذا باب جديد للرجاء، لها أن تدخله أو أن تتحول عنه. فلن يكون السلام من نصيبها حتى تدخل إلى فردوس الغفران وتتمتع بلذيذ ثماره. وأما القضاء، فظاهر من قوله: "لاتخطئي أيضا". نعم هذا قضاء، بل دينونة – ولكن على الخطية، لا على المرأة. فالمسيح برر المرأة. ودان خطيتها. وهو لم يدن تلك الخطية الخاصة التي وقعت فيها وكفى، لكنه دان الخطية بوجه عام. فقد عالج شجرة الخطية من جذعها، لا من أحد فروعها.

يخطئ من يعتقد أن المسيح تساهل معها في خطيتها. ذلك لأنه لم يتجاهل خطيتها. بل ذكرها بها، ولكن بلطف. إذ قال لها: "لاتخطئي أيضاً".

علم الفادي أن أكبر عقبة في سبيل تلك المرأة، هي خطيتها. فلو بقيت عائشة تحت سحابة خطيتها، لانغمست في الشر، وعاشت فيه محترفة. لذلك رأى الفادي أن أعظم علاج لها، أن يقطع كل صلة تربطها بالماضي، وأن خير علاج يقطع صلتها بالماضي هو الغفران. فلم يرد المخلص أن يتركها فريسة الماضي الأسود، بل جعلها ابنة المستقبل المنير.

يسوع نور العالم

8: 12- 20

نرى في هذا الفصل:

أولاً شهادة 8: 12.

ثانياً: اعتراض 8: 13.

ثالثاً: جوابا 8: 14-19.

رابعاً: كلمة تاريخية 8: 20.

عدد 12.

12ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ».

أولاً: شهادة يسوع عن نفسه أنه نور العالم – أو – الإعلان الثاني في بشارة يوحنا "... أنا هو نور العالم".

"في الصبح" وقد أشرقت شمس الطبيعة من وراء جبل الزيتون، طلع أيضاً "شمس البر" من وراء الجبل عينه، وأشرقت أنواره في أرجاء الهيكل فنادى سامعيه قائلاً: "أنا هو نور العالم".

في ذلك الوقت كان رب الهيكل قد دخل إلى هيكل الرب، ونطق بهذا الكلام: "في الخزانة وهو يعلم في الهيكل". وهنالك تجاه الخزانة كانت منارتان مضيئتين في الليل مدة العيد، في دار النساء. وكانت أنوارهما ساطعة في أرجاء أورشليم كما يقول الرابيون، وفي ضوء أنوارهما كان يطرب المعيدون ويقول بعضهم أن المسيح أشار إلى المنارتين عند ما قال: "من يتبعني فلا يمشي في الظلمة". على أنه من المحقق أن هاتين المنارتين، كانتا رمزاً لعمود النار، الذي كان يقود الإسرائيليين ليلاً مدة ارتحالهم في البرية الموحشة المظلمة. فيكون المسيح إذاً، قد حول أنظار سامعيه عن المنارتين، وعن عمود النار، إلى شخصه العجيب قائلاً: "يا أيها الناس حولوا أنظاركم عن الرمز إلى الحقيقة، وانصرفوا عن الظلال إلى الجوهر. إن عمود النار كان يضيء على جماعة قليلة في البرية. أما أنا فإني نور العالم بأسره".

هذا هو الإعلان الثاني الذي فاه المسيح عن نفسه في هذه البشارة.

إن لهذا الإعلان جانبين: أولهما – يتصل بالمسيح نفسه: "أنا هو نور العالم". وثانيهما – يتصل بتابعيه: "من يتبعني فلا يمشي في الظلمة".

الجانب الأول يصف المسيح: في شخصه وفي طبيعته، وفي عمله. فالمسيح نور في شخصه – هذه شهادة ضمنية للاهوت المسيح. فالله نور في تجلياته، وفي صفاته. ظهر الله لموسى في هيئة نار (خروج 3: 31)، وعند ارتحال بني إسرائيل من سكوت ونزولهم في طرف البرية "كان الرب يسير أمامهم.. ليلا في عمود نار ليضيء لهم (خروج 3: 20و21). ويقول داود: "الرب نوري" (مزمور 27: 1) ومن المحقق أن كل الأوصاف التي قيلت عن "يهوه" في العهد القديم هي بعينها أوصاف المسيح الذي هو"الله ظهر في الجسد".

المسيح نور في طبيعته – "لا ظلمة فيه البتة"، "من منكم يبكتنى على خطية"؟ "يأتي رئيس هذا العالم وليس له في شيء" "هو نور من نور. إله حق من إله حق". هو "النور المضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه".

المسيح نور في عمله. ومن عمل النور: حفظ الحياة، والإضاءة، والشفاء، والهداية، والعزاء.

المسيح نور العالم لا نور اليهود وكفى، لأنه نشر نوره ساطعاً على كل شيء في الوجود، فأرانا كل شيء في قيمته الحقيقية. لقد ألقى نوراً ساطعاً على الطفولة إذ رجب بالأطفال: "دعوا الأولاد يأتون إلي". ولقد أحاط المرأة الضعيفة بنور سماوي فرفع قيمتها. وقدسها إذ ولد من امرأة. ولقد أنار الحياة والخلود بالإنجيل. قبله كان القبر مظلماً ذا باب واحد، يأخذ الأحياء ويضمهم إلى هاويته العميقة التي لا تشبع. لكن بموت المسيح وقيامته صار القبر مضيئاً مشرقاً، إذ فتح فيه باب آخر يطل على عالم الخلود فصار القبر يعطي كما يأخذ. فمن يأخذهم في عالم الفناء، يقدمهم إلى دار البقاء.

وقد أشعل المسيح نور الحكمة في صدور كل الحكماء في العالم[1] على ممر الأجيال. فهو نور أغسطينوس، وسقراط، والغزالي، وغاندي "كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم" باعتبار كونه كلمة الله (1: 9).

الجانب الثاني من الشهادة يتعلق بتابعي المسيح: "من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" – الإشارة هنا إلى موقف الإسرائيليين في البرية، حين كانوا يتبعون عمود النار (عدد 9: 16و17).ومن الأهمية بمكان، أن نلاحظ، أن المسيح مع كونه نور العالم. إلا أنه لا يعلن لنا نوره إلا خطوة خطوة. فهو لا يعلن لنا نور الخطوة الثانية إلا بعد أن نكون قد خطونا الخطوة الأولى بأمانة. إنه لا يقدم لنا خريطة الحياة بأكملها، لنراها دفعة واحدة، لئلا نؤخذ بمفشلاتها فنضجر، وتبهرنا مشجعاتها فنفخر. لكنه يرينا من خريطة الحياة ما يكفي لسيرنا ساعة فساعة، يوماً فيوماً. نعم هو يكشف لنا جعالة دعوة الله، لكن في مسيرنا اليومي يقدم نور الكفاف لأرجلنا، لكي يحفظنا على الدوام قريبين منه، موالين له مطيعين لإرشاداته، معتبرين بتحذيراته. فمن واجبنا أن نسير وراءه متمهلين غير متباطئين، نشطين غير مستعجلين. فلا نتباطأ لئلا يسبقنا فلا نراه، ولا نستعجل لئلا نسبقه فنضل الطريق. وليس النور للكسالى المتنعمين بل للمجاهدين المتقدمين.

ومتى قبلناه وتبعناه، صار حقنا أن نتمتع بالبركة الموعودة: "فلا يمشي في الظلمة" – هذا وعد سلبي- والظلمة رمز الخطية والشك، والحزن، واليأس. "بل يكون له نور[2] الحياة"- هذا وعد إيجابي – والنور رمز الخلاص، واليقين، والفرح، والرجاء.

يراد بنور الحياة، ذلك النور الذي: (أ) ينبع من الحياة (1: 4) "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس". (ب) وينشيء الحياة. فالحياة منبعه ومآله. منها يأتي وإليها يؤول. وكما أن المسيح هو "خبز الحياة" و"ماء الحياة".

لم يضع المسيح نفسه جنباً لجنب مع سائر المعلمين. فهو لم يقل: "أنا أعطي نوراً"، بل أردنا أنه نور، فلن نحظى بالنور إلا إذا قبلنا المسيح نفسه في قلوبنا. وليس نوراً ينال نفعه بالنظر إليه، بل بقبوله والاستفادة منه. هنا تمت لليهود تلك النبوات الجليلة التي تحدث عنها أشعياء: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً" (إش 9: 2و60: 3).

أما كلمة: "أيضاً" التي في مقدمة هذا العدد، فهي تفيد انتقالاً في الفكر. فكما كلمهم المسيح في الإصحاح السابق، عن شخصه باعتبار كونه الصخر الحي الذي كان صخر البرية رمزاً له (7: 37)، كذلك كلمهم هنا عن شخصه باعتبار كونه النور الكامل، الذي كان نور البرية رمزاً له.

إن موضوع الحديث الأول، هو الحياة، وموضوع الحديث الثاني هو النور الذي ينبع من الحياة ويؤدي إليها. إن واجبنا تلقاء نعمة الحياة، أن نقبلها. وواجبنا حيال نعمة النور، أن نتقدم إليه ونقدم للآخرين. فالواجب الأول يعبر عنه بالإيمان، والواجب الثاني يعبر عنه بالحياة العملية.

عدد 13.

13فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً».

ثانياً: اعتراض الفريسيين: "فقال له الفريسيون..". من أقوال الرابيين المأثورة: "ليس من حق إنسان أن يشهد لنفسه". بناء عليه، قدم الفريسيون اعتراضهم. فلم يقصدوا بقولهم: "ليست حقاً"، أنها شهادة كاذبة، بل أنها غير مبنية على أساس متين. أنهم لم يستجوبوه عن طبيعتها، بل عن سلطانها. ومع أن سلطانها أفحمهم، إلا أنهم أناس "رسميون"، كانوا يطلبون سلطاناً "رسمياً". فاعتراضهم كان منصباً على "الشكل" لا على "الموضوع" – هذا ينم عن حقيقة حياتهم: "لهم صورة التقوى لكنهم ينكرون قوتها". ولعلهم في اعتراضهم هذا، قصدوا أن يستغلوا كلام المسيح الذي فاه به في 5: 31 "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً".

عدد 14.

14أَجَابَ يَسُوعُ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلاَ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. 15أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً.

ثالثاً: جواب المسيح على اعتراض الفريسيين "أجاب يسوع وقال لهم... " 8: 14-19. في هذه الأعداد أجابهم المسيح مدافعاً عن: (أ) شهادته في موضعها وجوهرها (8: 14)، (ب) شهادته في شكلها وسلطانها (8: 15-18).

(أ) دفاعه عن شهادته في موضوعها وجوهرها: "أجاب يسوع وقال لهم..."- إن شهادته حق، لأنها شهادة الواثق المتيقن. فهو عالم موقن، ليس فقط بما يقول، بل بمن يقول. ولقد جمع في عالمه طرفي الأزل والأبد إذ جاز إن يكون لهما طرفان: "لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب". إن كلام المسيح هنا، لا يتناقض مع كلامه في 5: 31. لأنه أثبت حقه في الشهادة هناك، فلا داع لتكرار هذا الإثبات هنا. نطق بقوله السابق، قبل أن يؤيد شهادته بشهادة الآب، وشهادة يوحنا المعمدان، وشهادة المعجزات. أما وقد أيدها، فمن حقه أن يقول: "وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق"، زد على ذلك أن شهادته هنا، شهادة وجدانية ذاتية، كشهادة النور لذاته.

تتضمن شهادته هذه شعوراً ذاتياً بـ :

(أ) وجدانه الحالي: "لأني أعلم.." (ب). أصله: "من أين أتيت".

(ج) مآله: "وإلى أين أذهب" – هذه دعامة مثلثة.

كان من مقتضيات كلامه في 5: 31، أن يتخذ طوعاً واختباراً موقف الشاهد العادي، فدعمها بشهادة الآخرين. ولكن من مقتضيات كلامه هنا، بعد أن توغل أعداؤه في الخصومة، وتمادوا في الاعتراض، أن يتبوأ مقامه الممتاز، المخول له، بحق نسبته الفريدة إلى الآب. فمن حقه أن يستخدم جلال لاهوته، ومن حقه أن يتخلى عنه. فمن حق القائد أن يستل سيفه، ومن حقه أيضاً أن يغمده (أنظر 8: 17و18).

لا يوازي علم المسيح بحقيقة نفسه، سوى جهل الفريسيين به: "وأما انتم فلا تعلمون من أين أتى ولا أين ذهب". في هذه العبارة يقرر المسيح حقيقة راهنة،ويوجه اتهاماً إلى خصومه، الذين زعموا أنهم حملة مفاتيح العلم: "وأما أنتم فلا تعلمون". إن جهالتهم اختيارية، تبرعوا بها لأنفسهم، لأنهم أغلقوا قلوبهم ضد النور. فهم وحدهم المسئولون عن هذه الجهالة. ولو شاءوا لعلموا من نيقوديموس ومن سواه، من أين جاء المسيح، وإلى أين يذهب(يوحنا 3: 9-13). بل كان في إمكانهم إن يعلموا ذلك من أعمال المسيح، وحياته الفريدة الناطقة بذلك.

عدد 15.

(ب)شهادته في شكلها وسلطانها (8: 15-18) "أنتم حسب الجسد تدينون". يشير المسيح بقوله هذا إلى إدانة الفريسيين له، التي ينم عنها اعتراضهم عليه (عدد 13). يراد بقوله "حسب الجسد": (أ) المظهر الخارجي الذي يحيط بمن يجعلونه موضوعاً لدينونتهم – هذا بمثابة القول : "أنتم تحكمون حسب الظاهر" (7: 24). هذا قول عام. ومن قبيل التخصيص ينطبق عليهم في إدانته المسيح. لأنهم في حكمهم عليه، نظروا فقط إلى رداء الجسد الذي كان متسربلاً به، فلم يعرفوا "من أين هو"،ولا "إلى أين يذهب".لأن نظرهم لم يتعد أفق عائلته الوضيعة فتصوروه ابن مريم ويوسف "على ما كان يظن" (7: 27) بالحجاب المادي الذي حجب عيونهم عن النظر إلى العمق، والروح، والحقيقة.لأنهم لم يحكموا بالعقل الباطني المستنير، بل بمرأى عقولهم المادية الطبيعية، والتي يرتد بصرها حسيراً أمام الروحيات، وبالأولى أمام شخص المسيح.

إذا كانت الأشياء تتميز بضدها، فإن أنوار رحمة المسيح تجلت وسطعت تجاه لوحة تصرفاتهم السوداء. "أنتم تدينون حسب الجسد. أما أنا فلست أدين أحداً" يشير المسيح بهذا، إلى القصد الأولى من مجيئه إلى العالم "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم": (3: 17). "لست أدين أحداً"- ألا يحمل قوله هذا، إشارة ضمنية إلى كلامه للمرأة: "ولا أنا أدينك" (8: 11)؟ بلى. لم يأت المسيح ليدين أحداً سوى ذاك الذي يرفض النور، فيجلب الدينونة على نفسه. لأنه وإن كان النور قد أعطى أصلاً ليضيء. لكن من ضرورات وجوده أنه يحكم على الظلمة. فليست الدينونة غاية مجيئة، بل هي إحدى نتائج مجيئه "لم يرسل الله ابنه ليدين العالم.. وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (3: 17و19).هذه حلقة الاتصال بين هذا العدد وما بعده.

عدد 16.

16وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي.

الشاهد يصبح قاضياً: "وإن كنت أنا أدين فدينونتي حق لأني لست وحدي[3] بل أنا والآب الذي أرسلني". وفي هذا العدد، تدرج المسيح من الكلام عن نفسه كشاهد (عدد 14)، إلى الكلام عن شخصه كديان – والدينونة نتيجة الشهادة. فكلمة: "حق"في عدد 14، تشير إلى موضوع شهادته. وكلمة: "حق" في هذا العدد تشير إلى السلطان المخول له كديان.

ولئلا يتطرق إلى ذهن الفريسيين، أن المسيح ليس أهلاً للدينونة، أراهم في هذا العدد، أن له كل المؤهلات ليدين، متى جاء ميعاد الدينونة. كأنه في العدد السابق، أشار إلى القصد الأساسي من مجيئه الأول إلى العالم: "ليخلص لا ليدين"،لكنه في هذا العدد أشار إلى الغاية من مجيئه الثاني: "ليدين لا ليخلص".

يعتقد بعضهم أن المسيح أراد بقوله: "لست أدين أحداً"، أنه"لا يدين أحداً" على الطريقة الفرنسية: "حسب الجسد". ويقول جودي أن المسيح نفى إدانته للأفراد، وقرر إدانته للجماعات وللعالم.

أما سلطانه في الإدانة، فإنه مستمد مع شركته مع الآب "لأني لست وحدي بل أنا الآب الذي أرسلني". فالآب يفحص ويحكم. والمسيح ينطق بالحكم. فهو إذا حاكم بلسان وسلطان الله الآب، ديان الأحياء والأموات.

عدد 17و18.

17وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. 18أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».

الشهادة المزدوجة "وأيضاً في ناموسكم مكتوب..." بعد أن أقام المسيح الحجة في الأعداد السابقة على أن شهادته لنفسه حق كشهادة النور لنفسه، أراد – تنازلاً منه – أن يماشي محاجيه، فأثبت لهم من ناموسه أن شهادته ليست فردية وإنما هي مشفوعة بشهادة "الآب الذي أرسله". وقد خاطبهم المسيح بقوله: "ناموسكم" لا "ناموسنا"، لأنهم كانوا يتمسحون بالناموس ويتخذونه حجتهم في إدانتهم المسيح، ويعتقدون أنهم قيمون عليه، فمن كلامهم دانهم. ومن جعبتهم امتشق سهماً وطعنهم. فضلاً عن ذلك فإن نسبتهم إلى الناموس، غير نسبة المسيح إليه. هذا من قليل قول المسيح: "أبي وأبيكم" (يو 20: 17). فهو ناموسهم المفروض عليهم، ليخضعوا له جبراً واضطراراً. لكنه ناموس المسيح، الذي وضعه هو وخضع له حباً واختياراً (متى 3: 15؛ 17: 27).

ليست شهادة الآب للمسيح، قاصرة على المعجزات، التي هي إحدى البينات على مرافقة الآب له، لكنها تعني أيضاً ذلك الجلال الرهيب الذي كان يحف بالمسيح بشكل لا تميزه العين المجردة.

أقبس المسيح في رده عليهم ما جاء في تث 17: 6و19: 15. ومراده من إيراد القول على هذه الصورة، أن يثبت لهم أنه إذا كانت شهادة رجلين، مقبولة شرعياً، فكم بالأولى شهادة أعظم شخصين – الآب والمسيح.

عدد 19.

19فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلاَ أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً».

سؤالهم وجواب المسيح: (أ) سؤالهم: فقالوا له أين هو أبوك؟ لم يسألوه هذا السؤال، على سبيل الاستنارة، بل على سبيل الاستنكار، والتحدي والتحقير. "أين هو أبوك"؟- أحضره إن استطعت، لتسمعنا شهادته. هذا سؤال قد نفثوا فيه سموم ازدرائهم بالمسيح، والآب الذي أرسله.

(ب) جواب المسيح: "لستم تعرفونني..". في هذا الجواب بين لهم أن سؤالهم نم عن جهلهم بالله، الذي يدعون أنهم في مقدمة عارفيه. وأن برهان جهلهم بالله، هو جهلهم بالمسيح المرسل منه. لأن الله الآب قد أعلن ذاته في المسيح وحده. فمن لم ير في المسيح سوى ذاته الناسوتية، فقد غابت عنه رؤية الله الذي أرسله. ولكن أنى للعيون الجسدية أن ترى من لا يرى، متجلياً في من يرى!؟ "لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً". حقاً "لا يستطيع أحد أن يقول إن يسوع المسيح رب إلا بالروح القدس".

عدد 20.

20هَذَا الْكلاَمُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ.

رابعاً: كلمة تاريخية: "هذا الكلام قاله يسوع.. " كان تأثير هذا الكلام عظيماً، لدرجة أن نصف قرن لم يستطع أن يمحوه من ذاكرة يوحنا البشير، ذلك المكان الخاص الذي قال فيه المسيح ذلك الكلام: "في الخزانة".

كلمة: "الخزانة" كانت تطلق غالباً على كل المكان الذي كانت تحفظ فيه التقدمات المجموعة لأجل الهيكل وخدماته. ويستفاد من مرقس 12: 14 ولوقا 21: 1، أن الصناديق وهي على شكل أبواق وتعرف عند اليهود بالـ "شوفيروت" وعددها ثلاثة عشر – كانت موضوعة في المكان المعروف "بالخزنة" أي في دار النساء. وبما أن مجلس السنهدريم، كان يلتئم عادة في البهو المعروف ب "الجازت" بين دار النساء والدار الداخلية، وبما أن المسيح قال هذا الكلام، والسنهدريم ملتئم، فمن المحقق أن كلامه هذا قد بلغ آذان أعضاء السنهدريم (7: 45-52). ولعل البشير ذكر المكان الذي قال فيه المسيح هذا الكلام، لكي ينبهنا إلى هذه الحقيقة الأخيرة، وليبين لنا، أن الفادي لم يقل كلامه في الخفاء، بل في قلب الهيكل، الواقع في قلب أورشليم، وعلى مسمع من أكبر هيئة دينية رسمية. ومع ذلك "لم يمسكه أحد" لأن الرؤساء كانوا يهابون الشعب الذي كان يكن للمسيح كل أنواع الاحترام، ولأن المسيح كان يحف به نطاق رهيب من المجد والكرامة، ولم يمكنهم اختراق هذا النطاق "لأن ساعته لم تكن جاءت بعد". (انظر شرح 7: 8و30؛ 2: 4)

وكذلك كل خادم خالد، حتى تأتي "ساعته".

"أنا هو" 8: 21- 29

أعلن المسيح لليهود، في كلامه السابق، أنه هو الصخر الحقيقي الذي كانت صخرة البرية رمزاً له (7: 37 - 39)، وأنه هو النور الحقيقي الذي كان عمود النار في البرية ظلاً له (8: 12). فكان من واجبهم أن يؤمنوا أنه هو المسيح، وأن يسيروا في النور ما دام النور موجوداً معهم. لأنه سيأتي وقت فيه يرفع عنهم فيتركهم في ظلامهم يعمهون.

عدد 21.

21قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا» 22فَقَالَ الْيَهُودُ: «أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لاَ تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟» 23فَقَالَ لَهُمْ: « أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. 24فَقُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ».

إنذار في أوانه: "قال لهم يسوع أيضاً" – بعد أن شلت يديهم عن إلقاء القبض عليه: "أنا أمضي" – بالموت، والقيامة، والصعود- "وستطلبونني" – فلا تجدونني – "وتموتون في[4] خطيتكم" – لأني جئت لأنقذكم من حالة الموت التي أنتم فيها، فلم تريدوا، لذلك ستتركون في حالتكم الطبيعية، حال الخطية والموت.

"حيث أمضي أنا لا تقدرون أن تأتوا" – لأن الهوة عظيمة بين السماء التي سأكون أنا فيها، وبين الهاوية التي أنتم فتها، سيما بعد أن تكونوا قد رفضتم شخصي الذي جاءكم سلم اتصال بين سمائي وهاويتكم.

في نفس المكان الذي فاه المسيح فيه بكلامه السابق (7: 37- 8: 20) استطرد في ذكر هذا الكلام اللاحق (8: 21)، فقدم لليهود: (أ) انذاراً "أنا أمضي". ولقد أتاهم هذا الانذار في أوانه. لأن هذا كان آخر يوم في آخر عيد، اجتمع فيه المسيح باليهود كمجموع، فلم تبقى سوى بضعة أشهر على حلول عيد الفصح الذي فيه رفع المسيح على الصليب فصحاً لنا. إن هذه الحقيقة تكسب هذا الإنذار مسحة من الرهبة والوقار. (ب) نبوة: "ستطلبونني" – بعد فوات الفرصة حيث لا ينفع الندم بعد العدم إن قول المسيح هنا اشد منه في 7: 33-34. لأن طلب اليهود إياه فيما بعد، ليس طلن الإيمان، بل طلب افنقاد من الضيقات الزمنية، التي ستحيط بهم عند خراب أورشليم، وتشتت شملهم كأمة. (ج). حكماً: "وتموتون في خطيتكم". ذكرت كلمة: "خطية" بالمفرد، إشارة إلى حالة قلوبهم الطبيعية في بعدها عن الله، وعدم إيمانها بالمسيح. فالمفرد يصف الأصل – كقولنا "تينة" للتعبير عن شجرة التين. والجمع يصف الأفرع والثمر، كقولنا "تين" في التعبير عن الثمر. (د) إعجازا: "حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا". إن الهوة العظيمة التي كانت بينهم وبين المسيح، والتي كان في إمكانهم أن يرتقوها بسلم الإيمان، ستثبت بواسطة عدم إيمانهم ويختم عليها(انظر لوقا 16: 36). هذا هو الموت الروحي الأبدي – انفصال النفس نهائياً عن المسيح – وهو يختلف كل الاختلاف عن الافتراق الوقتي، الذي تحدث عنه المسيح مع تلاميذه في يو 13: 33 حين وعدهم أن يأتي ويأخذهم إليه (14: 3)

عدد 22.

رد اليهود. "فقال اليهود ألعله يقتل نفسه". كان قول المسيح في العدد السابق كطعنة نجلاء، جرحت كبرياءهم. فقصدوا أن ينتقموا لأنفسهم، ويردوا الطعنة إلى صدر المسيح، فقالوا: "ألعله يقتل نفسه"؟ فجاءت طعنتهم هذه أحد منها في 7: 35. لقد آلمهم قول المسيح: "لا تقدرون أنتم أن تأتوا"، وفي ثورة كبريائهم ألصقوا به تهمة الانتحار- وعقاب الانتحار كما كان معروفاً لديهم، عن حق، هو الانحدار إلى الهاوية (تاريخ يوسيفوس الجزء الثالث الفصل الثامن). فإذا سلموا معه بعجزهم عن اللحاق به، فما هذا إلا- حسب ادعائهم- عجز السماويين عن أن ينحدروا إلى الهاوية!

عدد23.

جواب المسيح 8: 23و24"فقال لهم انتم من أسفل.." لقد شهد عليهم كلامه السابق، بأنهم كانوا في أنفسهم مخدوعين لذلك أراد الفادي أن يكشف لهم حقيقة حالهم، فبين لهم أنهم واهمون، وأن الأمر على عكس ما يزعمون. فإن عجزهم عن اللحاق به، ليس سوى عجز أبناء الهاوية السفلى، عن أن يصلوا إلى ابن الله. وهو عجز الأرضيين عن أن يدركوا ابن السماء الذي رضي، تواضعاً منه وتنازلاً، أن يقابلهم بنفسه مقابلة مزدوجة :(أ) من حيث الطبيعة:"أنتم من أسفل. أما أنا فمن فوق". (ب) من حيث الأميال والإرادة: "أنتم من هذا العالم" – تعملون إرادتكم المنافية لإرادة الله – "أما انا فلست من هذا العالم" – لأن طعامي، أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله. فهو يختلف عنهم أصلاً، وطبعاً، وإرادة، وعملاً. فإذا كانوا قد أجازوا لأنفسهم أن ينسبوا إليه نية الانتحار الذي ينتهي بالهاوية، فما ذلك إلا لأنهم هم من أبناء الهاوية.

عدد 24.

من أنذر فقد أعذر: "فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكم". وردت كلمة "خطايا" في هذا العدد، بصيغة الجمع، على خلاف وردها في عدد 21 بصيغة المفرد. فالكلام في عدد 21 يتناول الخطية في أصلها الواحد – حال العداوة لله. والكلام هنا، يتناولها في مظاهرها المنوعة. " إن أجرة الخطية هي موت". فهم أبناء الموت بحكم خطاياهم. لأن الخطية تنقدهم أجرتها على آخر قسط. وما من أحد يغير طبيعتهم الخاطئة، ويخلصهم من سلطان الخطية وذنبها، سواه "هو". ولا سبيل إلى اتصالهم بالمسيح سوى الإيمان. "إن لم تؤمنوا أني هو تموتون في خطاياكم". إن قول المسيح: "إني أنا هو" – في معناه، ومبناه حسب الترجمة السبعينية – هو ذلك القول عينه الذي نطق به الرب "يهوه"في العهد القديم (تث 23: 39وإشعياء 43: 10). إن رسالة الله في العهد القديم هي: "أنا أنا هو وليس إله معي". ورسالته في العهد الجديد هي. "أنا أنا هو الفادي وليس غيري مخلص". ويعتقد جودي أن المسيح قصد أن يقول لليهود : "إن لم تؤمنوا أني أنا هو مسيحكم المنتظر تموتون في خطاياكم"، وأنه حدث كلمة "مسيحكم المنتظر"، ليكون بلاغه أوقع في نفوسهم. وما المسيح سوى "يهود" إله العهد القديم، الذي ظهر في الجسد.

وردت كلمة: "أنا هو"، ثلاث مرات في هذا الفصل(عدد 24و28و58).

عدد 25.

25 فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ. 26إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا. مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». 27وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ. 28فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ 29وَﭐلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ».

سؤالهم وجواب المسيح عليه 8: 25-29:

(أ) سؤالهم (عدد 25(أ)): "فقالوا له". لم يسألوا سؤالهم هذا بلهجة المستفهمين المستنيرين، بل بلهجة الهازئين الساخرين، المتحفزين لوقوع كلمة منه من سكونه بها، ويتقدمون به إلى القضاء. (ب) جواب المسيح (عدد 25(ب)- 29). يقع جواب المسيح في ثلاثة أشطر. أولها يختص بشخصه (عدد 25(ب) وثانيها يتعلق بهم (عدد26). وثالثها يتعلق بشخصه أيضاً (عدد 28و29). أما عدد 27فهو كلمة تفسيرية.

(1) الشطر الأول (عدد 25(ب)) ز هذا جواب غاية في الحكمة مفاده: "ليس لكم أن تتنظروا مني إعلاناً جديداً عن شخصي فوق ما أعلمتكم به منذ بدء خدمتي وكرازتي. فاستجمعوا أقوالي السابقة عن نفسي، تعرفوا من أنا. إن حاجتكم ليست إلى إعلان جديد بل إلى قلوب جديدة تفهم الإعلانات التي سبقت فقلتها منذ بدء خدمتي". ويجمل بنا الآن أن نستعرض الإعلانات التي فاه بها المسيح عن نفسه فيما مر بنا من هذه البشارة:فهو الكلمة الأزلى (ص 1) وهو الهيكل الحقيقي(ص 2)، وهو المخلص الحقيقي (ص 3)، وهو الماء الحي (ص 4)،وهو الابن الحقيقي (ص 5)، وهو الخبز الحي (ص 6)، وهو الصخر الحقيقي(ص 7)، وهو النور الحقيقي(ص 8)،فلو كانت لهم عقول مستنيرة، وقلوب متجددة، وبصائر تقدر الحقائق، لهتفوا بملء أفواههم قائلين مع بطرس: "نحن قد آنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي" (6: 69). ولكن أنى للذين من أسفل أن ينقوا بلغة السماء؟!.

ويقول ويستكوت إن كلام المسيح يفهم على هذا الوجه: "إن شخصي هو تعليمي". ويعتقد هنجستنبرج، إن معنى كلام المسيح في هذا العدد : "إني أنا منذ الأزل هو يهوه المتجسد الذي أكلمكم عنه الان" لكن العقبة في سبيل الأخذ بهذا الرأي الأخير هي قوله: "ما أكلمكم به"، لا "من أكلمكم به". ويميل غيرهما إلى تفسير كلام المسيح على الوجه الآتي: "أنا منذ الأزل ما صرحت به الآن" – أي "إني أنا هو". ونميل نحن إلى الرأي الأول الذي أوضحناه: أي إن كلمة"من البدء" كما استعملت هنا، معناها: "منذ بدء خدمتي"، لا "منذ الأزل".

عدد 26.

(2) الشطر الثاني:"إن لي أشياء كثيرة.." إذاً لم يكن أولئك القوم في حاجة إلى إعلانات جديدة عن المسيح، بل كانوا في مسيس الحاجة إلى إعلانات جديدة عن أنفسهم. فالعقبة الكؤود في سبيل إيمانهم به، لم تكن فيه، بل فيهم هم. لقد تقدموا إليه وهم متخذون، بالنسبة له، موقف الحكم المتحكم، فأراهم هو أنهم هم المتهمون الذين عليهم أن يسمعوا حكمه عليهم"إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم". وفي الحقيقة أن كل حكم يصدره الإنسان على المسيح أوله، إنما هو حكم يصدره الإنسان على نفسه أولها[5].

"إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها.". بهذه الكلمات وما بعدها تابع المسيح حديثه المذكور في عدد 24، وفعلاً قد أسمعهم هذه الأحكام المدونة في عدد 34 و37 و40 و41 و43 و44 و49 و55. "ولكن الذي أرسلني هو حق" – شعر المسيح أن أحكامه عليهم ستكون أليمة وشديدة الوقع. "ولكن" – لم يكن لديه بد، مع أن يسمعهم هذه الأحكام وذلك لسببين – أولهما: انه مكلف برسالة. فمن الضروري أن يؤديها على أكمل وجه، وإن تكن أداتها أليمة عليه وعلى غيره : "لكن الذي أرسلني..". ثانيهما: إن هذه الرسالة حق. لأنها صادرة من الله الحق: "الذي أرسلني هو حق". ومهما يكن الحق مراً، فلا بد من أن يقال. إذاً كان الله هو "الحق" في جوهره فمن المحقق ان رسالته هي "الحق" في ظهوره. إن نسبة رسالته إليه كنسبة أشعة الشمس إلى جرمها. "وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم" – لا يقتصر كلام المسيح هنا على ما سمعه من الآب منذ الأزل بل يتناول بالأولى الكلام الذي كان يسمعه من الآب باستمرار حتى قبيل تكلمه مع اليهود، وذلك بحكم صيغته الدائمة، المستمرة مع الآب. (قابل هذا بما جاء في 5: 19 و8:28). يتكلم المسيح هنا عن نفسه باعتبار كونه "كلمة الله". الذي أعلن إرادة الله للعالم. وهو أيضاً على هذا الاعتبار، الوسيط الأوحد بين الله والناس.

عدد 37.

كلمة تفسيرية. "ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب" هذه الكلمة التفسيرية، سجلها قلم يوحنا البشير ليعطينا صورة دقيقة لعقلية أولئك اليهود، الذين كانوا يعتقدون أن الفهم هجر عقول جميع الناس، واستقر في أدمغتهم وحدهم. فكلن جميلا ذلك الوصف الذي خلعه البشير عليهم. "ولم يفهموا... " – كانت عقولهم في واد، وكلام المسيح في واد. وكيف يأتي للعقل الطبيعي أن ما لروح الله؟ إن الفهم المقصود هنا هو فهم التمييز. فمع أن المسيح لم يذكر لفظة "الآب" تصريحاً، وحديثه الأخير (عدد21 - 27) إلا إنه ذكره تلميحاً في قوله: "الذي أرسلني".. "ما سمعته منه".

كان أولئك القوم ماديين منتظرون مسيحاً مادياً سياسياً، فلم يميزوا أن الذي كان يخاطبهم هو المسيح المرسل من الآب.

عدد 28.

(3) الشطر الثالث. الحجة القاطعة. "فقال لهم يسوع متى رفعتم" إن الحر تكيفه الإشارة. لكن أولئك اليهود كانوا عبيداً (عدد 34)، فلم يفهموا الكلام الصريح، لذلك أنبأهم المسيح بآية عملية تكون حجة قاطعة نهائية – هي آية "رفع ابن الإنسان". ومتى تمت هذه الآية أمام عيونهم، فحينئذ يفهمون أنه هو المسيح. إن الصليب هو المقصود بالذات في قوله:

ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي.

"متى رفعتم" وإن يكن الصليب والقيامة، والصعود، وعطية الروح القدس، متضمنة كلها في معنى "رفع ابن الإنسان". أليس من المحزن أن اليهود يظلون غير مقدرين قيمة المسيح، حتى يفرغوا من جريمتهم برفع إياه على الصليب؟ عندئذ يفهمون – لكنه من لا يقدر قيمة النور إلا بعد أن يغمره الظلام، ومن لا يفهم قيمة تاج الصحة إلا بعد أن يبتلي بالعلل، ومن لا يدرك قيمة الحياة، إلا عند مجيء ساعة المنون.

على أن الصليب في ذاته، لم يكن كافياً لإعلان شخص المسيح لليهود، لو لم يجعله الله في تدبيره سلماً للقيامة، والصعود إلى عرش العظمة في الأعالي. كأن المسيح قال لهم مؤنباً: متى صلبتموني وأدركتم بعد ذلك أنكم بصلبكم إياي قد أجلستموني على العرش، فحينئذ تعلمون:

(1) حقيقي شخصي: "إني أنا هو". لقد وصف نفسه بقوله: "ابن الإنسان" دلالة على مظهره الوضيع الذي بسببه خفيت عنهم حقيقته، "فلم يفهموه".

هذه الكلمات تعيد إلى أذهاننا كلمات يهوه في العهد القديم: "فلا تشفق عليك عيني:.. فتعلمون أني أنا الرب" (حزقيال 7: 4). (أنظر أيضاً حزقيال 11: 10و12: 20 وخروج 10: 2ومت 12: 39و26: 64).

(2) حقيقة تعليمي:"لست أفعل شيئاً من نفسي" – إن كلام المسيح جزء من عمله الموكول إليه – "بل أتكلم بهذا كما علمني أبي"(انظر 7: 16و17).

عدد 29.

(3)حقيقة معيتي الربانية"والذي أرسلني هو معي. ولم يتركني الآب وحدي.. " بهذه الكلمات أراهم البوم العظيم بين موفقهم بالنسبة له، وبين موقف الآب معه. إذ كانوا هم سيرفضونه، فإن الآب معه. فإذا بهم إذاً انطفأت كل الشموع وظل وجه الشمس مشرقاً؟!.

إن طاعة المسيح الكاملة الاختيارية للآب، هي الضمان الأكيد لمرافقة الآب له. "لأني في كل حين أفعل ما يرضيه". لا لأن إرادة الآب فرضت على المسيح فرضاً، كناموس خارجي عنه، بل لأنها في أحشائه، فمن الطبيعي أن يعملها: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله". ليس وجه العجب أن المسيح عاش متمماً إرادة الآب، بل أن يكون هو المسيح ابن الله، ويقصر في أمر منها.

بما أنه جعل إرادة الآب، إرادته، لذلك صارت إرادته هو، إرادة الآب.

"في كل حين أفعل ما يرضيه". ليس هذا وصفاً لأعمال المسيح وكفى، لكنه وصف للبواعث التي كانت تدفع المسيح للقيام بأي فعل:"أفعل ما يرضيه"إن من يتجاسر أن يقول هذه الكلمة، لا يكون فقط واثقاً من أنه لم يرتكب خطية، بل إنه أيضاً لم يجد أمراً مرضياً لله إلا وأنجزه. ليس فقط أن كل أعماله كانت مرضية للآب، بل أن كل ما وجده مرضياً للآب قد أجراه بالتمام. كذلك كان المسيح – والمسيح وحده. ذلك لأنه "لم يكن وحده" 16: 32.

عدد 30.

30وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ.

شعاع من النور في ليلة ظلماء: "وفيما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون". على رغم الاعتراضات التي وجهها اليهود إلى المسيح، وجد كثيرون ممن آمنوا به، فلم تخل ليلتهم الظلماء من كواكب شاهدة لنور الفادي. "آمن به كثيرون " - هذه العبارة تعني أنهم ألقوا اعتمادهم على شخص المسيح. وهي كما وردت في الأصل، تختلف عن تلك التي وردت في عدد 31 "آمنوا به"، التي تعني تصديقهم لكلام المسيح. في عدد 30، كما وردت كلمة: "آمنوا" متبوعة بحرف الجر"بـ" أو "على". وفي عدد 31،وردت كلمة "أمنوا"، مجردة، وترجمتها الحرفية "صدقوا المسيح".فالإيمان، كما يصفه عدد 30،متوجه إلى شخص المسيح. وكما يوضحه عدد30، متجه إلى كلام المسيح. فكل من العددين يصف فرقة من اليهود غير التي يصفها الآخر. عدد 30، يصف قوماً استمعوا للمسيح، فصدقوا كلامه. ثم اعتمدوا على شخصه. ولكن عدد 31، يصف قوم آخرين استمعوا للمسيح، ثم صدقوا كلامه ووقفوا عند هذا الحد. فأراد المخلص أن يتقدم بهم خطوة جديدة في سبيل الإيمان إذ قال لهم "إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي" كلمة: "آمنوا به"، كما جاءت في عدد 30، تكررت مراراً عدة في هذه البشارة – 2: 11؛ 3: 16و18و36؛ 4: 39؛ 6: 29و35و40و47؛ 7: 5و31و38و48و9: 35؛ 10: 42؛ 11: 25و 45و48؛ 12: 11و36و42و44و46؛ 14: 1و12و16: 9؛ 17: 20. مع أنها لم ترد سوى مرة واحدة في البشائر الأخرى لتصف إيمان"الصغار" – إيمان البساطة (مت 18: 6). فهي إذا من الكلمات التي أختص يوحنا البشير.

"أنتم وأنا" 8: 31 – 59

انتهينا مكن الحوار الذي دار بين المسيح واليهود، ونحن شاعرون أن المسيح لم يبلغهم بعد، رسالته إلى أقصى حدودها. لأنه أوقفنا وإياهم عند حد قوله لهم: "إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم". وبما أن كل ممنوع مرغوب، فمن المحقق أن من يسمع هذا القول، لا يتمالك نفسه من التساؤل عن هذه الأشياء الكثيرة التي كانت لدى المسيح، ولم ينطق بها بعد.

لقد جاد علينا المسيح بخير جواب على هذا التساؤل، في الجزء الأول من هذا الحديث (8: 31 - 47). أما الجزء الثاني منه (8: 48 - 59)، فقد وقفه على شهادته لبنوته وأزليته. فلنا أن نعتبر هذا الحديث بجزئيه، خير مفسر لقول المسيح في حديثه السابق: "إن كنت أنا أدين فدينونتي حق... أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الآب الذي أرسلني" (8: 16 و18). فالجزء الأول من هذا الحديث يفسر قوله الأول (8: 16)، والجزء الثاني يوضح قوله الثاني (8: 18).

الجزء الأول من الحديث – حكم المسيح على اليهود 8: 31 – 47. في هذا الجزء أصدر المسيح على اليهود أربعة أحكام مؤلمة – الثلاثة الأولى سلبية، والرابع إيجابي. فالثلاثة الأحكام السلبية هي: (أ) "لستم أحراراً" (8: 31 - 36). (ب) "لستم ذرية إبراهيم" (8: 37 - 40).(ج) "لستم أولاد الله" (8: 41 - 43). وأما الحكم الرابع الإيجابي فهو

(د) "أنتم من أب هو إبليس" (8: 44-47). وعند اختتام هذا الجزء الأول من الحديث، بعد عجز اليهود أن يردوا الأحكام الصادقة التي وجهها إليهم المسيح، لم يجدوا ما يروون به غليلهم سوى تهمة شنيعة وجهوها إلى "قدوس الله" (8: 48)، فأجابهم عنها المسيح بترفع من غير كبرياء (8: 49 - 50).

(أ) الحكم الأول: "لستم أحرارأً": (2: 31 - 36). يتضمن هذا الفصل ثلاث حلقات: (1) كلام المسيح (8: 31 - 32). (2) اعتراض اليهود عليه (8: 33). (3) جواب المسيح على اعتراضهم (8: 34 - 36).

عدد 31 و 32.

31فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلاَمِيذِي 32وَتَعْرِفُونَ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».

كلام المسيح. "فقال يسوع لليهود الذين آمنوا به.. " قد يعجب المرء، لأول وهلة، إذ يجد أن هؤلاء اليهود الذين يصفهم البشير بالقول: "الذين أمنوا بالمسيح"، هم بذاتهم الذين يقول لهم المسيح: "أنتم من أب هو إبليس". لكن لدى التأمل، ينكشف لنا السبب، فيبطل العجب. لم يكن إيمان هؤلاء متجه إلى شخص المسيح، كما كان إيمان أولئك المذكورين في العدد السابق[6]، لكنه كان متوجهاً فقط إلى كلام المسيح. هؤلاء كانوا مصدقين كلامه لكنهم لم يلقوا اعتمادهم بالتمام على شخصه. فقد يشاهد أحدهم في ساعة خطر، سلماً قائماً بين الأرض وبين دور علوي في إحدى ناطحات السحب، ثم يصدق كل ما يقال عن متانة تلك السلم. لكنه على رغم ذلك يظل خائفا فلا يلقي بنفسه على السلم. فالتصديق شيء والاعتماد شيء آخر، التصديق من فعل العقل. الاعتماد من عمل القلب (راجع تفسير عدد 30).

إن هؤلاء المذكورين في عدد 31، صدقوا أن يسوع هو المسيح، لكنهم كانوا يبيتون في قلوبهم أفكاراً غير صحيحة، عن حقيقة. لذلك لم يكونوا قد اعتمدوا عليه بعد. لقد فتحوا عيونهم للنور، فرأوا المسيح كمن يرى خيالاً في ضوء الفجر، وكان في إمكانهم أن يصلوا إلى نور النهار الكامل لو تبعوا السير والتقدم. والظاهر من قول المسيح لهم "إن ثبتم في كلامي" إنهم من النوع الذي وصفه يعقوب في قوله: "سامعين فقط خادعين نفوسهم...... رجلاً ناظراً وجه خلقته في مرآة. فإنه نظر ذاته ومضى. وللوقت نسي ما هو.. ولكن من اطلع... وثبت...." (يع 1: 22 - 25).

إن قوماً كهؤلاء قد يكونون مستنيرين لكنهم لا يضيئون. قد يذوقون لكنهم لا يأكلون ويشبعون. نصيبهم من التأثر بالحق قد لا يزيد عن تأثير جدران المكان الذي كان الرسل مجتمعين فيه (أعمال 4: 31).

في هذين العددين قدم لهم المسيح: (أ) شرطاً: "إن ثبتم في كلامي". إن المسيح بوضعه هذا الشرط، رحب بالخطوات التمهيدية التي خطوها في سبيل الإيمان، وشجعهم على التقدم والمثابرة، ليتقدموا من ضوء الفجر إلى نور النهار الكاهل: "إن ثبتم في كلامي"- أي إن كان كلام المسيح بالنسبة لهم كالماء للسمك، وكالهواء للطير، وكالتربة الجيدة للنبات الحي، وكجذع الشجرة للأفرع. فالثبوت في كلام المسيح، يفيد الجلوس باستمرار عند قدميه والتمكن منه والإغتذاء بعصارته. (ب) وعداً : "فبالحقيقة تكونون تلاميذي" هذا وعد يقيني في طبيعته، لأن المسيح استهله بقوله: "بالحقيقة"، وهو مثلث في محتوياته. ما أشبه محتوياته، بكؤوس الورد، تتفتح إحداها من الأخرى. فالكأس المركزية في هذا الوعد، هي التلمذة الحقة "فبالحقيقة تكونون تلاميذي"، ومنها تتفرع الكأس الثانية وهي: معرفة الحق "وتعرفون الحق" (عدد 32). ومن هذه الكأس الثانية، تتفرع الكأس الثالثة وهي: حرية الحق: "والحق يحرركم". بل ما أشبه محتويات هذا الوعد بقمم جبل منيف، لا يرى الصاعد عليه سوى القمة الأولى. وبعد أن يرتقيها يجد القمة الثانية، ثم الثالثة. قمم عالية يأخذ بعضها بيد بعض. أنوار يأخذ بعضها برقاب بعض. هذا وعد متين – فالتلميذة الحقيقة غرته: "بالحقيقة تكونون.."، والحق عماده: "وتعرفون الحق"، والحرية تاجه: "والحق يحرركم. ". الحق[7] هو خلاصة كلام المسيح، بل هو كلام المسيح متأنساً. فهو إذا المسيح نفسه، الذي هو كلمة الله النهائية للبشر.

يمتاز الحق عن الصدق، في أن الصدق هو ما وافق عقيدة المتكلم. ولكن الحق هو ما وافق الواقع. فالصدق نسبي لكن الحق مطلق. "والحق يحرركم" – الحق والحرية صنوان لا يفترقان، فالحق يلد الحرية والحرية تدعم الحق. الحق يحرر من عبودية الموت والخوف، وعذاب الضمير، الْحَقَّ والأضاليل، والذات المتمردة، والحرية الزائفة، التي هي العبودية بعينها. فكم من حريات بلا حرية. فالحرية الحقيقية لا تقوم بإطلاق العنان للشهوات والأميال العاطلة ليعمل المرء ما يريد ويهوى، بل هي القدرة على عمل ما هو واجب. هي الإرادة المتجددة، التي تريد ما يريده الله. فقد تخرج الأفعى من حجرها، لكنها تظل عبدة لغريزة الأذى المنطبعة عليها. فهي لن تتمتع بالحرية الحقيقية إلا متى تحررت من طبيعتها المؤذية، ولبست طبيعة جديدة تسعى وراء الخير، وتأنف الأذى.

هذا وعد جميل في ذاته، غني بمحتوياته لكنه لمزيد الأسف لم يصادف قبولاً لدى أولئك اليهود، الذين كانوا ينتظرون حرية سياسية من نير الرومان. فبدلاً من أن تتجه قلوبهم إلى محاسن هذا الوعد ليجتلوها، إذاً بهم قد بحثوا عن الوجه الجارح فيه، فاستنتجوا منه أن المسيح يتهمهم بالعبودية. وعوضاً عن أن يرحب بالوعد، حصنوا أنفسهم ضده، واحتجوا. بدلاً من أن يقبلوا المسيح مخلصاً ومسيحاً، اتخذوا منه خصماً، فاستجمعوا كل قواهم لمعارضته.

اعتراض اليهود -8: 33و39و41و48و53و57

وهنا يجدر بنا أن نلقي نظرة عامة على اعتراضاتهم، لنرى من وراء ظلالها أنوار كلمات المسيح. لقد قدموا ستة اعتراضات: - (1) "إننا: لم نستعبد لأحد قط" (عدد 33). (2) "أبونا هو ابراهيم" (عدد 39). (3) "إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد وهو الله" (عدد 41). (4) "ألسنا نقول حسناً إنك سامري وبك شيطان" (عدد 48)؟ (5) "ألعلك أعظم من أبينا الذي مات" (عدد 53)؟ (6) ".. أفرأيت إبراهيم" (عدد 57)؟.

ولدى التأمل يتضح لنا انه في الثلاثة الاعتراضات الأولى، دافعوا عن أنفسهم. وفي الثلاثة الأخيرة هاجموا المسيح.

في دفاعهم تحصنوا بـ: (1) حريتهم الزائفة (عدد 33). (2) نسبهم الوراثي (عدد 39). (3) امتيازاتهم الدينية (عدد 41). وفي هجومهم طعنوه: (1) شخصه (عدد 48). (2) سلطانه (عدد 53). (3) أزليته (عدد 57).

جواب المسيح 8: 34 -47و49-51و54- 56و58.

على هذه الاعتراضات والمهاجمات، أجاب المسيح بستة أجوبة سديدة، نافذة بقوتها كستة سهام قوية : - بالثلاثة السهام الأولى دفع اعتراضاتهم على كلامه، فحكم على أشخاصهم. بالثلاثة السهام الأخيرة، صد النبال التي صوبوها إلى شخصه.

أما حكمه على أشخاصهم، فهو حكم مثلث : (1) "إنهم ليسوا أحراراً" (عدد 34-36)، (2) "ليسوا أولاد ابراهيم" (عدد 37-42)، (3) بل"أولاد ابليس" (عدد 43-47).

وأما فيما يختص بشخصه فقد قرر لهم: (1)أنه "ابن الله" (عدد 49-50). (2) إن كلامه يهب الحياة للموتى (عدد 51-53). (3) إنه كائن قبل أن يكون ابراهيم (عدد 54-58).

عدد 33.

33أَجَابُوهُ: «إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟»

 اعتراضات اليهود –

(أ) إعتراضهم الأول – إفتخارهم بحريتهم الزائفة: "أجابوه أننا ذرية ابراهيم ولم نستعبد لأحد قط.. ". إن كلام المسيح عن حرية الحق، وقع على نفوسهم وقعاً أليماً. فكان كمياه باردة. صبت على أمالهم الوطنية "الغالية". فبدلاً من أن يتقدموا خطوة إلى الأمام في سبيل الإيمان نكصوا على أعقابهم. وعوضاً عن أن يعترفوا بحقيقة حالهم، ركبوا منطاد الغرور، وقالوا: "إننا ذرية ابراهيم". وبدلا من أن ينضعوا فيقبلوا هبة الحرية التي لوح بها أمام عينهم، نراهم وقد تمردوا، واحتجوا فاستعاروا كلمة نيقوديموس قبل أن تنفتح عيناه للنور، وقالوا: "كيف"!؟. إن اعتراضهم هذا مركب من ثلاثة عناصر: (أ) كبرياء: "إننا ذرية ابراهيم". (ب) مكابرة: "لم نستعبد لأحد قط" – وما رأيهم في المصريين الذين أذلوهم، والبابلين الذين سبوهم والرومان الذين كان "نسرهم" باسطاً جناحيه فوق هيكلهم؟؟! هذا الضرب من ضروب خداع الخطية، فانها تعمي العين عن حقيقة الواقع، فتجعل العبد يفخر بالسلاسل كأنها حلي وجلاجل؟ ألعلهم في قولهم هذا، تعلقوا بأهداب النظريات المعسولة، وأغمضوا عيونهم عن الواقع؟ ولكن ما النفع من حرية الطفولة ومرحها لمن يقضي رجولته في غياهب السجون؟ بل ما قيمة الأهرام التليدة لمصري يقضي حاضره في كوخ متهدم؟ يعتقد هنجستنبرج أن اليهود إنما كانوا يفخرون هنا بحريتهم الدينية، أي أنهم لم يستعبدوا قط لوثن. ويقول جودي أنهم قصدوا حريتهم كأفراد، على اعتبار على أن الشريعة الموسوية، كفلت لهم حريتهم الفريدة (لاويين ص 35). (ج) احتجاجا: "فكيف تقول أنت.. "؟ يلوح لأن كلمة: "أنت" يحيط بها جو من التحقير والإزدراء.

عدد 34.

34أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ.

جواب المسيح – الشطر الأول من جواب المسيح على اعتراضهم الأول: "لستم أحرارا" (8: 34 - 36): "أجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم..." أفتخر اليهود في اعتراضهم السابق لأمرين: بنوتهم لابراهيم وحريتهم. فنقض المسيح من فخرهم من أساسه، مبتدئاً بهدم الأساس الثاني – حريتهم (عدد 34 - 36)، ثم عقب عليه بهدم الأساس الأول – بنوتهم (عدد 37 و 38). فضلاً عن كون هذا الجواب نافذاً كالسهم، فهو أيضاً قاطع كالسيف، راسخ كالصخر، فاستهله بقوله: "الحق الحق" كعادته – في هذه البشارة – كلما أراد أن يعلن حقاً جديداً، ممتازاً (انظر شرح 3: 3 و 5).

في الشطر الأول من جواب المسيح الذي هدم به ثقة اليهود من حريتهم الموهومة، أعلن لهم: (أ) حقيقة حالهم (8: 34): "إن كل من يعمل الخطية هو عبد الخطية". هذا مبدأ عام، لأنه يضم بين ذراعيه جميع الجنس البشري، وهو أيضا مبدأ خاص لأنه ينطبق على الناس أفرادا لا جماعات: "كل منت". كلمة: "يعمل" تشير إلى حال الخطية المولود فيها الإنسان، وإلى ارتكاب الخطية، وإلى العيش في الخطية. فهي تناول الخطية من حيث كونها حالة طبيعية، وفعلاً، وعادة، وخلقاً. لأن من يزرع فكراً يحصد فعلاً، من يزرع فعلاً يحصد عادة، ومن يزرع عادة يحصد خلقاً، ومن يزرع خلقاً يحصد مصيراً.

من أقوى تأثيرات الخطية على مرتكبها، أنها تستعبده. لأن كل من يقع فيها المرء في الخطية، تسهل عليه العودة في ارتكابها، لأنها تضعف فيه قوة المقاومة، وتستأثر عقله وتستبعد إرادته، "وتسيبه إلى ناموس الخطية والموت" (رومية 7: 23). في بدء حياة الشر، ليسير الإنسان في منحدر متدرج. لأن هذا الانحدار يصير فيما بعد عمودياً. فليست العبودية أو الحرية قضية سياسية، لكنها حالة روحية نفسية.

عدد 35.

35وَﭐلْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أَمَّا الاِبْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ.

(ب) غاية مآلهم (8: 35). (1) الجانب السلبي: "والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد". بهذا الحكم نقد المسيح ادعائهم الكاذب لأنهم "ذرية إبراهيم"، وأهل بيت الله – فلن يستطيع الإنسان أن يكون عبداً للخطية وابناً لله في آن واحد. وحاشى لله أن يكون أبناءه عبيداً لسواه إلى الآن، كان اليهود في بين الله، لكن بحكم عبوديتهم، قد أمسوا غريبين عن "البيت"، على رغم كونهم متمتعين ببعض مزاياه الخارجية. فليست البنوة لإبراهيم أب المؤمنين، مسألة محلية جغرافية، ولا هي قائمة بالتسلسل التاريخي، وإنما هي اختيار قلبي روحي: "منا خرجوا لكنهم لم يكونوا منا لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا" (1 يو 2: 19). وليس للعبد أن يبقى في البيت غلا على قدر الوقت الذي ينتفع به سيده منه. فمن الجائز أن يباع العبد في أي وقت، أو يطرد. وقد حدث هذا بالفعل في عائلة ابراهيم – فإن اسماعيل ابن الجارية طرد، وتركز الوعد في اسحاق.

(2)الجانب الإيجابي "أما الابن فيبقى إلى الأبد". الاشارة هنا إلى البنوة بوجه عام مقابل العبودة. وإنما من قبيل التطبيق تشير إلى المسيح بالذات.

عدد 36.

36فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً. 37أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأَنَّ كلاَمِي لاَ مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ. 38أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ».

(ج) وعداً: "فإن حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحراراً". بعد أن أبان لهم المسيح حقيقة حالهم – إنهم عبيد (عدد 34)، وغاية مآلهم: الطرد من بيت الله (عدد 35)، أراهم نوراً ساطعاً من الرجاء في شكل وعد يقين (عدد 36). كلمة: "الابن" في هذا العدد. تشير إلى المسيح ابن الله.

إذا ألقينا مجملة إلى هذه الثلاثة أعداد (عدد 34 و 35 و 36)، ألفينا بينها تدرجاً فكرياً مزدوجاً - فمن العبودية بالخطية (عدد 34)، ينتقل الفكر إلى العبودية بالله (عدد 35) ومن البنوة العامة في عدد 35، ينتقل الفكر إلى البنوة الخاصة لله – بنوة المسيح ابن الله الوحيد (3: 16). ولكونه هو الابن الأوحد، قد آلت غليه كل حقوق البيت. فهو لا يتمتع بالحرية وكفى، لكنه يهيب الحرية للعبيد ليسيرهم أبناء، لأنه صاحب الحرية وربها. لذلك يصبح تلاميذ المسيح أبناء الله بواسطة الإيمان بابن الله الوحيد. (غل 3: 26) فالمسيح هو الابن الأصيل، لكن المؤمنين به هم أبناء بالتبني. إن بنوة المسيح حق لكن بنوة المؤمنين هبة يمنحونا إياها بتحريرهم من الخطية بواسطة المسيح. على أن هذا لا يمنع بنوة المؤمنين بنوة حقيقية: "فبالحقيقة" – في الروح، وفي الداخل، وفي عين الحقيقة والواقع، على خلاف بنوة اسرائيل التي كانت سطحية وخارجية، وهمية. وردت كلمة: "بالحقيقة" في الأصل، في هذا المكان وحده في بشارة يوحنا. إن خير مفسر لهذه الأعداد هو ما جاء في غلاطية ص 3و4.

إن الابن الذي يحرر المؤمنين، هو الحق بعينه (عدد 32). (انظر 14: 6 و1يو 5: 20).

إذا كانت الخطية بغرورها، وبطلها، واستعبادها، قد صيرت الأبناء عبيدا وطردتهم من بيت أبيهم، فان المسيح، بحقه وحريته، يجعل العبيد أحراراً، ويردهم إلى البيت الذي منه طردوا.

عدد 37.

(2) الشطر الثاني من جواب المسيح على اعتراضهم الأول: "لستم ذرية إبراهيم" (8: 37 - 42). بدأ المسيح حكمه هذا: (أ) بتسليمه معهم بأنهم أولاد إبراهيم حسب الجسد "أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم" – حسب السجل المدني التاريخي. (ب) ثم أورد لهم حجة دامغة تفصم حلقات هذا التسلسل الجسداني، فبين لهم أن ثمار حياتهم الأدبية، تدل على أنهم متفرعون روحياً من شجرة أخرى غير زيتونة إبراهيم (مت ص3، ورومية ص9، وغلاطية ص3). فالقتل ليس من ثمار زيتونة إبراهيم الطيبة: "لكنكم تطلبون أن تقتلوني". (ج) ثم تعمق في البحث فوصل إلى العلة الدفينة لهذا الموقف الإجرامي الذي وقفوه تجاهه. فالعلة الحقيقية ليست فيه هو، بل فيهم هم –في قلوبهم. فقد أوصدوها ضد كلامه: "لأن كلامي لا موضع له فيكم". لأن الحقد، والتعصب الأعمى، والجهل المطبق – كل هذه قد خنقت كلام المسيح، فلم يجد له متسعاً في قلوبهم، للنمو والإثمار. الكلمة المترجمة: "موضع" معناها الحرفي. "تقدم أو سير إلى الأمام". فخي تستعمل في لغة الإغريق. عن السهم النافذ، والنبت المزدهر، والمال المتكاثر، والماء المتدفق. فهي تفيد الحركة، والقوة، والتقدم. إن كلام المسيح قد بلغهم وتركهم على ما هم عليه من تعصب وظلام (عدد 33) لأنه اصطدم بقلوبهم المتحجرة فلم يجد له منفذاً إليها. فكان نصيبه نصيب البذار التي وقعت على الأرض المحجرة.

عدد 38.

مبدأ خالد: عن كل شخص مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصل خفي، عنه يصدر كل كلامه وأعماله، وعن طبيعته ينم. وعلى هذا المبدأ قارن المسيح بين كلامه وأعمالهم. فكلامه ينم عن أصله الروحي. كما أعمالهم تفصح حقيقة أصلهم: "أنا أتكلم بما رأيت عند أبي. وأنتم تعلمون ما رأيتم عند أبيكم". هذه مقابلة مزدوجة: (أ) "أنا أتكلم" – وكلامي روح وحياة. "أنتم تعملون – وعملكم ظلم وقتل". (ب)"أنا... أبي" – هو الحي المحي "وكلامي روح وحياة". "أنتم.....أبيكم" – هو القاتل وأنتم تريدون أن تقتلوني. إن علة اختلاف المسيح عنهم، ناشئة عن اختلاف أصله عن أصلهم. وما قاله المسيح هنا عن اليهود يصدق أبداً على كل البشر في كل عصر.

إذاً كان المسيح قد نسب إلى نفسه، "الكلام"، وإلى اليهود، "الأعمال" فما ذلك إلا لأنه كان حينئذ يشهد لهم عن حق الله، وعن الله الحق، في وقت كانوا هم يدبرون فيه "كيف يقتلونه".

عدد 39(أ).

39أَجَابُوا: «أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ».

(2) اعتراضهم الثاني: افتخارهم الوراثي "نحن ذرية إبراهيم.." جرحت كبرياء اليهود، إذ أحسوا من كلام المسيح، في العدد السابق، بوخز يطعنهم في أعز ما يفخرون به، فقرروا له وكرروا ما سبقوا فقالوا في عدد 33، واضعين النبرة على كلمة:"إبراهيم"، وكانوا قد وضعوا النبرة في عدد 33. على كلمة "لم نستعبد". قبلاً كانوا يفخرون بحريتهم لما رأوه يتهمهم بالعبودية، والآن نراهم يفخرون بكون إبراهيم أباً لهم حين سمعوه يطعنهم في شرف أصلهم وحسبهم.

عدد 39(ب) - 41(أ).

قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!. 40 وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ. 41 أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ»

جواب المسيح على اعتراضهم الثاني. كان المسيح قد سلم معهم في عدد 37، بأنهم أولاد إبراهيم حسب التسلسل الجسدي، والآن نراه ينكر عليهم تسلسلهم من إبراهيم بالروح والعمل. لآن فعلهم يدل على أصلهم: "لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم"- مثل طاعة إبراهيم لله (تك ص 22و12)، واحترامه لرسل الله، وبينهم ملاك العهد (تك ص 16و18). "ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني". فيمايلي من الكلام، وصف المسيح نفسه ثلاث أوصاف، متصاعدة في نظام متدرج إلى الأعلى: (أ) "إنسان": إن المسيح إله كامل وإنسان كامل، وإنما عبر عن نفسه بفوله : "وأنا إنسان"، لكي يصف نفسه حال كونه فادياً ووسيطاً، ولأن القتل لا ينصب على إله بل على "إنسان". على انه ليس مجرد إنسان بل هو (ب) المتكلم بالحق – وهو الحق بالذات. وهو لم ينطق بحق ابتدعه من ذاته أو لذاته، إنما جاء (ج) متكلماً "بالحق الذي سمعه من الله" (عدد 38). هذا الوصف المثلث يصف المسيح عن عمله الفدائي كرسول ووسيط بين الله والناس. وبحسب هذا الوصف المثلث تكون خطية اليهود مثلثة، ومستكملة. "هذا" –أي طلب قتل الرسول المتكلم بالحق من قبل الله – لم يعمله إبراهيم" – بل عمل ما هو ضد ذلك على خط مستقيم: "وظهر له الرب عند بلوطات ممراً.. فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال.. فلما نظر ركض لاستقبالهم وسجد" (تك 18: 1و2).

بعد أن نفي المسيح عنهم انتسابهم الروحي إلى إبراهيم، نظراً لتناقض أعمالهم مع اعمال إبراهيم، أراد ان يدلهم على والدهم الحقيقي الذي تربطهم وإياه طبيعة العمل المشترك: "أنتم تعملون" – الآن، بمحاولتكم أن تقتلوني – "أعمال أبيكم". هنا وصف المسيح حقيقة حالهم التي نمت عنها طبيعة أعمالهم. وهو لم يكن بقوله هذا، محرضاً إياهم على عمل مقضي به عليهم، بل كان مقرراً حقيقة الواقع ليس إلا.

عدد 41 (ب).

"فَقَالُوا لَهُ: «إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ».

 

(3)إعتراضهم الثالث: "فقالوا له إننا نولد من زنا، لنا أب واحد وهو الله"(8: 41). يقع اعتراضهم هذا، في شطرين – أحدهما سلبي، استنكروا فيه الاتهام الذي استنتجوه من كلام المسيح فقالوا بأنفة الغاضب: "لم نولد من زنا" ولعلهم أرادوا بذلك أنهم من دم يهودي، لم يداخله عنصر أممي، فهم عبرانيون من عبرانيين (فيلبي 3: 5)، لأن زواج اليهود من الأمميات كان محسوبا ضرباً من الزنى. وربما أرادو بهذه الكلمة معنى روحياً أي أنهم مولودون من عنصر شريف، موال لله وحده، ولم يزن عن عبادته (هوشع 2: 4)، على خلاف السامريين.

والشطر الثاني من اعتراضهم، إيجابي: "لنا أب واحد وهو الله" وهنا نلاحظ ارتقاء منهم على سلم العجرفة، فبعد أن تمسكوا ببنوتهم الجسدية لإبراهيم استطالوا بأعناقهم وفاخروا ببنوتهم الروحية لله. فهم على هذا الاعتبار وليدو العهد الذي قطعه الله مع شعبه إسرائيل.

عدد 42-47.

فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. 43 لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. 44 أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ. 45 وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ الْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. 46 مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟. 47 اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلاَمَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ».

جواب المسيح على اعتراضهم الثالث 8: 42-47. في هذا الجواب نقض المسيح ادعائهم البنوة لله، بنفس المعول الذي هدم به ادعائهم البنوة لإبراهيم (عدد 40)، إذ قدم له محكاً طبيعياً، يتبينون به صدق دعواهم من بطلانها (أنظر عدد 14). بنظرة الواثق المتيقن، أبلغهم المسيح أنه"خرج من قبل الله" – بالتجسد- "وأتى" إلى العالم، حاملاً اسم مرسله وجلاله، وعلى جبينه الوضاح طابع الأزل والخلود. فلو كانوا هم من الله، لعرفوا مسيح الله، وفهموا كلامه، وأحبوه (عدد 42)، وأما وقد جهلوه – أو تجاهلوه - ولم يستمعوا لكلامه، وأبغضوه، ونكروا في قتله، فقد برهنوا بعدم معرفتهم إياه، على أنهم لا يعلمون المصدر الذي منه أتي – الله (عدد 43).

وبمحاولتهم أن يقتلوه، أقاموا الحجة على أنهم ليسوا أبناء الله لآن الله محبة". فلا بد أن يكونوا إذاً أولاد القاتل الأعظم – إبليس (عدد 44 (أ)). فثمار الشجرة، عنوان حقيقتها، والأعمال تنبىء عن حقيقة الخصال، وكل إناء ينضح بما فيه.

وبعدم سمعهم كلامه، قدموا دليلاً عملياً على أنهم أجنبيون عن لغته، وبما أن لغته هي "الحق"، فمن لا يفهم "الحق" فهو ليس من أبنائه، بل من أبناء الكذب، ومن سلالة "الكذاب وأبي الكذاب" (عدد 44(ب)و 45).

أردف المسيح قوله هذا بتحد تاريخي، لم يجسر فم، غير فمه الطاهر أن ينطق بمثله: "من منكم يبكتني عن خطية؟" (عدد 46)، ثم ختم هذا التحدي بتقرير حقيقة طبيعية: "الذي من الله يسمع كلام الله" (عدد 47).

عدد 42.

تجسد المسيح، وخدمته، ورسالته. إن العبارة الأولى: "خرجت من قبل الله" تشير إلى حقيقة التجسد في الماضي. والعبارة الثانية: "أتيت" تشير إلى خدمته في إتمامه إياه، وقت تكلمه معهم. والعبارة

وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. 43لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟

الثالثة: "لأني لم آت من نفسي.. بل ذاك أرسلني" تشير إلى حقيقة رسالته في مصدرها: بكلمتين – إحداها سلبية "لم آت من نفسي". والثانية إيجابية: "بل ذاك أرسلني".

إن قوله "من قبل الله خرجت" ورد مرة واحدة غير هذه (16: 28)، وهو يحمل إشارة إلى مصدر بنوة المسيح الأزلية – من الآب.

إذا كانت العبارة الأولى: "خرجت من قبل الله"، تشير إلى التجسد في الماضي. والعبارة الثانية: "وأتيت"، تصف حقيقة رسالته في الحاضر، فان هذه العبارة الثالثة: "لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني"، تربط الماضي بالحاضر برباط مكين.

عدد 43.

علة عدم فهمهم كلامه هذا. "لماذا لا تفهمون كلامي لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي". أراد المسيح بقوله "كلامي"، غير ما أراد بكلمة! "قولي"، فالقول أعم وأوسع من الكلام. ولعله أراد بـ "قوله"، جوهر رسالته، و بـ "كلامه" مضمون رسالته. فإذا مثلنا بقطعة موسيقية، قلنا "الكلام" هو لغتها وتعبيرها، "والقول" هو نغمتها. الكلام هو جسم رسالة المسيح، والقول هو روحها.

إن السمع الذي أراده المسيح بقوله: "أن تسمعوا قولي"، هو القبول والترحيب – بالأذن المفتوحة، والقلب الواعي. هذا شرط لازم، بل خطوة تمهيدية للفهم، والإدراك، والتمييز. وعدم القدرة، نتيجة طبيعية لعدم الإرادة. فقول المسيح: "لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي"، إنما هو بمثابة قوله: "لأنكم لا تريدون أن تقبلوا قولي ورسالتي". إن عجزهم عن أن يسمعوا قول المسيح، ليس ناتجاً عن حالة فرضها الله عليهم، وهم غير مسئولين عنها، لكنه نتيجة طبيعية لحالة خلقوها لأنفسهم، بعنادهم وتمردهم (قابل هذا بما جاء في 5: 44 - 47).

عدد 44.

المسيح يصارحهم بحقيقة بنوتهم. إن تصرف اليهود نحو المسيح يتلخص في كلمتين – (1) عدم محبتهم إياه – والبغضة هي القتل بعينه. (1 يو 3: 15)، (2) - عدم قبولهم كلامه – وكلامه حق، بل هو الحق بعينه. إذ قد نمت أعمالهم عن هاتين الشهوتين – القتل والكذب ولما كان لكل شخص أصل ينتسب إليه، ويستمد منه عصارة حياته، وأخلاقه، فقد صاروا خليقين بأن يكونوا أولاد إبليس الذي اتصف بنفس هاتين الشهوتين: (1) القتل: "ذاك كان قتالاً للناس من البدء" لأنه أغرى أبوينا الأولين بمخالفة وصية الله، وأوقعهما في موت النفس والجسد. فإن "أجرة الخطية هي الموت". (2) الكذب: "لم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له. لأنه كذاب وأبو الكذاب"

إن قول المسيح: "ذاك كان قتالاً للناس منذ البدء"، يشتمل على إشارة ضمنية إلى أصل سقوط الجنس البشري. وقوله : "ولم يثبت في الحق"، يحمل إشارة ضمنية إلى أصل سقوط إبليس. ولعل كلمة: "لم يثبت"، تتضمن إشارة من طرف خفي إلى سقوط إبليس في امتحان أدبي وروحي، حين سقط من ثباته. وان علة سقوطه، لم تنشأ عن أمر خارجي عنه، بل عن استعداد داخلي فيه "ليس فيه حق.

وإنما تنجح المقالة في المرء إذا صادفت هوى في الفؤاد

"لم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. "حق في الخارج وهو إعلانات الله. لذلك لم يثبت إبليس في حق الله،لأنه كان خالياً من الإخلاص والبساطة، والاستقامة.

إن ما قاله المسيح، عن إبليس، بصيغة سلبية،: "لم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق"، عاد فقرره بصيغة إيجابية، للتوكيد: "متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو كذاب".

عدد 45.

علة عدم إيمانهم: "وأما أنا" – الآن قد انتقلنا من بيئة كلها ظلام في ظلام(عدد 44)، إلى بيئة كلها قداسة في قداسة، وحق في حق. إن علة عدم إيمان اليهود بالمسيح، كائنة في الاختلاف البين، وبين ما نادى به هو : "الحق" وبين ما فيهم هم :"الكذب" وكيف يدخل الهواء في حراشف السمك؟ وكيف يدخل الماء على رئتي العصفور؟!.

عدد 46.

المسيح يتحدى الأجيال."من منكم يبكتني على خطية.." كما تتجمع أشعة الشمس في نقطة واحدة، ملهبة، محرقة، كذلك تجمعت كلمات المسيح، والتقت في هذه الكلمة المنيرة لقلوب المؤمنين، والمحرقة لأعشاب الافتراء في قلوب المفترين: "من منكم يبكتني على خطية"؟ من من البشرية يجسر أن يقول، إن الناطق بهذه الكلمات، مجرد إنسان؟ اللهم! إذا كان قائل هذه الكلمة إنساناً، فإنه غير موجود، لأن الإنسان الذي يتحدى أعداءه بمثل هذه اللغة، لم يخلق بعد. ولن يخلق، بل ينبغي أن يكون "مولوداً غير مخلوق. مساوياُ للآب في الجوهر"- هذا هو المسيح – والمسيح وحده.

أن المسيح بتحديه اليهود، قد تحدى كل الأجيال. فقد مضت عشرون قرناً، ولم يقم فيها واحد يستطيع أن يقول: "أنا أبكتك على خطية"، هو بار بشهادة الأحباء، بار بشهادة الأعداء، بار بشهادة البر نفسه!!.

إن عجز اليهود – والعالم أجمع – عن أن يجدوا خطية واحدة في المسيح، معناه أنه يجب عليهم أن يسلموا بأنه نطق بالحق، بل انه هو "الحق"، بل وجب عليهم أن يقبلوه في قلوبهم، لأن من يقبله، يقبل الحق.

عدد 47.

نتيجة طبيعة مؤسسة على مبدأ طبيعي: "الذي من..".أما المبدأ الطبيعي فهو: "الذي من الله يسمع كلمة الله" – لأنه ما دام في الله، فالله فيه، وما دام الله فيه، فمن الطبيعي أن يسمع كلام الله.ويرحب به، ويطيعه. "وشبيه الشيء منجذب إليه".

الشطر الثاني من حديث المسيح 8: 48-59

 48 فَقَالَ الْيَهُودُ: «أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟». 49 أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي. 50 أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ. 51 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ». 52 فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «?لآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ وَأَنْتَ تَقُولُ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ». 53 أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟». 54 أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ. 55 وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباًلَكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ. 56 أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ». 57 فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟». 58 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «?لْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».59 فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا

قبل الآن، كان اليهود متخذين من المسيح جانب الدفاع، ومنذ الآن سنراهم متخذين منه جانب الهجوم. إذ هاجموه في ثلاث نواحي:

(1) في شخصه (عدد 48). (2) في سلطته في (عدد 52و53).(3) في أزليته(عدد 57). فأجابهم المسيح أجوبة سديدة، شبيهة بسهام مسددة.

في جوابه على هجومهم الأول: أبان لهم: أنه يكرم الآب (عدد 49)، وأنه لا يطلب مجداً لنفسه(عدد 50)، ثم ختم هذا بتقديم وعد مجيد لمن يحفظ كلامه (عدد 51). وفي دفاعه عن هجومهم الثاني: أبان لهم أن سلطته مستمدة من الآب الذي يمجده، والذي يدعون هم أنه إلههم (عدد 54). ثم صارحهم بحقيقة مؤلمة جارحة وهي أنهم لا يعرفون هذا الإله الذي يعرفه هو(عدد 55). وقد بلغ سهمه صميم قلوبهم عندما أعلن لهم أن أباهم إبراهيم الذي يفاخرون به على الأجيال، "قد تهلل بأن يرى يومه فرأى وفرح" (عدد 56)، وفي دفاعه عن هجومهم الثالث، قرر لهم، بلغة الواثق المؤمن أنه أزلي – "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (عدد 58).

عدد 48.

هجومهم الأول – موجه إلى المسيح في شخصه"فأجاب اليهود وقالوا له. ألسنا نقول حسناً أنك سامري وبك شيطان"؟ يستفاد من قولهم: "ألسنا نقول حسناً" إن العبارة التي تقولوا بها على المسيح، كانت متداولة بينهم. فقد كان في نظر اليهود: (أ) "سامرياً" – لأنهم كانوا يعتبرونه ألد عدو لوطنيتهم الضيقة الزائفة. (ب)"به شيطان". إن القلم ليرتجف في يد الكاتب عند تسطيره هذه التهمة النكراء التي وجهها اليهود إلى "قدوس العلى". (راجع تفسير 7: 20) أهكذا تصل البشرية إلى الحضيض في اتهامها ربها وفاديها ومسيحها. أراد اليهود بهذا القول المنكر أن يردوا على المسيح التهمتين اللتين ألصقهما بهم فيما مضى (عدد 39و44). فقولهم له: "انك سامري"ردوا به قوله لهم: "لستم أولاد إبراهيم" (عدد 39). وقولهم له: "بك شيطان" ردوا به قوله لهم: "أنتم من أب هو إبليس"(عدد 42). على أن المسيح لم يقل لهم القول جزافاً، ولا حباً لهم بالاتهام، وإنما أراد أن يصارحهم بحقيقة حالهم، فيصلحوها قبل فوات الفرصة – كان سلاحه كمشرط الطبيب المعالج، وكان سلاحهم كخناجر قطاع الطرق.

إن في قولهم له: "إنك سامري" اعترافاً منهم، على غير قصد، بأن شخصية المسيح جامعة لشتات البدائع، تضم بين جوانبها أبعد المتناقضات، ويجتمع في باحتها الفسيحة، اليهودي بعدوه السامري.

عدد 49-51.

49 أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي. 50 أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ. 51 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ».

دفاع المسيح ضد هجومهم الأول – المسيح يكرم الآب

(8: 49-51). في هذه الكلمات، تغاضى المسيح عن اتهامهم إياه بأنه "سامري"ودفع عن نفسه التهمة الثانية "بك شيطان"، مفرغاً دفاعه في كلمات هادئة كالنسيم، قوية كأشعة الشمس، جميلة كالقمر. "إذا شتم ولم يشتم عوضاً وإذا تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل" (1 بطرس 2: 32). إن كلمات بطرس هذه، تلقي نورا ساطعا على دفاع المسيح هنا. وكان بطرس كتبها في نور هذا الدفاع المجيد، الذي سجله يوحنا. فالشطر الأول من كلمات بطرس: "إذا شتم لم يكن يشتم عوضاً"، يفسر عدد 50

والشطر الثاني: "وإذا تألم لم يكن يهدد. بل كان يسلم لمن يقضي بعدل"، يفسر عدد 51.

يتضمن دفاع المسيح في هذا الأعداد: (أ) إنكاراً صريحاً، للتهمة الثانية التي وجهوها إليه: "أنا ليس بي شيطان". (ب) تقريراً ايجابياً عن غاية رسالته: "أنا أكرم أبي". إذا لم تكن كلمات المسيح السابقة، صادرة عن قلب مملوء من الغل نحوهم، ولا عن عقل جامح، إنما هي رسالة الآب وقد بلغها لهم بأمانة. فكان بذلك مكرماً الآب. (ج)وصفاً هادئاً لحقيقة كلامهم: "لأنتم تهينونني" تظهر شناعة خطيتهم هذه، من كونهم يهينون المسيح أثناء تأدية وظيفته بتكريمه الآب. إن النبرة في كلام المسيح واقعة على كلمتي "أنا" و "أنتم"،وعلى كلمتي"أكرم" و"تهينون". (د) تسامحاً سخياً: "أنا لست أطلب مجدي"

(عدد 51).

وكأني به يقول لهم أما إهانتكم لي، فلا يعنيني أمرها، لأني ما جئت لأطلب مجدي، وإنما الذي "يطلب مجدي ويدين" من يهينوني، هو الآب، واليه اسلم الأمر: "كان يسلم لمن يقضي بعدل". إن الآب قد مجد المسيح، بإقامته من الموت، واجلاسه على يمين العظمة في الأعالي. وقد دان اليهود بتأسيس إسرائيل روحي – الكنيسة المسيحية- بدلاً من إسرائيل العتيق، وبتسليمه اليهود لمرامي أعدائهم، الذين أخرجوا مقدسهم وشتتوهم في أرجاء المعمورة. (د) وعداً أكيداً "الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد". على ذكر الدينونة التي اختتم بها المسيح كلامه في العدد السابق (عدد 50)، لم يشأ أن يتركهم في ظلامها، ولا أن يختتم دفاعه بها، بل قصد أن ينقلهم من ظلامها إلى نور الحياة، فأراهم وسيلة النجاة من الدينونة، والتمتع بالحياة – وهي حفظ كلامه: "إن كان أحد يحفظ كلامي" – إن حفظ كلام المسيح معناه الانتباه إليه،وقبوله قبول حسناً،بدلاً من عدم اعتباره والعبث به(أنظر عدد 31). ويراد بـ "كلام" المسيح خلاصة وصاياه وروح تعاليمه. أما الوعد المقدم لمن يحفظ كلام المسيح، فقد أفرغه المسيح في كلمات صريحة قاطعة: "لن يرى الموت إلى الأبد" (قابل هذا مع ما جاء في يو 3: 36 ولوقا 2: 26 وعبرانيين 11: 5 وأعمال 2: 27و31و13: 35 ورؤيا 17: 7).إن الرؤية المقصودة بقوله: "لن يرى"، يراد بها رؤية التفرس، والاختبار، التي هي بمثابة اختبار الموت في الموت. (تكوين 2: 17و11: 26و6: 50).

عدد 52و53.

52 فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ وَأَنْتَ تَقُولُ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلاَمِي فَلَنْ يَذُوقَ الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ». 53 أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟».

هجومهم الثاني – موجه إلى المسيح في سلطته(8: 52و53) سمع اليهود هذا الوعد الذي اختتم به المسيح دفاعه سالف الذكر. فبدلاً من أن يقبلوه قبولاً حسناً، ويتمتعوا بالبركة المتضمنة فيه: "إن كان احد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد"، نراهم يكيلون الشتائم جزافاً لقدوس الله متهمين إياه بأنه يتقلد سلطة ليست له: "من تجعل نفسك؟".

لو كان المسيح قد قال لهم، انه لن يموت إلى الأبد، لكان قوله هذا عسر القبول لديهم. لأن إبراهيم أباهم، والأنبياء الذين هم موضوع إجلالهم وتقديسهم، قد ماتوا، أما وقد قال لهم المسيح أنه صاحب السلطان في إعطاء الحياة الأبدية لكل من يحفظ كلامه، فلم يتمالكوا أنفسهم من أن يهرفوا بهذه الكلمات: "الآن علمنا أن بك شيطاناً. قد مات الأنبياء وأنت تقول إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يذوق الموت إلى الأبد. ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات والأنبياء ماتوا. من تجعل نفسك؟".

إن اليهود في احتجاجهم هذا، قد حرفوا كلمة رئيسية في وعد المسيح، فبدلوا كلمة: "يرى" (عدد 51)، بكلمة: "يذوق" (عدد 52). إن "ذوق كأس الموت"يراد به الموت الجسدي، ولكن "رؤية الموت" يراد بها الموت الروحي. وواضح من عبرانيين2: 9، أن المسيح "ذاق"الموت، مع أنه لم ير الموت، أي لم يمت روحياً.

عدد 54-56.

54 أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ. 55 وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباًلَكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ. 56 أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ».

 دفاع المسيح ضد هجومهم الثاني – المسيح يمجد الآب، وسلطانه مستمد منه.أجابهم المسيح في دفاعه عن هجومهم الثاني، بأن سر مديته، وأن السلطة التي بها يهب حياة لمن يحفظ كلامه، ليستا مستمدتين من سلطان اختلسه لنفسه اختلاساً، بل من المجد الذي أعطاه الآب إياه. وأن أباه ليس أجنبياً عنهم، فإنهم يقولون أنه إلههم". ومن المؤسف أن ادعاءهم هذا باطل لأنهم لا يعرفون الله الذي ينسبون أنفسهم إليه ظلماً وبهتاناً.

ما كان أشد وقع هاتين الكلمتين على مسامعهم: "ولستم تعرفونه"، وهم الذين يدعون العلم بكل شيء. كان من الصعب جداً عليهم أن يسمعوا شخصاً ينسب إليهم عدم المعرفة بالناموس، أو بتفسيره، أو بتقليدات الآباء. أما أن يتهموا بأنهم لا يعرفون الله – فهذا شيء لا تطيقه طبائعهم المتكبرة، والمكابرة.

في الوقت الذي صارح فيه المسيح أولئك اليهود بأنهم لا يعرفون الله، قرر لهم محققاً أنه هو "يعرفه ويحفظ قوله". ومن الملذ أن نذكر أن المعرفة في قوله عنهم: "تعرفونه" تعني المعرفة الاكتسابية التعليمية، مع أن المعرفة في قوله عن ذاته: "أنا أعرفه" تعني المعرفة المباشرة، العانية، الجوهرية، الذاتية.

ولا يغرب عن بالنا أن المسيح لم يقرر لهم أنه يعرف الله، حباً في المقارنة بين جهلهم وعمله،وكفى، بل لأن تصريحه بهذه الحقيقة، قضت به ضرورة شهادته بكل الحق: "وإن قلت أني لست أعرفه أكون مثلكم كاذباً". لأن الكذب، لا ينحصر في إعطاء معلومات غير صادقة، وإنما هو أيضاً عدم التصريح بكل الحق. فالحق المبتسر، لا يختلف كثيراًَ، في نظر الله، عن الكذب الصراح.

إلى هنا جاوبهم المسيح عن سؤالهم: "من تجعل نفسك" (عدد 53)؟.

وفي العدد الآتي (عدد 56)، جاوبهم عن سؤالهم "ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم" (عدد 53)؟ فقرر لهم"أن أباهم إبراهيم تهلل بان يرى يومه فرأى وفرح".

 جدير بنا أن نستوقف أنفسنا قليلاً، أمام هذا الإعلان الجليل، الخاص بنسبة المسيح إلى إبراهيم الخليل. لقد طرب إبراهيم متمنياً أن يرى يوم المسيح "فرأى وفرح". فالرؤية حصلت بالفعل – لا بالرجاء، ولا بالتوقع. وهي أيضاً حدثت لما كان إبراهيم بالجسد حياً – لا بعد ما خلع إبراهيم رداء الجسد وصار في عالم الأرواح. فالإشارة منصبة على الأوقات التي رأى فيها إبراهيم "ملاك يهوه" – "ملاك العهد" (اطلب تكوين 15: 8و18: 1). ويجوز أن يكون قد رآه في نور المواعيد(عب 11: 13) وفي ضوء ذبيحة اسحق، والكبش الذي وجده معداً لفدائه (تكوين 22: 13).

عدد 57.

57 فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟».

هجومهم الثالث- موجه إلى المسيح في أزليته: "فقال له اليهود. ليس لك خمسون سنة بعد: أفرأيت إبراهيم"؟ هذه هي المرة الثانية التي حرفوا فيها كلمات المسيح. لم يقل لهم الفادي أنه رأى إبراهيم. بل أن إبراهيم رأى يومه(أنظر أيضاً عدد 52).

إن قولهم له: " ليس لك خمسون سنة " لا يستدل منه شيء عن مقدار عمر المسيح وقتئذ، لأنهم لم يذكروا العدد 50 إلا لكونه عدداً كاملاً، وعنده ينتهي دور الرجولة (عدد 6: 3). فكأنهم أرادوا أن يقولوا له: إنك لم تتم بعد دور الرجولة، فهل تحسب نفسك معاصراً لإبراهيم.

عدد 58.

58 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».

دفاع المسيح ضد هجومهم الثالث. المسيح أزلي مطلق. هنا قرر لهم المسيح بلغة الواثق المطمئن، أنه أزلي: "قبل أن يكون إبراهيم، أنا كائن" (عدد 58). ومن الأهمية بمكان عظيم أن نلاحظ الفرق بين صيغة الفعل الذي استعمله المسيح عن لإبراهيم: "يكون"وبين صيغة الفعل الذي وصف به نفسه: "كائن". فهو لم يقل: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت" وإنما قال "أنا كائن". فليس في سجل الزمن وقت لم يكن فيه المسيح كائناً.إن الوقت الذي وجد فيه المسيح، لم يولد بعد على أحضان الزمن. فالمسيح هو رب الزمن لأنه أزلي، أبدي (1: 1).

عدد 59.

59 فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا

خاتمة محزنة: لم يتلق اليهود هذه السهام المسددة إليهم، بصدرو رحبة، بل – كما عهدناهم - حنقين غضوبين، إذ لم يبق في قوس صبرهم منزع "فرفعوا حجارة ليرجموه". الآن قد تبلور كلامهم السابق وتحجر، وبهذه اللغة الحجرية الجامدة، أرادوا أن يقذفوا المسيح.هذه خاتمة محزنة دلت على الحالة النفسية التي وصلت إليها نفوسهم من الجمود والتحجر! قلوب حجرية بين ضلوعهم، ومواد حجرية في أيديهم.

وكم من "حجارة" يتناولها اليوم كثيرون، ليرجموا بها المسيح، في مدارس النقد الإباحي، وفي برية الشكوك وفيافي العلم الغبي، وظلمات العناد.فالحجارة هي، في كل عصر، جواب محبي الظلمة على ناشر النور.

ولكن إذا كانت الظلمة تجاوب النور بالأحجار على إطفاء النور؟ فهل إذا رجمت الشمس بالأحجار، كل صباح، تكف عن الإشراق، وهل عوى الذئاب بقادر أن يمنع جبار الفضاء عن المسير في فلكه؟!

"أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل، مجتازاً في وسطهم" – من غير أن يلجأ إلى معجزة خاصة – "ومضى هكذا".

 تقسيم تفصيلي لبشارة يوحنا

من الأزل

المسيح يتجلى للعالم

ص 1: 19 – ص 12

المسيح يتجلى لخاصته

ص 13 – 17

(1) "الكلمة" فبل التجسد

1: 1 و 2

 

 

 

 

 

 

 

(2) صلة "الكلمة" بالخلق 1: 3 – 5

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(3) صلة "الكلمة" بالعالم الأزلي 1: 6 – 18

(أ) بزرة عدم الإيمان

1: 6 – 11

(ب) بزرة الإيمان

1: 12 - 18

إعداد الطريق لخدمة المسيح 1: 19 – 2: 11

(1) شهادة يوحنا المعمدان 1: 19 – 34

(2) شهادة التلاميذ الأولين 1: 35 – 51

(1) طلائع المسيح 2: 12 – 4 – 54

(3) المعجزة الأولى2: 1-11

(1) في أورشليم 2: 12 – 3: 36

(2) في السامرة 4: 1 – 42

(3) في الجليل: -

العجزة الثانية 4: 43-54

المعجزة الثالثة 5: 1-47

المعجزة الرابعة 6: 1-15

المعجزة الخامسة 6: 16-40

(2) قلب خدمة المسيح 6: 41 – ص11

(1) الإعلان الأول: "أنا هو خبز الحياة" 6: 41 – 7: 53

(2) الإعلان الثاني: "أنا هو نور العالم" 8

(التمثيل لهذا النداء بحادثة الأعمى)

المعجزة السادسة 9

الإعلان الثالث "أنا هو الباب" 10: 1 – 10

الإعلان الرابع "أنا هو الراعي الصالح" 10: 11 – 42

المعجزة السابعة 11: 1 – 27

الإعلان الخامس: "أنا هو القيامة والحياة" 11: 28 – 50

(3) خاتمة خدمة المسيح الجهارية 12

ثمرات الإيمان 12: 1 – 36

ثمرات عدم الإيمان 12: 37 - 50

(1) المحبة 13 و 14

(أ) خدمة المحبة 13

(ب) كلمات المحبة المشجعة 14

(1) الأمان "لا تضطرب قلوبكم" 14: 1 – 14

الإعلان السادس: "أنا هو الطريق والحق والحياة".

(2) اليقين "لا أترككم يتامى" 14: 15 – 25.

(3) البهجة "سلاما أترك لكم" 14: 26 - 31

 

 

 

 

 

 

 

 

(2) الحياة 15

(1)الثبوت المتبادل 15: 1 – 10 الإعلان السابع: "أنا هو الكرامة "

(2) التلاميذ والمسيح 15: 11 – 16

(3) التلاميذ والعالم 15: 17 – 27

 

(3) النور 16 و 17

(أ) الروح القدس 16

(1) الروح المبكت 16: 1 – 11

(2) الروح المعلم 16: 12 – 24

(3) الروح المعزي 16: 25 – 33

(ب) شفاعة رئيس الكهنة 17

(1) رئيس الكهنة والآب 17: 1 – 5

(2)رئيس الكهنة والعالم 17: 6 – 19

(3) رئيس الكهنة والكنيسة 17: 20 - 26

 

 

الصليب

ص 18 و 19

إلى الأبد

ص 20 و 21

(1) ظل الصليب 18 – 19: 16

أ1) البستان 18: 1 – 11

(ب) المحاكمة الدينية 18: 12 – 27

(حـ) المحاكمة السياسية 18: 28-19: 16

 

 

 

 

(2) الصليب 19: 17 – 30

(أ) الشروع في الصلب 19: 17 – 22

(ب) شهود الصلب 19: 23 – 27

(حـ) تنفيذ الصلب 19: 28 – 30

 

(3) ما وراء الصليب 19: 31 – 42

(أ) الاستعداد للدفن 19: 31 – 37

(ب) طلب أحبائه 19: 38 و 39

(حـ) إتمام الدفن 19: 4 - 42

 

(1)النور 20: 1 – 31

القبر الخالي 20: 1 – 31

شهادة مريم

شهادة يوحنا

شهادة بطرس

شهادة التلاميذ عدا توما

شهادة التلاميذ وتوما

 

(2) "المحبة أقوى من الموت" 20: 1 – 14

 

 

 

 

(3) الحياة الأفضل 21

العرش الممتلىء 21: 15 - 23

 

 

 

 


[1] جاء في التلمود – قسم السبت – الفصل الثاني: "كان آدم الأول نور العالم".

[2] يقول أغسطينوس: "النور يكشف المرئيات، ويفتح العيون السليمة، وهو خير شاهد لنفسه".

[3] توضيحاً لهذا القول، نستعير من التاريخ حادثة، من قبيل القياس مع الفارق. في عام 1660م. تجرأ واعظ اسمه هدنجر Hedingerفوبخ حاكم بلاده على خطية خاصة فثارت ثائرة ذلك الرجل واستدعى الواعظ أمامه ليحاكمه ويوقع عليه قصاصاً مريعاً. وبعد صلاة عميقة ظهر الواعظ أمام الحاكم وعلى وجهه مسحة ملائكية. فتفرس فيه الحاكم متأملاً وقال: "يا هدنجر ألم أوصك أن تظهر أمامي وحدك"؟أجابه الواعظ: "عفواً!فقد جئتك وحدي كما أمرت". فظهرت على ملامح الحاكم علائم الاضطراب والارتباك كأنه رأي شخصاً غريباً في معية هدنجر، وقال فزعاً: "ولكنك لست وحدك يا هدنجر". أجابه الواعظ كل ثبات: "إذا كان إلهي قد سر بأن يضع في معيتي ملاكاً من حرسه الأعلى، فما علب إلا أن أشكره تعالى". فتاب الوالي عن شره، واعتذر للواعظ!

[4] يميل بعض المفسرين مثل هنجستنبرج إلى إبدال حرف "في" بحرف الباء في الترجمة فيقولون "وتموتون بخطيتكم" أي بسببها.

[5] ذهب أحدهم إلى متحف خاص وهناك رأى صورة فنية أثرية معروضة في إحدى قاعاته. فهزأ من تلك الصورة وسخر بها. وأخيراً جاءه الرقيب ومس في أذنه قائلاً: "احترس لأن هذه الصورة ثمينة نادرة وقد وضعت هنا لتحكم على أذواق الناس!".

[6] يعتقد جودي أن يوماً أو بعض يوم توسط بين عددي 30 و 31.

[7] يعتقد يوحنا فم الذهب وأغسطينوس أن المسيح إنما قصد نفسه بقوله "والحق يحرركم".