الرئيسية عقيدتنا عقيدتنا عقيدتنا العبادة والسلوك اليومي

عقيدتنا العبادة والسلوك اليومي

(11) عقيدتنا العبادة والسلوك اليومي

أو عقيدتنا في ممارسة الحياة المسيحية

قد يشعر البعض بعدم الارتياح لوجود بعض الاختلافات بين الطوائف فى فهم العقيدة المسيحية، فان مرجع هذا إلى عمق وغنى الحق الإلهى، وأيضاً فى نفس الوقت محدودية إدراك الإنسان إلا بمقدار ما أعطى له من نعمة ارشاد الروح القدس للفهم الصحيح.

ولكن الشئ الأهم الذى أرجو أن نركز عليه دراستنا فى هذا الباب هو الممارسة العملية للحياة المسيحية، وترجع أهمية ذلك للآتى:

أن الممارسة العملية هى البرهان الحقيقى لفاعلية الحق الذى نؤمن به.

الممارسة العملية هى التى تساعدنا على الدخول إلى اختبار أعمق مع الله، وبالتالى فهم أكثر قرباً لفكرة وشخصه، وتزيدنا قرباً منه.

 الممارسة العملية هى الرسالة الأقوى فى الكرازة و إعلان الإنجيل، لا بالكلام الذى قد يكون موضوع جدل ومباحثات غبية، بل بالعمل الذى لا تعلو شهادته شهادة- إذ يرى الناس أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذى فى السموات.

وممارسة الحياة المسيحية تشمل جانبين لا ينفصلان، هما العبادة والسولك اليومى. وعندما نقول إنهما لا ينفصلان فاننا نريد أن نؤكد خطورة الفصل بين العبادة والحياة اليومية، لأن العبادة وحدها بدون إظهار عمل نعمة الله فى الحياة اليومية يعنى أنها عبادة شكلية طقسية، والسجود الحقيقى الذى أعلنه الرب يسوع فى (يوحنا4: 23) “وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ.”. أما العبادة بدون الروح فقد يكون لها شكل السجود والعبادة وقد يتبعها أيضاً أعمال بر مفتعلة- أى غير نابعة من الداخل إنما لمجرد إرضاء القانون أو الطقس، ولعلنا نورد هنا حال الفريسى الذى يصلى فى كل المواعيد المحددة ويصوم مرتين فى الاسبوع ويعشر كل ما يقتنيه ويأكل حق اليتيم والأرملة.

لذلك فالعبادة والممارسات الدينية، أذا كانت بغير تأثير على السلوك اليومى، فهى عبادة زائفة ومكرهة للرب، وليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السموات.

وكما نحذر من العبادة الشكلية المنفصلة عن الحياة اليومية هكذا نحذر أيضاً من حياة شيطانية يسقط فيها كثيرون اليوم وهى التعبير الشائع “ الدين المعاملة”، ويكتفون بشكل حياة يكون مقبولاً إجتماعياً، كما بتقدمات وتبرعات لمحتاجين وكنائس وربما بأصوام فى البيوت، إلا أن ظروف عملهم التى يحتجون بها تمنعهم عن الاشتراك فى العبادة داخل بيت الله.

بل هناك من يرفضون الوجود مع الجماعة المجتمعة باسم الرب بحجة أنها جماعة لا تعيش على المستوى الذى يجب أن تكون عليه كنيسة الله.

لنذكر لهؤلاء وأولئك أن أعمال بر الانسان لا تنفع شيئاً، وأعمال بر الناموس تأتى بنا إلى الدينونة لأنها تكشف تقصيرنا وعجزنا عن أن نعمل شيئاً يرضى كمال الله.

ولنذكر أيضاً أننا بعيداً عن شركة المؤمنين و الروح القدس لا نقدر أن نحكم بمدى صلاح ما نقوم به من أعمال، فقوانين ونواميس المجتمع المتغيرة لا تصلح كمقياس للصلاح الإلهى الذى نسعى كمؤمنين نحوه.

إن الحياة اليومية يجب أن تكون ثمر عبادة وشركة مع الله.

كما أن العبادة والشركة مع الله هى الحل الأوحد لمواجهة مشكلات الحياة اليومية والقدرة على إتخاذ القرارات المناسبة. ونقرأ فى (1كورنثوس4: 1-5) “لست أحكم فى نفسى أيضاً، ولكن الذى يحكم فى هو الرب...”

ولنذكر أيضاً أن الأعمال الصالحة وحدها لا تكفى للتبرير، بل ولا تصلح له، فحتى عندما دافع الرسول يعقوب عن ضرورة الأعمال الصالحة فانه يقول:

“ألم يتبرر إبراهيم أبونا بالأعمال إذ قدم ابنه ذبيحة على المذبح؟ “. وهنا نلاحظ أن العمل فى ذاته هو عبادة وتقديم ذبيحة. إذاً تقديم الذبيحة فى طاعة وعمل ظاهر هو الذى برره، ومع قيام ذبيحة المسيح الكفارية إلا أننا كمؤمنين فى العهد الجديد نقدم ذبائح الحمد وذبائح العبادة العقلية بل نقدم أجسادنا ومالنا للخدمة ذبيحة شكر للرب، وهكذا نفعل إرادة الآب الذى فى السموات” (متى7: 21).

فالعبادة والعمل- وهما الممارسة المسيحية- متلازمان ولازمان، لا لنوال التاج كما يظن البعض، فان التاج قد أعده الله لكل المختارين الذين كتب أسمهم فى سفر الحياة بمقتضى عمل نعمته، كما أن أعمالنا لا تستحق التاج لأنها مجرد أعمال طاعة فان عملنا كل ما أمرنا به فاننا مجرد عبيد بطالين نعمل ما أمرنا به- إذا ليست هى أعمال على سبيل دين- أى ننتظر ردها من الله- لأن الله قد أعطانا أولا ونحن نرد. هو أعطانا الحياة الجديدة ونحن نعطى ثمر الحياة الجديدة- الله أعطانا القوة كما تعطى الكرمة القدرة للغصن على الاتيان بثمر، ونحن نقدم الثمر لله فيفرح به لأنه ثمر عطيته لنا.

إلا أنه من الناحية الأخرى لا يمكن لشخص أن يعلن أنه يؤمن ويعبد الله ويبقى بدون إظهار ذلك فى حياته اليومية، لأن الإيمان شئ حى ونشيط وفعال، ويستحيل أن يسكن فى إنسان ما بدون عمل ما هو صالح.

إن المؤمن لا يسأل عن الأعمال الصالحة لأنه يعملها قبل أن يسأل.

ننتهى من هذا كله إلى أن ممارسة الحياة المسيحية هى فى العبادة والحياة اليومية، وهذه معاً ثمر الإيمان الذى هو عطية من الله. بهذا المفهوم نستطيع أن ننظر إلى كل الأسئلة التى تواجهنا فى الممارسة العملية سواء من حيث العبادة أو من حيث السلوك اليومى، ولنأخذ هنا بعض النماذج:

الصلاة.

الصوم.

الصدقة.

العلاقة مع الوطن والدولة.

ما يجب أن نفعل وما يجب ألا نفعل.

الصلاة

وهى اختبار العلاقة بين الانسان وبين الله الآب المحب، فيها يسكب الإنسان نفسه أمام الله بارشاد روح الله لكى يقدم التمجيد والشكر، ويعبر عن أشواق قلبه، ويقدم اعترافه بتقصيره، كما أنه فى الصلاة يشترك فى الطلبة مع الآخرين ولأجلهم.

وفى الصلاة أيضاً – ليس مجرد الكلام- لكن أيضاً الإصغاء إلى صوت الله متكلماً فى الضمير وما يرشدنا الرب إليه من أفكار، وما يوجهنا إليه من أقوال الكتاب المقدس.

ومن هذا يتضح لنا أن الصلاة بالمفهوم المسيحى هى علاقة دائمة وليست قاصرة على أوقات محدودة، كما أنها علاقة وليست فريضة، وأيضاً هى شركة مع الله وليست مجرد واجب يؤديه العبد نحو سيده، إنما عمل إيجابى فى علاقة مستمرة تظهر فى كل وقت وعلى كل مستوى، ففى خلوة الإنسان مع نفسه فى مخدعه هو مطالب أن يستمر فى هذه العلاقة ويصلى إلى الآب السماوى وهو يجازى، والجزاء ليس فقط فى إستجابة الطلبات التى تقدم فى الصلاة لكن أكثر فى الشعور بالشركة مع الله، والإرشاد إلى ما يعمل بعد أن يخرج من مخدعه – لقد اختلى يسوع كثيراً للصلاة.

وفى محيط الأسرة يشعر المؤمن أنه ملتزم بإظهار وممارسة هذه العلاقة مع الرب ويردد مع يشوع قوله: “ أما أنا وبيتى فنعبد الرب” ، واستمرار العائلة فى جو الصلاة وروح الصلاة يجعل من البيت بيتاً مسيحياً يعمه السلام والمحبة والقدرة على مواجهة مختلف الظروف بروح المسيح.

وعندما تجتمع الكنيسة أيضاً تجتمع بروح الصلاة للشركة وتأكيد حضور الله والمشاركة فى احتياجات القديسين، كما للاستعداد لمواجهة الظروف المختلفة مثلما أخذ الرب يسوع تلاميذه إلى بستان جثسيمانى وطالبهم أن يسهروا معه مصلين لكى ينال القوة لمواجهة الصليب.

الأخطاء التى نقع فيها من جهة الصلاة فتخرج عن مفهومها المسيحى العملى:

التكرار الباطل كما يصلى الأمم ، فهذا يعنى إنعدام العلاقة الشخصية بين الإنسان والله.

صلاة التظاهر لمجرد كسب مدح الناس، فهؤلاء قد استوفوا أجرهم فى حياتهم.

أن تجعل من الصلاة مجرد قائمة طلبات مادية وننشغل عن المطالب الحقيقية والأشواق الحقيقية للمؤمن، وقد قال الرب يسوع: “فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.” (متى6: 31-33).

أحياناً نجرب أن نتكلم إلى الله ولا ننتظر حتى نسمع منه بإحدى الطرق سالفة الذكر. “أوجه صلاتى نحوك، وأنتظر” (مزمور5: 3).

أحياناً نصلى ولكن صلاتنا لا تثمر لوجود إثم فى داخلنا “ إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ الرَّبُّ.” (مزمور66: 18).

الصوم

فى ضوء المفهوم سالف الذكر للممارسة العملية للتعاليم المسيحية، نرى أن الصوم هو الامتناع الكامل عن الطعام أو بعض أنواعه لأيام أو لبعض الوقت، بهدف التفرغ للصلاة والخلوة مع الرب وتدريب النفس على ترك كل شئ لضبط النفس واتباع الرب ( انظر لذلك 1كورنثوس9: 25-27).

وقد نصوم لأننا نريد مزيداً من الخلوة مع الرب لزيادة الشكر، أو الخروج بعلاقتنا مع الله من حالة الفتور، أو للاستعداد لمواجهة تجربة تنتظرنا مثلما عمل يسوع عندما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة قبل أن يجرب من ابليس.

شواهد من العهد الجديد لها دلالة فى موضوع الصوم:

متى9: 15- 17

 حينئذ أتى إليه – إلى يسوع- تلاميذ يوحنا قائلين: لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيراً وأما تلاميذك فلا يصومون؟ “ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو الْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ الْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ الْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ. لَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ رُقْعَةً مِنْ قِطْعَةٍ جَدِيدَةٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيقٍ، لأَنَّ الْمِلْءَ يَأْخُذُ مِنَ الثَّوْبِ فَيَصِيرُ الْخَرْقُ أَرْدَأَ. وَلاَ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ عَتِيقَةٍ، لِئَلا تَنْشَقَّ الزِّقَاقُ، فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْراً جَدِيدَةً فِي زِقَاقٍ جَدِيدَةٍ فَتُحْفَظُ جَمِيعاً». “

ومن هذا الشاهد نرى أن المؤمن وهو فى حالة فرحة بخلاص الرب ونشاط حياته للعمل والخدمة لا يحتاج إلى أن يصوم، إلا إذا شعر بالحاجة إلى مزيد من هذه القوة أو لتجديدها، فالصوم ليس للتكفير عن خطايا سابقة كما يفهم البعض خطأ، بل هو لأجل تقوية العلاقة مع العريس الذى قد يشعر المؤمن ببعده عنه أحياناً.

وحقيقة أخرى هى أن قرار الصوم هو للمؤمن شخصياً أو للجماعة بحسب ظروفها الجديدة، فمؤمنوا العهد الجديد ليسوا تحت التزام أن يصوموا أصوام يوحنا والفريسيين، بل يقررون ذلك فى إطار العهد الجديد بينهم وبين الله، وفى ضوء الظروف التى يعيشونها والجهاد الذى ينتظرهم، وكأنى بالرب يسوع يقول لتلاميذ يوحنا: لا تقرروا لأحد ولا تلزموا أحداً بأصوام محددة، لكن الفرد هو الذى يقرر لنفسه حسب حاجته. كما أن الجماعة أيضاً التى تقرر حسب ظروفها وحاجتها.

أعمال13: 1-3

“ وَكَانَ فِي أَنْطَاكِيَةَ فِي الْكَنِيسَةِ هُنَاكَ أَنْبِيَاءُ وَمُعَلِّمُونَ: بَرْنَابَا، وَسِمْعَانُ الَّذِي يُدْعَى نِيجَرَ، وَلُوكِيُوسُ الْقَيْرَوَانِيُّ، ....، وَشَاوُلُ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ».فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا. «.

وهنا نرى أيضاً أمرين- الأول أن الكنيسة كانت تصوم مع الصلاة والخدمة فى انتظار رأى الرب ليأخذ هو القرار ويرشدهم إليه- والأمر الثانى أن الكنيسة بعد أن أخذت الإعلان من الله صامت مع الصلاة لكى يأخذ الرسولان الجديدان قوة الروح للخدمة.

1كورنثوس9: 25-27

« وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. ....إِذاً أَنَا أَرْكُضُ هَكَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ. هَكَذَا أُضَارِبُ كَأَنِّي لاَ أَضْرِبُ الْهَوَاءَ. بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضاً.».

فاذا نظرنا إلى الامتناع عن الطعام والشهوات أنه ضبط النفس فهو لازم، ولكنه ليس بخوف ألا نأخذ تاجنا الذى أعده لنا الرب، بل بيقين أننا كلما فرغنا أنفسنا من ذواتنا إزداد الملء فينا.

أخطاء يمكن أن نقع فيها من جهة الصوم:

أن نصوم صوماً تقليدياً بدون تحديد هدف.

أن يكون الصوم مجرد امتناع عن الأكل دون الانشغال بالصلاةز

صوم التظاهر أمام الناس لكى نظهر للناس أننا صائمون.

عدم الصوم لأن هذا يدل على إغفال قيمة الصوم أو عدم الاستعداد للمعانة القليلة مقابل الخير الكثير الذى نأخذه من الرب.

ج- الصدقة

الصدقة تعبير ورد فى تعاليم الرب يسوع فى الموعظة على الجبل: (متى6: 1-4) “«احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.”.

والصدقة هنا هى ما يقدمه المؤمن لإنسان آخر لسد حاجته. وفى ضوء تعاليم المسيح وبالاشارة إلى المقدمة السابقة فى هذا الدرس، نرى أن الصدقة هى ثمرة للإيمان وليست ثمناً له. ليست ثمناً يسبق الإيمان فان الايمان لا يشترى بالصدقات، بل “ بالنعمة أنتم مخلصون لاٌيمان، وذلك ليس منكم هو عطية الله”- كما أنها ليست ثمناً للإيمان ندفعه بعد ذلك، لأن عطية الله لا تقدر بثمن. لكن الصدقة هى الثمرة الطبيعية للدخول إلى الحياة الجديدة بالنعمة الفعالة التى تظهر فى ممارسة عملية للمشاركة المسيحية بين الأخوة.

والمجازاة هنا لا تشير إلى تاج المجد، لأن كل الصدقات لا تكفى لشراء تاج المجد، لكن المجازاة هنا هى أن يفرح قلب الله إذ يرى كرمه مثمراً، ويفرح قلب المعطى لأنه استطاع أن يدخل البهجة إلى قلب أخ محتاج، كما أنه يفرح لأنه استطاع أن ينفذ رغبة الله فى حياته، لذلك فهو يأخذ المجازاة من الآب السماوى بمزيد من النعمة للعطية من جديد.

أما إذا أعطى لمجرد الرياء والتظاهر فقد أخذ أجره فيما يرتبط به بأن يرضى عن نفسه ويكسب لنفسه مدح الناس، ولكنه خسر الشعور المسيحى بالرضى عن النفس فى تقديم الخدمة فى سرية، وخسر رضا الرب عنه أنه أعلن محبة الله بصورة عملية للناس.

كما أن الصدقة بهذا المفهوم هى تعبير عن شعورنا نحو الرب، لذلك إمتدح السيد فلسى الأرملة أكثر من كل تقدمات الأغنياء لأنها أعطت من أعوازها، كما أنها أعطت كل معيشتها.

لذلك فعند مناقشة موضوع الصدقة لنذكر النقاط الآتية:

العطاء فى السر وعدم إنتظار مدح الناس.

العطاء فى السر لعدم جرح مشاعر الذين يأخذون.

العطاء المسيحي ليس بحدود معينة أو عن سعة أو من فضلة ما عندنا، بل بكل الطاقة وفوق الطاقة بل كل المعيشة.

العطاء لأن الله أعطانا أولاً وليس لأننا نطالبه بالثمن.

د – العلاقة مع الوطن والدولة

كمؤمنين بملكوت السموات الذى يبقى إلى الأبد وكأبناء لله لنا فيه الميراث الذى أعده الله لنا. نثق أننا غرباء هنا فى الأرض، لكن لنا رسالة هنا فى العالم- لذلك صلى الرب يسوع فى صلاته الشفاعية فى إنجيل يوحنا 17 “ ليسوا من العالم كما أنى أنا لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير”.

وهكذا يتضح أننا ننتظر الوطن السماوى حين ينقضى بيت خيمتنا الأرضى. ويبقى السؤال الآن: كيف نحدد علاقتنا بالوطن والحكومات فى هذا العالم مع الاعتبار لوضعنا أننا لسنا من هذا العالم كما قال يسوع عن نفسه أيضاً؟

يخطئ من يظن أننا يجب أن ننعزل تماماً عن أمور المجتمع والدولة، بحجة أننا غرباء. هيا لنرى ماذا كان موقف يسوع وهو على الأرض، وإن قلنا إننا ثابتين فيه فيجب أن نسلك كما سلك ذاك.

يسوع كمواطن يدفع الجزية :

(لوقا20: 22-26)

“أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيَةً لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟». فَشَعَر (يسوع)َ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ أَرُونِي دِينَاراً. لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟». فَأَجَابُوا: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ». فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ الشَّعْبِ ........”.

ومع أن قيصر هو المستعمر والمسيح هو مسيح الحرية، لكننا نسعى نحو الحرية بغير تمرد، ونقدم الخضوع للسلطان ولو كان ظالماً، لأن هذه الأمور هى من الله بحسب تدبير عنايته. وهذا يتضح أيضاً من حوار الرب يسوع مع بيلاطس حين قال له بيلاطس: “ أما تكلمنى؟ ألست تعلم أن لى سلطاناً أن اصلبك وسلطاناً أن أطلقك؟ أجاب يسوع لم يكن لك على سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق”.

ومن دراسة الكتاب المقدس والتاريخ نرى أن الأمة اليهودية قد استحقت ظلم المستعمر الرومانى بسبب تركها الرب- لذلك فالخضوع للحاكم لا يعنى الموافقة على مبادئه، لأن هناك أساليب سلمية كثيرة بها يمكن التعبير عن الرأى بدون زيادة المشاغبات فى الأمة، ولنعلم أن الحاكم القاسى هو لتأديب الشر، وهو أيضاً لمدح الخير متى شعر به.

وإذا درسنا معاً ما جاء فى متى17: 24- الخ نرى أن يسوع مع ثورته ضد الهيكل وما يجرى فيه من مغالطات ومخالفات للحق الإلهى، وهو يعلم أنه رب الهيكل لكنه قال: “ولكن لئلا نعثرهم إذهب إلى البحر والق صنارة السمكة التى تطلع أولا خذها ومتى فتحت فاها تجد إستاراً، فخذه وأعطهم عنى وعنك”. وهكذا تخطى الرب يسوع حتى عقبة عدم وجود دراهم، وأمر بطرس أن يعمل من أجل سداد الضريبة المطلوبة.

يسوع يقدم الفرصة أولا لوطنه ويبكى أنه رفض الرسالة:

وواضح أن الرب يسوع حاول أن يقدم الرسالة لأهله أولا. وعندما جاءت المرأة الكنعانية تطلب منه المعجزة لشفاء إبنتها المريضة أجابها: “لم أرسل إلا إلى خراف بيت اسرائيل الضالة” وجاء لخاصته وخاصته لم تقبله، وهكذا فتح الباب لكل من يقبل إليه- وكل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله.

وقرب نهاية رسالته على الأرض نظر إلى أورشليم وبكى عليها (إقرأ لوقا19: 41- 44) وذلك لأنها لم تعرف زمان إفتقادها، ولم تستجب إلى دعوته ومحاولته أن يجمع شعبها تحت جناحيه لكى يحميها من الخراب القادم عليها بسبب رفضها له.

هذا بعض من كثير مما يمكن أن يقتبس من حياة الرب يسوع. ولنأت الآن إلى عينة واحدة مما علم الرسول بولس فى هذا الشأن، وعينة أخرى مما قاله الرسول بطرس، لنرى كيف أن الرسل أيضاً اهتموا بتذكير المؤمنين بواجبهم نحو الوطن والحكومة. فنقرأ فى (رومية13: 1-7 ) “لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين  الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفاً لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. ...... لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثاً، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً بِسَبَبِ الضَّمِيرِ. فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هَذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ.......”

وهذه كلها تؤكد أننا كمسيحيين جزء لا يتجزأ من الوطن الذى نعيش على أرضه، ويجب أن يجتهد من أجل سلامه و سلامته وندفع ما علينا نحوه من التزامات.

وفى رسالة بطرس الرسول الأولى2: 11- 17 يقول:

“أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ، وَأَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ يُمَجِّدُونَ اللهَ فِي يَوْمِ الاِفْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ .... فَاخْضَعُوا لِكُلِّ تَرْتِيبٍ بَشَرِيٍّ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ........ كَأَحْرَارٍ، وَلَيْسَ كَالَّذِينَ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَهُمْ سُتْرَةٌ لِلشَّرِّ، بَلْ كَعَبِيدِ اللهِ. أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ. أَحِبُّوا الإِخْوَةَ. خَافُوا اللهَ. أَكْرِمُوا الْمَلِكَ.”

ومن هذه الآيات نلاحظ أن بطرس الرسول بلسان الوحى يضع الاعتبارات الآتية:

+ المؤمن غريب ونزيل فى الأرض.

+ السيرة الحسنة مطلوبة ومحاربة الجسد لازمة.

+ القدوة فى الطاعة للحكام مثلها مثل الانتصار على ضعفات الجسد تفعل هذه ولا تهمل تلك.

+ بالسلوك الشخصى النقى وبالقدوة الوطنية فى الخدمة والطاعة يتمجد الله من الآخرين الذين حتى كانوا من قبل يفترون على المؤمنين وعلى اسم الله.

+ محبة الأخوة فى الوطن الواحد تسير جنباً إلى جنب مع مخافة الله وكذلك مع إكرام الحكام.

هـ- ما يجب أن نفعل وما يجب ألا نفعل

وما دمنا فى معرض الكلام عن الممارسة العملية للحياة المسيحية نعود إلى المقدمة الأولى لنرى أن العبادة والسلوك اليومى يسيران معاً جنباً إلى جنب، ونبقى كل اليوم فى روح الصلاة، ونطلب المزيد من القوة بالصوم كلما شعرنا بالحاجة إلى ذلك، وبروح المسيح نقدم كل شئ للمحتاجين فى الخفاء وبنفس الروح نخضع للحكام ونحب الوطن.

ويبقى أمامنا سؤال واسع يتردد فى أذهاننا كلما أقدمنا على عمل من الأعمال، سواء كان من برنامجنا اليومى أو من برنامج خدمتنا أو هو برنامج جديد فى حياتنا- والسؤال هو هل يجب أن أفعل هذا أم يجب ألا أفعله؟.

كمؤمن وكابن لله أنا أعيش بالحرية التى فى المسيح فهل هذا يعنى التحرر من كل قيد يعطل خدمتى وشهادتى لله أم هو هروب من كل نظام وترتيب؟

نعلم مع بولس الرسول أن كل الأشياء تحل ولكن ليس كل الأشياء توافق.1كورنثوس6: 12

وكل الأشياء تحل ولكن ليس كل الأشياء تبنى  1كورنثوس10: 23

وكل الأشياء تحل ولكن لا يتسلط على شئ   1كورنثوس6: 12

إن المؤمن إذ يدخل إلى الحياة الجديدة فى المسيح فانه يكون بالفعل قد مات عن الخطية لكى يحيا للبر الذى فى المسيح، بل يقول الرسول بولس فى غلاطية2: 20 “مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. ......”.

ومعنى صلبى مع المسيح أنى صلبت الجسد مع الأهواء، فلا أسعى فى تحقيق رغبات الجسد، ولا أجد لذة فى الخطية، بل أنفر من كل ما لايرضى الرب، أمام كل عمل أو فكر جديد أقف لكى أتحقق من الدافع وراءه هل هو تمجيد اسم الرب... لأن كل ما يعمل المؤمن – حتى الأكل والشرب واللعب – فانما يجب أن يكون لمجد الله. وتقرير ما إذا كان هذا الشئ لمجد الله أم لا هو متروك للروح القدس. ويؤكد هذا قول الرب يسوع فى (يوحنا14: 26) “وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. “.

ولنذكر أن كل عطية صالحة وموهبة تامة هى نازلة من فوق من عند أبى الأنوار- فالعمل الذى يجب أن نعمله هو ما طابق إرادة الله فى حياتى وطبيعة الله الذى يسكن فى.

بقى أن نذكر شيئاً أخيراً فى سؤال الممارسة اليومية للحياة المسيحية وهو موضوع العثرة- وموضوع العثرة مرتبط إرتباطاً كاملاً بالسلوك فى المحبة، لأن المسيحى بدافع من محبته للآخرين يجتهد ألا يكون عثرة فى شئ، على ألا يبطل ذلك رسالته أو شهادته للحق. فلا تكون مجاملة الناس على حساب الحق الإلهى، خوفاً من العثرة، بل أن محبتنا للأخوة تزيدنا حماساً أن نظهر لهم الحق ونوجههم بروح اللطف والوداعة ليدركوا معنا أبعاد محبة الله.

وفى الأعمال اليومية جدير بنا أن نلاحظ بعض الأقوال الكتابية:

“ .......لاَ يَزْدَرِ مَنْ يَأْكُلُ بِمَنْ لاَ يَأْكُلُ، وَلاَ يَدِنْ مَنْ لاَ يَأْكُلُ مَنْ يَأْكُلُ - لأَنَّ اللهَ قَبِلَهُ. مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. ........” (رومية14: 1-6)

“وَلَكِنِ انْظُرُوا لِئَلاَّ يَصِيرَ سُلْطَانُكُمْ هَذَا مَعْثَرَةً لِلضُّعَفَاءِ.” (1كورنثوس8: 9).

“حَسَنٌ أَنْ لاَ تَأْكُلَ لَحْماً وَلاَ تَشْرَبَ خَمْراً وَلاَ شَيْئاً يَصْطَدِمُ بِهِ أَخُوكَ أَوْ يَعْثُرُ أَوْ يَضْعُفُ.” (رومية 14: 21).

بهذا المفهوم يستطيع المؤمن أن يقرر بارشاد روح الله والضمير فيما يتعلق بما يجب أن أفعل وما يجب ألا أفعل، سواء فى أمور الحياة اليومية أو القرارات التى أحتاج إلى اتخاذها، أو فى تقرير المظهر أو الطريقة التى أظهر بها، أو فى نوع الخدمة التى أختارها لأقدمها لاسم المسيح.