الرئيسية

المبدأ الثاني: الاختيار غير المشروط

 

 

"الَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً.

وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضاً.

وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضاً"

(رومية 8: 30).

 

"الاختيار غير المشروط"، وبالإنجليزية UnconditionalElection""،عقيدة تالية ومنطقيّة لقبول عقيدة الفساد الكلي، لأنَّ كل مَن يؤمن بالفساد الكلي الذي لحق

بطبيعة الإنسان بعد السقوط، وبأنَّه لم يعد لديه القدرة الذاتية على أن يفهم أو يسعى أو يُدرك صلاح الله، وأنَّ الإنسان أصبح ميتاً بالذنوب والخطايا، عليه أن يؤمن باختيار الله غير المشروط، هذا الاختيار الذي لا يُبنى على فكر الإنسان أو أعماله أو وعوده، أو صلاحه، بل على نعمة الله ومحبته الفائقة، وغير المستندة على أي صلاح أو عملٍ قام به الإنسان ليتم اختياره.

إنَّ عقيدة الاختيار غير المشروط تنص على أن الله اختار أولئك الذين قرر أن يأتي بهم لمعرفة نفسه، بحسب مسرة مشيئته، وليس على أساس الجدارة أو الاستحقاق التي يُبديها أي إنسان قد نال نعمة معرفته،وهذا يعني أنَّ الله قبل تأسيس العالم سبق وأختار بعضاً من البشر وعينّهم للخلاص، ويرى كالفن أن اختيار الله لهؤلاء المخلصيّن لم يكن مبنياً على سبق معرفته بقبول هؤلاء الأشخاص لعمل المسيح، بل كان اختيار الله مبنياً على فيض نعمته الغنية.

وإذ يؤمن البعض بأن الله ولأنه كلي المعرفة، سبق وعرف مَن سيختارونه عبر التاريخ ومن منطلق إرادتهم الحرة سيؤمنون بالمسيح يسوع ويضعون ثقتهم فيه من أجل خلاص نفوسهم. وعلى أساس هذه المعرفة المسبقة، اختار الله هؤلاء الأشخاص، لأنه يقول في رومية: " لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراًبَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ (رومية 8: 29)، وقد تم هذا الاختيار ".. فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (أفسس 1: 4)، لكنَّ الكالفينيون يرون أنَّ الإنسان بحسب هذه النظرية هو المتحكم في خلاصه؛ فإن إرادته الحرة هي المسيطرة وهي العامل الذي يحدد اختيار الله، ويصبح الله بحسب هذه النظرية أيضاً بلا قدرة، وتسلبه سلطانه. وتضع الخالق تحت رحمة المخلوق؛ فإذا أراد الله أن يذهب الناس إلى السماء، عليه أن يرجو أن يختار الإنسان بإرادته الحرة طريقه للخلاص، وعلى الله أن يؤكد اختيار الإنسان.

أما كالفن فقد وانطلاقاً من فهمه لسيادة الله، علَّم أنَّ الله في نعمته الغنية سبق واختار من سيؤمنون بالمسيح يسوع، واختار أيضاً أن يمنح هؤلاء عطية الإيمان لكي يؤمنوا بالمسيح. "اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ" (أفسس 1: 4-8).

ويستند الكالفينيون في هذا الصدد على نصوص كثيرة من الكتاب المقدس، منها ما تكلم به المسيح، إذ قال: "لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي" (يوحنا 15: 16). وكنتيجة لاختيار المسيح للإنسان، يختار الإنسان المسيح، لا بإرادته الحرة على ما يبدو في الظاهر، لأن الإرادة الصالحة هي عطية من الله، ولا تتوقف على قبول أو رفض الإنسان لها، وهذا ما يردده الرسول بولس "أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ" (فيلبي 2: 13).

وعندما يشكر الرسول بولس الله لأجل إيمان مؤمني تسالونيكي، يؤكد على حقيقية اختيار الله لهم منذ البدء، قائلاً: "وَأَمَّا نَحْنُ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمَحْبُوبُونَ مِنَ الرَّبِّ، أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ وَتَصْدِيقِ الْحَقِّ" (2تسالونيكي 2: 13). وهذا ما كتبه أيضاً لوقا في سفر الأعمال عن ملخص رحلة بولس وبرنابا الكرازية وسط الأمم، أنّ جميع الذين آمنوا كانوا قد سبق الله وعينهم للإيمان وللحياة الأبدية، "فَلَمَّا سَمِعَ الأُمَمُ ذَلِكَ كَانُوا يَفْرَحُونَ وَيُمَجِّدُونَ كَلِمَةَ الرَّبِّ وَآمَنَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ" (أعمال 13: 48).

إنَّ الاختيار غير المشروط يؤكد على أن مصدر الخلاص ثابت في الله وحده وليس الإنسان.

ويُعلِم كالفن بأنَّه ليس من السهل لا بل يكاد أن يكون من المستحيل أن يعرف الإنسان من هو المختار ومن هو المرفوض، لأن هذا الأمر متروك لله،