الرئيسية

المصلحون والتسلسل الرسولي

خلال زمن الإصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر، أكّد المصلحون الإنجيليون على إيمانهم بطبيعة الكنيسة التي انتموا إليها، مرددين العبارة التي وردت، في قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني الذي كُتب عام 325، «نؤمن بكنيسة: واحدة، جامعة، مقدسة، رسولية». لكن توقّفوا عند كلمة «رسولية»، لتقديم تفسير جديد للكلمة، لم يكن سائدا آنذاك.

فالكنيسة الكاثوليكية، عرّفت وتُعرّف معنى كنيسة «رسولية»، على أن الكنيسة، نقلت وتنقل تعاليم المسيح والرسل، والنعمة الإلهية، وكل الإيمان المقدس، من جيل الرسل. أولا، من خلال الرسول بطرس الذي أُعطي بحسب رأي الكنيسة، مكانة مميزة بين الرسل ودورًا قياديًا رائدًا في الكنيسة، فكان البابا الأول، ثم رَسَم بطرس الأسقف الذي خلفه بابا. وهكذا دواليك، استمرت السلسلة من خلال الرسامة الأسقفية إلى زمن اليوم، في خطّ تاريخي متسلسل ومتتابع لم ينقطع عبر الزمن. وتَعَتبر الكنيسة الكاثوليكية، أن هذا التسلسل التاريخي هو ضروري، وهو الوسيلة التي عيّنها الله، حتى يستطيع الأساقفة ممارسة خدمتهم وإرساليتهم الرسولية بشكل قانوني شرعي، في رسامة الأساقفة والكهنة والآخرين، لاستمرار خدمة الكنيسة في العالم. وبناءً لهذا المفهوم الذي يركّز على عدم الانقطاع التاريخي، تَعَتبر الكنيسة الكاثوليكية، أن الكنائس التي لا تنحدر من تسلسل تاريخي، ليست كنائس بالمعنى الكامل للكلمة.
إلا أنَّ المصلحين الإنجيليين: من مارتن لوثر وجون كلفن وجون نوكس، رفضوا هذا التشديد على الجانب التاريخي التسلسلي في مفهوم رسولية الكنيسة، مؤكدين أن معنى كلمة «رسولية»، ليست تتابع في التاريخ، إنما تتابع في إيمان الرسل، وشهادة الرسل وعقيدة الرسل، والإخلاص والوفاء لتعليم رسل الكنيسة الأوائل، بغض النظر إن كان هناك انقطاع تاريخي أم لا. وقد اعتبر اللاهوتيون هذا التفكير، امتدادًا لعقيدتين من عقائد الإصلاح، هما: «الكتاب المقدس وحده، والإيمان وحده».
فالمصلحون الإنجيليون، لم يجدوا في الكتاب المقدس ما يثبت، تفسير الكنيسة الكاثوليكية هذا، معتقدين أن الرسل لم يعلّموا هكذا تعليم. قال المصلح الأسكتلندي جون نوكس عام 1566، «إن هدف الإصلاح، استعادة وجه الكنيسة الرسولي الأول». أما المصلح جون كلفن، فقال: «نحن لا ننكر بأنه كان هناك تسلسلا وتتابعًا رسوليًا لم ينقطع في الكنيسة من بداية الإنجيل حتى يومنا هذا، لكن لا نوافق بأن هذا التسلسل، كان مرتبطًا بمظاهر خارجية، بأنه كان وسيكون على يد الأساقفة. فكيف يؤكدون أن هذا الرابط التاريخي ضروري لمفهوم الكنيسة الرسولية؟ ليس هناك أي وعد مشابه لذلك في الكتاب المقدس. وبالتالي، إذا ما أرادت الكنيسة أن تؤكد على التتابع الرسولي، فليفتشوا عنه في حياة أولئك الذين أودعوا عقيدة وتعاليم الرسل بإخلاص للذين خلفوهم، فنقاء العقيدة هو نفس الكنيسة». أضاف كلفن، «عندما تهمل قيادة الكنيسة، تعليم المسيح والرسل، فإن الله يمنح سمة الرسولية للذين يطيعون تعليم المسيح والرسل، وينقلونه بإخلاص للأجيال اللاحقة ويخضعون لإرادة الله. وقد قدّم مثالاً على ذلك، ما حدث مع الملك الأول للشعب اليهودي، شاول الذي عيّنه الله، ملكًا. فإنه عندما تمرّد على وصايا الله، عزله الله من المملكة، ووضع مكانه الملك داود. فالأسقف هو مركز خدمة لإفادة الآخرين، وليس مركز سلطة أو شرف لخدمة أنفسهم. رسولية الكنيسة، ليس مضمونها الأشخاص الذين يشغلون مركز القيادة في الكنيسة، ولكنه مفهوم لاهوتي يتعلق بعقيدة الرسل. رسولية الكنيسة، ليست مسألة تقليد وتسلسل تاريخي، إنما مفهوم حفظ الله لكنيسته من خلال منح سلطته، لأولاده الذين يخلصون إلى تعاليم الرسل وينقلون تعاليمهم إلى الأجيال اللاحقة. فالتتابع الرسولي هو الاستمرارية في إعلان رسالة الرسل. الاستمرارية في نفس الاختبار الروحي للرسل. الشركة في عطية الروح القدس الواحد مع الرسل. الاستمرارية في الولاء للرب الواحد مع الرسل. وبكلمة أخرى، التتابع الرسولي هو الحاجة إلى أن يعيش الرسل معنا كل يوم من خلال تعاليمهم.
إنَّ عقيدة التسلسل الرسولي الكاثوليكية، ابتدأت تظهر ملامحها، خلال القرن الثاني والثالث ميلادي. لكن لم تثبّت وتظهر بوضوح، إلا في زمن القديس أوغسطينوس في القرن الرابع. والسبب وراء ذلك كان دحضه لبدعة الـدوستية Donatists التي ظهرت في الكنيسة وادّعت بأنّ تعاليمها هي، وليس تعاليم الكنيسة هي الحقيقية. فدحض القديس أوغسطينوس ادعاءاتهم، بقوله، «أن تعاليم الكنيسة ترجع بالتسلسل الزمني والتاريخي الى زمن رسل المسيح أنفسهم». وحتى المصلح جون كلفن أقرّ بهذه الحقيقة التاريخية، عندما قال، «القديس أوغسطينوس دافع عن التتابع الرسولي التاريخي، لأنه كان في صراع مع أتباع البدعة الدوستية الذين امتلأوا بالكبرياء، وادّعوا بأنهم وحدهم امتلكوا الكنيسة. لكنه عارضهم بالقول، بإن الكنائس التي يرفضوها، تنحدر من تتابع وتسلسل، تاريخي غير منقطع من الرسل أنفسهم. لكن الوضع اختلف جدًا الآن»، أي في القرن السادس عشر.
يميز المصلحون الإنجيليون بين مرحلتين: مرحلة الرسل في الكتاب المقدس، ومرحلة الذين خلفوا الرسل بعد موتهم. وقد اعتقدوا، أنه من سمات الرسل، اختيارهم مباشرة من المسيح، ومشاهدتهم للمسيح المقام، ومنحهم المسيح القوة لإجراء العجائب والمعجزات حتى اقامة الموتى. قال الرسول بولس: «وضع الله أناسًا في الكنيسة: أولاً، رسلاً. ثانيًا، أنبياء. ثالثًا، معلمين...» (1كورنثوس 12: 17) وبالتالي، كان الرسل أساس الكنيسة الأولى، «مبنيون على أساس الرسل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مركبًا معًا، ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب». (أفسس 2: 20). وقد لعب الرسل الأوائل دورًا مميزًا، فكانوا أدوات خاصة للروح القدس في تأسيس وبنيان الكنيسة. وبالتالي، لم يكن لأحد غير رسل الكنيسة الأوائل، هذه المكانة المميزة. وهذا الأساس لا يتكرر ثانية. لهذا، عندما مات الرسل، فقد استبدلوا بكتاباتهم، حتى يتمكن الذين يخلفوهم، مشاركة الرسل في نفس الإيمان. وبهذا المفهوم، يتم نقل العقيدة الرسولية عبر الأجيال إلى يومنا هذا.
يظن بعض المؤرخين، أنه من الصعوبة بمكان، التأكد تاريخيًا من عدم انقطاع سلسلة التتابع عبر الزمن. قال المؤرخ إريك جوي، «إن الادعاءات التاريخية للتسلسل الرسولي، قد تم التشكيك بها بقوة. وهناك غموض وعدم وضوح في التاريخ. ومن الصعب جدًا، رصد تطوّر إدارة الرسل للكنيسة، بسبب غياب المستندات الكافية». أما أستاذ تاريخ الكنيسة في جامعة كامبردج، باتريك كارتيج سمبسون (1865-1947) قال، «ليس هناك إنسان قادر أن يؤكد ويضمن، بأن هذه السلسلة، بقيت مترابطة وغير منقطعة خلال هذه العصور الطويلة. وإمكانية الأخطاء والوهم فيها لا تعد».
أما الكاتب ستوري، فقد قال إن التركيز على التتابع الرسولي للأساقفة، من خلال إجراء وضع الأيدي، لنوال الروح القدس، هو أمر غير سليم روحيًا، لأنه قد يوحي، بأن الروح القدس هو مادة يمكن التحكم بها ونقلها من خلال عملية ميكانيكية عبر وضع الأيدي. لكن يجب أن نتذكر، أن الروح القدس هو عطية الله. الروح القدس هو «كالريح، يهب حيث يشاء» (يوحنا 3: 8). وبالتالي، لا يمكن حصره في عملية ميكانيكية، وتقليص دور الروح القدس إلى ترتيب كنسي مبرمج.