الرئيسية

الإصلاح الإنجيلي والكتاب المقدس

تحتفل كنائس كثيرة في مختلف أنحاء العالم يوم 31 أكتوبر بعيد الإصلاح. وذلك تخليدًا لذكرى هذا التاريخ سنة 1517، وكان يُعرف بعيد جميع القديسين، حيث يتجمَّع كثيرون في ويتنبرج حيث كان لوثر، والذي قام فيه بتعليق اعتراضاته الخمسة والتسعين على صكوك الغفران على باب كنيسة قلعة ويتنبرج. فاعتبر كثيرون أن هذا العمل كان بمثابة الشرارة التي أدَّت للإصلاح.

إلا أنه من المهم جدًا أن نتذكر بأنَّ حركة الإصلاح لم ترتبط بهذا الحدث فقط، ولا بألمانيا فقط. فهناك قادةٌ كثيرون استخدمَتهم نعمة الله في بلاد مختلفة وفي ظروف مختلفة، ليحقّقوا نهضةً عظيمة وإصلاحًا مباركًا لكنائس في عدّة بلاد. لذلك يُستحسن أن نشير إلى بعضها وحركة الإصلاح التي حققتها نعمة الله فيها. وكلها ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالاهتمام بدراسة كلمة الله المكتوبة.

خلفيّات هامة:

*اهتمَّ المؤمنون في قرون المسيحية الأولى بأن تكون الكلمة المقدَّسة في أيدي الشعوب بلغتهم الخاصة. فظهرت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ترجمة سريانية للعهد الجديد تبعتها في القرن الرابع ترجمة أدقّ عُرفت باسم «البيشيتا» أي البسيطة، السهلة لأنها كانت بلغة شعبية عامِّية.

*أما في مصر، فلأن اللهجات اختلفت من مكانٍ لآخر كما هي اليوم، فقد تمَّت ترجمة العهد الجديد للّغة القبطية بلهجاتها المختلفة، فأصبحنا نتحدث عن الترجمة البِحيرية والصعيدية والفيومية والأخميمية... إلخ 

*كما تمَّت في القرون الأولى ترجمات لاتينية للكتاب المقدَّس إلى أن أصبحت الترجمة التي قام بها جيروم (أيرونيموس) في القرن الخامس والمعروفة بالفولجاتا أي الشعبية، وهي الترجمة التي رغم رفضها في البداية، أصبحت الترجمة التي استخدمتها كنائس أوروبا لقرونٍ طويلة حتى عصر الإصلاح وما بعده، ومنعت أيّة ترجمة أخرى بل منعت شرح الكلمة المقدَّسة و تفسيرها، إلا على يد الكنيسة، فهم وحدهم لهم حق الشرح والتفسير.

*أما في الشرق فقد وضعت الفتوحات العربية في القرن السابع حدًّا لأي تقدُّمٍ في الترجمة، وإذ أصبحت اللغةُ العربية لغةَ الخطاب اليومي، وكانت العبادة وقراءة أجزاء من الكلمة المقدَّسة في مصر باللغة القبطية، فقدت الحياة المسيحية ارتباطها بالكلمة المقدَّسة.

*حدثت نهضة كبيرة في شمال أوروبا في القرن السادس عشر لدراسة الكتابات الكلاسيكية ومنها كتابات آباء الكنيسة، والعهد الجديد في لغته اليونانية وبرز اسم العلامة المشهور إيرازموس الذي استخدم بعض مخطوطات العهد الجديد التي كانت متداولة في عصره لينتج منها نصًّا للعهد الجديد. وتمَّت طباعة العهد الجديد باللغة اليونانية لأول مرة، مما نبَّه لدراسة العهد الجديد بلغته الأصلية ولتفهم تعليمه. وكان لهذا آثار بعيدة المدى لقيام حركات الإصلاح في البلاد المختلفة.

* هناك بعض الظروف السياسية التي أثَّرت على الكنيسة وعلى حركة الإصلاح، فشجّعتها أحيانًا، ووقفت ضدها في أحيانٍ أخرى.

فى ضوء هذه الخلفيَّة الهامَّة، دعونا ندرس بعض حركات الإصلاح التي حقَّقتها نعمة الله.

الإصلاح الإنجليزي:

اسم «نجم الصبح» لحركة الإصلاح. John Wyclifيُطلق على جون ويكليف (1330-1384) 

ودون الدخول في تفصيلات كثيرة، فإن وكليف رفض الكثير من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية حين أعلن أنَّ الكتب المقدَّسة لها السلطة النهائية في التعليم المسيحي والكنسي. فنشر سنة 1378 كتابًا أكَّد فيه بأنَّ الكتاب المقدَّس هو المرجعية النهائية في الحكم على التقاليد الكنسيّة والمجامع الكنسية بل وعلى البابا نفسه.

شجَّعَ هذا وكليف على مبدأ ترجمة الكتاب المقدَّس لجميع البشر باللغة التي يفهمونها. لذلك ترجم الكتاب المقدَّس من الفولجاتا اللاتينية إلى إنجليزية عصره. وتمَّ تداول أجزاء من هذه الترجمة على أوراقٍ بواسطة جماعة من أتباعه هم المبشِّرون المتجولون، مما هيَّأ الأجواء لحركة الإصلاح الكبير في القرن السادس عشر.

ثم ألَّفَ ويكليف سنة 1379 كتابًا بعنوان «The Power of The Pope»- «سلطة البابا»، قال فيه إنّ «وظيفة» البابا مرجعيتها البشر وليس الله. وإنَّ خلافته لبطرس الرسول تعتمد على مدى تحلّيه بصفات هذا الرسول، لا بتسلسلٍ بشري. كما قاوم وكليف عقيدة تحوُّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه مستندًا إلى الكتب المقدَّسة.

على أثر مخاوف الكنيسة من المبشِّرين المتجولين، قررت الكنيسة سنة 1408 منع تداول الكتاب المقدَّس باللغة الإنجليزية. ومما يُذكر أنه رغم وفاة ويكليف سنة 1384 إلا أنه تمَّ نبش عظامه وحرقها عام 1428.

جاء بعد وكليف وِليام تندال (1490-1536) الذي اهتم بإعداد ترجمة دقيقة للكتاب المقدَّس باللغة الإنجليزية مأخوذة عن اللغات الأصلية، إذ كانت الترجمة الوحيدة المتاحة باللغة الإنجليزية هي ترجمة وكليف، وهي عن لاتينية الفولجاتا وكانت على أوراق مكتوبة بخط اليد. ودون الدخول في تفصيلات كثيرة، رأى تندال أن يذهب لألمانيا ليقوم بالترجمة، إذ أدرك أن هناك خطورة على حياته لو قام بهذا العمل في إنجلترا. تمَّت طباعة العهد الجديد في ورمز سنة 1526 وتم تهريبه إلى إنجلترا، حيث قوبلت الدفعة الأولى بمقاومة شديدة وتمَّ حرق بعض النسخ.

أقام تندال في أنتويرب (Antwerp) في بلجيكا اليوم، حيث فكَّر باستكمال ترجمة العهد القديم. إلا أن رجلاً إنجليزيًا وشى به فتمَّ خنقه ثم حرقه سنة 1536

هيَّأ وكليف وتندال الأجواء للإصلاح الذي تحقّق في أيام توماس كرانمر Thomas Cranmerفإذ اجتمع البرلمان المعروف باسم «برلمان الإصلاح» (1529-1536) تقرَّر أن الرأس الأعلى للكنيسة Supreme Headفي إنجلترا هو الملك وليس البابا كما كان معترفًا به حتى ذلك الوقت. أصبح كرانمر سنة 1532 رئيس أساقفة كنتربري وتمَّت في أيامه ترجمة إنجليزية للكتاب المقدَّس معتمدة على ترجمة تندال ووضعت نسخ منه في جميع الكنائس. كانت الأجواء متوترة بين من أيَّدوا الإصلاح وبين أنصار الكثلكة. نجح أنصار الإصلاح، وبعد فترة زمنية تم تحديد 39 بندًا للتعبير عن عقيدة الكنيسة مما لا زالت الكنيسة الأسقفية (الإنجليكانية) تتمسك بها بعد بعض التعديلات. أدى نجاح حركة الإصلاح لظهور كتاب الصلاة العامة بصيغته المُصلَحة، وقد ساهم في ذلك المصلحَين المشهورَين بوتسر وبيتر مارتر اللذين كانا أستاذين في أوكسفورد وكمبردج.

إلا أنه بصعود الملكة ماري، التي عُرفت باسم «ماري الدموية» إلى العرش سنة 1553 وكانت كاثوليكية متعصِّبة، حاربت حركة الإصلاح وقامت بحرق كثيرين من قادة الكنيسة ممن أظهروا بطولات رائعة سجَّلها التاريخ. فيُذكر أنه عندما تمّ حرق الأسقف ريدلي، أسقف لندن، والأسقف لاتيمار في أكتوبر 1555 شجع الأخير الأسقف ريدلي والنار تلتهمهما: بالكلمات «تشجع، فإننا سنضيء اليوم بنعمة الله شمعةً في إنجلترا، أثق أنها لن تنطفئ!» وكان أحد شهود هذا المنظر كرانمر الذي كان في لحظة ضعف وبخدعةٍ تمّ إقناعه بأنه مادام قد تقرر أن الملك هو رأس الكنيسة وها هي الملكة ماري التي ترأس الكنيسة كاثوليكية، فعليه أن يعود للكنيسة الكاثوليكية ووقَّع وثيقة بهذا الشأن. إلا أنه عندما تقرر حرقه، رفع يده اليمنى في مواجهة النيران لتحترق قبل باقي جسده تعبيرًا عن ندمه للتوقيع على وثيقة عودته للكثلكة. كل هذا أدى لعكس ما قصدت إليه الملكة ماري إذ ثبّت أقدام الإصلاح في إنجلترا، وتمسّكها بالكتاب المقدَّس.

الإصلاح اللوثري:

أشرنا إلى الدور الهام الذي قام به إيرازموس (ستينيات سنة 1400-1536) في إعداد أول نسخة مطبوعة للعهد الجديد باللغة اليونانية مما كان لها تأثيرات بعيدة المدى لدعم حركة الإصلاح. كان إيرازموس في البداية صديقًا للوثر وكانا معًا يؤمنان بضرورة إصلاح الكنيسة. إلا أنهما اختلفا تمامًا في أسلوب تحقيق ذلك. رأى لوثر ضرورة مواجهة الأخطاء، مما دفعه لكتابة اعتراضاته الخمسة والتسعين، إلا أن إيرازموس اهتم بوحدة الكنيسة وعدم إثارة القلاقل رغم كتاباته الساخرة ضد البابا، تحت اسمٍ مستعار.

كانت هنالك علاقات طيبة بين إنجلترا وبوهيميا (التي هي اليوم جمهوريتا التشيك والسلوفاك) ولذلك فقد وصلت كتابات وكليف إلى بوهيميا، وتأثر بها كثيرًا جان هس. ونبَّر كثيرًا على الاهتمام بدراسة الكتاب المقدَّس. ورغم أنه وصل إلى مركز مرموق في براغ إلا أنه وبدون الدخول في تفصيلات كثيرة تمَّت إدانته وتمَّ حرقه يوم 6 يوليو 1415. كان هذا ضمن ما هيَّأ الأجواء للإصلاح اللوثري.

علَّق لوثر اعتراضاته الخمسة والتسعين باللغة اللاتينية ليقرأها المثقفون، على باب كنيسة قلعة وتنبرج في 31 أكتوبر 1517، وأرسل نسخًا منها لجهات مختلفة. إلا أن نسخةً منها وقعت في يد أحد أصحاب المطابع، فإذ أُعجب بها، قام بترجمتها للّغة الألمانية لعامة الشعب مما أدى لدويٍّ كبير في حركة الإصلاح بألمانيا.

واجهت روما أعباءً مالية كبيرة، إذ كانت تشيِّد كاتدرائية القديس بطرس في روما، ووجد راهبٌ اسمه تتزل، بدافعٍ من الطموح والطمع الفرصةَ سانحةً ليقوم ببيع صكوك الغفران الصادرة من روما. كانت صكوك الغفران أصلاً لتنطلق الأرواح من المطهر إلى الفردوس، إلا أن عامَّة الشعب ظنوا أن صكوك الغفران تُطلق الأرواح من الجحيم إلى الراحة.

تمادى تتزل في الدعاية لصكوك الغفران حتى عُرف عنه أنه قال: «بمجرد أن تسمع صوت العملة في صندوق بيع الصكوك، تنطلق روح من تمَّ شراء صك الغفران له إلى الراحة!» تهافت كثيرون على شراء الصكوك مما أثار لوثر كثيرًا ودفعه لكتابة اعتراضاته الخمسة والتسعين، وكان ذلك في واقع الأمر ما عبَّر عن شعور كثيرين في عصره.

تتابعت أحداث كثيرة منها دعوة لوثر لمواجهةٍ مع كاثوليكي محنك اسمه جون إك John Eck، نجح في أن يستدرج لوثر ليقول بأن المجامع الكنسيَّة يمكن أن تخطئ، كما نجح في أن يثبت أنَّ ما نادى به لوثر يتماشى مع أفكار وكليف وهس اللذين كانا قد تمَّت إدانتهما. ولهذا ألَّفَ لوثر ثلاثة كتب عبََّر فيها عن رؤيته لبرنامج الإصلاح. فخاطب الحكَّام الألمان بأن واجبهم يقتضي إصلاح الكنيسة، فقادة الكنيسة تقاعسوا في القيام بالإصلاح، ومن منطلق «كهنوت جميع المؤمنين» فالحكام يجب أن يقوموا بالإصلاح.

ثم ألَّفَ كتابًا أسماه الأسر البابلي للكنيسة، هاجم فيه الأسرار (الفرائض) السبعة للكنيسة. فنبَّر على فريضتين هما المعمودية والعشاء الربّاني. وانتقد منع «العلمانيين» من التناول من الكأس، كما رفض فكرة التحوُّل.

أما الكتاب الثالث فهو حرية المسيحي. وفيه ميَّز بين داخل الإنسان وخارجه. فالإنسان ينال التبرير في الداخل بالإيمان فقط وليس بالأعمال، أما في الخارج فالأعمال الصالحة هي نتيجة التبرير لا أساسه.

وتمَّ تناول تعليم لوثر في مؤتمر ورمز Wormsإلا أنَّ أصدقاءه أحسُّوا بأن حياته في خطر، فاختطفوه وذهبوا به إلى قلعة وارتبرج Wartburg. وفي هذه القلعة قام لوثر بترجمة الكتاب المقدَّس إلى اللغة الألمانية مما كان له الأثر الكبير حتى على اللغة الألمانية نفسها. كما ألَّفَ كتابه عن «الإرادة المقيدة»، في الرَّد على إيرازموس.

كان رفيق كفاح لوثر في حركة الإصلاح اللوثري فيليب ميلانكثوس، الذي صاغ إقرار الإيمان الأوجسبرجي، الذي تحققت صياغته النهائية سنة 1555 وفيه تعبيرٌ عن الفكر اللاهوتي اللوثري. وكان يميل إلى المسالمة على عكس طبيعة لوثر.

الإصلاح السويسري

عُرفت الكنائس التي نادت بالإصلاح في سويسرا باسم الكنائس المُصلَحة Reformed Churchesتمييزًا لها عن الكنائس اللوثرية

يُعتبر أورليش زونجلي Ulrich Zwingliقائد حركة الإصلاح السويسري، تأثَّر زونجلي، كما تأثر لوثر، بالدراسات الإنسانية التي كان لإيرازموس دور كبير في الدعوة إليها. إلا أن زونجلي اختلف عن لوثر في أن أخضع التعليم للعقل، بينما أعطى لوثر مساحةً أقل للعقل. ويظهر هذا بوضوح في نظرة كلٍ منهما للعشاء الرباني؛ فبينما تمسَّك لوثر بالتعليم بحضور الرب يسوع فعلاً عند ممارسة العشاء الرباني، قال زونجلي بأنَّ الخبز والخمر هما رمزان للمسيح لا أكثر ولا أقل. وعندما أصبح كاهنًا للكاتدرائية الكبيرة في زيورخ سنة ۱5۱۸كان قد اقتنع تمامًا بالمرجعية الحاسمة للكتب المقدَّسة وبدأ حركة الإصلاح. واكتمل الإصلاح سنة ۱5۲۰عندما تمّ إلغاء القدَّاس وحلّ بدله ممارسة مبسَّطة للعشاء الرباني

كان من أوائل كتابات زونجلي كتاب بعنوان «وضوح ويقينيَّة كلمة الله»The Clarity and Certainty of Gods wordونبَّر على أنَّ الروح القدس ينير أذهاننا ويساعدنا على الفهم الصحيح لكلمة الله.

واجه زونجلي في زيورخ تعليمين معارضين لما نادى به، فهناك جماعة قالت بأن الإصلاح يقتضي بأن المؤمنين هم البالغون الذين تمّت إعادة معموديتهم. فألَّفَ كتابًا بعنوان «المعمودية، وإعادة المعمودية ومعمودية الأطفال» فيه دافع عن معمودية الأطفال باعتبارها علامة العهد، وأنّ العهد يشمل العائلة كلها لا البالغين فقط. ورغم استمرار زونجلي في تأييد معمودية الأطفال إلا أنّه، بعكس لوثر، رفض فكرة الكنيسة الكاثوليكية بأن المعمودية تهب الحياة الجديدة حتى للأطفال، وكذلك غفران الخطايا. فاعتبرَ أن المعمودية هي أساسًا علامةٌ خارجية على إيماننا.

وواجه زونجلي مشكلةً أخرى إذ اختلف مع لوثر في مفهوم العشاء الرباني. فبينما تمسَّك لوثر بتأكيد حضور المسيح الحقيقي في الخبز والخمر، رفض زونجلي فكرة الحضور المادي الحقيقي؛ فنظر إليه كمجرد تذكار.

جاء بعد زونجلي في حركة الإصلاح السويسري المُصلح مارتن بوتسر Martin Butcer(١٤٩١-١٥٥١) الذي ارتبط نشاطه الإصلاحي بمدينة ستراسبورج، وتميَّز في الرغبة بوحدة الكنيسة والعمل على أن يسود السلام بين الجميع، شأنه شأن إيرازموس وميلانكثوس الذي كان يُتَّهم أحيانًا بالتنازلات الزائدة عن الحد.

كما حاول بوتسر أن يصل إلى مصالحة مع الكنيسة الكاثوليكية وكذلك مع من نادوا بإعادة المعمودية الذين كانوا مضطهدين في كل بلاد أوروبا فيما عدا ستراسبورج. كما حاول أن يوفّق بين اللوثريين وزونجلي، فقال إنه في العشاء الرباني نتغذى فعلاً على جسد ودم المسيح دون أن يكون جسد المسيح ودمه حاضرين فعلاً.

ازدادت الأمور تعقيدًا عندما تدخَّل الإمبراطور وفرض على ستراسبورج قوانين لم يسترح لها بوتسر فتوجه إلى إنجلترا ليقوم بالتدريس في كمبردج، وهناك تعاون كثيرًا مع كرانمر.

قضى كلفن سنوات إقصائه من جنيف من ١٥٣٨-١٥٤١ في ستراسبورج وتأثر كثيرًا بفكر بوتسر.

جاء بعد بوتسر المُصلح المشهور جون كلفن (١٥٠٩-١٥٦٤) الذي وُلد في مدينة نيون في فرنسا وتلقى تعليمه في باريس وتأثَّر كثيرًا بفكر إيرازموس. ارتبط اسمه بخطاب فيه نبرة إصلاحية تمَّ إلقاؤه في جامعة باريس مما أثار غضب الملك فرانسيس الأول ملك فرنسا. أحسَّ كلفن بالخطر المحدق بحياته فتوجَّه إلى بازل حيث ألَّفَ الطبعة الأولى من كتابه «أسس الديانة المسيحية» سنة ١٥٣٦.

ثم إنّه كان في طريقه إلى ستراسبورج، إلا أن ظروف الحرب اضطرته ليذهب إلى جنيفا ليقضي فيها ليلة واحدة. إلا أن فارل Farelالذي كان قد بدأ حركة الإصلاح في جنيفا علم بوجوده بها، فأرغمه عن البقاء بها وهكذا ارتبط اسمه بها. قام كلفن بدور كبير في الإصلاح إلا أن مجلس المدينة أقصاه منها سنة ١٥٣٨ فتوجه إلى ستراسبورج. ساءت الأمور بجنيفا بعد ذلك، فطلب منه مجلس المدينة العودة إليها فعاد سنة١٥٤١ واستمر نشاطه الذي شمل التعليم والنواحي الاجتماعية والصحية والانضباط. كما عمل على أن تكون هناك ترجمة فرنسية للكتاب المقدَّس.

اشتملت كتابات كلفن على التفاسير لغالبية أسفار الكتاب المقدَّس، والرد على من دعوا لإعادة المعمودية، والرد على تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. إلا أن كتاب أسس الديانة المسيحية الذي مرَّ بعدّة مراحل باللاتينية والفرنسية كان آخرها الطبعة اللاتينية سنة ١٥٥٩ التي تنال الاهتمام الأكبر حتى اليوم.

كانت جنيفا في أيام كلفن الملاذ للمضطهدين لأجل الإصلاح في مختلف بلاد أوروبا وكان من ضمن من لجأوا لجنيفا جون نوكس من اسكتلندا، الذي عندما عاد إلى بلاده قاد حركة الإصلاح بها مما كان له تأثير بعيد المدى. وجدير بالذكر أن الإصلاح في اسكتلندا أسَّس الكنائس المشيخية بينما الإصلاح فى أوروبا عُرف بالكنائس «المُصلَحة» والاثنان لا يختلفان في العقيدة وإدارة شؤون الكنيسة. ومن اسكتلندا وصل الإصلاح المشيخي إلى أمريكا، ومن أمريكا إلى بلادٍ كثيرة ومنها الكنيسة الإنجيلية بمصر التي هيَّأ توزيع الكتب المقدَّسة بها الأجواء لنشأتها وتاريخها الممتد إلى أكثر من مائةٍ وخمسين سنة.

والحديث عن كلفن يمكن أن يطول ويطول إلا أن المجال لا يتَّسع للمزيد.