الرئيسية مقالات

استراتيجية الشيطان قبل وبعد الصليب

Nasralla20org_smallتناول الاعلام المصري في الفترة الأخيرة عبر القنوات التليفزيونية موضوع سكنى الأرواح الشريرة للبشر، وبين مؤيد ومعارض ظلت القضية محيرة للمجتمع المصري بشكل عام، وللكنيسة بشكل خاص. وتبادرت الأسئلة الكثيرة في الاذهان، ما هي علاقة الأرواح الشريرة (الشيطان) بعالم البشر؟ وما هي طبيعة هذه الأرواح؟ وما هي استراتيجية الشيطان في التعامل مع الإنسان؟
وما هو الفارق الذي أحدثه عمل الصليب بالنسبة للشيطان؟ ورغم صعوبة هذه الأسئلة، لكن يمكننا محاولة الرد عليها من خلال عدة مبادئ كتابية هامة.

طبيعة الشيطان
هناك مَنْ يعتقد أن الشيطان كائن غير محدود، والبعض يتصور أنه يستطيع أن يفعل بالإنسان ما يشاء. ولأننا نعيش في مجتمع شرقي يؤمن بالغيبيات ويعتقد بالخرافات، نجعل من الشيطان بطل خارق قد يفوق الله في قوته وسلطانه على البشر. بالطبع هذه المعتقدات غير كتابية، ولا تتفق مع الوحي الإلهي، فالشيطان كائن مخلوق، روحي، ليس له هيئة مادية ملموسة، يتسم بالذكاء، له قدرة على التفكير والتنبؤ بالمستقبل، لا يستطيع أن يتعدى الله. ورغم كل هذه الصفات، فهو ضعيف ومهزوم بفضل عمل المسيح يسوع على الصليب. وقد يفهم خطأ أنني أُقلل من قدرة الشيطان، لكنني أحاول وضعه في حجمه الطبيعي، الذي نفهمه من خلال كلمة الله. فمثلاً، عندما يذكر الرسول بطرس أن إبليس «كَأَسَدٍ زَائِرٍ « (1بط 5: 8). لا يقصد أنه أسد بالفعل، لكنه يشبه الأسد، وليس من الطبيعي أن يخاف إنسان من ظل الأسد، لأنه مجرد ظل لا يُخيف أو يُرعب. وبعبارة أخيرة، إن كان للشيطان قوة فهي بالتأكد محدودة، لأنه مخلوق محدود لا يستطيع أن يتعدى الله، نرى ذلك بوضوح في قصة أيوب (أي1: 7- 12). لذلك يستطيع المؤمنون بالمسيح مقاومته بل والغلبة عليه أيضًا (أف6: 11- 16).
علاقة إخراج الشياطين بمواهب الروح القدس
ذُكرت مواهب الروح القدس في العهد الجديد في ثلاث قوائم (رو 12، 1كو 12، اف 4). ولم يأت في أي منها أن إخراج الشياطين يُعد أو يُحسب موهبة من مواهب الروح القدس. وعندما نلقي نظرة عامة على الكتاب المقدس، لنحدد المواقع التي تكلمت عن هذه ظاهرة إخراج الشيطان من جسد الإنسان، لا نجد في العهد القديم أية ذكر لها. فمثلاً في حوار الحية مع حواء قديمًا (تك3: 1- 6)، نرى الطريقة التي كان يتعامل بها الشيطان، وهي محاولة زرع الشك في كلام الله بل وتزييف الحقائق، لكي يُسقط الإنسان في الخطية. أما عن العهد الجديد، فقد وردت هذه الظاهرة في الأناجيل الأولى، متى (8: 28& 17: 15)، مرقس (1: 23& 5: 1& 9: 17)، لوقا (4: 31& 8: 26& 13: 10). أما عن الرسول يوحنا فلم يذكرها في إنجيله أو رسائله. وفي سفر الأعمال وردت هذه الظاهرة ثلاثة مرات فقط (أع 5: 16& 8: 7& 19: 12). وإذا انتقلنا إلى الرسائل، لا نواجه هذه الظاهرة ولو لمرة واحدة. ومن هذه النظرة المختصرة، نرى أن اخراج الشياطين ليست موهبة من الروح القدس، وبالتالي قد تكون هذه الظاهرة ارتبطت بفترة زمنية محددة، لأسباب بعينها، واختفت بزوال هذه الأسباب.
مفهوم عمل الشيطان في العهد الجديد
بعد أن انطلق الرب يسوع إلى الخدمة، وفي أول خلوة شخصية له مع الآب. نقف أمام أول مواجهة مباشرة للرب يسوع مع الشيطان. (لو4: 1- 13). وبكل وضوح كان الهدف من هذه المواجهة هو تعطيل إرسالية الرب يسوع، بل وهزيمته لكيلا يتمم ما أتى لأجله. وبعد هزيمة الشيطان، يذكر الكتاب المقدس «وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِين» (لو 4: 13). أي ستكون هناك مواجهات أخرى سوف تحدث بينهما.
وعندما ننظر إلى حياة الرب يسوع، لنكتشف المواجهات الأخرى مع الشيطان، نجدها كانت طوال حياته على الأرض. فبعدما فشل الشيطان بشكل مباشر في هزيمة الرب يسوع في البرية، واجهه في جوالات أخرى كثيرة من خلال البشر، ونرى ذلك في الحوادث المتكررة التي يأتي فيها ذكر لإخراج الشياطين من البشر.
ومن وجهة نظري أن الهدف من سكنى الشيطان لجسد الإنسان في الأناجيل الثلاثة الأولى، لم يكن الهدف منه هو الإنسان، لكن مواجهة الرب يسوع بكل قوة وشراسة وبأعداد غفيرة لتعطيل رسالته وإفشاله في تتميم الأمر الذي جاء من أجله «مثل لاجئون» (مت8: 28- 34). فبكافة الطرق أراد الشيطان هزيمة الرب يسوع وتعطيل عمله، بل ونجد الشيطان يصرخ في وجه الرب يسوع «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟» (مت8: 29). وهنا نرى سلطان الرب يسوع في هزيمة الشيطان في كل مواجهة كانت بينهما.
إستراتيجية الشيطان بعد الصليب
بعد أن حقق الرب يسوع انتصارًا عظيمًا على إبليس في الصليب «إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً ايَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ اشْهَرَهُمْ جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ.» (كو2: 14، 15). وأعلن بوضوح مكانة إبليس «اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً.» (يو12: 31). وبعد أن تأكد لنا فاعلية عمل المسيح الكفاري على الصليب « فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أيضًا كَذَلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَوْفاً مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ.» (عب2: 14، 15). لم يعد إبليس كما كان قبل الصليب، بل حربه الآن حرب المنهزم المجرد من سلطته ورياسته. فكيف يكون له هذه المكانة وهذا السلطان الذي نتوهمه.
أما عن إستراتيجية الشيطان بعد الصليب، يؤكد الرسول بولس أنها روحية لا جسدية «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.» (اف6: 12). وما يفعله الشيطان اليوم هو محاولة السيطرة على أذهان غير المؤمنين «الَّذِينَ فِيهِمْ إِلَهُ هَذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ. (2كو4: 4). فمن مهاجمة الإنسان جسديًا عندما كان السيد المسيح على الأرض، إلى مهاجمته روحيًا ليمنعه من قبول رسالة المسيح، نرى الشيطان ضعيفًا ومجردًا من قوته، مهزومًا من الإنسان الحقيقي يسوع المسيح، الذي يضمن لنا الانتصار أيضًا على الشيطان. لذلك يسعى الشيطان كالطير المذبوح في محاولات أخيرة لاقتناص الكثير من البشر لخاصته لينالوا معه نفس المصير.
فبكل تأكيد الحرب الآن مع إبليس حرب روحية لا جسدية مادية، ويؤكد ذلك الدكتور مكرم نجيب إذ يقول عن ظاهرة إخراج الشياطين «إن الشيطان بعد أن هُزم وفشل في معركته المباشرة مع المسيح في الصليب، بدأت تختفي ظاهرة إخراج الشياطين. وإن هذه الظاهرة كغيرها من الآيات والعجائب والقوات التي ارتبطت بإعلان الملكوت الجديد وتثبيت الشهادة. وما يُعرف الآن بظاهرة إخراج الشياطين يجب أن يُفسرَ بعيدًا عن الكتاب المقدس الذي قال كلمته بكل وضوح في هذا المجال.»
أما ما يحدث اليوم على بعض القنوات الإعلامية، فهو بعيد تمامًا عن الفكر الكتابي، إذ يوهم الناس بقوى خرافية لا وجود لها. نحن لا ننكر وجود الشيطان، فهو حقيقة موجودة، لكننا ننكر ما يعتقده البعض حول قوته وسلطانه على البشر. لقد أعطانا الله السلطان لنقاومه ونتغلب عليه في المسيح يسوع «فَقَاوِمُوهُ رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ، عَالِمِينَ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الآلاَمِ تُجْرَى عَلَى إِخْوَتِكُمُ الَّذِينَ فِي الْعَالم. وَإِلَهُ كُلِّ نِعْمَةٍ الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ الأَبَدِيِّ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيراً، هُوَ يُكَمِّلُكُمْ، وَيُثَبِّتُكُمْ، وَيُقَوِّيكُمْ، وَيُمَكِّنُكُمْ.» (1بط5: 9، 10)
ملاحظات ختامية
•    الإنسان مخلوق على صورة الله في الحرية. أراد الله للإنسان أن يكون حرًا غير مستعبد لأي شيء. وما يحاول الشيطان تدميره في الإنسان هو صورة الله، لكي يكون الإنسان عبدًا له، وليس حرًا في الله.
•    المعجزة الحقيقة التي تحدث عند تغير الإنسان الخاطئ، هي تحريره من عبودية إبليس، وإرجاع الإنسان إلى صورة الله مرة أخرى.
•    نحن لا نقلل من قدرة الشيطان لإغواء البشر، ولا ننكر عمله في العالم، لكننا نحاول وضعه في الحجم الطبيعي، حتى لا نتوهم المعارك والبطولات المزيفة. فهناك مَنْ يخدع الناس باسم الدين، ويقود الناس لتغييب العقل، والإيمان بالخرافات.
•    أيهما أكثر خطورة، سكنى الشيطان للجسد أم للفكر؟ وما هي الحكمة من سكنى الشيطان بأعداد غفيرة تصل للآلاف في جسد إنسان واحد؟ أين يسكن الشيطان بالضبط؟
•    إذا كان للشيطان إمكانية سكنى الجسد، لماذا لا يسكن كل البشر بأعداد كثيرة ويُخضع الجميع له بطريقة سهلة وسريعة؟ وكيف نفسر عمل الصليب حيال ذلك الأمر؟
•    ما هو الفارق الذي صنعه المسيح على الصليب؟ ألم يجرده من سلطانه وقوته؟ ألم يقيده بقيود أبدية؟ أم أن عمل الصليب لم يكتمل بعد، حاشا؟
•    من المؤكد أن الشيطان يحاول دائمًا سكنى ذهن الإنسان، ليسيطر على إرادته، فيقود الجسد إلى الخطية، بل ويضعفه في بعض الأحيان، وقد يسبب له الكثير من المشاكل والأمراض الجسدية، نتيجة امتلاك إرادة الإنسان.
•    إذا كنا نؤمن أن الشيطان مخلوق روحي، فالحرب مع الإنسان هي حرب روحية لا جسدية، ليدمر العلاقة مع الله. ليس للشيطان سلطان على الجسد لأنه محدود في كل شيء، وخصوصا بعد عمل الرب يسوع على الصليب.
أخيرًا، يجب علينا أن نمجد الله قائلين:
«المجدُ للمسيحِ، الإلهِ المعبود، من قِبَلِ وجوبِ وجوده؛
الذي خلّصنا، بظهوره، من كيد الشّيطان وجنوده؛
وأفتكنا، بقوّة صليبه، من أسرِ عدوّنا وقيوده؛
وفدانا، بجسده، من هوّة الجحيم وأخدوده؛
وصدَّق، بتجسّده، أقوالَ أنبيائه، وشهادات شهوده.
نمجّده على جوده علينا بذاته، التي هي أفضل الذّوات.
ونوحّدها توحيدًا، ندّخره للحياة والممات.
ونثلّث صفاتها تثليثًا، تنحصر فيه أقسام الذّات. أمّا بعد...»
المؤتمن بن العسّال، لاهوتي قبطي من القرن الثالث عشر.