الرئيسية مقالات في العقيدة مائدة الرب .. رؤية علاجية

مائدة الرب .. رؤية علاجية

«لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا أَخَذَ خُبْزاً. وَشَكَرَ فَكَسَّرَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي». كَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَمَا تَعَشَّوْا قَائِلاً: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هَذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي». فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ. إِذاً أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ  الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَكُونُ مُجْرِماً فِي جَسَدِ

الرَّبِّ وَدَمِهِ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنِ  الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ. لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ. مِنْ أَجْلِ هَذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ». (1كُو11: 23- 30).
يُعْتَبَرُ هذا الجُزء الْكِتَابِيّ مِنْ أَعْظَمِ فُصُولِ الْعَهْدِ الجديد وَأَجْدرِهَا بِالاهْتِمَامِ، وَذَلِكَ لِسَبَبينِ: السَّبَبُ الأَوَّل لِأَنَّهُ يَأْمُرنَا بِمُمَارسةِ أَقْدس فَرِيضة في الْعِبَادةِ داخل الكنيسة، وَهِيَ فَرِيضةُ الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيّ. هَذِه الفريضة الَّتِي أَصْبَحَتْ رَمْزًا لِلْعِبَادةِ المسيحيَّة وَالكنيسة. حَيْثُ أَنَّ جون كَلْفِن كَانَ يَرَى أَنَّ الكنيسةَ الحقيقيَّة تُوْجَدُ حَيْثُمَا يُوعْظُ بِالإِنْجِيلِ وَتُمَارسُ الْفَرائض الْمُقَدَّسة: الْعَشَاء الرَّبَّانِيّ وَالْمَعْمُودِيَّة، بِطَرِيقةٍ صَحِيحَةٍ.
أَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي: فَلِأَنَّ الرِّسَالةَ الْأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوس أَسْبَق مِنْ إِنْجِيلِ مَرْقُس أَوَّل مَا كُتِبَ مِنَ الْأَنَاجيلِ. وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ هَذَا الْجُزء يُعْتَبر فِي الواقعِ أَوَّل سِجِلٍّ يَسْرِدُ لَنَا الْكَلِمَات الَّتِي نَطَقَ بِهَا الرَّبُّ يَسُوع بِهَذَا الْخصُوصِ.
سَوف نُحَاولُ فِي هَذَا الْمَقَالِ الإِجابة عَنْ بَعْضِ التَّساؤلَات الخاصَّة بِمَوضُوعِ عَشَاءِ الرَّبِّ وَأَهمِيَّته فِي حَيَاتِنَا المسيحيَّة، حتَّى مَا تَكُونَ الفريضةُ مَبْنِيَّةً عَلَى فَهْمٍ حَقِيقيٍّ لِمَا تُمَثّلهُ. وَحَتَّى مَا تَكُونَ مُمَارستُنَا للفريضةِ الْمُقَدّسة مُمَارسةً سَلِيمةً, وَهَكَذَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَمَتَّعَ بِمَا أَراد الرَّبُّ أَنْ نَحْصُلَ عَليهِ عِنْدَمَا أَعْطَاها لنا.
دَعُونَا نَتَسَاءلُ مَا الَّذِي تُمَثِّلُهُ لَنَا مَائِدَةُ الرَّبِّ أَوْ عَشَاءُ الرَّبِّ؟
لَقَدْ مَرَّتْ الكنيسةُ بِصِرَاعاتٍ كَثِيرةٍ لِمُحَاولةِ الإِجابة عَنْ هَذَا السُّؤال. حَيْثُ كَانَتْ تَرَى الكنيسةُ الْكَاثُولِيكِيَّة الْمَائِدَةَ تُقَدِّمُ لَنَا جَسَدَ الْمَسِيحِ وَدَمَهُ بِطَرِيقةٍ حَرْفِيَّةٍ مِنْ خِلَالِ تَحَوّلِ الْخُبْز وَالْخَمْر إِلَى جَسَدِ الْمَسِيح وَدَمِهِ بِشَكْلٍ حَرْفِيٍّ. وَهَكَذَا أَصْبَح الاقْتِرَابُ إِلَى المائِدَةِ الْمُقَدّسة هُوَ اقْتِرَابٌ إِلَى المسيحِ نَفْسهِ، هَذَا الاقْتِرَابُ يَسْتَحِقُّ السُّجُود وَالْعِبَادة وَالتَّقْدِيس بِشَكْلٍ مُرْعِبٍ. وَأَصْبَح قَبُولُ الْمَائِدَةِ بِمَثَابَةِ قَبُول للْمَسِيحِ نَفْسهِ. وَحِينَ أَتَى الإِصْلَاحُ فِي القرنِ السَّادِس عَشر كَانَ لَهُ وجْهَةُ نَظَرٍ مُخْتَلِفَةٍ تُجَاه مُمَارسةِ عَشَاء الرَّبِّ. ولكنْ يجب أَنْ نُلَاحِظَ أَنَّ الْمُصْلِحِين الْأَوائل َلْم يَتَّفِقُوا مِنْ جِهَةِ مَا تُمَثِّلهُ مَائِدَةُ الرَّبِّ. فَفِي الوقتِ الَّذِي زَعِمَ فِيهِ مَارتن لُوثر وجُود اتِّحَاد حَقِيقيّ بَيْنَ الْمَسِيحِ وَالْمَائِدَةِ وَلَكِنَّهُ اتِّحَاد رُوحِيّ، بِمَعْنَى أَنَّ الْخُبْزَ مَازَال خُبْزًا وَالْخَمْرُ مَازَالَتْ خَمْرًا، إِلَّا إِنَّ الْمَسِيحَ يَتَّحِدُ بِشَكْلٍ حَقِيقيٍّ بِهَذِهِ الْعَنَاصر. وَقَدْ  اعْتَمَدَ لوثر عَلَى القولِ: «لِأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ.» (يُو6: 55). نَجِدُ زِونْجِلِي يُؤْكِّدُ عَلَى أَنَّ المائِدَةَ مَا هِيَ إِلَّا تِذْكَار لِمَوْتِ الْمَسِيحِ، وَهُوَ لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَيِّ أَمْرٍ آخر فِي حَيَاتِنَا اليوميَّة قَدْ يُذَكِّرُنَا بِمَوْتِ الْمَسِيحِ مُعْتَمِدًا عَلَى القولِ: «الرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيى أَمَّا الْجَسَدُ فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا.» (يُو6: 63). وَلَكِنْ بَيْنَ هَذَا وَتِلْك سَوف نُحَاوِلُ أَنْ نُجَاوِبَ عَلَى هَذَا التَّساؤلِ: مَا الَّذِي تُقَدِّمهُ لَنَا الْمَائِدَةُ الْمُقَدَّسةُ:
أَوَّلًا: الْمَائِدَةُ الْمُقَدَّسةُ هِيَ خَتْمٌ يُؤْكِّدُ عَلَى مَوَاعِيدِ الْمَسِيحِ وَوعودهِ لَنَا.
نَحْنُ نُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ أَتَمَّ فداؤهُ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِنَا «فَبِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً.» (عِبْ10: 10). وَلَكِنَّ اللهَ فِي ضَعْفِنَا يُقَدِّمُ لَنَا الْعَشَاءَ الرَّبَّانِيّ لِيُؤْكِّدَ عَلَى مَواعيدهِ لَنَا. إِنَّهَا مِثْلُ الْخَتْمِ الْحُكُومِيِّ الَّذِي يُعْطِي الشَّرْعِيَّةَ لِأَيِّ مُسْتَنَدٍ، هَكَذَا المائدة الْمُقَدّسة بِمَثَابة خَتْم لِمَواعيدِ الله. وَهِيَ عَلَامَةٌ خَارِجِيَّة يَسْتَخْدِمُهَا اللهُ لِيُؤْكِّدَ لِنَا دَاخِلِيًّا عِلَى وعودهِ الرَّائعة. فاللهُ فِي ضَعْفِنَا يَتَقَدَّمُ لِيُسَاعِدَنَا حَتَّى نَفْهَمَ مَا فَعَلهُ مِنْ أَجْلِنَا مِنْ خِلَالِ هذه المائدة. وَنَرَى هَذَا المبدأَ بِشَكْلٍ وَاضِحٍ فِي مَفْهُومِ التَّجَسُّدِ، عِنْدَمَا أَراد اللهُ أَنْ يُكَلِّمَنَا وَيُعْلِنَ لَنَا عَنْ نَفْسِهِ أَخَذَ جَسَدًا مَادِيًّا مِثْلَنَا فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُدْرِكَ مَنْ هُوَ الله. فَمَا يَفْعلهُ اللهُ مَعْنَا مِثْل مَا يَفْعَلُ الشَّخْصُ الْبَالِغُ مَعَ الطِّفْلِ الصَّغير الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْهَمَ إِلَّا الكلمات الْبَسِيطة، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَحَ لَهُ شَيئًا فَإِنَّهُ يَسْتَخْدِمُ لُغَتَهُ الْبَسِيطة. كَذَلِكَ المائدة الْمُقَدَّسة هِيَ عَطِيَّةُ اللهِ لِيَتَقَابَلَ مَعْنَا، وَهِيَ مَعُونَةُ اللهِ لِنَفْهَمَ حُبَّهُ، وَهِيَ مُبَادرةُ اللهِ لِيَتَّحِدَ مَعْنَا. وَهَكَذَا فَنَحْنُ نَرَى فِي هَذَا الْعَشَاءِ وعودَ اللهِ لَنَا بِشَكْلٍ مُجَسَّدٍ، حَتَّى نَفْهَمَ:
1- اتِّحَادَنَا بِالْمَسِيحِ عَنْ طَرِيقِ الصَّليب، فَكَمَا نَكْسِر هَذَا الْخُبْزَ كُسِرَ الْمَسِيح مِنْ أَجْلِنَا، وَكَمَا نَسْكُبُ هَذِهِ الْكَأْس سُكِبَ الْمَسِيح مِنْ أَجْلِنَا. وَكَمَا نَتَقَدَّمُ لِنَأْكُلَ هَذَا الْخُبْزَ نَحْنُ نَتَغَذَّى بِإِنْسَانِيَّةِ الْمَسِيح، وَنَشْبَعُ مِنْ حُبِّهِ وَعَطائِهِ وَنِعْمَتِهِ، وَنَتَّحِد بِهِ وَهُوَ بِنَا. وَلِذَلِكَ فَفِي الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيّ نَحْنُ لَا نُؤْمِنُ بِتَحَوَّلٍ يَحْدُثُ فِي الْعَنَاصِرِ وَإِنَّمَا نَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّنَا نَرْتَفِعُ لِنَرْتَبِطَ بِالْمَسِيحِ. فَعِنْدَمَا نَجْتَمِعُ بِالسَّيِّدِ فِي هَذِهِ الفريضةِ نَجِدُ فِيهَا تَأْكِيدَ اللهِ عَلَى اتِّحَادهِ مَعْنَا، لَقَدْ مُتْنَا مَعَهُ وَأُقِمْنَا أَيْضًا مَعَهُ. وَنَجِدُ فِيهَا اتِّحَادنَا بِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّة، وَاتِّحَادنَا بِمَلكُوتِ الله الَّذِي لَا يُمْكن أَنْ يُنْزَعَ مِنَّا. وَهَكَذَا فَإِنَّ هَذِه الْمُمَارسة تَرْفَعُنَا مِنْ ضَعْفِنَا وَمُعَانَاتِنَا فِي هَذَا الْعَالَمِ لِنَتَّحِدَ بِالْمَسِيحِ وَعَملهِ مِنْ أَجْلِنَا.
2- اتِّحادَ بَعْضِنَا الْبَعْض أَيْضًا، حَيْثُ أَنَّنَا لَا نَتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ فَقَطْ، وَإِنَّما نَتَّحِدُ بَعْضُنَا الْبَعْض كَمَا يَقُولُ الرَّسُولُ بُولُس: «فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ لِأَنَّنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ.» (1كُو10: 17). فَعِنْدَمَا نَشْتَرِكُ كُلُّنَا فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ نُمَارِسُ حَقِيقةَ وجُودِنَا كَعَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَنَحْنُ نُؤْمِنُ أَنَّ الْعَشَاءَ الرَّبَّانِيّ أَخَذَ مَكَانَ الْفِصْحِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيم، وَهَكَذَا كَمَا كَانَ يَجْتَمِعُ الْبَيْتُ كُلُّهُ مَعًا كَعَائِلَةٍ فِي الْفِصْحِ لِيَأْكُلُوا مِنَ الطَّعَامِ الْوَاحد كَذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا نَقْتَرِبُ مَعًا كَعَائِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَجَسَدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ.
وَهَكَذَا نَرَى أَنَّ عَشَاءَ الرَّبِّ لَيْسَ مُجَرَّدَ ذِكْرَى لِلْمَسِيحِ بَلْ إِنَّهَا تُمَثِّلُ عَمَل الْمَسِيحِ، وَهِيَ وَسِيلةٌ لِلنِّعْمَةِ مِنْ خِلَالِ الرُّوحِ الْقُدُس. وَهَكَذَا فَإِنَّ عَشَاءَ الرَّبِّ هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ للكنيسةِ.
ثَانِيًا: المائِدَةُ الْمُقَدَّسَةُ هِيَ إِعْلَانٌ:
حَيْثُ يَقُولُ الرَّسُولُ بُولُس: «فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ.» (1كُو11: 26). لِذَلِكَ فَفِي الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيّ اعْتِرَافٌ وَإِعْلَانٌ وَكرَازةٌ تُؤْكِّدُ عَلَى أَنَّ حَيَاتَنَا وَخَلَاصَنَا مُؤسَّسَانِ عَلَى مَوْتِ الْمَسِيحِ وَقِيَامَتِهِ. فالمائِدَةُ تُؤْكِّدُ عَلَى الصَّلِيبِ أَكْثر مِنْ أَيِّ شَيْءٍ آخر. لِذَلِكَ فَعِنْدَمَا نُمَارِسُ هَذَا الْعَشَاءَ نَحْنُ نُؤْكِّدُ وَنُعْلِنُ مَوْتَ الْمَسِيحِ مِنْ أَجْلِنَا وَنَأْخُذُ هَذَا الإِعْلَان دَاخِلنَا فِي أَحْشَاءِنَا لِلْعَالَمِ مِنْ حَولِنَا. حَيْثُ نَخْرُجُ لِلْعَالَمِ الَّذِي يُعَانِي وَيَتَألَّمُ لِنُخْبِرَ بِمَحَبَّةِ الله وَعَمَلِهِ فِي الْمَسِيحِ، وَلِنُعْلِنَ عَنْ رَجَاءٍ لِلْقُلُوبِ الْمُتْعَبة الْيَائِسة، وَلِنُقَدِّمَ الْمَعْنَى لِلنُّفُوسِ الْحَائِرة الضَّالَّة. وَهَكَذَا فَإِنَّ لمائدةِ الرَّبِّ دَورٌ مُرْسَلِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَغَاضَى عَنْهُ. فَلَا يُمكن أَنْ نُغْلِقَ أَبوابَنَا، وَنَتَجَاهل الآخرين مِنْ حَولِنَا. فَعِنْدَمَا يَقُولُ الْكِتَابُ إِنَّنَا نُخْبِرُ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ، السُّؤال هُنَا نُخْبِرُ مَنْ؟؟ أَكِيد أَنَّنَا نُخْبِرُ الَّذِين لَا يَعْلَمُونَ. وَهَكَذَا، فَكُلُّ مَرَّةٍ نَشْتَرِكُ فِيها فِي المائِدَةِ الْمُقَدَّسة نَأْخُذُ مَسْئُولِيَّةً جَدِيدةً مِنَ اللهِ لِنُخْبِرَ الْعَالَمَ بِبِشَارةِ الإِنْجِيلِ. وَهَكَذَا نَنَالُ إِرْسَالِيَّةً جَدِيدةً لِنَخْرُجَ إِلَى الْعَالَمِ وَنُنَادِي بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ.
ثَالِثًا: المْاَئِدَةُ تَدْعُونَا لإِيمَانٍ أَعْظَم:
 نَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ يَهْتَمُّ بِأُمُورِنَا المادِيَّة وَيَعْتَنِي بِنَا هَكَذَا بِالْأَحْرَى يَهْتَمُّ بِحَيَاتِنَا الرُّوحِيَّة. فَفِي هذه الوليمةِ الْمُقَدّسة يَكُونُ الْمُضِيفُ فِيهَا هُوَ الرَّبّ شَخْصِيًّا، وَهُوَ الَّذِي يُقَدِّمُ لَنَا الْخُبْزَ وَالْخَمْرَ كَطَعَامٍ رُوحِيٍّ وَشَرَابٍ رُوحِيٍّ. وَكَمَا أَعَالَ الرَّبُّ شَعْبَ إِسْرَائِيلَ بَعْدَمَا خَرَجُوا مِنْ أَرْضِ مِصْر ثُمَّ جَازُوا فِي مَعْمُودِيَّتِهِمْ لِمُوسَى، أَعَالَهُمْ الرَّبُّ فِي الْبَرِّيَّةِ بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ رُوحِيٍّ، يَقُولُ عَنْهُ الرَّسُولُ بُولُس: «وَجَمِيعَهُمْ أَكَلُوا طَعَامًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا. لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابَعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ.» (1كُو10: 3، 4). وَمِمَّا لَاشَكَّ فِيه أَنَّ الرَّسُولَ اسْتَخْدَمَ الْعِبَارات الَّتِي كَانَت تُسْتَخْدَمُ لِوصْفِ الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ بِأَنَّهُ طَعَامٌ رُوحِيٌّ وَشَرَابٌ رُوحِيٌّ. لِأَنَّهُ وَصَفَ عُبُورهُمْ الْبَحْر الْأَحْمَر بِأَنَّهُ مَعْمُودِيَّةٌ. وَهَكَذَا فَإِنَّ هَذِهِ المائِدَةَ هِيَ مُقَدَّمَةٌ مِنَ اللهِ لِيُشْبِعَ قُلُوبَنَا بِشَخْصِهِ عِنْدَمَا نَتَّحِدُ مَعَهُ. لِيُقَوِّينَا فِي مَسِيرتِنَا للْقَدَاسَةِ. وَعِنْدَمَا نَأْكُلُ وَنَشْرَبُ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَاحِدٍ هَذَا يُقَوِّينَا فِي حَيَاةِ الشَّرِكَةِ وَالْوِحْدَةِ وَالسَّلَامِ مَعًا. كَمَا أَنَّهُ يَقُودُنَا إِلَى الشَّهَادَةِ وَالْخِدْمَةِ، كُلُّ هَذَا يَقُودُنَا إِلَى إِيمَانٍ أَعْظَم، وَشَرِكَةٍ أَعْمَق.
يَبْقَى لَنَا السُّؤال: مَنْ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّقَدُّمِ إِلَى مَائِدَةِ الرَّبِّ؟؟؟
يَقُولُ الرَّسُولُ بُولُس: «إِذًا أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ مِنْ هَذِهِ الْكَأْسِ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ. وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ. لِأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَينُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ.» (1كُو11: 27- 30). وَلِكَيْ نَفْهَمَ هَذَا الْجُزْءَ يَجِب أَنْ نَنْظُرَ إِلَى أَمْرَيْنِ:
 وَهُنَا يَجِب أَنْ نَفْهَمَ مَعْنَى الاسْتِحْقَاق فِي قَرينَةِ فَهمِنَا لِخَلَاصِ اللهِ لَنَا وَعَملهِ فِي المائِدَةِ. كَمَا إِنَّنَا يَجِب أَنْ نَفْهَمَ هَذَا الْجُزءَ فِي ضُوءِ قرينتِهِ الْكِتَابِيَّة.
أَوَّلًا: فَفِي ضُوءِ تَعَالِيمِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ نَرَى أَنَّنَا جَمِيعًا خُطَاة مُخَلَّصِينَ بِنِعْمَةِ الله. وَهَكَذَا فَإِنَّ خَلَاصَنَا لَا يَتَوقَّف عَلَى اسْتِحْقَاقِنَا أَوْ مَجْهُودِنَا أَوْ عَمَلِنَا. وَكَذَلِكَ مَائِدة الرَّبِّ إِنَّهَا هِبَةُ اللهِ لَنَا وَلَيْسَ مُكَافَأَةً مِنَ اللهِ لِمَجْهُودِنَا. إِنَّها عِلَاجُ اللهِ لِضَعْفِنَا وَلَيْسَ دَينُونَةَ اللهِ لَتَقْصِيرِنَا. إِنَّها مُبَادَرَةُ اللهِ لِتَشْجِيعِنَا فِي مَسِيرتِنَا الرُّوحِيَّة، إِنَّها طَعَامُ اللهِ الْمُقَدَّمُ لِتَقْوِيَتِنَا وَلَيْسَ الاخْتِبَارَ الإِلَهِيّ لِقِيَاسِ تَفَوّقِنَا. وَهَكَذَا فَإِنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَشْعُرُ بِخَطِيَّتِهِ وَبِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ هُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ احْتِيَاجًا لِهَذِهِ الْمَائِدَةِ. فَلَوْ أَنَّ مَائِدَةَ اللهِ مُقَدَّمَةٌ لِلْكَامِلِينَ فَقَطْ، فَلَنْ يُوْجَدَ إِنْسَانٌ يُمْكِنُهُ التَّقَدُّم إِليهَا أَوْ الاقْتِرَاب مِنْهَا. وَالْعَكْسُ صَحِيح، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَشْعُرُ بِاسْتِحْقَاقِهِ لِلتَّقَدُّمِ هُوَ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِهَذِهِ الْمَائِدَةِ. وَهَكَذَا فَإِنَّ مَائِدَةَ الرَّبِّ هِيَ عَطِيَّةُ اللهِ لِيُقَوِّي إِيمانَنَا وَيُسَاعِدَنَا وَيُحَرّكَنَا إِلَى الْأَمَامِ لَيْسَ لِأَنَّنَا نَسْتَحِقّهَا. عِنْدَمَا لَاحَظَ أَحَدُ الْخُدَّامِ فِي كنيسةٍ مِنَ الْكَنَائِس أَنَّ سَيِّدَةً عَجُوزًا تَتَرَدَّدُ فِي التَّنَاولِ مِنَ الْكَأْسِ مَدَّ يَدَهُ وَقَدَّمَهُ إِليهَا قَائِلًا: «خُذِهَا يَا سَيِّدَتِي إِنَّهَا لِلْخُطَاةِ، إِنَّهَا لَكِ وَلِي». وَهَكَذَا فَإِنَّ الْقَولَ: «بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ» لَا يَقْفِلُ البابَ فِي وَجْهِ الْخَاطئ الَّذِي يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ وَيَقِرُّ بِهِ.
ثَانِيًا: إِذَا نَظَرْنَا إِلَى هَذَا الْجُزءِ فِي رِسَالَةِ كُورِنْثُوس الْأُولَى وَخَاصَّةً آية 29 «لِأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَينُونَةً لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ». وَالْكَلَامُ هُنَا لَيْسَ عَنْ جَسَدِ الرَّبِّ بِمَعْنَى الْخُبْز، وَإِلَّا لَقَالَ جَسَد الرَّبِّ وَدَمِهِ، وَلَكِنَّ الْكَلَام هُنَا عَنْ جَسَدِ الرَّبِّ بِمَعْنَى الْكَنِيسة. وَالْخَلْفِيَّة الَّتِي كَانَ يَتَكَلّمُ فيهَا الرَّسُولُ بُولُس هِي الْمَشَاكل الَّتي حَدَثَتْ فِي كنيسةِ كُورِنْثُوس عِنْدَمَا كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِلْعِبَادَةِ وَالْعَشَاءِ الرَّبَّانِيّ، وَهَذَا مَا نَجِدهُ فِي الآيات 17- 22 حَيْثُ أَنَّهُ كَانَتْ هُنَاك مُمَارسةٌ فِي الكنيسةِ الْأُولَى تُسَمَّى وَلِيمة الْمَحَبَّة, وَهِيَ أَنْ يَأْتِي كُلُّ وَاحِدٍ بِأَكْلِهِ وَيَجْتَمِعُونَ مَعًا لِتَنَاولِ الطَّعَام بَعْدَ الْعِبَادةِ بِابْتِهَاجٍ وَدُون تَمْييزٍ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، السَّيِّدِ وَالْعَبْدِ. وَلَكِنْ فِي كنيسةِ كُورِنْثُوس تَحَوَّلَتْ هَذِهِ الْمُمَارسة إِلَى مَأْسَاةٍ حَقِيقِيَّة حَيْثُ إِنَّ الْأَغْنِيَاء رَفَضُوا أَنَّ يُشَارِكُوا طَعامهمْ مَعَ الْفُقَرَاءِ الَّذين لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَأْتُوا بِشَيءٍ يُذْكر، عِلْمًا بِأَنَّ هَذِهِ الوليمة كَانَت هِيَ الْوجبَةُ الْوَحِيدة الْمُمْتِعَة لِلْفُقُرَاءِ مِنَ الكنيسةِ. وَهَكَذَا حَوَّلُوا الْمُمَارسة الْمُقَدَّسة إِلَى ازْدِرَاءٍ بالآخرِينَ وَرَفضٍ لَهُمْ. وَكَانَ الرَّسُولُ بُولُس يُحَاولُ أَنْ يُعَالِجَ هَذَا الموقِفَ بِتَعْلِيمِهِ هُنَا. وَهَكَذَا فَإِنَّ عَدَمَ الاسْتِحْقَاقِ يَتَعَلَّقُ بِرفْضِ الآخرين وَجَرْحِهمْ. عَدَمُ الاسْتِحْقَاقِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّحَزُّبِ دَاخل جَسَدِ الْمَسِيحِ. لِذَلِكَ كَانَ الرَّسُولُ بُولُس يَدْعُوهمْ كَمَا يَدْعُونَا أَنْ نَمْتَحِنَ قُلُوبَنَا مِنْ جِهَةِ إِخْوتِنَا، هَلْ نَجْرَحُ إِخْوتَنَا وَنَرفضهمْ؟ هَلْ نَصْنَعُ تَحَزُّبًا وَمَرَارةً دَاخِل جَسَدِ الْمَسِيحِ؟
أَخِيرًا فَإِنَّ مَائِدَةَ الرَّبِّ هِيَ عَطِيَّةُ اللهِ لَنَا لِيُقَوِّي وَيُشَجِّعَ مَسِيرةَ إِيمَانِنَا. لِنَتَّحِدَ بِهِ وَنَتَّحِدَ بَعْضُنَا الْبَعْض لِذَلِكَ دَعُونَا نَتَقَدَّمُ بِثِقَةٍ وَاتِّكَالٍ عَلَى نِعْمَةِ الله وَلَيْسَ عَلَى اسْتِحْقَاقِنَا نَحْنُ. لِنَمْتَحِن قُلُوبَنَا مِنْ جِهَةِ إِخوتِنَا أَمام اللهِ، وَهَكَذَا لِنَتَقَدَّمَ وَنَتَمَتَّعَ بِشَرِكَةِ الْمَسِيحِ. لِنَنْتَبِهَ إِلَى هَذِهِ الْفَرِيضةِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَالَّتِي تُجَسِّدُ أَمَامَ أَعْيُنِنَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ نُمَارِسُهَا مَحَبَّةَ اللهِ لَنَا فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي كُسِرَ مِنْ أَجْلِنَا وَسَفَكَ دَمَهُ لِخَلَاصِنَا. لِنَرَهَا بِشَكْلٍ مَلْمُوسٍ أَمَام أَعْيُنِنَا، لِنَلْمَسَهَا، لِنَتَذَوَّقَهَا، لِنَتَّحِدَ بِهَا، لِتَصِيرَ وَاقِعنَا وَحَياتَنَا حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نَهْتِفَ مَعَ بُولُس «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لَا أَنَا، بَلْ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ.» (غَلَ2: 20).
كاتب المقال:
رَاعِي الكنيسة الإِنجيلِيَّة بِالْغَردقة.