الرئيسية كتب للقراءة

تفسير أعمال الرسل للقس يوسف عبدالنور - الإصحَاحُ السَّابعُ وَالْعِشْرُونَ

الإصحَاحُ السَّابعُ وَالْعِشْرُونَ

 

الفصل الرابع عشر: رحلة بولس الرسول إلى روما (أعمال 27، 28) 

رأينا في الفصل الماضي كيف اقتنع الملك أغريباس والوالي فستوس ببراءة بولس، وكان من الممكن إطلاقه.. لولا أنّ بولس كان قد رفع دعواه إلى قيصر، فلم يَعُد للوالي سلطان أن يطلقه.

ولعلّ أصدقاء بولس لمّا سمعوا قول أغريباس أسفوا على أنّ بولس رفع دعواه إلى قيصر، لكنّ ذلك كان بترتيب من الله، حتى يذهب بولس إلى روما ليبشِّر فيها بالإنجيل.

بولس يسافر بحراً إلى الموانىء الحسنة

1 فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الرَّأْيُ أَنْ نُسَافِرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى إِيطَالِيَا سَلَّمُوا بُولُسَ وَأَسْرَى آخَرِينَ إِلَى قَائِدِ مِئَةٍ مِنْ كَتِيبَةِ أُوغُسْطُسَ اسْمُهُ يُولِيُوسُ. 2 فَصَعِدْنَا إِلَى سَفِينَةٍ أَدْرَامِيتِينِيَّةٍ وَأَقْلَعْنَا مُزْمِعِينَ أَنْ نُسَافِرَ مَارِّينَ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي أَسِيَّا. وَكَانَ مَعَنَا أَرِسْتَرْخُسُ رَجُلٌ مَكِدُونِيٌّ مِنْ تَسَالُونِيكِي. 3 وَفِي الْيَوْمِ الآخَرِ أَقْبَلْنَا إِلَى صَيْدَاءَ فَعَامَلَ يُولِيُوسُ بُولُسَ بِالرِّفْقِ وَأَذِنَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَصْدِقَائِهِ لِيَحْصُلَ عَلَى عِنَايَةٍ مِنْهُمْ. 4 ثُمَّ أَقْلَعْنَا مِنْ هُنَاكَ وَسَافَرْنَا فِي الْبَحْرِ مِنْ تَحْتِ قُبْرُسَ لأَنَّ الرِّيَاحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. 5 وَبَعْدَ مَا عَبَرْنَا الْبَحْرَ الَّذِي بِجَانِبِ كِيلِيكِيَّةَ وَبَمْفِيلِيَّةَ نَزَلْنَا إِلَى مِيرَا لِيكِيَّةَ. 6 فَإِذْ وَجَدَ قَائِدُ الْمِئَةِ هُنَاكَ سَفِينَةً إِسْكَنْدَرِيَّةً مُسَافِرَةً إِلَى إِيطَالِيَا أَدْخَلَنَا فِيهَا. 7 وَلَمَّا كُنَّا نُسَافِرُ رُوَيْداً أَيَّاماً كَثِيرَةً وَبِالْجَهْدِ صِرْنَا بِقُرْبِ كِنِيدُسَ، وَلَمْ تُمَكِّنَّا الرِّيحُ أَكْثَرَ سَافَرْنَا مِنْ تَحْتِ كِرِيتَ بِقُرْبِ سَلْمُونِي. 8 وَلَمَّا تَجَاوَزْنَاهَا بِالْجَهْدِ جِئْنَا إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ «الْمَوَانِي الْحَسَنَةُ» الَّتِي بِقُرْبِهَا مَدِينَةُ لَسَائِيَةَ.

9 وَلَمَّا مَضَى زَمَانٌ طَوِيلٌ وَصَارَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ خَطِراً إِذْ كَانَ الصَّوْمُ أَيْضاً قَدْ مَضَى جَعَلَ بُولُسُ يُنْذِرُهُمْ 10 قَائِلاً: «أَيُّهَا الرِّجَالُ أَنَا أَرَى أَنَّ هَذَا السَّفَرَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بِضَرَرٍ وَخَسَارَةٍ كَثِيرَةٍ لَيْسَ لِلشَّحْنِ وَالسَّفِينَةِ فَقَطْ بَلْ لأَنْفُسِنَا أَيْضاً». 11 وَلَكِنْ كَانَ قَائِدُ الْمِئَةِ يَنْقَادُ إِلَى رُبَّانِ السَّفِينَةِ وَإِلَى صَاحِبِهَا أَكْثَرَ مِمَّا إِلَى قَوْلِ بُولُسَ. 12 وَلأَنَّ مَوْقِعَ الْمِينَا لَمْ يَكُنْ صَالِحاً لِلْمَشْتَى اسْتَقَرَّ رَأْيُ أَكْثَرِهِمْ أَنْ يُقْلِعُوا مِنْ هُنَاكَ أَيْضاً عَسَى أَنْ يُمْكِنَهُمُ الإِقْبَالُ إِلَى فِينِكْسَ لِيَشْتُوا فِيهَا. وَهِيَ مِينَا فِي كِرِيتَ تَنْظُرُ نَحْوَ الْجَنُوبِ وَالشَّمَالِ الْغَرْبِيَّيْنِ. 13 فَلَمَّا نَسَّمَتْ رِيحٌ جَنُوبٌ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوا مَقْصَدَهُمْ فَرَفَعُوا الْمِرْسَاةَ وَطَفِقُوا يَتَجَاوَزُونَ كِرِيتَ عَلَى أَكْثَرِ قُرْبٍ.

14 وَلَكِنْ بَعْدَ قَلِيلٍ هَاجَتْ عَلَيْهَا رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا «أُورُوكْلِيدُونُ». 15 فَلَمَّا خُطِفَتِ السَّفِينَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تُقَابِلَ الرِّيحَ سَلَّمْنَا فَصِرْنَا نُحْمَلُ. 16 فَجَرَيْنَا تَحْتَ جَزِيرَةٍ يُقَالُ لَهَا «كَلَوْدِي» وَبِالْجَهْدِ قَدِرْنَا أَنْ نَمْلِكَ الْقَارِبَ. 17 وَلَمَّا رَفَعُوهُ طَفِقُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعُونَاتٍ حَازِمِينَ السَّفِينَةَ وَإِذْ كَانُوا خَائِفِينَ أَنْ يَقَعُوا فِي السِّيرْتِسِ أَنْزَلُوا الْقُلُوعَ وَهَكَذَا كَانُوا يُحْمَلُونَ. 18 وَإِذْ كُنَّا فِي نَوْءٍ عَنِيفٍ جَعَلُوا يُفَرِّغُونَ فِي الْغَدِ. 19 وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَمَيْنَا بِأَيْدِينَا أَثَاثَ السَّفِينَةِ. 20 وَإِذْ لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ وَلاَ النُّجُومُ تَظْهَرُ أَيَّاماً كَثِيرَةً وَاشْتَدَّ عَلَيْنَا نَوْءٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ انْتُزِعَ أَخِيراً كُلُّ رَجَاءٍ فِي نَجَاتِنَا (أعمال 27: 1-20).

قضى بولس سنتين في سجن قيصرية، وهو بريء. واستقرّ رأي فستوس الوالي أن يرسله إلى قيصر حسب رغبته، فسافر بولس بالبحر من قيصرية إلى إيطاليا، يصحبه بعض أصدقائه ومعهم لوقا الطبيب، كاتب سفر الأعمال.. وأرسل فستوس معهم أسرى آخرين تحت حراسة كتيبةٍ من الجنود برئاسة قائد اسمه «يوليوس».

سافر الجميع في سفينة «أدراميتينية» الجنسيّة، ومرّوا ببعض الأماكن في أسيّا، وكان معهم رجل مكدونيّ من مدينة تسالونيكي اسمه «أرسترخس». وصلت السفينة إلى مدينة صيدا شمال قيصرية. وكان يوليوس رقيقاً في معاملته لبولس بسبب ما لاحظه فيه من الأخلاق الرّفيعة، فسمح له بالذّهاب إلى أصدقائه المسيحيين في صيدا ليأخذ منهم بعض الهدايا التي يحتاج إليها في السفر. ومن ثمّ أقلعت السفينة من صيدا إلى صور وأبحرت إلى الشرق من قبرس لتنجو من شدّة الرّياح الغربيّة، ثم مرّت بجانب ولايتين في جنوب أسيّا هما ولايتا كيليكية وبمفيلية، ووصلت إلى ميرا بولاية ليكية حيث نزل الركاب، وركبوا سفينة قادمة من الإسكندرية كانت في طريقها إلى إيطاليا.

كانت الرّياح شديدة، فكانت السفينة تسير ببطء إلى أن وصلت إلى مدينة قريبة من جزيرة رودس اسمها «كنيدس». واشتدت الرّياح حتّى مرّوا شرق جزيرة كريت بالقرب من مدينة «سلموني» ثم وصلوا إلى مدينة «المواني الحسنة» على الشاطئ الجنوبي من جزيرة كريت، قريبة من مدينة «لسائية».

مضى وقت طويل عليهم في البحر، وكانت الرّياح تشتد ضدّهم، فأصبح السفر بسفينتهم الشراعية صعباً وخطراً. ولمّا انتهى صوم يوم الكفارة اشتدّت الرّياح، فخاف الملاحون، وأنذرهم بولس بالخسارة التي ستلحق بالمسافرين والبضائع إذا استمروا في طريقهم. ولعلّ بولس كان خبيراً بأمور البحر لكثرة أسفاره فيه، أو لأنّ الله أعلن له هذا. غير أنّ قائد المئة لم يسمع نصيحة بولس، وانقاد إلى رأي رئيس الملاّحين وصاحب السفينة، فاستقرّ رأيهم على أن يواصلوا السفر حتى يصلوا إلى مدينة غرب «المواني الحسنة» اسمها «فينكس» وهي ميناء في جزيرة كريت حتى يقضوا فصل الشتاء هناك.

وهبَّت ريح هادئة موافقة لجهة سفرهم فظنّوا أنهم سيصلون إلى وُجهتهم، فسافروا بالقرب من كريت ظانين أنهم سيصلون إلى فينكس بعد ثلاث ساعات. ولكنّ الريح الهادئة لم تستمر طويلاً، إذ هاجت عليهم عاصفة شديدة اسمها «أوروكليدون» أمسكت بالسفينة وحملتها بقوّة لا تُقاوم، أفشلت كل مجهودات الملاّحين، فتركوا السفينة إلى حيث تسوقها الرياح التي وصلت بها إلى جزيرة «كلودي»، فرفعوا قارب النجاة الصغير الذي كانت تجرّه السفينة، وربطوها بالحبال حتى لا تتفكّك ألواحها، وأنزلوا القلوع حتى لا يصلوا إلى خليج «السيرتس» الشديد الخطر على السفن. وفي اليوم الثاني اشتدّت الرياح فخفّفوا حمولة السفينة وطرحوا بعض البضائع في الماء. وفي اليوم الثالث اشترك المسافرون مع الملاّحين في طرح كل ما استطاعوا الاستغناء عنه من أثاث السفينة حتى لا تغطّيها الأمواج. واشتدّت الرياح وكثرت الغيوم التي منعت ظهور الشمس والنجوم، فخاف الجميع وفقدوا كل رجاء في النجاة.

 

بولس يشجّع المسافرين

21 فَلَمَّا حَصَلَ صَوْمٌ كَثِيرٌ حِينَئِذٍ وَقَفَ بُولُسُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: «كَانَ يَنْبَغِي أَيُّهَا الرِّجَالُ أَنْ تُذْعِنُوا لِي وَلاَ تُقْلِعُوا مِنْ كِرِيتَ فَتَسْلَمُوا مِنْ هَذَا الضَّرَرِ وَالْخَسَارَةِ. 22 وَالآنَ أُنْذِرُكُمْ أَنْ تُسَرُّوا، لأَنَّهُ لاَ تَكُونُ خَسَارَةُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ إِلاَّ السَّفِينَةَ. 23 لأَنَّهُ وَقَفَ بِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ مَلاَكُ الإِلَهِ الَّذِي أَنَا لَهُ وَالَّذِي أَعْبُدُهُ 24 قَائِلاً: لاَ تَخَفْ يَا بُولُسُ. يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَقِفَ أَمَامَ قَيْصَرَ. وَهُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ اللهُ جَمِيعَ الْمُسَافِرِينَ مَعَكَ. 25 لِذَلِكَ سُرُّوا أَيُّهَا الرِّجَالُ لأَنِّي أُومِنُ بِاللهِ أَنَّهُ يَكُونُ هَكَذَا كَمَا قِيلَ لِي. 26 وَلَكِنْ لاَ بُدَّ أَنْ نَقَعَ عَلَى جَزِيرَةٍ» (أعمال 27: 21-26).

لم يستطع المسافرون أن يأكلوا من شدّة الخوف، ولأنّ دوار البحر أصابهم، كما أنّ تجهيز الطعام كان مستحيلاً. عندئذٍ وقف بولس ليشجّع الجميع وقال: كان ينبغي أن تستمعوا لتحذيري لكم من قبل ولا تقلعوا من «المواني الحسنة» حتى نتجنّب هذه الخسارة وهذا الضرر، وعليكم الآن أن تقبلوا النصح، وأن تفرحوا لأنّ السفينة وحدها ستتدمَّر، لكن لن يغرق راكبٌ واحد، لأنّ ملاك الرب الذي أعبده جاءني ليلاً وقال لي: لا تخف لأنّك يجب أن تقف أمام الإمبراطور نيرون. فلا بدّ أن ننجو من خطر البحر. وأكّد لهم بولس رضى الله عليه بإنقاذ نفوس كل من معه في السفينة. وقال إنه يثق في وعد الله له أنّ الجميع سيصلون بسلام إلى جزيرة.

وما أكثر ما يحصل الأشرار على بركات بسبب وجود الأبرار بينهم. فهل أنت سبب بركة لمن حولك؟

 

بولس يشكر ويتشجّع

27 فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَشْرَةُ وَنَحْنُ نُحْمَلُ تَائِهِينَ فِي بَحْرِ أَدْرِيَا ظَنَّ النُّوتِيَّةُ نَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَنَّهُمُ اقْتَرَبُوا إِلَى بَرٍّ. 28 فَقَاسُوا وَوَجَدُوا عِشْرِينَ قَامَةً. وَلَمَّا مَضَوْا قَلِيلاً قَاسُوا أَيْضاً فَوَجَدُوا خَمْسَ عَشْرَةَ قَامَةً. 29 وَإِذْ كَانُوا يَخَافُونَ أَنْ يَقَعُوا عَلَى مَوَاضِعَ صَعْبَةٍ رَمَوْا مِنَ الْمُؤَخَّرِ أَرْبَعَ مَرَاسٍ وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ. 30 وَلَمَّا كَانَ النُّوتِيَّةُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَهْرُبُوا مِنَ السَّفِينَةِ وَأَنْزَلُوا الْقَارِبَ إِلَى الْبَحْرِ بِعِلَّةِ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَمُدُّوا مَرَاسِيَ مِنَ الْمُقَدَّمِ 31 قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ الْمِئَةِ وَالْعَسْكَرِ: «إِنْ لَمْ يَبْقَ هَؤُلاَءِ فِي السَّفِينَةِ فَأَنْتُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنْجُوا». 32 حِينَئِذٍ قَطَعَ الْعَسْكَرُ حِبَالَ الْقَارِبِ وَتَرَكُوهُ يَسْقُطُ. 33 وَحَتَّى قَارَبَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ كَانَ بُولُسُ يَطْلُبُ إِلَى الْجَمِيعِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا طَعَاماً قَائِلاً: «هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ عَشَرَ وَأَنْتُمْ مُنْتَظِرُونَ لاَ تَزَالُونَ صَائِمِينَ وَلَمْ تَأْخُذُوا شَيْئاً. 34 لِذَلِكَ أَلْتَمِسُ مِنْكُمْ أَنْ تَتَنَاوَلُوا طَعَاماً لأَنَّ هَذَا يَكُونُ مُفِيداً لِنَجَاتِكُمْ لأَنَّهُ لاَ تَسْقُطُ شَعْرَةٌ مِنْ رَأْسِ وَاحِدٍ مِنْكُمْ». 35 وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ اللهَ أَمَامَ الْجَمِيعِ وَكَسَّرَ وَابْتَدَأَ يَأْكُلُ. 36 فَصَارَ الْجَمِيعُ مَسْرُورِينَ وَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً طَعَاماً. 37 وَكُنَّا فِي السَّفِينَةِ جَمِيعُ الأَنْفُسِ مِئَتَيْنِ وَسِتَّةً وَسَبْعِينَ. 38 وَلَمَّا شَبِعُوا مِنَ الطَّعَامِ طَفِقُوا يُخَفِّفُونَ السَّفِينَةَ طَارِحِينَ الْحِنْطَةَ فِي الْبَحْرِ (أعمال 27: 27-38).

بقيت السفينة مدّة أربعة عشر يوماً منذ أن تركت كريت وهي ضائعة في بحر أدريا، وهو الجزء المتوسّط من بحر الروم، البحر الأبيص المتوسط، بين جزيرة صقلية وبلاد اليونان. وفي منتصف الليل سمع الملاّحون صوت الأمواج تصدم صخور شاطئ، فظنّوا أنهم اقتربوا من البر، ولما قاسوا العمق وجدوا المسافة تعادل طول الإنسان عشرين مرّة. وبعد فترة وجدوها خمس عشرة مرّة، فعرفوا أنهم يقتربون من البر، وخافوا أن تصطدم السفينة بالصخور، فألقوا أربع مراسٍ وانتظروا حتى طلوع النهار ليحدّدوا موقعهم.

وحاول البحّارة أن يأخذوا قارب النجاة ويهربوا به، وتعلّلوا بأنهم يريدون مدّ المراسي، وعلم بولس قصدهم، فقال لقائد المئة وجنوده إنّه إن هرب البحّارة فلا يمكنهم أن ينجوا، لأنّ الربّ سيستخدم البحّارة وسيلةً للنجاة. فوافق قائد المئة على كلام بولس، وقطع الجنود حبال القارب وتركوه يسقط في البحر حتى لا يهرب الملاّحون.

صرف بولس كل الوقت من منتصف الليل حتى طلوع النهار يشجّع الجميع ويطلب منهم أن يأكلوا لأنهم لم يتناولوا قدراً كافياً من الطعام مدّة أربعة عشر يوماً، وهذا يُضعف أجسادهم فيعجزون عن مقاومة الأمواج أو السّباحة إذا اضطرّوا إليها، وأكّد لهم سلامتهم، فلن تسقط شعرة من رأس واحد منهم، وأكل أمامهم ليفعلوا مثله.

وتشجّع الجميع من سرور بولس وشكره لإلهه، ووثقوا في كلامه فقد كان حكيماً في كل نصائحه منذ ركب السفينة معهم، فأخذوا يأكلون، وكان عددهم مئتين وستة وسبعين شخصاً.

 

الجميع ينجون إلى البر

39 وَلَمَّا صَارَ النَّهَارُ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الأَرْضَ وَلَكِنَّهُمْ أَبْصَرُوا خَلِيجاً لَهُ شَاطِئٌ فَأَجْمَعُوا أَنْ يَدْفَعُوا إِلَيْهِ السَّفِينَةَ إِنْ أَمْكَنَهُمْ. 40 فَلَمَّا نَزَعُوا الْمَرَاسِيَ تَارِكِينَ إِيَّاهَا فِي الْبَحْرِ وَحَلُّوا رُبُطَ الدَّفَّةِ أَيْضاً رَفَعُوا قِلْعاً لِلرِّيحِ الْهَابَّةِ وَأَقْبَلُوا إِلَى الشَّاطِئِ. 41 وَإِذْ وَقَعُوا عَلَى مَوْضِعٍ بَيْنَ بَحْرَيْنِ شَطَّطُوا السَّفِينَةَ فَارْتَكَزَ الْمُقَدَّمُ وَلَبِثَ لاَ يَتَحَرَّكُ. وَأَمَّا الْمؤَخَّرُ فَكَانَ يَنْحَلُّ مِنْ عُنْفِ الأَمْوَاجِ. 42 فَكَانَ رَأْيُ الْعَسْكَرِ أَنْ يَقْتُلُوا الأَسْرَى لِئَلاَّ يَسْبَحَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَهْرُبَ. 43 وَلَكِنَّ قَائِدَ الْمِئَةِ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُخَلِّصَ بُولُسَ مَنَعَهُمْ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ وَأَمَرَ أَنَّ الْقَادِرِينَ عَلَى السِّبَاحَةِ يَرْمُونَ أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً فَيَخْرُجُونَ إِلَى الْبَرِّ 44 وَالْبَاقِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَلْوَاحٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى قِطَعٍ مِنَ السَّفِينَةِ. فَهَكَذَا حَدَثَ أَنَّ الْجَمِيعَ نَجَوْا إِلَى الْبَرِّ (أعمال 27: 39-44).

طلعت الشمس واستطاع البحّارة أن يبصروا خليجاً له شاطئ رمليّ، لكنّهم لم يستطيعوا تحديد موقع المكان، فاتّفقوا على دفع السفينة إلى الشاطئ بعد قطع حبال المراسي وحلّ ربط الدفّة، ورفعوا قلعاً لأنّ الرياح كانت متّجهة إلى البر فوصلوا قريباً من الشاطئ. ولكنّهم بعد ذلك دخلوا في لسان من الرمل في وسط البحر، فأصبح مؤخر السفينة عرضة للأمواج التي كسرته. وخاف الجنود أن يهرب الأسرى فأرادوا قتلهم، لأنّ القانون الروماني كان يقضي بموت الجندي إذا هرب منه أسير. لكنّ قائد المئة الذي كان يحب بولس وأراد أن يخلّصه من القتل رفض فكرة جنوده، وأمر الذين يستطيعون السباحة أن يسبحوا إلى الشاطئ، والذين لا يعرفون السباحة أن يستخدموا أخشاب السفينة التي كسّرتها الأمواج حتى يصلوا إليه. وهكذا تمّم الله وعده لبولس الذي قاله له الملاك. فهل تثق أنت في عناية الله ومحبته؟!