الرئيسية كتب للقراءة

02 الأصحاح الثاني

شهادة المعجزة الأولى

2: 1- 11

عرفنا من الإصحاح الأول شهادة التلاميذ الأولين للمسيح، والآن نرانا أمام شهادة نطقت بها أولى معجزات المسيح على الأرض. فيما مضى سمعنا شهادات من أفواه البشرية، وهنا نسمع شهادة فاهت بها إحدى قوات الطبيعة – الماء المتحول خمراً. قبلاً رأينا التلاميذ وقد شاهدوا "حمل الله" فشهدوا له بصراحة من غير خفاء، والآن نرى الماء الحساس وقد رأى خالقه، فاحمر وجهه خجلاً، فشهد له في خفر وحياء!!

هذه هي المعجزة التي استهل بها المسيح خدمته الجهرية. ما أشبهها بالباب "الجميل" الذي كان يؤدي إلى الهيكل! إن حدوث هذه المعجزة في بيت، يجعلها حلقة اتصال بين الثلاثين عاماً التي قضاها المسيح في صمته منفرداً، وبين الثلاثة الأعوام التي قضاها وسط المجتمع خادماً ناطقاً. على أن هذه ليست أولى معجزات المسيح على الإطلاق، فقد سبقتها معجزة أخرى – هي معجزة الصمت. إن صمت "الكلمة" عن الكلام، معجزة. وسكوت رب القدرة عن إتيان معجزة ما، مدة ثلاثين عاماً، لهو معجزة المعجزات.

هذه المعجزة الأولى التي أجراها المسيح، تحمل معها رمزاً لطبيعة خدمته. ويتبين لنا هذا من قابلة خدمة المسيح، بخدمة أول أنبياء العهد القديم – موسى، وخاتمتهم – يوحنا المعمدان.

فأول معجزة قام بها موسى هي تحويل الماء إلى دم – والدم رمز الموت. لكن أول معجزة قام بها المسيح هي تحويل الماء إلى خمر – والخمر رمز الحياة. فمن هذا يتضح لنا أن خدمة موسى هي خدمة موت لموت، وأن خدمة المسيح هي خدمة الحياة لحياة. أما يوحنا المعمدان، فقد كان رجلاً زاهداً عن الناس، ومعاشرتهم، لكن المسيح أحب الخطاة وعاشرهم، وقدس الصلاة البشرية الشريفة، ورفعها إلى أعلى مستوى. إذاً تعتبر هذه المعجزة نقطة انتقال من ماء اليهودية المميتة إلى خمر المسيحية المقدسة المبهجة.

أليس من العجيب حقاً أن رجل الأحزان يفتتح خدمته بوليمة عرس؟ لكن العجيب يزول متى ذكرنا أنه فادينا. فقد صار رجل أحزان، لكي نصير نحن أبناء البهجة والسرور. نعم كان فادينا رجل الأحزان، لكنه كان أيضاً رجل الفرح. إن الذي اضطرب بالروح وبكى أمام قبر لعازر (يوحنا 11: 34و 35) قد تهلل بالروح أمام رسله (لوقا 10: 21). إن الذين لا يرون على وجه فادي الأنام سوى غضون الهموم والآلام، لا يرونه كما هو. والذين يفتشون عن المسيح تحت القباب السوداء، لا حق لهم أن يتعجبوا إن لم يجدوه هناك. إن مسيحنا هو مسيح النور لا مسيح الظلال والظلام. وإن الذي كسر شوكة الموت، أهدانا وردة الحياة.

في تحويل الماء إلى خمر، أظهر المسيح قدرته الخالقة من غير أن يفوه بكلمة – وما الداعي لأن يفوه بكلمة وهو هو "الكلمة"؟ بذلك أرانا أن العمل الذي تنجزه النواميس الطبيعية في عام أو بعض عام، فقد أجراه رب الطبيعة في لحظة – لأن الخمرة هي ماء سقيت به الكرمة، ثم سوته الشمس في بعض شهور، حتى صار عنباً، ثم اختمر. فكل هذه العملية الطويلة قد أتمها المسيح في لحظة من غير كلمة ولا لمسة.

في هذه المعجزة تجلت لنا تضحية المسيح. لأن الذي استطاع أن يحول الماء إلى خمر، كان في إمكانه أن يحول الحجر إلى خبز، لما جاع في البرية (مت 4: 3). لكنه لم يستخدم قوته المعجزية لإشباع مطالب جسده. سيما وأن هذا الطلب كان من مقترحات المجرب.

في هذا الفصل 2: 1 – 11 نجد

(أ) مقدمة تاريخية 2: 1 و2

(ب) الدورين اللذين اجتازتهما المعجزة 2: 3-8

(حـ) الشهادات اليقينية لصدق المعجزة 2: 9 و10

(د) كلمة ختامية 2: 11.

ع 1 (أ) مقدمة تاريخية 2: 1 و2

1 وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. 2 وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ.

تحدثنا هذه المقدمة التاريخية عن زمان المعجزة، ومكانها، والمدعون إليها.

نحن الآن في اليوم الثالث منذ اليوم الذي دعى فيه فيلبس (1: 43)، وفي قرية "قانا الجليل" – غير قانا الفينيقية القريبة من صور – وتعرف الآن باسم "كفر قنة"، قرية ما أصغرها لكن هذه المعجزة قد رفعتها وجعلتها "أشهر من نار على علم". وهي تبعد عن الناصرة أربعة أو خمسة أميال، وبينها وبين الجليل مسيرة ثلاثة أيام – هذا يفسر القول: "في اليوم الثالث" إذاً نحن الآن في اليوم السابع منذ اليوم الذي فيه شهد يوحنا المعمدان للمسيح أمام الوفد السنهدريمي. أسبوع ما أمجده! فهو غرة خدمة المسيح الجهرية، يقابله أسبوع الآلام الذي اختتمت به حياة فادينا على الأرض – وكلاهما أسبوع مجد. لأن المسيح تمجد بالشهادة له كما أنه تمجد أيضاً بالآلام.

وبعد أن أرخى الليل سدوله، اجتمع المدعوون في بيت والد العروس – أو ولي أمرها – حسب عادة اليهود وقتئذ، وكان العريس يحيي المدعوين ويحتفي بهم. أما أم[1] المخلص فكانت قد سبقتهم إلى العرس، بدليل القول: "وكانت أم يسوع هناك" ويغلب على اعتقادنا أنها كانت تتصل بأصحاب العرس بصلة وثيقة. ولعلهم كانوا يرجعون إليها في تدبير ما يلزمهم في العرس. ويستنتج جل المفسرين من عدم ذكر اسم يوسف أنه كان وقتئذ قد توفى.

عدد2.

2 وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ.

المسيح وتلاميذه يدعون إلى الوليمة "ودعى أيضاً.." كان يسوع، وتلاميذه الحديثون – البالغ عددهم نحو ستة – من المدعوين. وقد حضر المسيح وإياهم في وقت متأخر، ربما لأنهم دعوا بعد رجوعهم من السفر (1: 49).

هذه أول مرة في هذه البشارة وصف فيها اتباع المسيح بكلمة "تلاميذ" – وهي تعين صلتهم به كمعلم. (1: 49).

عدد 3

3 وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ».

(ب) الدوران اللذان اجتازتهما المعجزة 2: 3-8

الدور الأول: 2: 3-5. وهو يحدثنا عن المناسبة التي دعت إلى المعجزة، ومن خلاله نرى مجد أم المخلص في:

(1) ما لاحظته: "ليس لهم خمر"

(2) ما طلبته: "قالت أم يسوع له" عدد3

(3) ما سمعته "قال لها يسوع مالي ومالك" عدد (4) ما أوصت به: "قالت أمه للخدام.." عدد5

(1) ما لاحظته أم المخلص. جرت العادة قديماً أن تمتد ليالي العرس حتى تتم الأسبوع (تك 29: 22 قضاة 14: 12). وكان أصحاب هذا العرس من الوسط المستور بالبركة، فمن المحتمل جداً أم مجيء المسيح وتلاميذه أوقع أصحاب العرس في شيء من الارتباك لأن الخمر نفذت أو كادت فلاحظت ذلك أم المخلص ببصرها الثاقب، وحسن تدبيرها.

عدد 4

4 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ».

(2) ما طلبته أم المخلص: "قالت له ليس لهم خمر". لقد عملت أم المخلص كل ما في طاقتها أن تعمل، وهو أن تطلع ابنها القدوس على حقيقة الأمر. وقد تضاربت آراء المفسرين في معرفة قصد مريم بسؤالها. فمن قائل أن أم المخلص أوعزت إليه بطريقة لطيفة أن يغادر العرس هو وتلاميذه لكي لا يوقع أصحاب الوليمة في ورطة الخجل. ويعتقد يوحنا الذهبي الفم أن العذراء أرادته أن يصنع معجزة ليظهر مجدها كأم أمام المدعوين والتلاميذ. ومن قائل أنها قصدت إليه أن يصرف أذهان المدعوين عن الخمر ونفاذها، بعظة منه فيسكرهم بسحر كلامه الذي هو أطيب من الخمر. لكن المستفاد من إجابة المسيح على كلامها أنها تمنت إليه، ومن طرف خفي، أن يظهر قوته الإعجازية التي طالما أحست بها هي، ولمستها، أثناء صمته مدة الثلاثين سنة، وما أعرف الأم بحقيقة مواهب ابنها. ومن قائل أنها طلبت إليه أن يسد الحاجة المطلوبة.

لقد عبرت لنا أم المخلص بقولها: "ليس لهم خمر" عن ماهية الصلاة الحقيقية. التي تقوم برفع أشواق قلوبنا إلى الله من غير أن نملي عليه إرادتنا (في 4: 6). وعلى هذا المثال عينة أرسلت مريم ومرثا إلى يسوع قائلتين: "هوذا الذي تحبه مريض" (11: 3) فكلا الإثنين طلب في صيغة خبر.

(3) ما سمعته أم المخلص: "قال لها يسوع... " الكلمة الأصلية المترجمة "امرأة" لا تنطوي على الجفاء المتضمن في الكلمة العربية. لأن معناها في الأصل هو "يا سيدة" – وهي تقال عادة بنغمة الوقار والاحترام، والرعاية (19: 26). ولكن هل من اللائق أن يقول يسوع لأمه: مالي ولك؟ في الواقع أن مريم أدركت لياقة هذا الجواب لأنها فهمت قصده واقتنعت به وأوصت الخدام أن يطيعوا المسيح بكل دقة. وفي إمكاننا نحن أن نتحقق لياقة هذا الجواب متى ذكرنا أن المسيح قد بدأ الآن خدمته الجهرية كوسيط وفاد. فقد خرج إذاً من حدود تلك النسبة الضيقة التي كان فيها تحت نفوذ أمه بحسب الجسد. وأصبح مستمعاً لصوت الآب السماوي ومصغياً إلى دقات ساعة الأزل (يو 5: 19). ومنذ الآن لا نعود نسمع المسيح يخاطب مريم بالقول: "يا أمي". وربما هذه أولى المرات التي أحست فيها مريم بذلك السيف يجوز في نفسها (لوقا 2: 35). على أنه ليس في هذا الجواب ما يفيد رفض المسيح لطلب أمه، لكنه ينطوي على تأجيل الطلب إلى أن تأتي "ساعته". هذه أولى المرات الثلاث – المذكورة في هذه البشارة – التي فيها أجل المسيح طلباً إلى أن تحين ساعته. والمرة الثانية في (7: 3 و6) لما طلب إليه أخوته أن يذهب إلى العيد، والمرة الثالثة في (11: 5) حين أرسلت إليه الأختان أن يأتي إلى بيت عنيا ليشفي لعازر المريض. وفي كل هذه الثلاث الحالات كانت غاية الطالبين أن يحملوه على إظهار مجده وقدرته قبل مجيء ساعته. ولعله كان يرى في هذه الطلبات أو في بعضها تجربة بأن يظهر مجده في أية ساعة. كأنه جاء إلى الأرض ليصنع مشيئته هو لا مشيئة الآب الذي أرسله.ووجه الخطر في هذه التجارب هو أنها وجهت إليه من المقربين، كأن التجربة أرادت أ، تسخر المحبة لإرادتها ومصلحتها. لكن المسيح أجاب الطلب الأول بعد مرور ساعة أو بعض ساعة، والطلبة الثانية بعد مرور يوم أو بعض اليوم والطلبة الثالثة بعد مرور يومين. وردت كلمة "ساعة" على لسان المسيح عدة مرات (يو 12: 27 و17: 1 ومت 26: 45) وفي بعض هذه المرات تشير كلمة "ساعتي" إلى وقت إظهاره مجده في أعماله وهو في مستهل خدمته الجهرية، وفي البعض الآخر تشير إلى وقت إظهاره مجده في آلامه عند نهاية خدمته على الأرض.

ويستفاد منها بوجه عام، أن كل خطوة خطاها المسيح على الأرض، كانت إتمام لبرنامج معين قد دبر منذ الأزل. لذلك لم يعمل شيئاً قبل أو أنه ولا بعد أوانه، بل كان على الدوام متمماً قصد الآب في وقته الخاص (5: 19).

عدد 5.

5 قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ».

(4) ما أوصت به مريم: "قالت أمة للخدام. مهما قال لكم فافعلوه". رأت مريم في جواب المسيح بارقة أمل، بل شبه وعد بأنه سيصنع أمراً عجيباً. ولشدة تقديرها لهذه الشخصية العجيبة تذرعت بالصبر، وأوصت الخدام، بأن يكونوا على أهبة الاستعداد لتنفيذ كل أمر يطلب منهم. إن في كلامهما صبراً، وإيماناً وثيقاًَ، وتسليماً تاماً، وطاعة من غير قيد ولا شرط "مهما قال لكم فافعلوه". هذه هي الشروط المستديمة التي يجب أن تتوفر في البشر حتى يتمكن المسيح من عمل معجزة بينهم.

عدد 6 الدور الثاني 2: 6 – 8

في هذا الدور نجد عناصر المعجزة:

(1) عناصر طبيعية – الأجران عدد 6، والماء عدد 7.

(2) العامل الإلهي والرئيسي: المسيح الآمر عدد 7 و8.

(3) العامل البشري أو الثانوي: الخدام المطيعون عدد 7 ،8.

6 وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ حَسَبَ تَطْهِيرِ الْيَهُودِ يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثلاَثَةً.

(1) العناصر الطبيعية – الأجران والماء عدد 6 و7. كان في إمكان المسيح أن يصنع هذه المعجزة من غير أن يستخدم شيئاً من المواد الأولية. أليس هو الخالق الذي أبدع كل شيء من العدم؟ لكنه لا يتغاضى عن الموارد الطبيعية لأنها ملكه وخادمة له، وهو الحكيم الذي لا يلجأ إلى استخدام قوة خارقة إلا بعد نفاذ القوات الطبيعية. من أجل هذا لم يشرع المسيح في عمل هذه المعجزة إلا بعد نفاذ الخمر الطبيعية. ولئلا يقال فيما بعد أن الخمر كانت محفوظة في مكان معين، ولكي يعد قلوبهم لانتظار معجزته. فلما فرغت كؤوس خمرهم، امتلأت كؤوس رجائهم بانتظار عطية الله. أما العناصر الطبيعية التي استعملها المسيح في هذه المعجزة فهي: الأجران، والماء. "وكانت ستة أجران". كانت تلك الأجران موضوعة في دهليز الدار، ليغتسل منها المدعوون حسب عادة الفريسيين (مت 15: 2 ومر 7: 1 – 4 ولو 11: 38) وربما كانت موضوعة أيضاً لأجل غسل الأباريق والأواني (مر 7: 3 و4). ولا يبعد أن الكلمة: "حسب تطهير اليهود" تنطوي على إشارة ضمنية إلى التطهير المسيحي (3: 25 وعب 1: 3 و2 بط 1: 9). ويظهر من عدد 8 أنها كانت موضوعة في مكان لا يراها منه العريس والمدعوون. وكانت مصنوعة من حجر، لتكون غير قابلة للكسر. "كل واحد منها كان يسع مطرين أو ثلاثة" – أي أكثر من مطرين وأقل من ثلاثة. والمطر يعادل نحو 80 رطلاً أو 35 لتراً.

عدد 7 و8

7 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «امْلَأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلَأُوهَا إِلَى فَوْقُ. 8 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا.

(2) العامل الإلهي والرئيسي – المسيح الآمر: "قال لهم يسوع. املئوا الأجران ماء". لم يفه المسيح بصلاة لكي يتمم هذه المعجزة، ولا استخدم فيها قوة ذراعه، لكنه أجراها بمجرد كلمة منه ألقاها إلى الخدام على دفعتين – أولاهما "أن يملأوا الأجران ماء" – لكي يختبر مقدار طاعتهم عدد7، والثانية "أن يقدموا الخمر إلى رئيس المتكأ" لكي يذوق الرئيس فيؤمن ويشهد. إن المسيح لم يغض الطرف عن العوامل البشرية – "الخدام"، والطبيعة – "الماء". فهو لا يعمل لنا ما نقدر نحن أن نعمله لأجل أنفسنا.

(3) الخدام المطيعون: كما كان أمر المسيح على دورين، كذلك كانت طاعة الخدام: "فملأوها إلى فوق" عدد7،.. "فقدموا" عدد8، كانت طاعة الخدام لازمة لإتمام هذه المعجزة لزوماً جوهرياً، فهي المجرى الذي فيه سرت قوة المسيح الآمر. لأن الطاعة الحقيقية هي محك الإيمان الحقيقي. ومع أن طاعة الخدام كانت طاعة تامة، لكنها لم تكن طاعة عمياء، بل كانت غاية في حدة البصيرة، لأنها رأت ببصيرتها ما لا يرى.

فرأت خمراً حين كان أمامها مجرد ماء. فقدمتها للمدعوين. وعند شروعهم في تقديمها تمت المعجزة (انظر لوقا 17: 14).

عدد 9 و10

9 فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْراً وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ   لَكِنَّ الْخُدَّامَ الَّذِينَ كَانُوا قَدِ اسْتَقَوُا الْمَاءَ عَلِمُوا   دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ. 10 وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ».

(ج) الشهادات اليقينية لصدق المعجزة 2: 9 و10 يقدم لنا هذان العددان ثلاث شهادات ناطقة بصدق المعجزة – وعلى فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل حجة – أولاها شهادة الخدام لحقيقة المادة قبل التحول – فأنهم كانوا يعلمون أنها كانت مجرد ماء – لا أكثر ولا أقل. والثانية هي شهادة رئيس المتكا لحقيقة المادة بعد التحول "فلما ذاق" عدد 9. "إنما يضع الخمر الجيدة" عدد 10، وفي قوله هذا. لم يكن واصفاً حقيقة حال، بل كان متكلماً بمثل، ومقرراً حقيقة عامة. فلا يستنتج من هذا أن الذين كانوا في العرس "سكروا". إن قول رئيس المتكأ: "الخمرة الجيدة" شهادة خالدة لحقيقة بركات المسيح. فهو يقدم لأتباعه، صلباناً، وأشواكاً، وآلاماً، في هذه الحياة، لكنه يقدم لهم في النهاية أكليل المجد والحياة. بخلاف الشيطان الذي يعد بالسعادة العاجلة التي تختتم بالشقاوة الآجلة.

وثالث الشهادات هي شهادة العريس الذي دعا إليه رئيس المتكأ

عدد 11

11 هَذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تلاَمِيذُهُ.

(د) كلمة ختامية: "هذه بداية الآيات...". وفي هذا العدد يصف البشير هذه المعجزة بأربعة أوصاف.

(1) أولها يصف المعجزة من حيث ترتيبها – "هذه بداية الآيات صنعها يسوع". فهي ليست أولى معجزات قانا الجليل فقط، بل هي أولى معجزات المسيح على الإطلاق.

(2) ثانيها يصف المعجزة من حيث مكانها: "قانا الجليل". (انظر اش 8: 20 – 9: 2).

(3) ثالثها يصف المعجزة من حيث القصد منها: "بداية الآيات... أظهر فيها مجده" – هذه أول مرة نعثر فيها على كلمة "آية" في هذه البشارة. وهي تصف المعجزة بالنسبة إلى القصد منها لتكون برهاناً على صدق رسالة المسيح، وعلامة لحقيقة لاهوته. وسميت أحياناً "عجيبة" إشارة إلى تأثيرها على أذهان المشاهدين، وسميت أحياناً أخرى: "قوات" إشارة إلى أنها تفوق قوة البشر وسميت أيضاً: "معجزة" إشارة إلى ما تعجز القوة البشرية عن إتيانه. إذاً لم يكن القصد من هذه المعجزة، إشارة إعجاب الذين في العرس، بل كانت آية إظهار مجد المسيح – أي مجد شخصيته السرمدية، وبنوته الممتازة، وقدرته الفائقة. هذا برهان جديد على إثبات لاهوت المسيح. لأن المعجزات التي أظهرها موسى وغيره، أظهرت مجد "يهوه" (خروج 16: 7) لكن معجزات يسوع أظهرت مجد المسيح. فهو إذاً "يهوه"، "ويهوه" هو. ومن المهم أن نلاحظ الفرق بين نظرة يوحنا البشير إلى معجزات المسيح وبين نظرات سائر البشيرين إليها. يوحنا ينظر إلى المعجزات في صلتها بقدرة المسيح ومجده. وينظر إليها سائر البشيرين، في صلتها بعطف المسيح على الجماهير.

(4) رابعها يصف المعجزة في تأثيرها على التلاميذ: "فآمن به تلاميذه". هذا إيمان متدرج. أول درجة منه ظهرت في 1: 37 والدرجة الثانية في 1: 39 وفيما بعد نرى درجات أرقى، لأن الإيمان الحي يبدو بذرة، ثم ينمو فيصير شجرة، ثم يزهر، وينضج ثمراً.

مواجهة بعض الاعتراضات

قد أثارت هذه المعجزة اعتراضات كثيرة: فمن قائل إنها معجزة تنعم لا معجزة ضرورة كسائر معجزات المسيح التي صنعها ليشفي مريضاً أو ليقيم ميتاً، أو ليشبع جائعاً. ودفعاً لهذا الاعتراض نقول: إنها ليست معجزة تنعم بل معجزة محبة مثلثة الجوانب. أحدها يتجه نحو العريس الذي تورط بسبب كثرة المدعوين إلى الوليمة. وجانبها الثاني نحو الأم العذراء التي أراد الابن أن يجيبها إلى طلبها قبل أن يغادرها إلى عمله الرسمي، وجانبها الثالث نحو شخصه إذ عمل هذه المعجزة فأظهر بها مجده.

ومن قائل أن في إقدام المسيح على تحويل الماء إلى خمر، تشجيعاً للناس على السكر. ورداً على هذا نقول: إن الخمر التي صنعها المسيح لم تكن "مسكراً" بل كانت منبهة "ومفوقة" – بدليل شهادة رئيس المتكا التي نطق بها بكل صحو بعد أن شرب منها. أنها لم تكن خمراً بالمعنى المعروف، بل كانت كعصير العنب المقطوف حديثاً من الكرمة، أخذها الناس من عرس قانا الجليل من يد المسيح القادر كما يأخذونها كل يوم من يد الله الباري. لأنما عمله المسيح في هذه المعجزة بتحويله الماء الذي كان في الستة الأجران إلى خمر، هو نفس ما يعمله كل يوم في دائرة الخلق – والعالم خلق في ستة أيام – بتحويله مياه الأمطار، والبحار، إلى عصير عنب في قلب الكرمة. إنما الشيء الوحيد الذي به سكر المدعوون هو "جمال مجد المسيح" – هذا هو السكر الحلال.

ويلوح لنا أن اعتراض هؤلاء بقولهم إن المسيح عمل هذه المعجزة ليشجع الناس على السكر، لهو بمثابة القول أن الله خلق الكروم ليشجع الناس على السكر. أو أن الله خلق النار ليشجع الناس على الاحتراق بها، أو أن الله خلق بعض الأدوية السامة ليغري بها الناس على الانتحار.

يوجد ما يسمى "بالخمر" التي هي عصير العنب المختمر – كما يختمر عجين الخبز مثلاً – وهذه كان اليهود يتعاطونها، وما يسمى بـ "المسكر" الذي يصنع بواسطة عملية التقتير. ويقول يوسيفوس في تاريخه، أن اليهود في وقته كانوا متصفين بالاعتدال في شربهم، وكانوا لا يعرفون إلا عصير العنب. ويؤيد هذا القول التاريخي ما نلاحظه في كتابات بولس الرسول. لأن الكلمات التي خاطب بها السكيرين إنما وردت في رسائله إلى الأمم لا إلى اليهود (رو 13: 13 و 1كو 5: 11 وغل 5: 21 وأفسس 5: 18 و1تس 5: 7). وتدعمه أيضاً كلمات بطرس الرسول (1 بط 4: 3).

رب الهيكل في هيكل الرب

2: 12 – 22

أولاًً: الرب يأتي إلى هيكله 2: 12 و13

ثانياً: رب الهيكل يطهر هيكل الرب 2: 14 – 16.

ثالثاً: تأثير حادثة تطهير الهيكل 2: 17 – 22.

عدد 12 و13.

12 وَبَعْدَ هَذَا انْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتلاَمِيذُهُ وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً. 13 وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.

أولاًًً: السيد يأتي إلى هيكله[2] 2: 12 و13. ودعنا الآن أول معجزة صنعها المسيح لنرحب بمعجزة لا تقل عنها شأناً – إذا جاز التفاضل بين المعجزات. بمعجزته الأولى أظهر مجده، وبهذه المعجزة بين سلطان لاهوته. المعجزة الأولى، تمت في قرية – قانا الجليل، وهذه تمت في عاصمة اليهود – أورشليم. في الأولى، رأينا رجل الأحزان يسكب ابتسامة بريئة في كأس العروسين والمدعوين، والآن نرى رب الهيكل يسكب سائل غضبه في كؤوس مدنسي هيكله المقدس.

بمعجزته الثانية ابتدأ خدمته الجهرية في أورشليم، وبمعجزة من نوعها اختتم خدمته، وبهما أظهر سلطان رسالته باعتبار كونه رب الهيكل (ملاخي 3: 1 – 5)، وبين طبيعة رسالته – باعتبار كونه المطهر والمقدس (لوقا 19: 45 ومت 21: 12 و13 ومرقس 11: 15 – 19).

ولقد اختار المسيح لهذه المعجزة أقدس مكان، وأنسب زمان – أورشليم في عيد الفصح – حين تكون المدينة مغمورة بسيل من الزائرين، والهيكل مزدحماً بمواكب الحجاج.

"وبعد هذا" - بعد عرس قانا الجليل، رجع المسيح إلى الناصرة. والظاهر أنه منذ دخوله إلى ربوع خدمته الجهرية، ودّع وطنه الأرضي ميمماً كفرناحوم الرابضة على شاطئ بحر الجليل كما "يربض قطيع الجزائر الصادرة من الغسل" (نش 4: 2). هناك كان يسكن جميع تلاميذه ما عدا نثنائيل. ومن "قرية المعزي" اتخذ الفادي لنفسه وطناً أرضياً آخر، ومركزاً لدائرة عمله العتيد. أما مريم أمه، واخوته وتلاميذه فقد "انحدروا" معه إليها - الانحدار هنا جغرافي. "وأقاموا هناك أياماً ليست كثيرة" - لأن الفصح كان يدنو منهم بخطوات حثيثة، وكان هو ينوي أن يحضر ذلك العيد التاريخي في العاصمة اليهودية. ومع أنه منذ أن بلغ الثانية عشرة، اعتاد أن يذهب كل سنة إلى أورشليم مع الحجاج الجليلين، إلا أن ّذهابه إليها في هذه المرة كان يمتاز عنه في المرات السابقة في أنه صعد إليها الآن باعتبار كونه مسيح الرب، ورب الهيكل- "والصعود" هنا جغرافي أيضاً.

عدد 14

14 وَوَجَدَ فِي الْهَيْكَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً وَالصَّيَارِفَ جُلُوساً.

ثانياً: رب الهيكل يطهر هيكل الرب 2: 14-16. سرعان ما بلغ المسيح المدينة أورشليم حتى قصد تواً إلى الهيكل. وهنالك، عند مدخل الهيكل- في دار – الأمم - استوقفه منظر خاص، إذ "وجد الذين كانوا يبيعون بقراً، وغنماً، وحماماً، والصيارف جلوساً". ومع أن الحاجة كانت تقضي بوجود مثل هذه الذبائح في مكان قريب من المذبح - فالبقر لذبيحة الشكر، والغنم لذبيحة الفصح وذبيحة التطهير، والحمام لذبائح الفقراء. وكان "الصيارف" موجودين يبدلوا العملة الأممية "النجسة" بعملة يهودية "طاهرة"، لتضم إلى خزائنهم "المقدسة". وقد نسوا أن العملة اليهودية لا تقوى على تقديس الجيوب والخزائن التي دنستها أموال الظلم. فليس من المهم أن تكون العملة يهودية أو أممية، بل يجب أن تكون مزكاة نقية.

إن وجود هؤلاء الأشخاص وهذه الأشياء في مكان قريب من الهيكل، شئ، ووجودها داخل الهيكل شئ آخر. ولم يدخلها إلى الهيكل سوى جشع رؤساء الكهنة، الذي كان يختبئ تحت ستار حبهم المصطنع في إراحة الحجاج - وما أقبح الشر إذا كان مموهاً بطلاء من الصلاح الباطل. هذا أشرّ شر، هذا هو الخطية خاطئة. على أن قبح هذه الخطية ينكشف لنا متى ذكرنا أن رؤساء الكهنة كانوا يبيعون تلك الحيوانات وهم عالمون أنها ستعود إليهم ربحاً حلالاً بعد الذبح. هذا ربح خبيث لأنه مركب - فائدته مائة في المائة - هذا هو الخسران المبين.

عدد 15 و 16

15 فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ الْجَمِيعَ مِنَ الْهَيْكَلِ اَلْغَنَمَ وَالْبَقَرَ وَكَبَّ دَرَاهِمَ الصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. 16 وَقَالَ لِبَاعَةِ الْحَمَامِ: «ارْفَعُوا هَذِهِ مِنْ هَهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ».

المسيح يطرد الجميع بسوط من حبال: رأى المسيح هذا المنظر، وسمع الضوضاء التي تحدثها عادة أصوات الحيوانات المختلفة، تمازجها أصوت البائعين والمشترين، ويتخللها رنين الفضة والذهب، فهاله ما رأى وما سمع، وانبعث من عمق قلبه، غيرته المتقدة على هيكله، الذي كان يحب أن يكون مرفأً هادئاً للنفس تلجأ إليه كلما ضج العالم حولها، "فصنع سوطاً من حبال" - والكلمة الأصلية هي نفس الكلمة العربية الدارجة "فرقلة" التي يستعملها الحارث المصري إلى اليوم - وقد كانت في يد المسيح رمزاً للسلطان لا سلاحاً مادياً. "فطرد الجميع من الهيكل: الغنم والبقر وكب دراهم الصيارف وقلبَ موائدهم". على أن غضب السيد المقدس كان مشبعاً بالحنو والرفق، لأنه أشفق على الحمام الوديع الهادئ، واكتفى بأن قال للباعة: "ارفعوا هذه من هاهنا. ولا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة". وفد نعجب إذ نرى أن هذا الجمع الحاشد المدفوع بحب المادة لم يقو على الوقوف أمام المسيح. لكن تعجبنا يزول متى ذكرنا سلطان المسيح الذي كان يحف به وجبن مرتكبي الخطايا. إن للحق صولة لا يقوى الباطل على مواجهتها مهما كثر رجاله. وإن الضمير يصيّر جميع الخطاة جبناء.

عدد 17.

17 فَتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي».

ثالثاً: تأثير حادثة تطهير الهيكل 2: 17-22.

(ا) تأثير الحادثة على التلاميذ2: 17 و22 (ب) تأثيرها على اليهود 2: 18-21.

(ا) تأثير الحادثة على التلاميذ: "فتذكر تلاميذه" وردت الكلمة "تذكر" في عدد 17 و22. في أولهما ترينا تأثر التلاميذ من عمل المسيح. وفي الثاني ترينا تأثرهم من كلام المسيح. في الحالة الأولى تذكروا كلمة تنبأ بها نبي قديم عن المسيح. وفي الثانية تذكروا كلمة قالها المسيح عن نفسه فآمنوا. ولا يفوتنا أن نذكر أن إيمان التلاميذ بالمسيح وبكلامه كان يتدرج وينمو من حال إلى حال أفضل. وقد أرانا يوحنا البشير في مواضع كثيرة أن التلاميذ لم يفهموا أقوال المسيح إلا بعد مرور وقت على النطق بها ( يو 7: 39 و12: 33 و21: 19). على أن تفّهم التلاميذ لكلام المسيح كان ينمو ويتزايد كلما ازدادوا تعرفاً بشخصه.

عدد 18.

18 فَسَأَلَهُ الْيَهُودُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هَذَا؟».

(ب) تأثير حادثة تطهير الهيكل على اليهود 2: 18 – 21.

تنزل الأمطار على الأرض المخصبة فتزيدها غنى وخصباً، وعلى الأرض المحجرة تزيدها صلابة وتحجراً. كذلك أعمال المسيح بوجه عام، وحادثة تطهير الهيكل بنوع خاص. حادثة واحدة شهدها التلاميذ فزادتهم إيماناً بفاديهم، وشهدها اليهود فكانت مثيرة لشكوكهم الكامنة. "فأجاب اليهود وقالوا له: "أية آية ترينا حتى تفعل هذا". يراد "باليهود" هنا – وفي أغلب المواضع في هذه البشارة – أصحاب السلطة الكهنوتية القيمين على الهيكل وسائر الترتيبات اليهودية الطقسية، وقد نصبوا أنفسهم لمناوأة المسيح. رأى أولئك اليهود أن المسيح، بتطهيره الهيكل، قد اتخذ لنفسه حق "مسيا" الذي تنبأ عنه ملاخي (ملا 3: 1) "ويأتي بغتة السيد إلى هيكله" فطلبوا منه آية يثبت بها مسيحيته.

عدد 19.

19 أَجَابَ يَسُوعُ: «انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ».

جواب المسيح: "أجاب يسوع وقال لهم". لم يرفض المسيح طلبهم، بل أجابهم على الفور، جواباً كالبرق الخاطف فبهرت عيونهم عن أن ترى حقيقة مرماه، إذ استعمل شيئاً من "التورية" – وهي

استعمال كلمة واحدة تحتمل معنيين فأكثر. إذ قال لهم: "انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه"، قاصداً بجوابه هذا أن يريهم أن أقوى آية لمسيحيته هي آية صلبه وقيامته. ومن الغريب أن الكلمتين اللتين استعملها المسيح "انقضوا"، "وأقيمه" تستعملان عادة للهيكل المبني بالأحجار، ولهيكل الجسد سواء بسواء (2 كو 5: 1، رو 4: 25). وفي الواقع، ليس من السهل أن يصل المرء بين الاثنين – فكلاهما مرتبط بالآخر تمام الارتباط. لأن نقض هيكل اليهود كان نتيجة صلبهم المسيح. ويؤيد هذا قول دانيال النبي (دانيال 9: 24 – 26) كذلك إقامة جسد المسيح مرتبطة تمام الارتباط بإقامة هيكل جديد غير الهيكل الذي بناه سليمان ورممه زربابل، وأعاد بناءه هيرودس. فنقض جسد المسيح هو نقض الهيكل ولكن بصورة أخرى، ولم تتوسط بين الحادثتين سوى مدة يسيرة، أمست الأمة اليهودية في أثنائها جثة تحوم فوقها النسور (مت 24: 28 ولو 17: 38).

إن نظرة إجمالية إلى جواب المسيح ترينا أنه يقع ي شطرين – يحمل كل منها معنى رمزياً: "انقضوا" – وفيه رمز إلى طبيعة خدمتهم – خدمة هدم، وقتل. وشطره الثاني عائد على نفسه: "وأنا أقيمه" وفيه رمز إلى طبيعة خدمته – خدمة بناء، وإحياء.

عدد 20

20 فَقَالَ الْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟».

رد اليهود: "فقال اليهود... " كان اليهود ماديين فلم يفهموا من كلامه سوى معناه المادي – كذلك كانت عادتهم في كل ظرف آخر. فلما حادثهم عن خبز الحياة ظنوه يكلمهم عن الخبز المادي. وقد لازمهم عدم

فهمهم لكلام المسيح حتى ساعة صلبه، فحاكوا من كلامه هنا خيوط شكوى وهمية قدموها ضده وقتئذ (مت 26: 61 ومر 14: 57 و58).

عدد 21 و22.

21 وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. 22 فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ تَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكلاَمِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ.

كلمة تفسيرية: إن عدم فهمهم لكلامه قد أثار فيهم احتجاجاً ينم عن تصديق، يمازجه شيء من السخرية: "في ست وأربعين سنة". كانوا هم يقصدون الهيكل الذي أعاد بناءه هيرودس. "وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده".

ومن المؤسف أيضاً أن التلاميذ أنفسهم – وقد كانوا إلى الآن جسدين وغير ممتلئين من الروح القدس – لم يفهموا قصد المسيح من كلامه هذا إلا بعد قيامته من الأموات. "لأن الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد، لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد". ولأن الحقائق لا ترى كما هي إلا في نور إتمامها.

الإيمان الذي لا يؤمن به المسيح

2: 23 - 25

"آمن كثيرون باسمه.... لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه".

كما أن نقطة واحدة من البحر الخضم المتسع، تحوي كل العناصر التي تتكون منها كل مياه البحر مجتمعة معاً، كذلك في هذه الصورة الصغيرة المرسومة أمامنا بكل دقة، نرى المزايا المتصفة بها كل بشارة يوحنا: من آيات، وشهادة للآيات، وإيمان ناتج عن شهادة الآيات.

عدد 23.

23 وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ إِذْ رَأَوُا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ.

كلمة تاريخية: أما الظروف المحيطة بهذه الصورة فهي مثلثة:

(أ) المكان: "أورشليم".

(ب) الزمان: "في عيد الفصح".

(ج) الحالة النفسية التي كانت عليها الجماهير: "في العيد" – وفي هذا الظرف، تجتمع عادة الجماهير الغفيرة، الملتهبة قلوبهم بالحماس الديني والوطني.

أما موضوع هذه الصورة التي أمامنا فهو إيمان الكثيرين باسم المسيح، مقابل عناد رؤساء الكهنة الذي أظهروه تجاه المسيح في الهيكل. على أن هذا الإيمان كان ظاهرياً، سطحياً، لا شيء فيه من الصلة الروحية النفسية التي تربط النفس بفاديها. أما موضوع إيمانهم فهو أعمال المسيح لا شخصه. فكان أساسه ما رأوه من آيات لا ما خبروه في الفادي من بديع الصفات. كان إيمانهم ابن ساعته، ولعله ذهب لساعته - كيقطينة يونان.

عدد 24

24 لَكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ.

عدم إيمان المسيح بإيمانهم. إن قوماً هذا إيمانهم لم يأتمنهم على نفسه. لأنهم في إيمانهم لم يأتمنوا المسيح على أنفسهم بل كان إيمانهم قاصراً على تصديقهم لما سمعوا ورأوا. ولأن إيمانهم كان نظرياً لا عملياً. فالإيمان الحقيقي يتخطى التصديق حتى يبلغ درجة تسليم النفس لله تسليماً تاماً من غير قيد ولا شرط. لذلك لم يأتمنهم المسيح على نفسه أو بعبارة أخرى: لم يكن له إيمان بإيمانهم. "لأنه كان يعرف الجميع" – بحكم لاهوته الذي يحيط علماً بكل شخص وكل شيء.

عدد 25

25 وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ

المسيح العليم "ولأنه لم يكن محتاجاً" – لأن فيه كل كنوز الحكمة و العلم – "أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان". – كيف لا وهو خالق الإنسان. وهل تخفى على المخترع أية قطعة من آلته؟ فكم بالحري الخالق؟!

ما أجل حكمة الفادي التي أظهرها في عدم ائتمان الناس على نفسه، مع أنه هو الذي علمنا أن لا نسيء الظن في الناس. لكن سوء الظن شيء والتمييز شيء آخر.

 



[1]  لزيادة الإيضاح اطلب "شرح بشارة لوقا" صفحة 497 – 499 للمؤلف.

[2]   لزيادة الإيضاح اطلب "شرح بشارة لوقا" صفحة 497 – 499 للمؤلف.