الرئيسية كتب للقراءة

05 اَلأَصْحَاحُ الْخَامِسُ

المعجزة الثالثة: المسيح مجدد الحياة

 بدء الصراع بين المسيح ورؤساء اليهود

يفتتح هذا الأصحاح، فصلاً جديداً في خدمة المسيح على الأرض. إلى الآن، رأينا المسيح يواجه شخصيات منفردة، قد تمثل فريقاً من القوم: في أورشليم، واليهودية، والسامرة، والجليل. وفي كل هذه الشخصيات لمحنا شعاعاً بل أشعة من نور الإيمان الصحيح. وها نحن نرى أنفسنا الآن أمام طلائع الصراع العنيف الذي انتهى بالصلب، وتوج بالقيامة. منذ الآن سنرى الإيمان وعدم الإيمان يتمشيان معاً كما في صفين متقابلين، فعلى قدر ما يكون النور باهراً، يكون الظلال المتكون منه قاتماً. إن أعمال المسيح وأقواله المسطورة في الأصحاحات الآتية، صارت تحريضاً للناس على أن يعملوا أعمالاً وأن يقولوا أقوالاً، ما كانوا يعملونها ويقولونها لولا أعمال المسيح وأقواله.

ومن الحقائق التي يقطر لها القلب لوعة وأسى، أن المكان الذي كان ساحة لهذا الصراع الدموي، هو أورشليم – أقدس الأمكنة اسماً، وأتعسها فعلاً. وأن الأوقات التي تدللت على أحضانها هذه المأساة المفجعة، هي أعياد اليهود – مواسم ما أشبهها بالمآتم!. وأن الأعمال التي استفزت جرائم اليهود، هي معجزات الرحمة التي أتاها المسيح: - معجزة شفاء مريض بيت حسدا

 (ص 5)، ومعجزة تفتيح عيني المولود أعمى (ص 9)، ومعجزة إقامة لعازر من الموت (ص 11). وهكذا يستحيل الدسم الطيب، في الأفواه الملوثة، إلى سم زعاف. وهكذا تتولد النقمة من النعمة، على أحضان الحقد والحسد والبغضاء.

في هذا الأصحاح، نرى المسيح مجدد الحياة. وفي الأصحاح السادس، نلمح المسيح مقيت الحياة ومشبعها. وفي الأصحاح السابع، نجد المسيح نبع الحياة. وفي الأصحاح الثامن، نلتقي بالمسيح هادي الحياة. وفي الأصحاح التاسع نشاهد المسيح نور الحياة. وفي الأصحاح العاشر، نلحظ المسيح رائد الحياة وقائدها. وفي الأصحاح الحادي عشر، نقف وجهاً لوجه أمام المسيح الذي هو حياة الحياة وواهب الحياة لساكني القبور.

ينقسم هذا الأصحاح إلى قسمين رئيسيين:

أولاً: معجزة إبراء مريض بركة بيت حسدا 5: 1 – 16.

ثانياً: الحديث الذي فاه به المسيح تعليقاً على هذه المعجزة 5: 17– 47

أولاً: معجزة إبراء مريض بركة بيت حسدا. 5: 1 – 18. يحدثنا هذا الفصل عن: (أ) المعجزة في ذاتها 5: 1 – 9 (ب) أثرها المباشر 5: 10 – 18.

(أ) المعجزة في ذاتها. 5: 1 – 9. تتضمن هذه الأعداد وصفاً سباعياً للمعجزة:

(1) زمانها بوجه عام 5: 1 (أ).

(2) مكانها على وجه التعميم 5: 1 (ب).لِلْيَهُودِ

(3) مكانها على وجه التخصيص 5: 2.

(4) ملابساتها 5: 3 و4.

(5) الرجل الذي تمت فيه المعجزة.

(6) الدرجات التي سارت عليها 5: 6 – 8

(7) زمانها 5: 9.

عدد 1.

1 وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِلْيَهُودِ فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.

زمانها بوجه عام: "وبعد هذا كان عيد" 5: 1 (أ). قوله: "بعد هذا" يربط هذا الأصحاح بما قبله، من حيث الزمن، والصلة. أما الزمن الذي توسط بين الأصحاحين، فليس من الميسور معرفة مقداره، إلا بعد تعيين العيد المقصود بقوله "كان عيد".

أهو عيد الخمسين كما قال يوحنا فم الذهب، وكيرلص الإسكندري؟ أم هو عيد الفصح كما ارتأى ايريناوس ولايتفوت؟ أم هو عيد المظال على حد قول إيوالد؟ أم هو عيد الكفارة كما ظن كاسباري، أم هو عيد الفوريم كما اعتقد جودي وماير ومن إليهما من المفسرين؟؟؟

إن ورود كلمة "عيد" مجردة من أدوات التعريف، دليل على أنها لا تشير إلى أحد الأعياد الرئيسية التي اعتاد البشير أن يذكرها بالذات: فهي لا تعني عيد الفصح (2: 13 و6: 3)، ولا عيد المظال (7: 2). ولا يحتمل أنها تشير إلى عيد الخمسين لأن هذا لم يكن نكرة بين الأعياد. وبما أن حوادث الأصحاح السابق وقعت في شهر ديسمبر (4: 35)، وحوادث الأصحاح التالي تمت في شهر إبريل (6: 4)، فمن الطبيعي، أن يكون هذا العيد الواقع بين هذين التاريخين، هو عيد الفوريم الذي يحتفل به اليهود في مارس عادة، ذكرى لنجاتهم من مكيدة هامان، بوساطة الملكة استير.

ولم يكن لهذا العيد، نفس الاعتبار الذي كان للثلاثة الأعياد الرئيسية في نظر اليهود، لأنه لم يوضع برسم إلهي، لذلك اكتفى البشير بأن وصفه بكلمة نكرة – "عيد".

(2). مكانها على وجه التعميم 5: 1 (ب): "فصعد يسوع إلى أورشليم" – الصعود هنا جغرافي لأن أورشليم مرتفعة – فهي مبنية على جبل.

عدد 2.

2 وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ.

(3) مكانها على وجه التخصيص 5: 2 "وفي أورشليم عند باب الضأن بركة يقال لها بالعبرانية بيت حسدا، لها خمسة أروقة". في هذا العدد يصف البشير تلك البركة وصفاً مثلثاً. (أ) في موقعها: "عند باب الضأن" كان هذا الباب على مقرب من الهيكل، في جهة المشرق. وغالباً سمي كذلك، لأن غنم الذبح كانت تدخل منه إلى الهيكل. (ب) في اسمها: "يقال لها بالعبرانية بيت حسدا" – ومعناها "بيت الرحمة"، ويعتقد بعض المفسرين أن الكلمة العبرية معناها: "بيت الأروقة". فالمعنى الأول يكنى به عن الرحمة التي كان ينالها المرضى بالاستشفاء في تلك البركة. والمعنى الثاني يرمز به على الأروقة التي كانت مقامة عليها. والمعنى الأول هو الأصوب.

ليس من الممكن تعيين هذه البركة في وقتنا الحاضر. وربما هي المعروفة الآن: بـ"نبع العذراء" الذي يجري ماؤه في قناة تحت الأرض إلى بركة سلوام، وتسمى أيضاً: "بركة الملك" (نح 2: 14). (ج) في بنائها: "لها خمسة أروقة" – الأرجح أنها كانت مبنية حول البركة ليستريح فيها المرضى الذين كانوا يقصدونها للاستشفاء. وما أكثر أمثالها في عصرنا الحاضر في الهند وفي بلاد العرب، وفي حلوان والإمام الشافعي بمصر.

عدد 3.

3 فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ الْمَاءِ.

(4) ملابساتها: "في هذه كان مضجعاً جمهور كثير من مرضى...." كانت مياه هذه البركة غنية بالخواص المعدنية، وإلى هذا تعزى قوتها الشافية، التي كان يقصدها جمهور كثير من فرائس الأمراض المزمنة. ويقول يوسابيوس إن مياه تلك البركة كانت في عصره محمرة مما يدل على أنها كانت تحتوي على جانب عظيم من المواد الحديدية والكبريتية. "العسم" – هم المصابون بجفاف في مفاصل اليدين والرجلين ويعرف مرضهم الآن بداء النقرس. "يتوقعون تحريك الماء" – هذا دليل على أن الخواص المعدنية الكامنة في مياه البركة، كانت تنتعش بتحريكها. ويعتقد المفسرون أن ماء تلك البركة كان يجري إليها من عين دورية، يجري ماؤها عادة بهدوء واعتدال، وأحياناً يتدفق ويجري بشدة، فتطفو رواسبه وتعلوها رغوة خاصة. ويقو الدكتور ادي إن مثل هذا الماء كثير في الأرض المقدسة مثل "نبع عنجر" في البقاع قرب بعلبك، وفوار "دير الحمراء" قرب قلعة الحصن. وعين منبج في إقليم البلان، شرقي "بيت جن"، وماؤها يجري إلى النهر الأعوج. و"عين العذراء" التي يرجح بعضهم أنها "بركة بيت حسدا". (قد لاحظ وستكوت بعد البحث والاستقراء أن هذا الجزء الأخير من عدد 3، وعدد 4، غير موجود في أقدم النسخ الخطية).

عدد 4.

4 لأَنَّ ملاَكاًكَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاًبَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ.

جملة تفسيرية معترضة: "لأن ملاكاً كان ينزل أحياناً..." تحدثنا هذه الكلمات عن الاعتقاد الذي كان شائعاًً بين جمهور العامة بما فيهم المستشفين، لا عن اعتقاد البشير نفسه. ومن الطبيعي أن يعتقد العامة بمثل هذا الاعتقاد، لأن سواد الناس، في كل مكان، اعتادوا أن ينسبوا الخيرات التي يجهلون مصدرها إلى الملائكة الأخيار.

عدد 5.

5 وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاَثِينَ سَنَةً.

(5) الرجل التي تمت فيه معجزة الشفاء. "وكان هناك إنسان..." هذا هو بيت القصيد في هذه المعجزة، إذا استثنينا المسيح. إن الثماني والثلاثين سنة التي قضاها هذا الرجل رازحاً تحت المرض، تنبئنا باليأس الذي استحوذ عليه طوال هذه المدة التي قد يكون من السهل النطق بها. ولكن ما أصعب وما أمر اختبارها! استنتج بعض المفسرين من تواق مدة مرض هذا الرجل، مع المدة التي قضاها بنو إسرائيل في البرية، إن هذا الرجل يرمز إلى الأمة الإسرائيلية، التي كانت مصابة بالشلل الروحي والأدبي، عند مجيء المسيح.

على أن هذا الرأي لا يخرج عن كونه ضرباً من الخيال. إن الثماني والثلاثين سنة هي عمر كامل، وهي كافية للتدليل على أن المرض عديم الشفاء فهي بمثابة القول: "أعمى منذ ولادته" (9: 1).

(6) الأدوار التي سارت عليها المعجزة 5: 6 –8 لقد سارت هذه المعجزة على ثلاثة أدوار: أحدها إعدادي (عدد 6)، والثاني تنفيذي (عدد 8)، يصل بينهما استعداد الرجل للشفاء (عدد 7)، والدور الثالث تحذيري (عدد 14).

عدد 6.

6 هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟».

الدور الأول. في هذا الدور ثلاث درجات: (1) "رأي". (2) "علم". (3) "فقال..." (1) "رأي" – هذه الكلمة تنبئنا بعطف المسيح الذي تجول عيناه في كل الأرض لتنظرا البائس. لقد رآه المسيح من غير استجداء ولا استرحام. وكذلك سائر المعجزات المدونة في هذه البشارة – إلا معجزة إبراء ابن خادم الملك في كفرناحوم (4: 47). (2) "علم" - هذا علم العليم المحيط بكل شيء، الذي لا يحتاج إلى أن يعلمه أحد. إن صحيفة حياة هذا الرجل كانت مفتوحة أمام المسيح يقرأها حرفاً حرفاً (عدد 14) وكذلك كان المسيح عالماً بماضي المرأة السامرية وحاضرها. (3) "فقال له أتريد أن تبرأ؟..." غير أن المسيح يرى ويستفهم، فيعلم، ثم يتحول عن المريض فيعبر. لكن المسيح رأى ، وعلم، فأراد أن يحسن إلى الرجل. ولكي يعده لقبول هذا الإحسان سأله قائلاً: "أتريد أن تبرأ؟". بهذا السؤال فتح المسيح أمام الرجل باب الرجاء الذي ظل موصداً أمام وجهه طوال سني المرض سيما في الأوقات الأخيرة. هذا سؤال يحمل بين ثناياه وعداً جليلاًً، وشرطاً لازماً لنوال الوعد. بهذا السؤال أراد المسيح أن يضع إرادة الرجل على محك الاختبار. فالكلمة الأصلية المترجمة "أتريد" تفيد العزيمة القوية التي ترضى أن تضحي بكل شيء في سبيل نوال ما تريد.لم يسأل المسيح ذلك الرجل عن مجرد رغبته بل عن إرادته. فالرغبة شيء والإرادة شيء آخر. فالكسول المتواكل يرغب ويتمنى أن يكون له قصر منيف لكنه لا يريد أن يكد ويعمل. أما المستكشف العظيم فإنه يضحي بالنفس والنفيس في سبيل كشف ما يريد. ولقد كان من الضروري أن يسأل المسيح ذلك الرجل عن إرادته مخافة أن يكون الرجل قد رغب في حياة التواكل والكسل، مستمتعاً بأكل الطعام الذي يتساقط من أيدي المحسنين، راغباً عن حياة الجد والكد والعمل. بهذا السؤال أراد المسيح أن يحول أنظار الرجل وانتظاراته من البركة ومائها، وأن يوجهها إلى شخصه الكريم فيصرفه عن العلاج الموهوم، إلى مصدر العلاج الناجح (أعمال 3: 4).

عدد 7.

7 أَجَابَهُ الْمَرِيضُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».

حلقة الاتصال بين الدورين "أجابه المريض يا سيد ليس لي إنسان". نظر المريض إلى هذا الشخص العجيب في ذاته، العجيب قي سؤاله، وقال: يا سيد. أتسألني عما إذا كنت أريد أن أبرأ؟ هو ذا الإرادة حاضر عندي لكن القدرة مفقودة، والعون معدوم. ما أشد المرارة التي أملت على الرجل هذه الكلمة: "ليس لي إنسان"! وقد غاب عنه أن الذي يحدثه هو ابن الإنسان الذي جاء أرضنا ليكون له.

بهذا الجواب، فتح الرجل باب الشفاء على نفسه، لأن إرادته هي نقطة الارتكاز في هذه المعجزة. فما لم ترد أورشليم أن يجمع المسيح أولادها كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، لن يقدم هو على هذا العمل (مت 23: 27). وما لم يرد العطشان أن يقبل إلى الماء، فإنه يظل عطشان حتى يدركه الموت.

الآن قد تحول فكر المريض من بيت حسدا المادية التي لم تنفعه، واتجه نظره إلى "بيت حسدا الروحي"، فوجد في المسيح خير ملجأ للرحمة والحنان.

عدد 8.

8 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ».

الدور الثاني: "قال يسوع له : قم . احمل سريرك[1] وامش"، هذا هو الدور التنفيذي في المعجزة، وفيه أمر المسيح ذلك المريض ثلاثة أوامر: (1) "قم" بهذا الأمر قدم المسيح للرجل مجالا يظهر فيه طاعة إيمانه به. فالطاعة هي محك الإيمان. ولو لم يكن ذلك المريض مستعاداً لإظهار طاعة إيمانه، لاحتج بالقول: ولكنني يا سيد لا أستطيع أن أقوم، وقد قلت لك أن هذه علتي الوحيدة (عدد 7). فلو كنت قادراً على القيام من تلقاء نفسي، لنزلت في البركة، ونلت الشفاء. على أن قول المسيح للرجل: "قم"، لم يكن مجرد أمر. بل كان وعداً في صيغة أمر، وكذلك كل وصايا المسيح: مواعيد مفرغة في قالب أمر. "أمين هو الذي يدعوكم الذي سيفعل أيضاً" (1تس 5: 24). (2) "احمل سريرك" –بهذا الأمر، أراد المسيح من ذلك المريض، أن يحمل ما كان محمولا عليه، فتصير له نقطة الضعف مصدر قوة، بل برهاناً على نواله القوة، إذا كان أمر المسيح الأول: "قم" يرمز إلى جدة الحياة، فإن أمره الثاني: "احمل سريرك" يرمز إلى قوة الحياة وتحمل مسئولياتها. وأمره الثالث: "امش" يرمز إلى السلوك في جدة الحياة. (3) "وامش" –بهذا الأمر، طلب المسيح من الرجل أن يودع البركة، ومياهها، وأروقتها، غير آسف، فيقطع كل صلة له بالماضي. هذا هو البحر الأحمر، الذي كان على الرجل أن يعبره لكي يضع حداً فاصلاً بينه وبين مصر العبودية. هذا بمثابة إحراق القنطرة وراء الجيش المتقدم في سيره، لكي يكون أمام الجنود سبيل واحد من اثنين – لا ثالث لهما: فإما الظفر إلى التمام، أو مواجهة الحمام.

إذا شبهنا الحياة الجديدة بنهر، كان أمر المسيح الأول: "قم"، مشيراً إلى منبع النهر. وأمره الثاني: "احمل سريرك"، كناية عن قوة تيار النهر. وأمره الثالث: "امش"، مشيراً إلى مجرى النهر.

عدد 9.

9 فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ.

إتمام المعجزة: "فحالاً برئ الإنسان وحمل سريره ومشى" ظاهر من هذا الكلام، أن الرجل برئ، حالما همّ بالقيام. وبعد أن نال الشفاء حمل سريره ومشى. إن قوة المسيح سرت في الرجل، حالما عزم أن يقوم. إذاً كانت طاعته لأمر المسيح القائل له:"قم"، باباً رحباً، دخلت منه قوة المسيح الشافية.

(7) زمان المعجزة: "وكان في ذلك اليوم سبت". كلمة "سبت" في هذا الموضع، لا تعني اليوم السابع في الأسبوع، بل أن اليوم الذي تمت فيه هذه المعجزة كان يوم "راحة" عند اليهود، نسبة للعيد (عدد 1). بهذه الكلمات يختتم الفصل السابق، ويفتتح الفصل اللاحق. فهي حلقة اتصال بين المعجزة نفسها، وبين أثرها المباشر.

الأثر المباشر للمعجزة 5: 10- 18

في هذا الفصل مرسومة أمامنا ثلاث صور: الصورة الأولى ترينا اليهود والرجل (5: 10 و13). والصورة الثانية ترينا المسيح والرجل - والدور النهائي في المعجزة (5: 14). والصورة الثالثة ترينا اليهود والمسيح (5: 15-18).

عدد10: الصورة الأولى- اليهود والرجل. (أ) اليهود يحرمون على الرجل حمل سريره (عدد 10). (ب) الرجل يحتمي وراء طبيبه المجهول. (ج) اليهود يستجوبون الرجل عن شخصية هذا الطبيب المجهول (عدد 12). (د) الرجل يجهل أن طبيبه هو المسيح (عدد 13).

عدد 10

10 فَقَالَ الْيَهُودُ لِلَّذِي شُفِيَ: «إِنَّهُ سَبْتٌ! لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ».

(أ) اليهود يحرمون على الرجل حمل سريره يوم السبت: "فقال اليهود للذي شفي أنه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك". "اليهود" المقصودين هنا، هم العنصر المعادي للمسيح، الممثل في الرؤساء الدينيين. كانت مصيبة هؤلاء اليهود، اهتمامهم بالحرف دون الروح. فكسر عظام إنسان ما، وكسر قلبه، لا يؤذيان شعورهم، قدر كسر السبت. ومع أن رؤية إنسان قد تعافى من مرض لازمه مدة ثمان وثلاثين سنة، تنطق الأحجار بالشكر، وترقص أوراق الشجر، إلا أن قلوب الفريسيين لم تبال بإنسان شفي، بل حزنت على سبت كسر. هؤلاء هم أعداء البشرية، اللابسين ثياب خدامها هم ألد أعداء الشريعة، المدعين الدفاع عنها. هؤلاء هم العميان الذين جهلوا – أو تجاهلوا – أن السبت خلق للإنسان، لا الإنسان للسبت. فبدلاً من أن يهنئوا الرجل وأنفسهم، على بركة الشفاء، عكروا عليه صفو حياته، الجديدة، وأوقفوه أمام الشريعة موقف المتهم المتلبس بجريمته، بقولهم له: "إنه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك". ولعلهم بنوا كلامهم هذا على ما جاء في إرميا 1: 21. ويروى عن اليهود الرابيين أنهم فصلوا الوصية الرابعة إلى ثلاثين مادة، ومن ضمنها قولهم: "لا يجوز حمل سرير المرض يوم السبت".

عدد 11.

11 أَجَابَهُمْ: «إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ».

(ب) الرجل يحتمي وراء طبيبه لمجهول: أجابهم أن الذي أبرأني هو قال لي احمل سريرك وامش". إن جوابه هذا ينم عن اقتناع منه، بأنه وجد في طبيبه الشافي شخصاً أرقى من شخصيات هؤلاء اليهود المستجوبين إياه. بل أنه وجد شخصاً هو سيد السبت أيضاً.

ويلوح لنا أ، الكلمتين المركزيتين في جوابه هما:" أبرأني" و "هو". وفي الغالب أراد الرجل بجوابه هذا، أن يتخلص من تبعة كسر السبت، بإلقائهاٍٍٍ على طبيبه الآمر.

عدد 12.

12 فَسَأَلُوهُ: «مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟».

(ج) اليهود يستجوبون الرجل عن شخصية هذا الطبيب المجهول: "فسألوه من هو الإنسان...". إن النبرة في كلامهم، واقعة في قولهم: "إنسان". كأنهم أرادوا أن يقولوا له: "ما هي شخصية هذا المخلوق النكرة الذي يجترئ على كسر الشريعة الإلهية السامية"؟ وفي نفس الوقت، أرادوا أن ينكروا عليه قوته الشافية. فالرجل ينبر في جوابه على كلمة "أبرأني" وهم ينبرون في استجوابهم على كلمة "إنسان".

عدد 13.

13 أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ لأَنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ إِذْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ جَمْعٌ.

(د) الرجل يجهل أن طبيبه هو المسيح: "أما الذي شفي فلم يكن يعلم من هو" - الذي شفاه - "لأن يسوع اعتزل" - هذه هي المرة الوحيدة التي وردت فيها كلمة "اعتزل" في العهد الجديد. ومعناها الحرفي: أمال رأسه ليتفادى صدمة: "إذ كان في الموضع جمع" - هذه العبارة تبين لنا علة اعتزاله أي أنه اعتزل الجماهير، مخافة أن يحملوا بتيار إعجابهم بمعجزته، فيحاولوا أن يجعلوه ملكاً وهو لا يرضى بعرش منفصل عن الصليب. ويعتقد جودي وهنجستبورج، أن وجود الجمع في الموضع لم يكن علة اعتزال المسيح، وإنما سهل عليه الاعتزال، فلم يشعر به أحد، لكثرة تجمهر الناس. والرأي الأول هو الطبيعي، على الأرجح.

عدد 14.

14 بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أَيْضاًلِئَلَّا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ».

(2) الصورة الثانية - المسيح والرجل: أو الدور الأخير في المعجزة. هذا هو الدور التحذيري: "بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل". اعتزل المسيح تلك الجموع المتجمهرة التي تزحمه، ليفتش على نفس منفردة تطلبه. إن أحسن مكان تلتقي فيه النفس بالمسيح على انفراد، هو بيت الله. غالباً ذهب الرجل إلى الهيكل ليقدم الشكر لله على شفائه، وفي هذا الطريق المقدس، وجده المسيح - مثلما وجد الأعمى المطرود من اليهود (19: 35) - وأعلن له ذاته، وقدم له تحذيراً يقطع عليه خط الرجوع إلى المرض، لأن الانتكاس أشد خطراً من المرض الأصلي: "ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضاً". واضح من كلمة "أيضاً" أن مرض الرجل كان نتيجة وقوعه في خطية ما. على أنه لا ينبني على هذا، أن كل مرض يبلى به الإنسان، يكون نتيجة خطية معينة، كأن الأصحاء بلا خطية. ولو أن الأمراض بوجه عام، هي اللطخة التي تركتها الخطية على جبين البشرية. ومهما يكن من علة المرض، فإن في إمكان المسيح أن يتسلط عليه، فيجعله مرآة لمجد الله (11: 4).

(3) الصورة الثالثة - اليهود والمسيح 5: 15-18.

عدد 15.

15 فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ.

(أ) الرجل يمضي ليرد جواباً على اليهود: "فمضى الإنسان وأخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبرأه". غالباً كان قصد الرجل في ذهابه إلى اليهود، أن يرد عليهم جواباً عن سؤالهم الذي سبقوا فوجهوه إليه (عدد 12)، وتعذر عليه أن يجيب عنه وقتئذٍ. على أنه في ذات الوقت، كان خير مبشر بالمسيح، لأن البشارة ليست سوى إبلاغ الخبر الطيب للآخرين. كانت بشارة هذا الرجل من الدرجة الممتازة، لأنها مؤسسة على اختباره الشخصي. ولعله قصد أن يرفع عن كتفه آخر ذرة من المسؤولية التي أوقعه اليهود تحتها، في حمله سريره يوم السبت[2]، وأن يلقيها على من هو أهل لأن يتحملها أمام الرؤساء، فيقرعهم بحجته وبيانه، ويناضلهم بنفوذه وسلطانه.

عدد 16.

16 وَلِهَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ.

أول شرر يتطاير من أتون حقد اليهود: "ولهذا كان اليهود يطردون يسوع" – يراد بالطرد. مطاردة الاضطهاد. "ويطلبون أن يقتلوه" - (انظر عدد 18). "لأنه فعل" - هذا اللفظ: "فعل"، كما ورد في الأصل، يفيد التعود على شيء. "هذا". – الإشارة هنا، إلى عملية الشفاء التي قام بها المسيح، وإلى أمره للرجل أن يحمل سريره: "في السبت".

عدد17.

17 فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ».

المسيح يجيبهم بكلمة جامعة. "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" - هذا الجواب أشبه الأشياء بنواة لكل الحديث الذي فاه به المسيح فيما بعد (عدد 19 – 46)، وبه قصد القارئ أن يفهم اليهود – إن أرادوا أن يفهموا: - أولاً: إن الراحة التي تمتع بها الله ليست في الكف عن العمل، بل في العمل الذي يسر قلب الله - في إعادة جمال الخليقة إليها بعد أن شوهتها الخطية، وفي أعمال العناية التي هي خلق مستمر، وفي إتمام تدبير الفداء الذي به يخلق الله المؤمنين خليقة جديدة. (عب 1: 3 وأفسس 1: 9). ثانياً: إن صلة المسيح بالله هي صلة البنوة، التي تفرض توافقاً في المشيئة والعمل. هذا مستفاد من الكلمتين: "أبي وأنا". ثالثاً: إن عمل الابن على الأرض مشتق من عمل الآب في السماء، ومطابق له تمام المطابقة: "أبي يعمل.... وأنا أعمل". رابعاً: إن اعتراض اليهود على عمل المسيح، هو صورة أخرى لاعتراضهم على عمل الله الذي يدّّعون التعبد له وتقديس اسمه.

عدد 18.

18 فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاًإِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاًنَفْسَهُ بِاللَّهِ.

أتون حقد اليهود تحمّى أضعافاً مضاعفة: "من أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه" - لقد أجادوا فهم قوة كلام المسيح، حين علموا: "أنه قال أيضاً أن الله أبوه، معادلاً نفسه بالله". لكنهم أساءوا التصرف في تقدير كلامه. فبدلاً من أن يعتبروه إعلاناً جديداً من الله، ويعطوه المقام اللائق به، حسبوه تجديفاً، وضموه إلى قائمة الاتهامات الخطيرة التي تبرعوا بها للمسيح: "لم ينقض السبت بل قال أيضاً...". إنهم بمحاولتهم أن يضموا تهمة إلى تهمة، لحساب المسيح، كانوا في الوقت نفسه يضيفون لحسابهم هم أثقالاً فوق أثقال، "ويدخرون لنفسهم غضباً في يوم الغضب".( رو 2: 5).

حق المسيح الممتاز 5: 19 - 29

في هذا الفصل يتابع المسيح دفاعه ضد اتهام اليهود إياه بكسر السبت، والتجديف. وقد عالج في هذا الدفاع موضوعاً خطيراً هو: حقه الممتاز. فتكلم عن – أولاً: حقه الممتاز في صلته بالآب (5: 19 – 23). ثانياً: حقه الممتاز في صلته بالبشر (5: 24 – 29). ولكون هذا الخطاب قد وجه إلى نر قليل من اليهود المثقفين، ركز المسيح الحجة فيه تركيزاً.

أولاً: حق المسيح الممتاز في صلته بالآب (5: 19 – 23). إن عمل المسيح ومقامه، متساويان في الدرجة مع عمل الآب ومقامه، ومطابقان لهما تمام المطابقة. هذه هي الحقيقة المركزية في هذه الأعداد. من أجل ذلك، أقام المسيح أربع حجج دامغة ليدعمها بها – وكل حجة منها تؤيد الحجة السابقة لها، وتتفرع منها. وكل منها تستهل بكلمة: "لأن" (عدد 19 و20 و21 و22).

عدد 19.

19 فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاًإِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ.

الحجة الأولى: إن عمل الابن هو صورة طبق الأصل لعمل الآب ومساوٍ له في مداه: "فأجاب يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم..... ".

لقد أجاب المسيح على أفكارهم، ونياتهم، ومؤامراتهم، بكلمات قوية برر بها أعماله، وموقفه، باعتبار كونه ابن الله. فاستهل جوابه هذا بقوله: "الحق الحق" – كعادته، عند إفضائه بتصريح خطير، مصحوب بسلطان. ثم صرح بعبارتين تكاد إحداهما تكون مع الأخرى على طرفي نقيض. فالعبارة الأولى سلبية: "لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً"، والعبارة الثانية إيجابية: "لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك". العبارة الأولى قد يشتم منها رائحة العجز: "لا يقدر"، والعبارة الثانية تفيد القدرة المطلقة: "مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك". على أن هذا الذي يرى لأول وهلة كأنه عجز، هو عين المقدرة. فإن القول بعدم قدرة الابن على أن يخالف طبيعته، لهو بمثابة القول: إن الله لا يقدر أن يكذب، ولن يقدر أن ينكر نفسه" (2 تي 2: 13 قابل هذا مع يوحنا 7: 17). لأن من مستلزمات طبيعة الابن ورادته، المطابقة التامة لطبيعة الآب وإرادته، لما بينهما من كمال الوحدانية. وبسبب هذا العجز الظاهري، يتمتع الابن بكل القدرة الحقيقية. فعدم المقدرة على المخالفة، هو أقوى تعبير للمقدرة التامة على المخالفة. هذا يوافقه قول المسيح في لوقا 2: 49 "ينبغي أن أكون في ما لأبي" (انظر سفر العدد 16: 28).

"مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن كذلك" – إن عمل المسيح، ليس فقط مطابقاً لعمل الآب، بل هو أيضاً متمش معه ومساو له في مداه.

عدد 20.

20 لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاًأَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ.

الحجة الثانية: الابن محبوب من الآب، ومطلع على جميع أعماله إطلاعاً متوالياُ: " لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله" – هذا الكلام يتناول الماضي والحاضر. "وسيريه أعمالاً أعظم من هذه". أي أعظم من شفاء المريض، مثل: إقامة لعازر، وقيامته هو، وصعوده – هذا الكلام يشير إلى مستقبل الأيام. "لتتعجبوا[3] أنتم" – هذا مبلغ تأثرهم من أعماله العتيدة. (أعمال 4: 3 و5: 24). التعجب خطوة أولية قد تؤدي إلى الإعجاب، فالإيمان. وقد نقف عند حدها فتتبختر.

إن هذه الحجة الثانية، مؤيدة للحجة الأولى. فمطابقة أعمال المسيح لأعمال الآب، مبنية على علمه المتواصل بأعمال الآب، على التوالي. وهذا الاطلاع المتواصل مبني على الصلة المكينة التي بينه وبين الآب – صلة الحب الأزلي، الروحي، السري، الخالد... هو ذلك الحب القدسي، الناشئ عن التشابه في الطبيعة، والذات، والصفات.

عدد 21.

21 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاًيُحْيِي مَنْ يَشَاءُ.

الحجة الثالثة: إن الابن له ما للآب من السلطان والقدرة: "لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي من يشاء". في هذا العدد، فصل المسيح ما سبق فأجمله. في العدد السابق، تكلم عن "الأعمال الأعظم" إجمالاً. وهنا أرانا عينة من هذه "الأعمال الأعظم" – "إقامة الأموات وإحياءهم". إن إقامة الأموات وإحياءهم، هما تعبيران لحقيقة واحدة، وهما على مثال قول المسيح: "أنا هو القيامة والحياة" (11: 25). إن إقامة الأموات هي إيقاظهم. وأن إحياءهم هو إيداع بذرة الحياة فيهم. فالقيامة إذاً، هي نتيجة الحياة ومظهرها، والحياة هي بذرة القيامة ومصدرها.فقوله: "يقيم الأموات ويحيي" لا يشير إلى عملين مختلفين بل إلى عمل واحد ذات وجهين: فالإقامة هي الحياة في نشاطها، ولإحياء هو الحياة ي نبعها وأصله. ومع أن المسيح ذكر هذين الوجهين في بدء العدد: "يقيم الأموات ويحيي". إلا أنه في نهاية العدد، اكتفى بأن ذكر أحدهما: "يحيي" للتعبير منهما كليهما – وذلك من باب التغليب، الذي يقوم بإطلاق اسم الجزء على الكل. على أن الإقامة والإحياء يتناولان الجسد والروح معاً.

"كما أن الآب يقيم الأموات" – في مقدمة الأمور المسلم بها لدى اليهود، أن للآب سلطاناً على إقامة الموتى وإحيائهم. (تث 33: 39 و1 صم 2: 6) وقد أجرى الله هذا العمل على أيدي إيليا، وأليشع (1 مل 17 و2 مل 4: 32 – 35). "كذلك الابن أيضاً" – له نفس السلطان: فهو "يحيي" – أي يقيم الأموات ويحييهم. وقد أقام فعلاً ابنة يايرس التي ماتت ولم تكن قد أخرجت بعد من البيت (لوقا 8: 55)، وابن أرملة نايين، الذي كان قد أخرج من البيت، لكنه لم يبلغ القبر (لوقا 7: 14 و15)، ولعازر الذي أخرج من البيت وأدخل إلى القبر وأنتن (يوحنا 11: 43 و44). ولئلا يتبادر إلى ذهن سامعيه، أن الابن في عمله هذا، مقيد بالتزامات جبرية، صرح لهم أنه يعمل أعماله وهو متمتع بكامل حريته: "من يشاء". إن مشيئته هي علة إحياء الأموات، وهي الباعث عليه كما أنها أيضاً وسيلته الوحيدة. ويعتقد وستكوت أن هذه العبارة الأخيرة: (1) تصف كفاية قدرة المسيح. (2) تربط أعمال المسيح الحاضرة بمشورة المحبة الأزلية. (3) تعني استقلال المسيح في عمله هذا عن حسب هؤلاء الأموات ونسبهم، فهي تحمل ضمناً معنى من معاني الاختيار.

عدد 22.

22 لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداًبَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ.

الحجة الرابعة: الابن يقوم مقام الأب في الدينونة: "لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للإبن". في الحجج الثلاث الماضية، بين المسيح أنه يعمل الأعمال التي يعملها الآب، وهنا أرانا أنه يمثل الآب ذاته في عمل قد رضي الآب أن ينفرد الابن فيه – الدينونة: لأن الآب لا يدين أحداً، بحكم وعده الذي وعد به الابن في عهد الفداء، مكافأة له على اتضاعه اختيارياً لأجل فداء العالم (مت 25: 31 – 45 وأع 17: 31 وفي 2: 5 – 11). ولا يفوتنا أن نذكر ما تتطلبه إدانة الناس من القدر غير المحدودة على فحص قلوب الجميع، والإحاطة بالبواعث والمسببات الخفية التي حملتهم على اختيار هذا دون ذاك. فضلاً عن ذلك فإن المسيح قد قدم بتأنسه المثل الأعلى الذي يعتبر أضبط مقياس للناس (عدد 27).

كلمة: "أعطي" استعملت ي هذه البشارة لتصف امتيازات المسيح، وحقوق بنوته الممتازة (5: 36 و3: 35 و6: 37 و39 و10: 29 و17: 2 و4 و22).

عدد 23.

23 لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ.

نتيجة حتمية: "لكي يكرم..." هذه نتيجة جامعة للأربع الحجج الماضية. إذا كان الابن يعمل أعمال الآب (عدد 19 و20 و21)، ويقوم مقام شخصه ي الدينونة (عدد 22)، فالنتيجة الحتمية التي تترتب على هذا، هي أن المسيح حقيق بالإكرام الذي يوجه للآب، وأن من يقصر في حقه في هذا الباب، فهو مقصر في حق الآب نفسه، لأنه رسول الآب وممثله وقائم مقامه.

ثانياً: حق المسيح في صلته بالبشر 5: 24 – 29.

في الجزء الذي مر بنا من هذا الخطاب، تكلم المسيح عن الابن بصيغة الغائب، وفي الجزء الذي أمامنا يتحدث عنه بصيغة المتكلم – ودلالة على أن ما ذكر عن الابن، يصدق على المسيح نفسه. فهو ابن الله الوحيد.

فيما سبق، تكلم المسيح عن ذاته وعمله. ويتكلم هنا عن تأثير عمله في المؤمنين. قبلاً تكلم عن مقامه الممتاز، في صلته بالآب. والآن يتحدث عن مقامه الممتاز، في صلته بالبشر.

في الأعداد السالفة (19 – 22)، أبان المسيح أن صلته الممتازة بالآب تخوله حقاً مزدوجاً: (1) حق الإحياء (عدد 21)، (2) حق الإدانة (عدد 22). وفي الأعداد التالية (24 – 30)، أرانا ممارسته الفعلية لهذين الحقين. ولا يغرب عن أذهاننا، أن كلاً من هذين الحقين له جانبان – جانب روحي باطني، يتم في هذه الحياة. وجانب ظاهر، خارجي، يعلن في الحياة العتيدة. وهذان الجانبان هما مدار الكلام في الأعداد التي نحن بصددها الآن.

(1) الحياة والدينونة في جوهرهما الروحي، الباطني – في هذه الحياة 5: 24 و27.

(2) الحياة والدينونة في مظهرهما النهائي، الحرفي – في الحياة العتيدة 5: 28 و29.

(1) الحياة والدينونة في جوهرهما الروحي، الباطني – في هذه الحياة 5: 24 و27.

لأهمية الحقائق المتضمنة في هذه الأعداد، كرر المسيح فيها قوله: "الحق الحق" مرتين. فمن هذه الحقائق: (أ) كلمة مجملة في شرط نوال الحياة الأبدية والنجاة من الدينونة (عدد 24). (ب) الحياة الأبدية كحقيقة روحية راهنة (عدد 25). (ج) مصدر الحياة الأبدية ونبعها (عدد 26). (د) كلمة مجملة عن صاحب السلطان في الدينونة (عدد 27).

عدد 24.

24 «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ.

(أ) كلمة مجملة في شرط نوال الحياة الأبدية والنجاة من الدينونة: "الحق الحق أقول لكم...." هذا شرط مزدوج: معرفة الإعلان الذي جاء به الابن، وتصديق الآب الذي تكلم في الابن. أو بعبارة أخرى، هو الإصغاء "للكلمة"، وتصديق المتكلم. يا ترى ما هي مؤهلات هذا المعلم الجديد الذي يجعل الاستماع لكلامه، شرطاً لازماً وكافياً لنوال الحياة الأبدية؟ إذا لم يكن هذا المعلم، إلهاً، فمن المحقق أنه ليس من الله، بل يكون مدعياً، ومجدفاً.

إن من يسمع كلام المسيح ويؤمن بالذي أرسله، يتمتع بحقين: يترتب ثانيهما على أولهما. لأن نسبة أولهما إلى ثانيهما كنسبة العلة إلى النتيجة. أو كنسبة البذرة إلى الثمرة. أما الأول فهو – التمتع بالحياة: "فله حياة". وجدير بالذكر أن الحياة، مذكورة هنا كحقيقة راهنة، بل كحق ممتلك في هذه الحياة الحاضرة: "له". فهي تشتمل على الولادة الجديدة، والنمو في القداسة، والمشابهة لصورة الله تعالى.

فمع أن أمجاد الحياة الأبدية، وثمارها الناضجة، وخبايا مكنوناتها، لا تعلن إلا في الدهر الآتي، إلا أنها في بذرتها، وجوهرها، وخلاصتها، ملك للمؤمن في هذه الحياة. وأما الحق الثاني فهو النجاة من الدينونة: "ولا يأتي إلى دينونة" – كما يستحق هو وكل نسل أدم المولودين تحت غضب الله. إن إيمان الإنسان بالمسيح، يرفع عنه الخطية التي هي علة الدينونة (رومية 8: 1).

أما علة تمتع المؤمن بالحية، ونجاته من الدينونة، فهي أنه "قد انتقل من الموت إلى الحياة". إذاً فالحياة الأبدية هي قيامة روحية، وما الحالة الطبيعية التي ولد فيها الجنس البشري إلا "مقبرة للأحياء". فكل داخل إليها مفقود، وكل خارج منها مولود.

عدد 25.

25 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ.

(ب) الحياة الأبدية كحقيقة روحية راهنة: "تأتي ساعة وهي الآن..." هذه الساعة قد بدأت بمجيء المسيح، وأتت بتمامها بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين. "حين يسمع الأموات" - بالذنوب والخطايا. "صوت ابن الله" - بمقابلة هذه العبارة مع قول المسيح في العدد السابق "من يسمع كلامي" يتضح لنا جلياً أنه قصد أن يفهم سامعيه أنه هو ابن الله. "والسامعون يحيون" – يستنتج من هذا القول أن الموتى روحياً،

نوعان: نوع يسمع صوت ابن الله ولا يميز (12: 40) "سمعاً يسمعون ولا يفهمون". ونوع يسمع، ويميز، ويعي، ويطيع، فيحيا (10: 4). كان لعازر واحداً من هؤلاء السامعين، لأن قيامته الجسدية كانت رمزاً للقيامة الروحية.

عدد 26.

26 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاًأَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ.

(ج) مصدر الحياة الأبدية ونبعها: "لأنه كما أن الآب له حياة ي ذاته كذلك أعطى الابن". إن المسيح هو نبع الحياة وقوامها. بحق تمتعه بحياة الآب ذاته.

يتضمن هذا العدد عبارتين قد يرى فيهما لأول وهلة شيء من التناقض: "أعطى" و"في ذاته". فالمسيح باعتبار كونه فادياً ووسيطاً أعطي هذه الحياة منذ الأزل. وأما باعتبار كونه إلهاً ذا جوهر واحد مع الآب فالحياة ذاتية فيه، بل هو نبعها وقوامها، ومعطيها (1: 4).

عدد 27.

27 وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناًأَنْ يَدِينَ أَيْضاًلأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ.

(د) كلمة مجملة عن صاحب السلطان في الدينونة: "وأعطاه سلطاناًُ أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان". إن ابن الله المحيي (عدد 26)، هو هو "ابن الإنسان" الديان. وكلا الحقين قد أعطيهما من الآب منذ الأزل. فالمسيح، بحق مشاركته في طبيعته، هو مصدر الحياة ونبعها. وبحق مشاركته الإنسان في طبيعته، هو صاحب السلطان في الدينونة. وبهذين الحقين معاً، صار ملماً بالضعف البشري، وعارفاً بحقيقة جبلتنا، فجمع إلى علم اللاهوت الفاحص علم الناسوت المختبر (أعمال 17: 31) وفي الوقت نفسه قدم للبشر المثل الأعلى الذي عليه يرسمون، وبه يدانون (أفسس 4: 14).

(2) الحياة والدينونة في مظهرهما النهائي الخارجي في الحياة العتيدة : 28 و29.

عدد 28.

28 لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ.

(أ) اليقظة العامة: "لا تتعجبوا من هذا" - قابل استهلال هذا العدد، بغرة عدد 20 "لتتعجبوا أنتم". ليس التعجب في ذاته سوى مرحلة انتقال من حال إلى حال أرقى. وكل مظهر جديد لقوة المسيح، ممهد لمظهر أجلّ يدعو إلى التعجب، وقد يتطور التعجب إعجاباً، فإيماناً. وقد يقف جامداً، فيكون مهده لحده. "تأتي ساعة" – خلاف تلك المذكورة في عدد 25. تلك ساعة "حاضرة". وهذه ساعة في بطن الغيب "فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته" – يختلف هذا السمع عن ذاك الموصوف في عدد 25. ذاك التمييز الخاص بالمؤمنين. وهذا سمع عام لجميع ساكني القبور. ذاك سمع يؤول إلى الحياة الأبدية، بل هو أول علامة لها، وهذا سمع ينتهي بمجرد اليقظة الجسدي التي تنتهي بالحياة الأبدية أو بالدينونة المريعة. ذاك سمع روحي يقوم به الوجدان، وهذا سمع مادي تقوم به الآذان. ذاك سمع يتناول بعض الموتى روحيا ًو وهذا يشمل جميع الموتى جسدياً. وإليك هذه المقابلات في صفين متوازيين:

عدد 25 – تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع (بعض) الأموات (روحياً)

والسامعون يحيون (حياة روحية أبدية)

ع 28 و29 - تأتي ساعة (في المستقبل) حين يسمع الذين في القبور (المادية)

صوته فيخرج...(عودة الحياة الجسدية إليهم)

عدد29.

29 فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ.

(ب) قيام الحياة، وقيام الدينونة: ليس في هذا الكلام ما يقطع بوجود قيامتين مختلفتين بل هما في الواقع وجهان لقيامة واحدة - وجه منير يتمتع به من فعلو الصالحات، ووجه مظلم يحيق بمن عملوا السيئات. وقد استعمل المسيح كلمتين مختلفتين للتعبير عن إتيان الصالحات، والسيئات. فعن إتيان الصالحات، قال: "فعلوا" لأن الصلاح يستلزم إرادة حاسمة فعالة. وعن إتيان السيئات، قال: "عملوا" لأن السيئات تخرج طبيعياً من أهل السوء من غير مجهود ولا عناء (انظر تفسير 3: 20 و21).

في هذا العدد، تقدم المسيح بسامعيه خطوة جديدة عما في عدد 27 هنالك كلمهم عن سلطانه، وهنا أنبأهم باستعماله هذا السلطان بكيفية فعالة.

عدد 30.

30 أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.

عود إلى بدء: "أنا لا أقدر..." بعد أن تكلم المسيح عن حقه الممتاز - نظرياً وعملياً، أزلياً وتاريخياً. عاد إلى النقطة التي منها ابتدأ في عدد 19. فكأن كلامه شبيه بدرج ملفوف يتلاءم أوله مع آخره. في عدد 19 استعمل استعارة النظر، وهنا استعمل استعارة السمع. (اطلب تفسير عدد 19).

إن الدينونة التي يقوم بها المسيح، مبنية على علمه التام بمشيئة الآب وفكره، كما أن أعماله مستمدة من معرفته المتواصلة بأعمال الآب.

بهذا العدد تطوى مرحلة من حديث المسيح، وتنشر مرحلة جديدة سنراها فيما يلي:

ثانياً: شهود المسيح – 5: 31 - 40.

في هذا الفصل يذكر المسيح ثلاثة شهود لنفسه: - الشاهد الأول هو نفسه (عدد 31). على أنه لم يرد أن يكون هو الشاهد الوحيد لنفسه. لأن شهادة صاحب الدعوى لا تقوم لدى الشريعة التي يحترمه المسيح (عدد 35: 3 وتث 17: 6) لذلك فهو يرى ضرورة تأييد شهادته لنفسه بشاهد آخر سيذكره فيما بعد (عدد 32). الشاهد الثاني هو يوحنا المعمدان عدد (33). غير أنه لم يكتف أيضاً بهذا الشاهد لأن يوحنا على رغم كونه نبياً، فهو إنسان زائل (عدد 34 - 35). الشاهد الثالث – الذي أشار إليه المسيح في عدد 32 - هو الآب وشهادته هي بيت القصيد في هذا الفصل (عدد 36- 39). وقد أدى الآب هذه الشهادة بثلاث وسائل: أ) أداها بواسطة الأعمال التي أعطى المسيح إياها ليكملها (عدد 36). ب) أداها بشخصه (عدد 37). (ج) أداها بكلمته المسجلة في الكتب المقدسة (عدد 38 و39).

عدد 31.

31 «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً.

الشاهد الأول – شهادة المسيح لنفسه "إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً". قال المسيح هذا دفعاً لاعتراض جال في أفكار اليهود وربما عبروا عنه بالكلام بعد ما سمعوا كلام المسيح في الفصل السابق، ولعلهم قالوا له "أن شهادتك عن نفسك لا يقام لها وزن عندنا. فأنت صاحب الدعوى وأنت الشاهد". ومع أنه كان يحق للمسيح أن يتمسك بحقه في الشهادة لنفسه نظراً لشخصه الممتاز وسلطانه الذي لا يدانيه فيه سواه (8: 14) إلا أنه رضي، تنازلاً منه، أن يحكم في دعواه بمقتضى قوانين الشريعة التي لا تثبت الدعوى فيها بأقل من شاهدين. وقوله "ليست حقاًً" معناه ليست مقبولة شرعاً (لوقا20: 21) أي أنه لو فرض وكان منفرداً بالشهادة لنفسه لاعتبرت شهادته غير مقبولة.

عدد 32.

32 الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ.

الشاهد الآخر استنتج بعضهم خطأ مما جاء في العدد التالي أن هذا الشاهد الآخر هو يوحنا المعمدان ولكن ما جاء في عدد 36 وما بعده ما يبطل هذا الزعم، ويقرر من غير ما لبس ولا شك أن هذا الشاهد الآخر هو الآب نفسه.

عدد 33- 35.

33 أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ. 34 وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةًمِنْ إِنْسَانٍ وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. 35 كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً.

الشاهد الثاني. في هذا الكلام أشار المسيح إلى: - عدد 33. (ا) اعترافهم ضمناً بشهادة يوحنا وذلك حين أرسلوا إليه وفداً ليسألوه من أنت فشهد للمسيح وقتئذٍٍٍ (1: 19- 27).

عدد 34.

(ب) عدم اكتفاء المسيح بشهادة المعمدان. مع أنه كان من حقه أن يكتفي بشهادة يوحنا بناء على اعتراف اليهود بصحتها إلا أنه لا يرضى أن تكون الشهادة الرئيسية التي يعتمد عليها، مقدمة من إنسان. لأن الذي أتى من فوق لا يقبل إلا شهادة من فوق. وإنما بقوله: "ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم"، إنه سرد شهادة يوحنا لمنفعتهم هم إذا صدقوها وآمنوا به.

عدد 35.

(ج) وصف شهادة المعمدان، وموقفهم التاريخي إزاءها: "كان هو السراج الموقد المنير" – ليس المعمدان "شمساً" يكتفى بنوره، بل هو مصباح مضيء في بيئة ضيقة. ونوره اكتسابي لا ذاتي فهو "موقد منير". ولهذا السبب فهو زائل ذاهب، لأن زيته كان ينقص تدريجياً بإيقاده حتى استهلك فانطفأ. وفي هذا الوقت كان مصباح حياة المعمدان، قد انطفأ في السجن منذ أن قطع هيرودس رأسه. أما موقفهم التاريخي إزاء شهادة يوحنا، فكان موقف الصبية المرحين اللاعبين حول النور، أو كموقف الفراشة التي تحوم راقصة حول المصباح حتى تقتل نفسها بناره: "وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة". نعم إن النور للبهجة، ولكنه قبل ذلك للإضاءة والهداية. فهو ليس غاية، بل وسيلة لتحويل أنظار الناس إلى المرئيات.

أما اليهود فقد فرحوا بالمصباح لدرجة أنهم انصرفوا به عن الشخص العجيب الذي جاء يوحنا ليشهد له (لو 7: 24).

ع 36- 39. الشاهد الثالث – الآب. هذا هو بيت القصيد. وقد أدى الآب شهادته بثلاث وسائل:

عدد 36.

36 وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لِأُكَمِّلَهَا هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي.

(ا) الآب شهد للمسيح بواسطة الأعمال التي أعطاها إياه ليكملها: هذه هي الشهادة التي أنطق الله بها لسان المعجزات التي أجراها المسيح، ومن ضمنها معجزة شفاء مريض بركة بيت حسدا، التي استهل بها هذا الأصحاح. إن الآب بإعطائه المسيح أن يعمل هذه المعجزات، قد ختم على صدق رسالة المسيح ونبوته وعلى حقيقة بنوته.

مع أن أعمال الله كاملة من الجانب الإلهي، لكنها في نظر البشر تكمل تدريجياً في وقتها المناسب، وقد كملت فعلاً على الصليب حين قال المسيح: "قد أكمل" (19: 30).

عدد 37.

37 وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ.

(ب) الآب شهد للمسيح بشخصه. "والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي" – هذه هي الشهادة الشفوية المسموعة التي شهد بها الآب للمسيح "بصوته وهيئته" (لوقا 3: 22 و9: 35 ويوحنا 12: 28 – 30) وعن هذه الحادثة الأخيرة قال المسيح: "ليس من أجلي صار هذا الصوت بل من أجلكم". وربما أشار أيضاً بقوله: "هيئته"، إلى السحابة التي بها أظهر الله وجوده في العهد القديم (عدد 9: 15 و16).

ع 38 و39

38 وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةًفِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ. 39 فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةًأَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي.

(ج) الآب شهد للكلمة المتجسدة، بالكلمة المكتوبة: هذه هي الشهادة التي أنطق بها الله ألسنة الكتب المقدسة الصامتة، للمسيح – ورب صمت أبلغ من كلام. إن كلمة الله المنوه عنها في عدد 38، قد تشمل مع كتب الوحي، كلمة الله التي يرسلها للضمير بأنواع وطرق كثيرة. و" كلمته" المذكورة في عدد 39 قاصرة على الوحي المكتوب. الكلمة المترجمة "فتشوا" يجوز أن تترجم إلى "أنتم تفتشون": في صيغة خبرية لا أمرية، وعلى هذا الاعتبار، يكون المسيح موجهاً إليهم سهماً حاداً من اللوم والتوبيخ لأنهم وهم يفتشون الكتب على زعم أن لهم فيها حياة أبدية، قد خرجوا من درسها، أمواتاً كما كانوا قبل البحث والتفتيش. مثلهم مثل حجر يلقى في تربة خصيبة، يخرج منها حجراً كما كان. هذا هو تأنيب المسيح لأهل الكتاب الذين زعموا أنهم حملة مفاتيح العلم. "وبينما هم يزعمون. أنهم حكماء، صاروا جهلاء". ن هذه الكتب التي كان يبحث فيها اليهود، بعيون مفتوحة – كعيون التماثيل المتحجرة – هي التي تشهد للمسيح: بالنبوات، والرموز، والشخصيات.

وإذا أخذنا بالترجمة الحالية، علمنا أن المسيح قصد أن يستحثهم على الاجتهاد في البحث ببصر مفتوح، وباصرة نيرة.

عدد 40.

40 ولاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ.

يحرمون أنفسهم من الحياة، بإرادتهم: "لا تريدون أن تأتوا إلي لتكون لكم حياة". ما أعظم الفرق بين اليهود في نظرياتهم، وبينهم في حياتهم العملية. في نظرياتهم يظنون أن لهم في كتبهم حياة، ولكن في حياتهم العملية، يفرون من الحياة، فرار العين المريضة من النور. إنهم ببعدهم عن المسيح، قد أبعدوا أنفسهم عن الحياة، فهو الطريق، والحق والحياة.

ومصيبة المصائب، أنهم عملوا هذا بإرادتهم. يا ليتهم كانوا جهالاً. يا ليتهم كانوا عمياناً، فلا كثرة الخطايا، ولا قضاء الله، ولا عدم المعرفة، تحرم الإنسان من التمتع بالحياة. إنما الإنسان هو الذي يحرم نفسه بيده لأنه لا يريد.

ثالثاً: عدم إيمان اليهود 5: 41 – 47.

من الكلمة التي اختتم المسيح بها الفصل السابق، تقدم ليعالج الموضوع الذي به انتهى – عدم إيمان اليهود. فبين: (1) علة عدم إيمان اليهود (5: 41 – 44). (2) نتيجة عدم إيمان اليهود (5: 45 – 47).

(1) علة عدم إيمان اليهود (5: 41 – 44). رأى المسيح طبيب النفوس، العلة الدفينة لعدم إيمانهم، فشخصها تشخيصاً دقيقاً. في ثلاث كلمات: (ا) التجرد من محبة الله (عدد 42). (ب) العمى الروحي (عدد 43). (ج) شغفهم بقبوله مجداً من بعضهم البعض (عدد 44). أو بعبارة أخرى: نفوس فارغة، عيون عمياء، قلوب مستعلية.

عدد 41.

41 «مَجْداًمِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ.

ازدراء المسيح بمجد الناس: "مجداً من الناس لست أقبل". يستنتج من هذا القول، أن اليهود اعترضوا على كلام المسيح في الأعداد السابقة، كأن قالوا مثلاً: " وماذا تطلب منا بعد أن أدليت بهذه الشهادات الكثيرة، ألعلك تنتظر منا أن نعظمك ونمجدك"؟ فأجابهم قائلاً: "مجداً من الناس لست أقبل" – فهو لم يكلمهم طمعاً في المجد الذي يصيبه منهم، بل حباً بخيرهم الروحي، أما هو فله من يمجده (17: 5). من أجل هذا أراد أن يدلهم على العلة الحقيقية التي منعت عنهم خيرهم الروحي، واصفاً هذه العلة وصفاً مثلثاً:

عدد 42.

42 وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ.

(ا) نفوس مجردة عن محبة الله. "ولكني قد عرفتكم" – كما في ص 2: 24 – "أن ليست محبة الله في أنفسكم" وردت كلمة: "محبة الله" مرة أخرى في البشائر (لوقا 11: 42). أن الله هو منشئ المحبة، وهو موضوعها.

عدد 43.

43 أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ.

(ب) العمى الروحي. "أنا أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه". إن عماهم الروحي، هو عدم تمييزهم بين من يأتيهم من الله ومن يأتيهم من نفسه. بل قد انقلبت معهم الآية، فصاروا يفضلون من يأتيهم من تلقاء نفسه على من يأتيهم باسم الآب وسلطانه.

عدد 44.

44 كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداًبَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟.

(ج) شغفهم بقبول المجد من بعضهم البعض. "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون". في عدد 40، قال لهم المسيح: "لا تريدون" وفي هذا العدد قال لهم "كيف تقدرون". إن عدم الإرادة يؤول إلى عدم المقدرة. والسبب في كل ذلك، هو انصرافهم عن الله إلى الناس. لا فراغ في الطبيعة، كذلك لا فراغ في القلب، فالقلب الذي يخلو من محبة الله، لا شك يمتلئ بحب الذات. ومن أظهر مظاهر حب الذات، تقارض المديح والثناء مع الناس.

عدد 45.

45 «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ.

(2) نتيجة عدم إيمان اليهود 5: 45 – 47.

46 لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. 47 فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟»

إن رفض المسيح يحمل معه عقابه الطبيعي. فرفض الحياة، معناه الوقوع تحت طائلة الدينونة. أما الذي يقدمهم إلى الدينونة ويقف منهم موقف المدعي فهو "موسى الذي عليه رجاؤهم" – كما يزعمون. لأن موسى من أعظم الشهود للمسيح، بشخصه، وكتاباته (تك 3: 15 و12: 3 و49: 10 وعدد 24: 17 وتث 18: 15 – 18). (انظر أيضاً غلاطية 3: 24 لوقا 24: 24 رومية 10: 5).

في ختام هذا الحوار، ألقى المسيح على اليهود تهمة عدم الإيمان بموسى نفسه. فلم يقووا على دفع هذه التهمة عن أنفسهم لأن من يكون غير قابل أن يتعلم الباء، فهذا دليل على أنه لا يعرف الألف.

 

 


[1] كلمة "سرير"، كما وردت في اليوناني، مأخوذة في الغالب من أصل مكدوني وهي تعني: "فرشة الموت"، التي كانت تصنع عادة من القش ولعلها أقرب الكلمات إلى "الحصير".

[2] جاء في التلمود: مرة تساءل معترض, قائلاً: "لماذا لا يحفظ الله السبت"؟ فأجابه أحد العلماء: "هل هو محرم على الإنسان أن يمشي في بيته يوم السبت"؟ فاقتنع المعترض وقال: "حقاً إن العالمين هي بيت الله".

[3] احتفظ كلمندس الإسكندري بكلمة رواها له أحدهم عن المسيح: "أن من يتعجب قد يظفر, ومن يظفر يطمئن".