الرئيسية كتب للقراءة

09 اَلأَصْحَاحُ التَّاسِعُ

هذا فصل جليل، عامر بالعظات والعبر. فيه شقاء وشفاء، فيه عذاب وعزاء، فيه دموع وابتسام، فيه شك ويقين –كذلك الحياة. فالشقاء، والعذاب، والدموع مرتسمة على جبين الأعمى. والشك يختلج في قلوب التلاميذ.

في هذا الفصل نرى ظلام البصر متمثلا في شخص ذلك البائس، الذي ولد أعمى. وظلام البصيرة متجسداً في الفريسيين، فتفيض عيوننا بالدموع. لكننا إذ نرى نور الأبصار والبصائر متأنساً في شخص المسيح الذي قال: "أنا هو نور العالم"، يغلب علينا الفرح، والرجاء، والابتسام.

هذا فصل مطبوع بالطابع المزدوج الذي دمغت به كل بشارة يوحنا – تدرج في الإيمان بالمسيح، وفي الشهادة للاهوته، يرافقه تدرج في عدم الإيمان به.

فالتدرج، نلمسه في إيمان الأعمى: - في أول درجات إيمانه، قال عن المسيح: "إنسان يقال له يسوع" (عدد 11)، وسرعان ما ارتقى إيمانه، درجة أخرى حتى قال: "إنه نبي" (عدد 17)، ثم تطور إيمانه متسامياً حتى قال فيه: "إنه الرسول الكامل الفرد" (عدد 32و33). وأخيراً تدرج إيمانه متصاعداً حتى قال فيه: "ابن الله" (عدد 37). وما هي إلا لحظات حتى تطور إيمانه فأضحى عبادة (عدد 38).

وأما الشهادة للاهوت المسيح، فإننا نراها مدعمة ببراهين لا تدحض. لأن المعجزة الناطقة بهذه الشهادة، لم تجر في الخفاء، بل على مرأى ومسمع من جوه اليهود الرسميين، فاعترفوا صراحة بصدق المعجزة (9: 15و16)، واعترفوا ضمناً بصحة رسالة المسيح (9: 34).

هذا أصحاح جميل، فالمسيح هو أول من نرى فيه. وهو آخر من نودع.

ينقسم هذا الإصحاح إلى ثلاثة أقسام:

أولاً: الوضع التاريخي للمعجزة (9: 1-5)

ثانياً: قلب المعجزة (9: 6و7).

ثالثاً: نتائج المعجزة (9: 8-41):

(أ)موقف الجيران (9: 8-12).

(ب) موقف الفريسيين (9: 13-34)

(ج) موقف المسيح: (9: 35-41).

أولاً : الوضع التاريخي للمعجزة (9: 1-5)

يرتبط هذا الفصل بالفصل الماضي، ارتباطاً وثيقاُ، فكلاهما موعظة مبنية على قول المسيح: "أنا هو نور العالم" (8: 12و9: 5). والفرق بينهما هو، أن الفصل الماضي هو موعظة أفرغت في قالب كلام. وهذه المعجزة، موعظة تمثلت في إنسان. الفصل الماضي معجزة الحكمة، وهذه المعجزة آية العمل. تلك موعظة في دائرة الروح، وهذه موعظة في منطقة الحياة العملية. تلك موعظة موجهة إلى "مدينة نفس الإنسان" عن طريق السمع فقط. وهذه موعظة موجهة إليها عن طريق السمع، والبصر، واللمس.

في إحدى المعجزات الاختيارية التي أجراها المسيح إجابة لداع في قلبه. فلم يسترحمه الأعمى، وإلا استعطفه التلاميذ- وكذلك كل المعجزات المدونة في يوحنا- ما عدا واحدة (4: 47). بل هذه إحدى المعجزاتالتي تفرد بذكرها يوحنا البشير.وهي الثانية بين المعجزات التي أجراها المسيح في اليهودية حسب رواية يوحنا. وهي إحدى المعجزات التي سبق العهد القديم فأنبأ بحدوثها في العصر المسيحي: "وتنظر من القتام والظلمة عيون العمى" (إش 29: 18)، بل هي أولى المعجزات التي تحدث عنها المسيح مع رسولي المعمدان: ".... العمي يبصرون" (متى 11: 5).

ومن الأمور التي تستدعي الالتفات، أن المعجزات التي أجراها المسيح لشفاء العمي، أكثر من معجزاته التي أجراها في أي مرض آخر. فالإنجيل يعرفنا أن المسيح، مرة واحدة شفى أعقد أصم. ومرة واحدة أيضاً شفى مفلوجاً، ومرتين أبرأ أبرصاً، وثلاثة مرات أقام ميتاً، وأربعة مرات فتح عيون عميان.

أولاً : الوضع التاريخي لهذه المعجزة (9: 1-5)،. في هذا الوضع التاريخي، نرى: (1) الظرف الذي تمت فيه: "وفيما هو مجتازاً رأى إنساناً". (2)الإنسان الذي صارت فيه آية الشفاء: "إنسان أعمى منذ ولادته" (عدد 1). (3) المشكلة الفلسفية التي سبقتها(عدد 2-5).

عدد 1.

1وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ

(1) الظروف التي تمت فيه المعجزة "وفيما هو مجتاز رأى إنساناً" هذه حلقة الاتصال التي تربط الفصل الماضي بالفصل الآتي فكلاهما موعظة مبنية على كلمة المسيح: "أنا هو نور العالم".الفصل الماضي ينتهي بالقول: "أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى هكذا". ويبتدىء هذا الفصل بقوله :"وفيما هو مجتاز رأى"

فالحادثتان يربطهما معاً زمن قصير[1]. ويعتقد جودي أن هذا الزمن القصير قد يمتد إلى بضع ساعات. فإذا كانت الحادثة الأولى قد تمت في الصباح، فإن الثانية قد وقعت قبيل الغروب ذلك اليوم عينه. لأن نغمة عددي 4و5، تتفق وساعات الغروب. على أنه ليس من الضروري أن نستنتج أن المشهد المذكور في الإصحاح التاسع، حدث حالاً بعد المشهد الذي ودعناه في الإصحاح الثامن. لأن سؤال التلاميذ للمسيح (عدد 2)، لا يتفق والحالة النفسية التي يكون عليها قوم قد نجوا حالاً من بين أفواه الأسود.

غالباً جداً، كان ذلك الأعمى جالساً يستعطي عند مدخل الهيكل (أعمال 3: 2)أو عند أحد أبواب أورشليم.(وفيما هو مجتاز رأى إنسان) – إذاً كانت هذه العبارة تربط مشهد الإصحاح الماضي بمشهد هذا الإصحاح، فهي أيضاً تفتح بوناً شاسعاً بين روح المشهدين. في الإصحاح الثامن رأينا مشهد البشرية العمياء العنيدة – ممثلة والفريسيين- ثائرة على فاديها ومخلصها، فرفعت حجارة لترجمه. وفي الإصحاح التاسع نرى الفادي مشفقاً على البشرية العمياء، البائسة – ممثلة في المولود أعمى – ففتح عينيها لتتمتع بالنور والحرية. فما أكبر جرن الإنسان، وما أجمل تسامح الفادي. وما أشد قدرته إذ يقابل الرجل بالأحجار، بمعجزة رحمة من أجل معجزاته!

(2)الإنسان الذي صارت فيه آية الشفاء: "إنسان أعمى منذ ولادته". أي مشهد في الوجود أكثر إيلاماً من هذا: "إنساناً أعمى منذ ولادته". في كل الصلبان التي توضع على أكتاف البشر لا يوجد أثقل من العمى. فالكلمة نفسها مكروهة يمجها السمع. وهل في العالم مصور يستطيع أن يرسم آلام من يولد أعمى؟! إن عاهته هذه تفصله عن المجتمع البشري كما لو كان في جزيرة نائية، بل تحسبه في عالم مستقل بذاته تسود فيه الظنون السيئة، والأفكار المظلمة، والشكوك المتضاربة، فهو محروم من اتسام الزهور، وبهاء الشمس، وجمال القمر، وكنوز الكتب، ومرح الأطفال.

"وفيما هو مجتاز رأى إنسان" – قد يظهر لنا أن رؤية المسيح للأعمى جاءت عن طريق المصادفات. والحقيقة انه لا يوجد شيء اسمه "مصادفات" في برنامج العناية. وإنما ما نحسبه مصادفات في أعمال العناية ليس سوى ترتيبات في برنامج الرحمة الإلهية، التي أوحت للمسيح أن يسلك هذا الطريق حيث كان الأعمى جالساً يستعطي.

"رأى إنساناً" – غير المسيح ينظر المسيح إلى العمى فلا يرى فيه سوى كتلة مهملة من سقط المتاع، لكن المسيح نظر إلى الأعمى فرأى فيه إنساناً "من أجل ذلك لم يمر به،كما يمر غير الكرام، بل اعتنى به عناية الإله الرحيم محب الأنام".

عدد 2.

2 فَسَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ مَنْ أَخْطَأَ: هَذَاأَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» 3أَجَابَ يَسُوعُ: «لاَ هَذَا أَخْطَأَوَلاَ أَبَوَاهُ لَكِنْ لِتَظْهَرَأَعْمَالُ اللَّهِ فِيهِ.

(3) مشكلة فلسفية (9: 2-5).(أ) سؤال التلاميذ (عدد 2) (ب) جواب المسيح (عدد 3-5).

(أ) سؤال التلاميذ (عدد 2). عجيب أن هؤلاء الصيادين يلهون بالمشاكل الفلسفية عن أعمال الرحمة،في وقت ينشغل فيه رب الحكمة والعلم، عن كل فلسفة كلامية، بأعمال الرحمة الإلهية، ربما في هذا برهان على أن أكثر الناس رغبة في إثارة المشاكل اللاهوتية الفلسفية، ليسوا هم أوسع الناس عقولاً، بل أضيقهم قلوباً. فوا رحمتاه على القرون الطويلة التي سبقتها الكنيسة في المجادلات الكلامية وانصرفت بها عن المشرعات التبشيرية الجليلة!

من الاعتقادات التي كانت شائعة بين اليهود وغيرهم وقتئذ، أن الآلام تحل بالإنسان عقاباً على خطايا معينة (سفر أيوب وأعمل 28: 4 ولوقا 13: 1-5). وبما أن التلاميذ فهموا أن هذا الرجل كان أعمى منذ ولادته – سواء منه أو من أحد القريبين منه- أرادوا أن يرجعوا بعلة مرضه إلى مصدر من اثنين إما: (1) إلى خطية ارتكبها هو: "من أخطأ. هذا"؟ على اعتبار أن أرواح البشر كانت عائشة قبل حلولها في الأجساد، وأنها ارتكبت خطأ في وقت سابق لتجسدها: (أنظر سفر الحكمة[2] 8: 20) وكان هذا الاعتقادمتغلغلاً في كتاب الرابيين. فضلاً عن ذلك، فإن فكرة تناسخ الأرواح، لم تكن غريبة عن هاتيك الأيام (أنظر أيضاً تك 25: 22 ومزمور 51: 7). أو (2) إلى خطية ارتكبها أبواه :"أم أبواه". ولعل هذا الاعتقاد مؤسس على ما فهموه من قول الله في الخروج 20: 5 "أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء". وبما أن التلاميذ لم يكونوا مقتنعين بأحد هذين الحلين، نظراً للصعاب التي تحيط بكل منهما: فالأول عسير والكلام فيه كثير، والثاني يتنافى ظاهره مع عدالة الله، لذلك التجأوا إلى المسيح ليحل لهم هذه المشكلة القديمة المجددة: -مشكلة "علة البلايا". وربما شجعهم على اعتقادهم بأن المرض مرتبط بالخطية، ذلك الكلام الذي حذر به المسيح مريض بركة حسدا (5: 14).

عدد 3.

(ب)جواب المسيح(9: 3-5). إن إجابة المسيح على التلاميذ تعتبر المثل الأعلى لأسلوب الحكيم. لأنه لم يقتصر في كلامه على الإجابة عن سؤال التلاميذ، بل تعداه إلى ما هو أسمى وأجل، فرفع عقول التلاميذ وقلوبهم، من التفكير في أصل الشر، إلى التأمل في الخير الأعظم، إذ حدثهم عن: (1)قصد الله السامي في السماح بالمصائب(عدد 3). (2) الرسالة المعجلة المسلمة إلى المسيح(عدد 4). (3) طبيعة رسالة المسيح(عدد 5).

(1) قصد الله السامي في السماح بالمصائب: "لا هذا أخطأ ولا أبواه"

لم يقصد المسيح بجوابه هذا، أن ينفي عن الأعمى، ولا عن أبويه، تهمة ارتكاب الخطية، وإنما أراد أن ينفي الصلة التي ظنها التلاميذ قائمة بينعمى الرجل وبين خطيته، أو خطية أبويه. لأن قول المسيح: "لا هذا أخطأ ولا أبواه"،تكمله جملة محذوفة تقديرها( "... أكثر من غيره حتى ولد أعمى" ).

فمع أن البلايا بوجه عام، دخلت من الباب الذي دخلت منه الخطية، ومع أن الأمراض يرسلها الله تأديباً على خطايا خاصة، إلا أنه لا يستنتج من هذا بالضرورة. أن كل مرض جاء نتيجة خطية معينة. وغلا فلماذا يتألم الأبرار، وينعم الأشرار؟

كان جل قصد المسيح في هذا العدد، أن يحول اتجاه أفكار التلاميذ من التوغل في مجاهل البحث عن الشر وظلماته، إلى التأمل في مقاصد الله السامية، التي تسيطر على الشر، وتتخذ منه فرصة لعمل الخير والرحمة: "لكن لتظهر أعمال الله فيه". كان قصد هذا المعلم الأعظم، كقصد معلم مدرسة، يريد أن يحول أنظار التلاميذ عن الانشغال باللوحة السوداء التي في غرفة الدراسة، إلى جمال الكتابة البيضاء المسطرة عليها.

مهما يكن من أمر الشر، فإن يد الله مسيطرة عليه. فلولا الضعف لما وجدت فرصة للرحمة. ولولا الفقر لما أتيحت فرصة للإحسان. ولولا الشر لما وجد مجال للغفران التام. فبدلاً من التأمل في أسرار الشر فنفشل، ينبغي لنا أن نتأمل في مقاصد الله المرتبة التي "تظهر" لنا تدريجياً على لوحة البلايا. ويكفينا أن نذكر "أن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً" (يعقوب 1: 13).

على أنه لا يستفاد من هذا، أن المسيح أراد أن يسد أمامنا سبل المباحث اللاهوتية، إذ لا يعقل أن من أوصانا أن نحب الرب إلهنا من كل عقولنا، يمنع عنا لذة البحث الفكري. فالمباحث الفلسفية جميلة – ولكن على شرط أن تكون في مكان درس هادىء، ولكن ما أقبحها في وجود ذلك البائس المولود الأعمى. إن وجود الأعمى ينبغي أن يثير عطف القلوب لا فلسفة العقول.إذ ما رأى أحدهم النار مشتعلة في مكان ما، فإن أول واجب عليه، أن يسعى في إطفائها. لا أن يقف جانباً يبحث عن أسبابها. وإذ ما لمح أحدهم غريقاً، فإن أوجب ما عليه، أن يجري لإنقاذه لا أن يقف مستمعاً لمحاضرة عن ثقل الماء النوعي، أو عن أسباب تيارات البحار.

إننا نزداد قرباً من الله، لا بعدد المباحث الفلسفية التي نضيفها إلى قائمة مباحث الأولين، بل بعدد الويلات التي نخففها والدموع التي نجففها.

عدد 4.

4يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ.

(2) الرسالة المعجلة المسلمة إلى المسيح: "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار.. " إن حلقة الاتصال بين هذا العدد وبين سابقه، هي كلمة: "أعمال": "لكي تظهر أعمال الله فيه..". "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني". فالبلايا بأنواعها، فرصة تظهر فيها أعمال الله، لكن المسيح هو العامل الفعال في إظهارها. ولولاه لأصبحت البلايا فرصة يظهر فيها إبليس أعماله بإيقاعه بالناس في الشكوك والتجاديف. (1 بطرس 5: 8و9). هذه هي الرسالة المعجلة، التي قبلها المسيح مختارةوكان يدفعه على التعجيل بها عاملان أحدهما: داخلي، وهو التزام الأدبي الذي فبله على نفسه، بحق نسبته إلى الآب "ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني". هذا تطوع الابن المختار، الذي قبل إرادة أبيه، فامتزجت بعصارة حياته، وأصبحت لذاته الخالدة: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" – (إذا أردت المزيد من الإيضاح فاطلب شرح بشارة لوقا صفحة 243). والعامل الثاني – خارجي وهو قصر الوقت: "ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل". ربما كان المسيح في ذلك الوقت، ناظراً إلى الشمس وهي تتهيأ للغروب، فكان غروب شمس النهار الطبيعية، رمزاً لغروب شمس حياته على الأرض، وراء أفق الصليب والقبر (8: 21). فمع أن اليوم كان "سبتاً": إلا أنه لا يستطيع أن يترك فيه فراغاً إلى اليوم التالي.

عدد 5.

5مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ».

(3) طبيعة رسالة المسيح: "ما دمت في العالم فأنا نور العالم". كما أن شمس الطبيعة تنير العالم مدة إشراقها عليه، كذلك "شمس البر"، هو نور الأبصار والبصائر. هذه لغة الواثق من جلال رسالته، وسموها، ونفعها. فهل يجسر شخص غير المسيح أن يتفوه بمثلها؟ على أنه لا يغرب عن أذهاننا أنه وإن كان المسيح قد ارتفع بجسده عن العالم، لكنه لا يزال بشخصه وروحه في العالم، فهو إلى اليوم في العالم، وإلى اليوم هو نور العالم. فلئن كانت هذه الكلمات، تحمل معنى خاصاً لوقت خاص، إلا أن معناهاالأكمل يضم بين ذراعيه مدة تجليات المسيح قل التجسد حتى يأتي ثانية. وهو الآن في المجد يتمم ما قد أكمله على الأرض.

إذا ألقينا نظرة إجمالية إلى هذه الثلاثة الأعداد، المتضمنة جواب المسيح (عدد 3و4و5)، وجدنا أن أولها (عدد 3) يحدثنا عن رحمة المسيح الفائقة نحو البشر. وثانيها (عدد 4)، يكلمنا عن ولائه التام للآب. وثالثها (عدد 5) يكشف لنا عن ثقته التامة بجلال شخصه، وجمال رسالته وعظيم نفعها.

ثانياً: قلب المعجزة (9: 6و7)

6قَالَ هَذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَىوَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. 7وَقَالَ لَهُ: «ﭐذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ».الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً.

في هذين العددين تمت المعجزة الجليلة التي هي محور الأصحاح كله. وفيها يينا البشر: (أ) ما عمله المسيح: "تفل على الأرض.. " (عدد 6) (ب) ما قاله المسيح: "وقال له اذهب واغتسل.. ". (جـ) ما عمله الأعمى: "فمضى واغتسل". (د) ما ناله الأعمى: "وأتي بصيراً". هذه هي الدرجات الأربع التي ارتقت عليها هذه المعجزة: فعلاً، فوصية، فطاعة، فشفاء.

عدد 6.

(أ) ما عمله المسيح: "قال هذا وتفل على الأرض.. ". إن حرف الواو السابق لكلمة "تفل" يفيد أن فعله المسيح، كان تطبيقاً عملياً لما قاله في الأعداد السابقة[3].هل قام المسيح بهذا العمل المثلث الكامل – "تفل. صنع. طلى" – ليعين إيمان الرجل الأعمى، بهذا العمل المادي الذي يعتبر بمثابة جسر، يلتقي عليه إيمان الأعمى بقوة الفادي؟ أو لكلي يحمل قوةالشفاء إلى الأعمى عن طريق حاسة اللمس، بعد أن حرم حاسة البصر، فحرم معها رؤية نظرات المسيح، ورحمته، المرتسمة على جبينه الوضيء (مر 7: 33؛ 8: 23)؟ أو لأن المسيح، هو ذات الخالق الذي سبق فجبل ذلك الإنسان من طين (تك 2: 7)، فأراد أن يكمل ما نقص منه بقطعة من ذات الطين الذي منه جبله؟ أو أو لأن الفادي ستر عمي الرجل الطبيعي بحجاب كثيف من الطين، ليعطي فرصة لعينيه حتى تتفتحا تدريجياً للنور؟أو أن المخلص غطى عمي الرجل الطبيعي، بغلاف من العمي الصناعي. ليكسب معجزة الشفاء قوة مضاعفة (1 مل 18: 34)؟ أم أن المسيح المرسل من الآب، أراد أن يدخل الماء"عين سلوام[4]"، في عملية الشفاء. لينتقل بالرجل وبمشاهدي معجزة الشفاء، من الرمز إلى الحقيقة، فيكشف لهم أن بركة سلوام التي كان يستقي منها المعيدون ماء للعيد، ليست إلا رمزاً للمسيح – فـ "سلوام" معناها"مرسل" والمسيح حدثنا عن نفسه، إنه بعمله هذه المعجزة، إنما جاء ليعمل أعمال الذي أرسله (عدد 5)؟؟ أم أن طبيب الأرواح، قصد أن يضيف إلى قوته الاعجازية، وسيلة طبيعية للشفاء. لأن التفل كما أعتقد الرابيون كان ضمن وسائل شفاء العيون وقتئذ؟ (أنظر تاريخ تاسيتوس 4: 81)؟ أم كانت كل هذه الأسباب – أو بعضها- مجتمعة معاً؟؟

عدد 7.

(ب) ما قاله المسيح: "وقال له اذهب واغتسل ببركة سلوام". لقد أمره المسيح بهذا، ليقوم له فرصة، يظهر فيها إيمانه بالطاعة.

فإذا كانت قوة المسيح، وهي العامل الأساسي في الشفاء، فإن إيمان الرجل هو اليد التي تقبل الشفاء، وإن طاعته هي برهان إيمانه. وكذلك قيل عن البرص العشرة: "وفيما هم منطلقون طهروا" (لوقا 17: 14)، وعن الرجل الذي كانت يده يابسة: "فمدها فعادت صحيحة" (مرقس 2: 5).

" الذي تفسيره مرسل" – هذه جملة تفسيرية من كلام البشير. بركة سلوام واقعة عند ملتقى وادي يهوشافاط بوادي ابن هنوم، وتغذيها قناة صغيرة، منحدرة من "نبع العذراء" في وادي يهوشافاط. فالكلمة "مرسل" قد تكون صفة لماء عين سلوام، أي أنه ماء آت أو مرسل، من مكان بعيد. ومن المحتمل أن تكون صفة للعين نفسها، باعتبار أنها "هبة" مرسلة من الله. وهذا قريب من الاعتقاد السائد في الشرق، إن عيون الماء هبة مرسلة من الله. ومهما يكن من أمر تسميتها بهذا الاسم، فإن بركة سلوام كانت رمزاً إلى المسيح.

ويغلب على اعتقادنا، أن المعنى الرمزي الذي تحمله "مياه سلوام"، يرجع تاريخه إلى العهد القديم (إشعياء 8: 6و7)، حيث يقابل النبي بين مياه شيلوه الهادية المنسابة من تحت أقدام الهيكل، رمزاً للخلاص الذي يأتي به مسياً، وبين المياه القوية والكثيرة – مياه نهر الفرات – التي كانت رمزاً للقوة الطبيعية الغشومة.

(ج) ما عمله الأعمى: "فمضى واغتسل" – هذا هو الإيمان العامل

باطاعة. "وأتي" – هذه أولى ثمرات الإيمان العامل بالشكر. لأن الرجل أتي إلى المكان الذي فيه وجده المسيح، ليقدم له الشكر على الشفاء، فلم يجده. لأن المسيح كان "مجتازاً". ومما يلذ لنا ذكره عن المرتين اللتين التقى فيهما المسيح بالأعمى – أولاهما قبل الشفاء (عدد 1)، وثانيتهما بعد الشفاء (عدد 35)، إن الأعمى لم يسع إلى المسيح، وإنما المسيح سعى إليه. في المرة الأولى رآه المسيح. وفي المرة الثانية، وجده المسيح. هذه حجة مزدوجة، تشهد بصدق قول يوحنا: "في هذا هي المحبة. ليس لأننا نحن أحببنا الله بل لأنه هو أحببنا".. "ونحن نحبه لنه هو أحبنا أولاً" (1 يو 10: 19).

(د) ما ناله الأعمى: "وأتي بصيراً". هنا نمسك القلم عن وصف السرور الذي ملأ قلب هذا الذي كان أعمى منذ ولادته، ونترك المجال للقارىء حتى يصور لنفسه، بعض هذا الفرح "الذي لا يعبر عنه ومجيد".

ثالثاً: نتائج المعجزة (9: 8-41).

 (أ) موقف الجيران (9: 8-12).

(ب) موقف الفريسيين (9: 13-34).

(ج) موقف المسيح (9: 35-41).

(أ) موقف الجيران(9: 8-12).

8فَالْجِيرَانُ وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى قَالُوا: «أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟» 9آخَرُونَ قَالُوا: «هَذَا هُوَ». وَآخَرُونَ: «إِنَّهُ يُشْبِهُهُ». وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: «إِنِّي أَنَا هُوَ». 10فَقَالُوا لَهُ: «كَيْفَ انْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟» 11أَجَابَ: «إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ وَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَاغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَاغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ». 12فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ ذَاكَ؟»قَالَ: «لاَ أَعْلَمُ».

رجع الرجل من بركة سلوام التي لم تبعد كثيراً عن الهيكل، ليقدم الشكر للمسيح، ولما لم يجده في المكان الذي فيه شفاه – لأن المسيح كان قد مضى وعر – رجع إلى بيته. وهنا يصف البشير موقف الجيران وصفاً بليغاً ببساطته، سامياً بدقته. فإذا ألقينانظرة عامة على هذه الأعداد، رأينا فيها:

(1) وصفاً لموقف الجيران قبل أن يسمعوا شهادة الرجل الذي تمت فيه آية الشفاء (9: 8و9) (1وب).

(2)موقفهم بعد أن سمعوا شهادته (9: 10و12). أما شهادته، فلها جانبان أحدهما عن نفسه: "أنا هو"(9: 9)

(ج) وثانيهما عما كان يعتقد به وقتئذ عن المسيح (9: 11و12(ب)).

إن تأثر الجيران، قبل استماعهم لشهادة الرجل الذي تمت فيه المعجزة ترينا:

(أ ) أن الجنس البشري واحد في جميع الأجيال، فما أسرع الناس إلى التقولات والاستنتاجات، قبل أن يستمعوا لشهادة صاحب الشأن نفسه.(ب) إن الطبائع البشرية متنوعة على قدر تنوع استعداد كل شخص. وإليك بعض هذه الأنواع:

عدد 8.

النوع الأول – المتعجبون: "فالجيران والذين كانوا.. قالوا أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي" – في هذا العدد. أنبأنا البشير بمهنة ذلك الرجل بل شفائه: "يستعطي".

عدد 9.

النوع الثاني – المصدقون: "آخرون قالوا هذا هو" (9(1)).

النوع الثالث – المتشككون: "وآخرون إنه يشبهه" (9(ب). وهنا نأتي إلى إقرار الرجل. فإذا به إقرار مختصر، واضح، يقيني، جريء: "أنا هو". لعل تضارب آرائهم، يعزى إلى الفرق العظيم بينصورة الرجل في عماه وعبوسته، وبؤسه، ويأسه، وبين صورته بعد الشفاء وقد ارتسم على محياه السرور والرجاء.

عدد 10.

استجواب واستيضاح. من هنا انتقل موقف الجيران، من التعجب والتحير، إلى الاستجواب والاستيضاح: فقالوا له: "كيف انفتحت عيناك". من الأهمية بمكان، أن نذكر أنهم لم يسألوه عن حقيقة المعجزة، بل عن كيفية اتهامها. مثلهم مثل نيقوديموس حين قال: "كيف يمكن أن يكون هذا"؟ هذا موقف الإنسان الطبيعي على ممر الأجيال: "كيف"؟‍

عدد 11.

مطلع شهادة الرجل. في هذا العدد، سجل الوحي شهادة الرجل منذ بداءتها. هذه ألف باء الشهادة للمسيح: "إنسان يقال له يسوع". فمع أن عيني الرجل الطبيعيتين قد انفتحتا بالتمام، إلا أن عينيه الروحيتين لم تنفتحا إلا تدريجياً. ومهما يكن من بساطة هذه الشهادة، فهي إلى هذا الحد مقبولة. لأن الإخلاص يحدوها، والشكران ينطق بها، والبساطة تدعمها. ومما لا شك فيه، أن المسيح يزيد النور تدريجياً لمن يكون أميناً للنور خطوة خطوة.

عدد 12.

(1) سؤالهم: "فقالوا له أين ذاك"؟ الآن قد أصبحالمستفهمون باحثين. فمن سؤالهم عن كيفية إتمام المعجزة، أضحوا باحثين عن المسيح. ومن بحثهم عن الكيفية، صاروا باحثين عن الحقيقة، بل باحثين عن الحق نفسه: "أين ذاك".

إن فريقاً كبيراً من هؤلاء السائلين، كان مدفوعاً في سؤاله بذات الباعث، الذي دفع هيرودس إلى أن يقول للمجوس: "اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي" (مت 2: 8).

(ب) جوابه: "لا أعلم" – هذا جواب قاطع كالسيف، خاطف كالبرق. هذا جواب تمتزج فيه البساطة، والأمانة، بالجرأة، والحكمة.. فالبساطة ظاهرة من سهولته، والأمانة واضحة من كون الرجل لم يدع فوق ما يعلم. والجرأة برزت في عدم استحيائه من قوله: "لا أعلم". أما الحكمة فقد تجلت في علمه بالحد الذي ينتهي عنده علمه. هذه دليل على أنه كان عارفاً بالأمور التي يعلمها. بخلاف من يزج بنفسه في كل شيء ويتخبط في مجاهل الحقائق وهو لا يدري ما يعلم مما لا يعلم.

(ب) موقف الفريسيين (9: 13-34).

13فَأَتَوْا إِلَى الْفَرِّيسِيِّينَ بِالَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. 14وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ َيسُوعُ الطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. 15فَسَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ فَقَالَ لَهُمْ: «وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَاغْتَسَلْتُ فَأَنَا أُبْصِرُ». 16فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ: «هَذَا الإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ السَّبْتَ». آخَرُونَ قَالُوا: «كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هَذِهِ الآيَاتِ؟» وَكَانَ بَيْنَهُمُ انْشِقَاقٌ. 17قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى: «مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» فَقَالَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ».

هذا دور تحقيق واستجواب كما لو كانت المعجزة جريمة ارتكبت، لا نعمة منحت. في هذا الدور ترتسم أمامنا صورتان متقابلتان: إحداهما تمثل دركات الانحطاط التي هوى إليها عدم إيمان الفريسيين (عدد 6و24و34) والثانية تمثل درجات النمو التي ارتقى إليها إيمان الرجل الذي تمت فيه معجزة الشفاء (عدد 17،30و38).

يقع هذا الدور في ثلاث حلقات:

(1) الفريسيون يستجوبون الرجل (9: 13-17).

(2) الفريسيون يواجهون الرجل بأبويه (9: 18-23).

(3) الفريسيون يعيدون استجواب الرجل (9: 24-34)0

عدد13.

(1) الفريسيون يستجوبون الرجل( 9: 13-17). "فأتوا إلى الفريسين.. "- في العدد الماضي، تركنا أولئك "الجيران"،يبحثون عن المسيح. والآن –وقد عز عليهم أن يهتدوا إليه – أمسكوا بالرجل الذي تمت فيه عملية الشفاء، وأتوا به إلى الفريسين، ليتعرفوا رأيهم في أمره، وفي طبيعة شفائهٍ العجيب، وفي حقيقة الشخص العجيب الذي شفاه، سيما وأن المعجزة تمت في يوم "سبت" (عدد14).إن الفريسيين هم الفريق الأكثر عددا، والأقوى نفوذا، والأشد تعصباً، في مجمع السنهدريم. ويجوز أن البشير اختصهم بالذكر دون سواهم، من باب التغليب، الذي يجوز فيه إطلاق اسم الأغلبية على المجموع. ويعتقد وستكوت أن الفريسيين المذكورين هنا، هم الذين تتألف منهم المحكمة الدينية الجزئية. ولكن الحكم الذي صدر عن الرجل (عدد34)، يرجح كفة الرأي الأول، لان مثل ذلك الحكم، لا يجوز صدوره إلا من مجمع السبعين المعروف بالسنهدريم.

عدد14.

توقيت تاريخي "وكان سبت ": ربما ذكرت الواو السابقة لكلمت "كان"، على سبيل ذكر السبب الذي لأجله أتى بالرجل إلى الفريسيين. ومن المحقق، أن ما بعدها يعين السبب الذي لأجله استجوب الفريسيون ذلك الرجل، واعتقادا منهم أن في صنع "عجينة " الطين (عدد1)يوم السبت،كسراً للسبت، على رغم كونها قد صنعت لشفاء أعمى. على أن المسيح بعمله هذا، لم يكسر السبت، إنما كسر ذلك التمثال الهزلي، الذي أقامه الفريسيون للسبت، في مخيلاتهم. وأن كسر مثل هذا التمثال الوهمي النفعي، لا يعتبر أمراً جائزاً وكفى، بل هو أمر واجب، لا بل "فرض عين ".

لقد أجاز الناموس إقامة ثور عائر، يوم السبت، فكم بالأولى إقامة رجل متعثر بأذيال عماه المستديم ‍‍‍‍‍‍‍!!

عدد 15.

سؤالهم الأول: "فسأل الفريسيون أيضاً.." إن قوله: "أيضاً" يرجع بنا إلى عدد10، حين استجوبه الجيران. والسؤالان مشتقان من مصدر واحد لأنهما يستهلان بكلمة: "كيف؟". عجيب أن حقيقة الشفاء لا تفرحهم، قدر ما تزعجهم طريقة الشفاء.

جوابه الأول: أجاب الرجل على سؤال الفريسيين، بصيغة أكثر اقتضاباً من جوابه على سؤال الجيران. وربما ملكه شيء من الملل والتعجب، بسبب استجوابهم إياه عن إحسان صنع له، كما لو كانت الحسنة رشوة يعاقب من يحصل عليها. وغنى عن البيان أن هذا الرجل قد تمتع بشفاء مضاعف – شفاء بصره، وشفاء بصيرته. ببصره استطاع أن يرى وجوههم الجاحدة، التي كانت تنظر إليه بعيون جامدة، كأنها من زجاج. وببصيرتهاستطاع أن ينفذ إلى قلوبهم المتحجرة، فكشف نياتهم المخبوءة وراء استجوابهم إياه، فأجابهم بنغمة العابث، المتضجر: "وضع طيناً...".

عدد 16.

انقسامهم إلى فريقين: "فقال قوم... آخرون قالوا... ". كان جواب هذا الرجل، بسيطاً، قوياً، شاطراً. كَسَهم من ضوء الفجر، شقهم إلى شطرين كما إلى ليل ونهار. أما ليلهم فقد استتر تحت جنحة المظلم فريقهم الأول: "فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت". ومن أقوى الأدلة على أن هؤلاء يكونون فريق الظلام، كونهم وضعوا النتائج قبل المقدمات. وقدموا النظريات على الحقائق، وفضلوا السبت على الإنسان. فبدلاً من إن يفحصوا المعجزة من حيث هي، فيكونوا رأيهم عن صانعها، إذ بهم قد كونوا أولاً رأياً في السبت، فحكموا على من يظنون أنه كسره. يقولون"أن السبت مقدس.إذاً فكل عمل يتم فيه، ليس بمعجزة، وكل شخص يأتي هذا العمل، ليس من الله". ومن المحزن أن هذا الصنف من الناس، له أنسال في عصرنا الحاضر – يقولون مثلاً: إن المعجزات، لا وجود لها. إذاً فكل المعجزات التي يقول بها الكتاب، ليست معجزات. مثلهم مثل من يضع العربة أمام الحصان.

على أنه وإن وجد بين الفريسيين، قوم مكابرون ومعاندون، فإن بينهم أيضاً فريقاً ثانياً، سطع عليه نور الحقيقة: "آخرون قالوا كيف يقدرإنسان خاطىء أن يعمل مثل هذه الآيات"؟هؤلاء هم المنطقيون، الذين قدموا الحقائق على النظريات. فالمعجزة تمت. أما الاعتقاد بكسر السبت، أو بعدم كسره، فليس سوى نظرية. ومن حيث أن المعجزة تمت بشهادة كثيرين"من أهلها"، فلا بد أن يكون الشخص الذي صنعها، رجلاً صالحاً. لأنها معجزة شفاء، ولا بد أن يكون على الأقل: "إنسان غير خاطىء".

عدد 17.

سؤالهم الثاني: "قالوا أيضاً للأعمى ماذا تقول أنت عنه"؟ إن الشقاق الذي أوجده جواب الرجل بين صفوفهم،قد شق قلوبهم، فأوقعهم في حيرة. ولا عجب، فليست القوة بكثرة العدد، ولا هي بغزارة العلم، وإنما هي قوة الحق. وإن رجلاً واحداً معه الحق، يكون أغلبية ساحقة، ولو كان كل العالم ضده. لأنه واقف في جانب الواحد الأحد.

إن الحيرة التي وقع فيها أولئك الفريسيون، قد قدمت للرجل فرصة نادرة، ليشهد فيها المسيح، مع أنهم كانوا قصدوا أن يعطوا فرصة ليشهد عليه: "ماذا تقول أنت عنه"؟ لأنهم لما رأوه قد فتح ثغرة في صفوف ائتلافهم، أرادوا أن يتحايلوا عليه، ليفتحوا هم أيضاً، ثلمة بين حلقات أجوبته. لكنهم كلما تمادوا في الاضطراب، تقدم هو في الإيمان.

جوابه الثاني: "فقال إنه نبي" – هذه هي الدرجة الثانية في سلم إيمانه. أما الدرجة الأولى، فقد مررنا بها في عدد 11: "إنسان يقال له يسوع".

الآن وقف الرجل على مستوى واحد مع نيقوديموس الذي قال: "ليس لأحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه" (3: 2).

(2) الفريسيون يواجهون الرجل بأبويه (9: 18-23).

18فَلَمْ يُصَدِّقِ الْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ الَّذِي أَبْصَرَ. 19فَسَأَلُوهُمَا: «أَهَذَا ابْنُكُمَا الَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ؟» 20أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ: «نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا ابْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى 21وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ الآنَ فلاَ نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فلاَ نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ السِّنِّ. اسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ».22قَالَ أَبَوَاهُ هَذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ الْيَهُودِ لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ اعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ الْمَجْمَعِ. 23لِذَلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: «إِنَّهُ كَامِلُ السِّنِّ اسْأَلُوهُ».

عدد 18.

(أ)الشك الذي يلده التصعب: "فلم يصدق اليهود عنه أنه كان أعمى". إن كلمة "اليهود"، تصف الفريق العنيد في الفريسيين، الموصوف في الجزء الأول من عدد 16، وهي تعين موقفهم العدائي نحو المسيح. كما أن كلمة: "فريسيين" تصفهم في مقامهم الديني بين أمتهم. لقد تمثل فيهم ذلك الشك الذي هو وليد التصعب، هؤلاء مغرضون في أحكامهم. لأنهم يرتبون نظرياتهم الجامدة المتحجرة، وعلى أحجارها يكسرون هيكل الحقائق الملموسة. فإذا حدثتهم نظرياتهم بأن الشمس تطلع من الغرب، جعلوا الشرق غرباً، والغرب شرقاً. في سبيل تحقيق نظرياتهم – في السبت وغيره – "يجعلون المر حلواً والحلو مراً، يصيرون الظلام نوراً والنور ظلاماً". ولا شيء أدل على جهلهم المطبق، من إنكارهم الحقائق الراهنة. فماذا ينفعهم قولهم إن المعجزة لم تحدث حال كون الأعمى قد أبصر.

أي شهادة أقوى، وأفصح، من الرجل نفسه؟ إنه تمثال حي للشهادة الحقيقية. لكن ما قيمة مثل هذه الشهادة القوية لمن وضعوا حجاباً كثيفاً على عيونهم. إنهم لا يصدقون لأنهم لا يريدون.

(ب) استدعاؤهم أبويه "دعوا أبوي الذي أبصر" – لقد أغرقهمتعصبهم في لج الشك والتورط. فصاروا يتخبطون، علهم يهتدون إلى خيوط واهية يتمسكون بأهدابها، ليتخلصوا من تورطهم. ولكي يكونوا "قانونيين"، دعوا أبوي الذي أبصر. على أمل أن يجدوا – أو يوجدوا – تناقضاً بين شهادتهما وشهادة ابنهما.

عدد 19.

استجوابهم أبويه:"فسألوهما قائلين": يتضمن استجوابهم لأبويه ثلاثة أمور- أولهما: التحقق من شخصية ابنهما: "أهذا ابنكما". ثانيهما: التثبت من ولادته أعمى: "الذي تقولون إنه ولد أعمى". وثالثهما الاستعلام عن كيفية شفائه: "فكيف يبصر الآن"؟

عدد 20و21.

(د)جواب أبويه: "أجابهم أبواه.. ". إن في جواب الأبوين جبناً معجوناً بدهاء. وهما خلتان قلما تفترقان. أما جبنهما، فيحدثنا عنه البشير في عدد 22. وأما دهاؤهما، فنمت عنه إجابتهما عن السؤالين الأولين، وتخلصهما من السؤال الثالث، وابتكارهما حجة قانونية معقولة تساعدهما على هذا التخلص: "هو كامل السن".

إن تكرارهما لضمير الغائب: "هو" ثلاث مرات في عدد 21- في الأصل- ينبىء عن نغمة تهكمية لاذعة، تمشت مع إجابتهما عن أسئلة الفريسيين

عدد 22و23.

الباعث لهما على اجابتهما هذه: "لأنهما كانا يخافان من اليهود". مع أننا لا نلتمس لهما عذراً في هذا الخوف، إلا انه لم يكن خوفاً على غير أساس: "لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا أنه إن اعترف أحد بأنه المسيح يخرج[5]من المجمع". إن هذا التعاهد وحده كان يكفي لإخراج هذه الفئة من حظيرة القضاء الشريف، لأنهم تعاهدوا على حكم معين، قبل سماعهم حجة المتهمين. وليس أقبح من جبن المتهم، سوى عدم نزاهة القاضي. إن هذا الحكم دليل على اتجاه قلوب اليهود، التي كانت تزداد تحجراً على ممر الزمن (ص 11: 53). كما إن جبن المتهمين، يعتبر رمزاً لجبن الشعب اليهودي الأعمى الذي كان يقوده عميان في شكل حكماء.

بين هذا العدد، وبين الأعداد التالية، خلا القضاة إلى أنفسهم، فاستقر رأيهم على أن يعيدوا استجواب الإنسان الذي كان أعمى لعل توطئواً قد حدث سراً بينه وبين المسيح.

(3) الفريسيون يعيدون استجواب الرجل 9: 24-34

24فَدَعَوْا ثَانِيَةً الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى وَقَالُوا لَهُ: «أَعْطِ مَجْداً لِلَّهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ». 25فَأَجَابَ: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِرُ». 26فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» 27أَجَابَهُمْ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تلاَمِيذَ؟» 28فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: «أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تلاَمِيذُ مُوسَى. 29نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَمَّا هَذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ». 30أَجَابَ الرَّجُلُ: «إِنَّ فِي هَذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. 31وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي اللَّهَ مَشِيئَتَهُ فَلِهَذَا يَسْمَعُ. 32مُنْذُ الدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. 33لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنَ اللَّهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً». 34قَالُوا لَهُ: «فِي الْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!» فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً.

عدد 24.

هجومهم الأول: في هجومهم هذا، حكموا بإدانة الرجل، وقدموا له فرصة للتوبة: "فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له أعط مجداً لله" - هذه صيغة عبرية توجه عادة لمن يثبت عليه ارتكاب ذنب مهين لله، فتعطى له الفرصة ليغسل هذه الإهانة، ويرد المجد لله (قضاة 7: 19و 1 صموئيل 6: 5). كأن أولئك الفريسيين، قد حكموا بأن الرجل أهان الله إن المسيح نبي(عدد 17)، لأن الله – حسب فكرهم الأضيق – أقدس من أن ينسب إليه نبي كاسر للسبت.

ولكي يبرهنوا على عدم أهلتهم للجلوس على كراسي القضاة، حاولوا أن يقنعوا الرجل، بحجة أو هي من خيوط الرداء الذي كان يستترون به، أن ينكر حقيقة لمسها وذاق حلاوتها، وأن يعتنق نظرية وهمية، لا وجود لها إلا في مخيلتهم الضعيفة: "نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطىء" – فمن أين استقوا هذا العلم، مع أنهم اعترفوا فيما بعد، بأنهم لا يعلمون (عدد 29)؟ لقد أجهدوا أنفسهم في أن يظفروا من فم الرجل بإقرار، يعترف فيه بان المسيح خاطىء، وان الشفاه أتاه من الله رأساً. وكل حجتهم في هذا - : "نحن نعلم". إذاً لقد غامروا بأشخاصهم وقامروا بمراكزهم في هذا الميدان، فباءوا بخسران مبين.

"نحن نعلم" – بحكم وصايتنا على الشعب، وبحق حملنا "مفاتيح الملكوت" "إن هذا الإنسان خاطىء" – هذا ادعاء الجهلاء اللابسين لباس العلماء.

نحن نعلم أن الله لا يسمع للخطاة "(عدد 31) – هذا يقين العالم المرتدي رداء البسطاء – هذا علم متواضع.

عدد 25.

الرجل يرد هجومهم الأول. في بادئ الأمر، لم يرغب الرجل في أن يزج بنفسه معهم في منطقة المجادلات اللاهوتية الفلسفية، التي يدعون لأنفسهم التفرد فيها، بل تمسك بيقين المعرفة الاختبارية التي ذاق حلاوتها ولمس قوتها: "أخاطئ هو. لست أعلم" – أي لست أعلم العلم الكافي لإقناعكم (لوقا 22: 67 أعمال 4: 19و19: 2). "إنما أعلم شيئاً واحداً" – لا تستطيعون أن تجادلوني فيه – "إني كنت أعمى والآن أبصر". بهذا الإقرار اليقيني، قدم لنا هذا الرجل البسيط، المثل الأعلى للشهادة للمسيح. إن درهماً واحداً من المعرفة الاختبارية، خير من قناطير مقنطرة من المعرف النظرية. بهذا الإقرار قدم "المتهم" "لقضاة"، المثل الأعلى للسير في القضايا – وذلك بأن يقدموا الوقائع الحقيقية على النظرات الاستدلالية.

حجتهم هم – أن المسيح خاطئ لأنه كسر السبت، والخاطئ لا يكون نبياً حجته هو – أن المعجزة تمت فعلاً، فالمسيح نبي، لأن الله لا يسمع للخطاة.

عدد 26.

هجومهم الثاني. شعر الفريسيون بمثابة موقف الرجل، فأعادوا هجومهم عليه، واستجوبوه عن طبيعة المعجزة: "ماذا صنعبك"؟ وعن كيفيتها: "كيف فتح عينيك"؟، أملاً منهم في أن يتلعثم في الإجابة، ويورط نفسه بالتناقض. وهم لا يعلمون أنهم كانوا يطيلون حبال تورطهم.

لما تعذر عليهم، أن يظفروا عليه باستنتاجاتهم الفلسفية، قصدوا أن يصوبوا إلى كلامه سهام النقد، علهم يوقعونه.

عدد 27.

الرجل يصد هجومهم بهجوم أشد. "قد قلت لكم ولم تسمعوا...." هنا يتطور الموقف، فيصبح المتهم متهماً، والقضاة متهمين. لأن الرجل (1) اتهمهم بالصمم الأدبي: "ولم تسمعوا". كأنه أراد أن يفهمهم أن عاهته التي كان مصاباً بها قبلاً، أخف بكثير من عاهاتهم هم، عاهته هو، عمي البصر. أما عاهتهم هم فهي الصمم الأدبي الناتج عن عمى البصرة. (ب) استجوابهم بنغمة تهكمية لاذعة: "لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً؟ ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ"؟ هنا تسلح الرجل بشجاعة نادرة.

عدد 28

جبنهم الفادح: "فشتموه وقالوا أنت تلميذ ذاك". أمام شجاعته النادرة لم يقووا على الوقوف، فاحتموا وراء أكمة الشتم: "فشتموه". على أنهم في شتمهم إياه قد رفعوه، وفي محاولتهم أن يرفعوا أنفسهم عليه. انخفضوا إلى الحضيض.

"أنت تلميذ ذاك" – وأي شرف أعظم من هذا؟! لقد نطقوا بكلمة"ذاك"، مرسلين معهم وابلا من سخطهم وتحقيرهم، فكانوا بذلك محقرين أنفسهم. "أما نحن فإننا تلاميذ موسى". بهذا قد برهنوا على أنهم لأبناء الماضي البالي. لقد أشرق عليهم نور الإنجيل والنعمة، لكنهم ظلوا متمسكين بأهداب السبت والناموس.

عدد 29.

تقهقرهم غير المنظم: "نحن نعلم.. وأما هذا فما نعلم من أين هو". إنهم بقولهم هذا، قد أنكروا ما سبقوه فقالوه في عدد 24، "نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ". الآن صروا أقل منهم ثقة بعلمهم "الغير المحدود"، واعترفوا من غير قصد، بأنهم "لا أدريون": "فما نعلم من أين هو". أهكذا يفر "الجبابرة" من الميدان، أمام رجل أعزل إلا من السلاح الحق؟

تقول الأمثال: "إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً"، ولكن أني لمثل هؤلاء القوم أن يذكروا ما قالوه في مناسبة أخرى!! لو ذكروا لعلموا أنهم بقولهم: "أما هذا فما نعلم من أين هو؟"، قد حكموا له بأنه هو المسيح لأنهم سبقوا فقالوا "أما المسيح متى جاء لا يعرف أحد من أين هو" (7: 27). قابل هذا مع ما قاله المسيح عن نفسه في 8: 14.

عدد 30.

الرجل يهاجمهم ويطاردهم (9: 30 - 33). "أجاب الرجل وقال لهم إن في هذا عجباً... ". في بادئ الأمر (عد 25)، لم يأنس الرجل في نفسه شجاعة للدخول مع الفريسيين في مجادلات كلامية.

أما الآن، وقد اكتسب من ضعفهم قوة، ومن تقهقرهم تقدماً[6]،هم لمواجهتهم بقضية منطقية، استهلها: (1) بتعجبه منهم (عدد 30)، (ب) كبرى (عدد 32). (د) وأخيراً توجها بنتيجة منطقية (عدد 33).

(1)تعجبه (9: 30): "إن في هذا عجباً". رأى الرجل في جهلهم الاختياري، عجيبة تفوق عجيبة شفائه من عماه. أما وجه تعجبه، فهو أنهم وهم حملة مفاتيح العلم، والمتصدرون عامة الشعب "لا يعلون" من أين أتى المسيح، حال كونه قد فتح عينيه. طبعاً بعد أن تمتع الرجل بالشفاء، صار له المسيح الكل في الكل، فمن حقه أن يعجب من لا يعرف من أين أتى هذا المسيح، وقد أتى بمعجزة في دائرة النعمة لا في دائرة النقمة.

عدد 31.

(ب) المقدمة المنطقية الصغرى: "ونحن نعلم.. ". "نحن" – عامة الشعب اليهودي، "نعلم" – علماً بسيطاً، لا كعلم الفريسيين الفلسفي "إن الله لا يسمع للخطاة.. " (عدد 24 و 29) ولكن إن كان أحد "يتقي اله ويفعل مشيئته" – أي يقوم بواجبه نحو الله والناس (1 تي 2: 10) – "فلهذا يسمع". إذاً قد حق للرجل أن يعجب، لأن "الخاصة" يؤكدون أنهم لا "يعلمون" (عدد 29) بينما تقرر "العامة" أنهم هم "يعلمون".

إلى الآن، لم يكن إيمان هذا الرجل قد بلغ دور النضوج، لأن بلغ فقط حد الثقة بأن المسيح من أتقياء الله الذين يسمع الله صلاتهم، وأنه إنما عمل هذه المعجزة نتيجة استجابة صلاته. لا بقدرة ذاتية فيه. وما علينا إلا أن ننتظر حتى عدد 38، لنرى إيمان الرجل بالغاً حد النضوج.

عدد 32.

(ج) المقدمة المنطقية الكبرى: "منذ الدهر لم يسمع". من المقدمة المنطقية الصغرى الخاصة بعلمه هو، ومن على شاكلته من أهل جيله، انتقل الرجل بهم إلى شهادة الأجيال بأسرها منذ بدء التاريخ: "منذ الدهر لم يسمع". فما أحكمه لأنه لم يكتف بشاهد واحد، بل استدعى جميع الأجيال لتشهد معه على جهالة هؤلاء الحكماء في أعين أنفسهم.

عدد 33.

(د) النتيجة المنطقية: "لو لم يكن هذا من الله" (9: 33) هذا منطق عجيب. حقاً ينطبق على هذا الرجل البسيط ذلك القول الجليل: "كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يخرج من كنزه جدداً وعتقاء".

عدد 34.

هروبهم من الميدان: "أجابوا وقالوا له.في الخطايا ولدت". إنهم بقولهم هذا، قد عبروا عن: (أ) عقيدتهم الباطلة في علة البلايا. فقدموا جواباً عاطلاً على سؤال التلاميذ (عدد 2)، كأنهم أرادوا أن يقولوا إن العمل مظهر لعلة دقيقة أشد منه خطورة – أعني بها الخطية. لكنهم في الوقت نفسه،فضحوا أنفسهم لأنهم عبروا أيضاً عن: (ب) اعتقادهم بصحة المعجزة. الآن قد اعترفوا بأن الرجل كان أعمى منذ ولادته. وأن المسيح شفاه. إن النتيجة الوحيدة التي ينتهي بها عدم الإيمان، هي القضاء على نفسه بنفسه.

يراد بالقول: "فأخرجوه خارجاً"- إنهم طردوه من المكان الذي كانوا ملتئمين فيه، بحجة ظاهرية، وهي: "أنه لا يستحق الفحص"، وبحجة حقيقية أقوى منها، وهي: "أنهم لم يقدروا أن يقاوموا روح الحكمة الذي كان متسلحاً به". وقد كان إخراجهم إياه من مكان التآمهم، تمهيداً وأساساً لإخراجهم إياه من المجمع.

هذا مطلع الصراع بين المجمع اليهودي. وبين كنيسة المسيح في نواتها

(ج) موقف المسيح (9: 35 - 41). يحدثنا هذا الفصل عن أمرين مهمين – أولهما: المعجزة الروحية التي تبعث المعجزة المادية: (9: 35 - 38). وثانيهما: المغزى الأدبي للمعجزتين – العمي يبصرون، والمصرون يعمون (9: 39 - 41).

(1) المعجزة الروحية: الأعمى يبصر: (9: 35 - 38).

35فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُفَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللَّهِ؟» 36أَجَابَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لِأُومِنَ بِهِ؟» 37فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُوَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ». 38فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». وَسَجَدَ لَهُ.

عدد 35.

(أ) المسيح يجد الرجل الطريد. مضي بعض الزمن على إخراج الفريسيين ذلك الرجل، "فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجاً، فوجده[7]".عندما توصد طاقات الأرض، تنفتح أبواب السماء. وغضب العبد،

عربون رضى الرب. ولعنات الظالمين، عربون ابتسامات أرحم الراحمين. لما طرد ذلك الرجل من محضر اليهود، أدخل المسيح إلى محضره: "ليظهر مجد الله فيه" (عدد 3و 4). وهو دائماً يفتش عن المطرودين من أجل اسمه. إن الإخفاق الذي نلقاه من البشر هو توفق لنا من الله. فقد قصد المسيح في مراحمه، أن يجود على الرجل بمعجزة أسمى وأهم من معجزة فتح عينيه الجسديتين، فيتمم فيه معجزة فتح عينيه الروحيتين، لذلك أراد بحكمته أن يعد الرجل ويهيئه للمعجزة الثانية، بعد أن تمت فيه المعجزة الأولى. وأن الصراع العنيف، الذي اجتازه الرجل في احتجاجه لدى اليهود، كان خير وسيلة، لإعداده لقبول بركة المعجزة الثانية. وربما لو أجريت المعجزتان في وقت واحد، لما قوى نظر الرجل على مواجهة أنوار المعجزتين في آن واحد.

تنكشف أمامنا هذه الحقيقة في ضوء التدرج الذي استخدمه المسيح مع الرجل – لقاء: "وجده"، فدعوه: "أتؤمن"، فاعلان: "هو هو".

(ب) المسيح يدعوه إلى الإيمان بابن الله: "أتؤمن بابن الله"؟ هذا سؤال يحمل معه نوراً ساطعاً، رفعه المسيح أمام عيني الرجل، داعياً إياه إليه. وكأني بالفادي يقول له: "يا من وقفت أمام عاصفة الفريسيين وانتصرت، هل أنت مستعد الآن، أن تخطوا الخطوة الثانية الايجابية، ونؤمن بابن الله"؟؟ ومما لا ريب فيه، أن المسيح أراد "الإيمان" في أسمى درجاته، وأعمقها، وأكملها، على خلاف الإيمان السماعي السطحي. كما أنه قدم نفسه للرجل في أرفع ألقابه وإكمالها، وأعمقها: "ابن الله".

مع أن هذه دعوة حرة، إلا أنها تحمل معها إيحاء، ووعداً، وتشجيعاً.

عدد 36.

(ج) الرجل يظهر استعداده لتلبية الدعوة: "أجاب ذاك وقال من هو يا سيد لأومن به". هذا قبول من غير تردد، مما يدل على أن دعوة المسيح للرجل صادفت منه صدراً رحيباً، وأن الخطوات التي اجتازها إيمانه – من القول إنه "إنسان" (عدد 10)، إلى الاعتقاد بأنه "نبي" (عدد 17). قد أعدته بالمسيح "ابن الله".

فرق عظيم بين سؤال الجيران: "أين ذاك"؟ (عدد 12)، وبين سؤال هذا الرجل: "من هو"؟ أولئك يسألون عن البعيد: "ذاك"، وهذا يسأل عن القريب: "هو". هل داخل الرجل شيء من الظن، إنه ربما كان هذا "هو"؟؟!.

عدد 37.

(د) المسيح يعلن نفسه للرجل: "فقال له يسوع قد رأيته والذي يتكلم معك هو، هو". ما أحكم هذه الطريقة التي بها أعلن المسيح نفسه للرجل! كان من الممكن أن قول له: "أنا هو"، لكنه أراد بحكمته السامية، أن يعلن نفسه بكيفية تشعره بفضله عليه، وتذكره بحسن صنيعه معه: "قد رأيته". بهذه الكلمة ذكره المسيح في لمح البصر: بماضيه التعيس: "كان أعمى"، وأشعره بحاضره المجيد: "والآن يبصر". فأوقعه في دين خالد لا يمكنه أن يتخلص من التزاماته: "قد رأيته". بهذهالكلمة ذكره المسيح بفصلين – أولهما: أنه وهبه نعمة البصر في حد ذاتها. وثانيهما: وهو الأهم: أنه متعة برؤية شخصه العجيب: "الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر". فضل عظيم أن الرجل استطاع أن يرى على الإطلاق، وأعظم منه، أنه استطاع أن يرى المسيح نفسه.

في مقدمة هذا الإصحاح، رأينا المسيح ناظراً إلى الأعمى، والآن نرى الأعمى ناظراً إلى المسيح. "نحبه لأنه هو أحبنا أولا". "أنا لحبيبي وحبيبي لي"

"والذي يتكلم معك هو هو" – إذا كان المسيح قد ذكر الرجل بفضله الخاص عليه، بقوله له: "قد رأيته"، فإنه بقوله: "والذي يتكلم معك هو هو"، قد أوقفه أمام فضله العام على جميع البشر، ومنهم هذا الأعمى الذي اختصه بالتكلم معه: "الذي يتكلم معك هو هو" – وأي فضل أهم من تجسده "الكلمة"؟.

"الذي يتكلم معك هو هو" – إن خير تفسير لهذه الكلمات، نجده في مقدمة الرسالة إلى العبرانيين: "الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه" (عب 1: 1 و2). "هو هو" إن الذي يقول عنه الناس: "ذاك"، متخيلين إياه شبحاً بعيداً بعيداً، هو الآن أقرب إليك من حبل الوريد. هذا هو المحبة متجسدة. بقول المسيح له: "قد رأيته"، أشعره بنعمة الشفاء. وبقوله له: "الذي يتكلم معك "، أشعره بنعمة الخلاص. "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك".

عدد38.

(هـ) الرجل يجيب الدعوة نهائياً ويعبر عن إيمانه: عبرالرجل عن إيمانه تعبيراً مزدوجاً – جانبه الأول، بالكلام و اللسان: "فقال أومن يا سيد". وجانبه الثاني: بالعمل والحق: "وسجد له". هنا بلغ الرجل ذروة الإيمان في العبادة. فليس هذا سجود الاحترام وكفى، بل هو سجود العبادة أيضاً (يوحنا 4: 20؛ 12: 20).

عجيب أن هذا الرجل الذي وقف جامداً أمام كبرياء الفريسيين، ينحني بكل إجلال أمام ابن الله ويسجد "له"، لا "أمامه". فالإنسان أسير الإحسان

الآن قد أثمر إيمانه شكراً، فأضحى شكره محبة، فصارت محبته عبادة.

ومن الأهمية بمكان، أن نذكر أن، المسيح قبل هذا السجود، فإذا لم يكن المسيح إله تاماً، فمن المستحيل أن يكون إنساناً كاملاً، لأن الإنسان الكامل لا يقبل العبادة التي تقدم له وهو عالم أنها لا تجوز إلا لله وحده.

هذا هو "ابن لله " بشهادته، وبشهادة معجزاته، وبشهادة أعماله.

(2) المغزى الروحي للمعجزة- "حتى يبصر... ويعمى " (9: 39- 41).

39فَقَالَ يَسُوعُ: « لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هَذَا الْعَالَمِ حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ». 40فَسَمِعَ هَذَا الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟» 41قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلَكِنِ الآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ».

عدد39.

إعلان رهيب: أمام هذا المشهد المقدس الذي نرى فيه الرجل جاثياً عند قدمي المسيح، فاه المخلص بهذا الإعلان الرهيب، موجهاً الخطاب إلى التلاميذ، وإلى بعض الفريسيين الذين كانوا معه، تلاميذ سطحيين. ولعلهم كانوا جواسيس، فقال: "لدينونة أتيت إلى هذا العالم". إن الغرض الأساسي من مجيء المسيح إلى العالم، هو منح البصر للعميان. لكن العيون التي لا ترحب بنوره، يدركها الظلام. لأن للنور تأثيراً مزدوجاً: هو بهجة

العيون السليمة، وأذى العيون الرمداء. فمع أن الدينونة ليست غاية المسيح من مجيئه، إلا أنها إحدى النتائج الطبيعية الناشئة عن هذا المجيء. فالذراع التي توقف عن الحركة، يدركها الجمود. والعيون التي تظل مدة طويلة في الظلام، تفقد قوة البصر. فالمسيح نور، وهو أيضاً موضوع الإبصار، فكل عين تراه وترحب به، يتزايد نورها إلى النهار الكامل. وكل عين تتحول عنه، يرفع عنها النور، فيدركها الظلام الليل الدامس.

هذه النتيجة الأخيرة هي حكم الإنسان على نفسه.

إن قول المسيح: "إلى هذا العالم "، (عدد5). وأن "الذين لا يبصرون "، هم العائشون في ظلمة الجهل، ويشعرون بحقيقة حالهم. بل يقرون بها. وهم الذين وصفهم المسيح بـ "الأطفال" (لوقا10: 21 مت11: 25). ولعل منهم أولئك الذين وصفهم الفريسيون، بـ "الشعب الذي لا يفهم الناموس" (7: 49).

و "الذين يبصرون "، هم الذين يملأون الجو صياحاً بقولهم: "نحن نعلم " (عدد24 و 29)، وهم الذين وصفهم المسيح بـ "الحكماء والفهماء" (لو 10: 21 مت 11: 25) – هؤلاء المغتربون بمعرفتهم الضئيلة، فتحرم أنفسهم من المعرفة الحقيقية الكاملة – هم الذين يتمثلون في شخصية الملاك كنيسة اللاودكيين، الذي وجه إليه المسيح قائلاً: "لأنك تقول. إني أنا غني. وقد استغنيت، ولا حاجة لي إلى شيء ولست تعلم أنك أنت الشقي البئس وفقير و أعمى وعريان" (رؤيا3: 17)

من حكمة المسيح أنه لم يقل عن البسطاء أنهم عميان، بل اكتفى بأن وصفهم: بـ "الذين لا يبصرون". في الوقت نفسه، حكم على الحكماء في أعين أنفسهم، بالعمى التام.

عدد40.

اعتراض السامعين من الفريسيين: "فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين"يقول يوحنا الذهبي الفم، "إن هؤلاء كانوا تلاميذ سطحيين للمسيح، يرتدون لدى قيام أية صعوبة"ز ويقول عنهم ديفد سميث "إنهم كانوا جواسيس على المسيح في صورة تلاميذ". وربما انطبق عليهم الوصفان معاً. "وقالوا له ألعلنا نحن أيضاً عميان"؟ - يريدون بكلمة " أيضاً " أن يتعالوا عن غيرهم. كيف لا، وهم العلماء المعروفون عند عامة اليهود بـ "المتفقحقيم" أي المتفقهين، و المفتوحي العيون؟ أي نعم. وقد كانوا كذلك. إلا أن مثلهم مثل بلعام الذي قال عن نفسه إنه مفتوح العينين- ولكن في الظلام!! (عدد 24: 3).

عدد41.

حكم لا يقبل استئنافاً: "لو كنتم عمياناً، لما كانت لكم خطية". قد نعجب لسماعنا هذه الكلمات، من فم حمل الله الوديع، على أن عجينا يزول متى ذكرنا، أن حمل الله الوديع هو هو الأسد الخارج من سبط يهوذا. إن قلب الحمل يفيض حنواً على قدر ما تقدح عينا الأسد ناراً وشراراً. وفي اتقادنا أن المسيح نطق بهذه الكلمات الجارحة، وقلبه يتوجع.يا ليتهم كانوا من الذين وصفهم المسيح في بدء عدد 39:بـ "الذين لا يبصرون"!عندئذ، كان يتزايد لهم النور الكامل. أما وقد اغتروا بعلمهم بالناموس والأنبياء، فقالوا عن أنفسهم إنهم مبصرون، "فخطيتهم باقية". لقد ركز المسيح كل خطاياهم، في خطية واحدة – خطية عدم إيمانه به. هذه بذرة كل خطية. "أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي"، "هذا هو الوارث هلم نقتله". هذه خطية العارفين، التي تبقى بلا غفران، وتتقدمهم إلى القضاء.

إن المسيح نور ورؤيا، فبالإيمان به نرى شخصه، وفيه نرى الله. ها قد وضح السبيل الذي به يستطيع الإنسان أن يراه – وذلك بسماع صوته، وإطاعة أمره، والاعتراف بشخصه، والتسلح بنية قبول كل إهانة من أجل اسمه، والسجود له.

إن لهذه المعجزة مغزى تاريخيا يتمشى مع مغزاها الأدبي والروحي. فالرجل الذي كان أعمى فأبصر، تتمثل فيه نواة الغرس الجديد الذي أنبته المسيح، ليأخذ مكان زيتونة المجمع اليهودي التي أدركها البلى. هذه هي الحصاة الأولى في هيكل المسيحية الجديد الذي قامه المسيح على أنقاض هيكل سليمان. منذ الآن سيحمي وطيس القتال والصراع بين النظامين، حتى يراق دم المسيح على تربة الجلجثة، فتغتذي به زيتونة الكنيسة، وتترعرع، وتفرخ، وتثمر، فتتآوى في أغصانها طيور كثيرة، في وقت تصاب فيه زيتونة النظام اليهودي، بالانحلال والذبول.

 

 


[1] يعتقد ويستكوت بناء على استقرآت عملية، لا يتسع لها المقام هنا، أن الإصحاح التاسع منفصل عن الإصحاح الثامن،ومتصل بالإصحاح العاشر،من حيث الزمن. وأن الحوادث التي تمت في كليهما –ص 9و10- حدثت في عيد التجديد 10: 22و23.

[2] وهو أحد الأسفار المعروفة بـ "الأبوكريفا".

[3] الظاهر أن المسيح رأى في ذلك الأعمى صورة مجسمة للعالم المحاط بالظلمة.

[4] كلمة " سلوام"، آرامية. وهي متطورة في النطق والاشتقاق من كلمة "شلح" العبرية، ومعناها "أرسل" ولعل منها أيضاً "شيلوه" (إشعياء 8: 6).

[5] كان لمجامع اليهود وقتئذ أن تصدر حكم "الإخراج من المجمع" على ثلاث درجات. الدرجة الأولى كانت معروفة "بالندوى" وبسببها يحرم المحكوم عليه، مزاياه الدينية والاجتماعية مدة ثلاثين يوماً. والدرجة الثانية كانت معروفة بـ "الشماتا" وبسببها تطال هذه المدة ثلاثين يوماً أخرى. والدرجة الثالثة كانت معروفة بـ "المحرم" وبسببها كان يحرم هذا الامتيازات مدة مديدة. أما حكم الموت فكان من الضروري أن يصادق عليه الرومان.

[6] اعتقد الرومان قديماً أنه إذا تصارع خصمان وغلب أحدهما الآخر، فالقوة تنتقل من ذراع المغلوب إلى ذراع الغالب.

[7]  يقول حنا فم الذهب: لما طردوه من هيكل الرب، وجده رب الهيكل. ولما رذله و أذلو المسيح، قبله المسيح الممجد من الملائكة والقديسين.