الرئيسية كتب للقراءة

17 اَلأَصْحَاحُ السَّابِعُ عَشَرَ

مطالب الشفيع الأعظم

بعد أن فرغ المسيح من التحدث إلى تلاميذه، انصرف إلى حديثه مع الآب. في تحدثه إلى تلاميذه، أحاطهم بحنوه، وشملهم بنظره، مخاطباً إياهم بالقول: "يا أولادي!" (13: 33). وفي حديثه مع الآب، رفع عينيه نحو السماء وقال: "أيها الآب". ما أقرب التشابه الكائن بين الحديثين في براعة الاستهلال! فقد استهل المسيح حديثه مع تلاميذه بالقول: "الآن تمجد"، وافتتح كلامه مع الآب بالقول: "قد أتت الساعة. مجد". فالفاتحة في كليهما تشير إلى الصليب الذي يكلله المجد.

هذا الأصحاح، كما قال فيه بنغال "يعتبر في مقدمة فصول الكتاب من حيث بساطة التعبير وسهولة اللفظ. وفي طليعتها، من حيث سمو الفكر".

في هذا الفصل، حفظت خير صلاة رفعت بعد خير عظة في التاريخ.

قدم المسيح هذه الصلاة على مسمع من التلاميذ، وعلى مقربة منهم، في ذلك المكان عينه الذي ألقى فيه القسم الثاني من خطابه الوداعي. وقد أخذنا بالرأي القائل أنه في البقعة القريبة من وادي قدرون عند منحدر جبل الزيتون. قدم المسيح هذه الصلاة بصوت مسموع من التلاميذ، ليقدم لهم مثالاً لصلاته على الأرض، وصورة ضئيلة لشفاعته في السماء.

في هذه الصلاة أجمل المسيح ما قاله في خطابه الوداعي. ووضع ختمه على كل أعماله الماضية، ملقياً نظره على الماضي، والحاضر، والمستقبل.

1تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضاً 2إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. 3وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ.

هذه صلاة التكريس التي رفعها الكاهن الأعظم، وفيها قرب ذاته قرباناً على مذبح التكريس في الهيكل السماوي، قبل أن يقدمها ذبيحة على الصليب في هيكل الجلجثة. وفيها أيضاً رفع صلاة شفاعية، ضمنها ثلاثة مطالب:

أولاً: طلبه المتعلق بشخصه في صلته بالآب – ليسترد مجده. (17: 1 – 5).

ثانياً: طلبه الخاص برسله – لأجل حفظهم وتقديسهم (17: 6 – 19).

ثالثاً: طلبه بشأن كنيسته – لأجل توحيد صفوفها (17: 20 – 26).

هذه المطالب الثلاثة مجتمعة كلها حول عبارة واحدة: "مجد الله".

الطلب الأول (17: 1 – 5) – يتركز في كلمة واحدة: "مجد" (عدد 1 و5). والطلب الثاني يدور حول كلمتين: "احفظهم" (عدد11)، "وقدسهم" (عدد 17). والطلب الثالث تجمعه ثلاث عبارات: "ليكون الجميع واحداً"، "يكونون معي"، "ليكون فيهم الحب" (عدد 21 و24 و26).

أولاً: الطلب الأول – متعلق بشخص المسيح في صلته بالآب. (17: 1 – 5). تحدثنا هذه الأعداد، عن ثلاثة أمور خاصة بهذا الطلب المتعلق بالمسيح:

عدد 1.

(أ) جوهر هذا الطلب. ينبئنا هذا العدد بـ : (1) الظرف الذي قدم فيه هذا الطلب: "تكلم يسوع بهذا ورفع....". بعد أن فرغ المسيح من مخاطبة الأرض اتجه إلى مخاطبة السماء. (2) اتجاه هذا الطلب: "رفع عينيه نحو السماء". هذه الكلمات تعين اتجاه أفكار المسيح، كما أنها تعين أيضاً اتجاه الصلاة نفسها: "نحو السماء". في هذا درس لمن يصلون وعيون أذهانهم شاخصة إلى الناس، منتظرين علامة استحسان أو كلمة ثناء. هؤلاء، صلاتهم أفقية، لا عمودية، فهي "حائمة" حول رؤوس الناس، وليست "صاعدة" بثبات إلى عرش الله. على أن هذه الكلمات ليست قاصرة على تعيين اتجاه لأفكار المسيح وقت رفعه هذه الصلاة، لكنها تصف أيضاً اتجاه حياة المسيح بأسرها، فقد قضى كل حياته على الأرض، وهو على اتصال دائم وثيق بالآب الذي في السماء. (قابل هذا بما جاء في 11: 41 ولوقا 18: 13 وأعمال 7: 55). ومع أن الله موجود في كل مكان، إلا أن جلال السماء المنظورة، هو خير رمز لمجد الله المتلألئ في السماء الغير المنظورة وكذلك رفع العينين إلى السماء، يحمل رمزاً ضمنياً إلى تسامي النفس فوق القيود المادية المحيطة بها. (3) الشخص الذي قدم هذا الطلب: "يسوع". هذه صلاة الشفيع الأعظم حال وجوده بالجسد على الأرض، وهي أيضاً دليل على شفاعته في السماء، حيث حمل معه بشريتنا في جسد مجده. (4) الشخص الذي إليه رفع هذا الطلب: "وقال أيها الآب". لما علم المسيح تلاميذه أن يصلوا، قال لهم: متى صليتم فقولوا "أبانا...."، لأنهم أخوة – مع سائر المؤمنين – للآب الواحد. لكنه لما صلى هو، قال "أيها الآب" غير حاسب معه شريكاً في هذه النسبة القدسية الفريدة. فهو "الابن الوحيد" بمعنى سام يمتاز عن بنوة المؤمنين للآب. وقد استعمل المسيح في هذه الصلاة، الكلمة الآرامية: "الآب"، للتعبير عن تلك الصلة الباطنية، الروحية السرية، الغير المدركة، الكائنة بين الأقنوم الأول، والأقنوم الثاني في اللاهوت (قابل هذا بما جاء في شرح بشارة لوقا للمؤلف صفحة 311).

إن الله أب لجميع الجنس البشري، بوجه عام، باعتبار كونه خالق الجميع وهو أب للمؤمنين بنوع خاص، لأنه تبناهم لذاته، وأودع في قلوبهم حياة روحية مستمدة من روحه، وهو فوق كل ذلك، أب للمسيح بصفة ممتازة، فريدة، على أساس ما بين الأقنومين من وحدة في الجوهر، وتشابه في الصفات، ومحبة عميقة، أزلية، أبدية. فالمؤمنين هم أبناء الله بالتبني، لكن المسيح هو "الابن" طبيعياً وحقاً. وغني عن البيان، أن هذه الصلة الكائنة بين الأقنومين تختلف اختلافاً بيناً، عن الصلة الكائنة بين الوالد والمولود الأرضيين فالأولى صلة روحية، سماوية، والثانية جسدية أرضية (لمزيد الإيضاح راجع تفسير 1: 18). ومن الملاحظ، أن المسيح فاه بهذه الكلمة: "الآب"، بنغمة الثقة، التي وليدة الدالة البنوية الصادقة. (5) جوهر هذا الطلب: "قد أتت الساعة" – يريد "الساعة" التي تبدأ بالصلب، وتتوج بالقيامة، والصعود والمجد. هذه هي "الساعة" التي سبق المسيح فقال عنها في مناسبات سابقة: إنها لم تكن "قد أتت بعد" (7: 30 و8: 21). "مجد ابنك" – إن تمجيد الابن هو إظهار جلال طبيعته، وكمالات قوته، وقوة كمالاته، أمام عيون الناس، بنصرته على الصليب، وكسره شوكة الموت، وإعادته إلى المقام الجليل الذي كان متمتعاً به قبل اتضاعه بالتجسد. كما أن تمجيد الآب هو إظهار اسمه الكريم للناس، بقدسيته، وقوته، وجلاله (عدد 6).

(ب) غاية هذا الطلب (عدد 1 ب): "ليمجدك ابنك أيضاً". بإعلان اسمك وإعلائه أمام عيون المؤمنين، والعالم. لم يذكر المسيح كلمة: "الابن" في حالة الإطلاق، بل في نسبتها إلى الآب: "ابنك". إن تمجيد الابن، شرط لازم لتمجيد أبيه، كما أن تمجيد الآب، نتيجة طبيعية لتمجيد ابنه (انظر 2: 8). فالآب يمجد الابن، برضاه عنه، وتأييده له، وتعضيده إياه، ليكسر شوكة الموت. والابن يمجد الآب، بتعريف الناس به، وإتمام الرسالة التي تسلمها منه، وإطاعته حتى الموت، موت الصليب.

عدد 2.

(ج) الأساس الأول لهذا الطلب – إيهاب حياة أبدية للمؤمنين "إذا أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته". إن المجد الذي طلبه المسيح، هو تاج رسالته على الأرض، وهو مكافأتها. وأن الحياة التي أعطى المسيح سلطاناً ليهبها لخاصته، ليست قاصرة على البقاء، ولا هي مجرد الشعور بالوجود، لكنها حياة صادرة من الآب، عن طريق المسيح الذي هو الطريق. إذ به وحده يستطيع البشر أن يعرفوا الآب. (أيوب 22: 21 ومتى 11: 27).

الكلمة الأولى: "كل"، في قوله "كل جسد"، كما وردت ي الأصل تعني الكتلة البشرية كافة، التي وهب المسيح سلطاناً مطلقاً عليها. حين أرسل إلى الأرض برسالة الخلاص (متى 28: 18). والكلمة الثانية: "كل" في قوله "لكل من أعطيته"، تعني كل فرد من المؤمنين الذين أعطوا للمسيح ليكونوا خاصته في عهد الفداء. فـ"كل" الأولى، تعميمية إجمالية، و"كل" الثانية تخصيصية تفصيلية. وقد استعمل المسيح كلمة: "جسد" لتعني الإنسان كله في حال الضعف. هذا من قبيل إطلاق الجزء على الكل.

إن العبارة الثانية في هذا العدد: "ليعطي حياة أبدية"، موازية للعبارة الثانية في العدد الأول "ليمجدك ابنك أيضاً". فكأن المسيح طلب الصعود الذي به يتمجد، ليكون تمهيداً ليوم الخمسين الذي فيه سيودع "روح" حياته في قلوب المؤمنين. وأن قوله "كل من أعطيته" يذكرنا بأقواه التي مررنا بها في 6: 37 و44 و65 – "كل ما يعطيني الآب فإلي يقبل.... لا يقدر أحد أن يقبل إلي إن لم يجتذبه الآب.... لا يقدر أحد أن يأتي إلي إن لم يعط من أبي".

عدد 3.

(د) الصلة الكائنة بين تمجيد الله وإيهاب الحياة للمؤمنين – ماهية هذه الحياة الأبدية: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك يسوع المسيح الذي أرسلته". فالحياة الأبدية تقوم بمعرفة الآب والمسيح الذي أرسله. ومن المهم أن نلاحظ الوصف الذي وصف به المسيح الآب، فهو وص مثلث: (1) "الإله" – فهو إله ذاتي – هذا أكبر معول يهدم الاعتقاد بألوهية الكون. (2) "الحقيقي" – ضد الوهمي، والخيالي، والنظري. هذا أقوى معول هادم لكل فلسفة طبيعية وهمية. (3) "وحدك" – أي المتفرد بالألوهية – هذا أعظم معول يهدم الاعتقاد بتعدد الآلهة. وجدير بالذكر، أن هذا هو الموضع الوحيد، في كل الكتاب المقدس، الذي فيه نطق المسيح بلقبه كاملاً مردفاً إياه برسالته، فقال عن نفسه: "يسوع المسيح الذي أرسلته". ولعل السبب في ذلك، أن الفادي كان إلى الآن متجنباً استعمال كلمة "المسيح" عن نسه أمام الشعب – إلا في مرة واحدة أمام السامريين (4: 26). يؤيد هذا. وصيته لتلاميذه بعد اعتراف بطرس "أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح" (متى 16: 20). أما الآن، وقد حان الوقت الذي فيه يعد التلاميذ للكرازة بشخصه فادياً ومسيحاً، فلم يكن هنالك بد من أن يسمع تلاميذه هذا اللقب كاملاً ولو مرة واحدة، قبيل انقضاء حياته على الأرض. فبقوله: "يسوع"، أراد اسمه الإنساني – ومعناه مخلص، وهو من مصدر عبري، أصله "وسع" أي أفرج وخلص (متى 1: 21). وبقوله: "المسيح" أراد وظيفته الفدائية باعتبار كونه الممسوح من الله بمسحة الروح القدس ليكون ملكاً روحياً على شعبه. وقوله: "الذي أرسلته"، يفيد سلطانه المطلق، الذي جاء أرضنا متقلداً إياه حاملاً اسم الآب وقوته. ومن الأهمية بمكان، أن نلاحظ أن وضع اسم "يسوع المسيح" جنباً إلى جنب مع اسم "الإله الحقيقي وحده"، برهاناً ضمنياً على لاهوت المسيح، لأن هذا معناه أن معرفة المسيح موازية لمعرفة الإله الحقيقي وحده. وأن هذه المعرفة المزدوجة هي أساس الحياة الأبدية، وقوامها، وتاجها. إذ ليس المسيح مجرد أداة للمعرفة بمقدار كون الآب نفسه موضوع هذه المعرفة عينها.

4أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. 5وَﭐلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.

عدد 4.

الأساس الثاني لهذا الطلب: إتمام المسيح العمل الذي تسلمه من الآب: "أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته". إن الأساس الأول الذي ذكره المسيح في عدد 3، كائن في بطن المستقبل: "ليعطي حياة أبدية". لكن الأساس الثاني المذكور في هذا العدد مرتكز إلى حقيقة تمت فعلياً في الماضي: "أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته".

يتألف هذا العدد من مقطعين، أولهما ممهد للثاني، وثانيهما مفسر ومكمل للأول. وكلا المقطعين يكون أنشودة جميلة صادرة عن نفس مطمئنة، وضمير مستريح، وحياة ظافرة. خالية من خطايا الفعل وخطايا الترك. لأن المسيح كامل كمالاًً إيجابياً لا سلبياً. فهو لم يعمل شراً ولم يغفل خيراً.

عدد 5.

عود إلى بدء – المسيح يسترد مجده الأزلي للذي أخلى نفسه منه عند التجسد: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم". إن قول المسيح: "عند ذاتك"، يقابله المكان الوضيع الذي كان فيه المسيح "على الأرض" وقت رفعه هذه الصلاة. وإن قوله: "المجد الذي كان لي عندك"، يقابله اتضاع المسيح وقتئذاك. نعم كان المسيح حال وجوده على الأرض، متمتعاً بمجد "كما لوحيد من الآب" (1: 14). لكن مجده في حال اتضاعه ليس سوى شعاعة من شمس مجده الذي كان له عند الآب "قبل كون العالم". وأن قوله: "عند ذاتك" يفسره قول البشير في مقدمة هذه البشارة: "والكلمة كان عند الله"، "الابن الوحيد.. في حضن الآب" (1: 1و18). هذا برهان جلي، على أن المسيح ذات، أزلي، لأن الكائن عند ذات الله، ذات مثله. ومتى كان المجد أزلياً، فالممجد، أزلي بالأولى.

كان المسيح أثناء وجوده على الأرض، متسربلاً ثوب بشريتنا، الذي حجب عن البشر لمعان مجده الأسني، لدرجة جهله فيها الأكثرون، حتى الأهل والأقرباء. ولو كان قد كشف القناع عن هذا المجد، لعرفه كل من نظر إليه وصاح قائلاً: "هذا هو". لكنه، بإرادته "أخلى نفسه" من ذلك المجد "آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس" – بل في أوضع حال الناس – "فلا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس... وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به". على أن المسيح لم يفقد ذلك المجد الأزلي، بتجسده. وإنما تخلى عنه باختياره - إلى حين – وكان دوماً حاملاً إياه بصورة محجوبة عن العيون المادية، فكان كجندي حامل سيفه معه أنى سار، وهو يحجب حد ذلك السيف في الغمد ليجرده أنى شاء. فلما "أتت الساعة" استرد المسيح ذلك المجد. ومن الأمور التي تستحق منا شكر الله، أن المسيح استرد ذلك المجد وهو حامل معه بشريتنا في جسد مجده، ولسوف "يغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده" (فيلبي 3: 21).

ثانياً – طلبه الخاص برسله: لأجل تكريسهم وتقديسهم (17: 6 – 19)

يتركز هذا الطلب في طلبين أولاهما "احفظهم" (عدد 11)، وثانيهما "قدسهم" 0(عدد 17). وقد مهد المسيح للطلبة الأولى، وأردفها بذكر نسبة التلاميذ إليه، ونسبتهم إلى العالم على اعتبار أن هذه النسبة المزدوجة، أساس مزدوج لهذه الطلبة. فالأساس الأول –أعني به نسبة التلاميذ إلى المسيح، مبين في الأعداد 6 –10. والأساس الثاني – أي وحشة التلاميذ في العالم، واقع في الأعداد 11 – 15.

جميل أن نرى حسن ظن الفادي بتلاميذه الضعفاء، لدرجة تغاضى فيها عن جهالتهم (14: 19)، وجبنهم (16: 32)، حاسباً لهم إيمانهم به، وحفظهم كلامه، وعلمهم بمصدر رسالته. لأن عينيه الطاهرتين، لمحتا وراء نبتة إيمانهم الغضة ثماراً ناضجة، ورأتا تقصيراتهم وضعفاتهم قلوباًًًً مخلصة، ونفوساً واثقة. هذا أجمل تفسير لتلك النبوة القديمة التي قيلت عنه: "قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ". فمن هذه القصبات المرضوضة، أقام أعمدة راسخة في هيكل المسيحية، ومن هذه الفتائل المدخنة، أقام منائر مضيئة.

6«أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي وَقَدْ حَفِظُوا كلاَمَكَ. 7وَﭐلآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ 8لأَنَّ الْكلاَمَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. 9مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ. 10وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ. 11وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ"

عدد 6-10 (أ) الأساس الأول لهذه الطلبة انتساب التلاميذ للمسيح

عدد 6:

(1) وصف مثلث للتلمذة الحقة في بذرتها "أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم. كانوا لك وأعطيتهم لي وقد حفظوا كلامك". في هذا العدد وضع المسيح ثلاثة جوانب للتلمذة الحقة: - (1) التلمذة الحقة من جانب المسيح: "أنا أظهرت اسمك للناس". إن قوله: "أنا أظهرت اسمك"، يوازي قوله في عدد 4 "أنا مجدتك على الأرض"، وكلا القولين مفسر للآخر. أما "الناس" الذين قصدهم المسيح بقوله: "أظهرت اسمك للناس" فهم تلاميذه. (2) التلمذة الحقة من جانب الآب: "الذين أعطيتني من العالم كانوا لك وأعطيتهم لي"، فالتلاميذ هم عطية الآب[1] للمسيح (6: 44و 65). (3) التلمذة الحقة من جانب التلاميذ: "وقد حفظوا كلامك". فمن هذه الثلاثة الجوانب نرى أن المسيح عرف، والآب أعطى. والتلاميذ حفظوا. وكل هذه الثلاثة الجوانب مرتبطة ببعضها تمام الارتباط، ومكونة حجة قوية رفعها المسيح إلى الآب بقوله: "احفظهم في اسمك" (عدد 11) هذا بمثابة القول: "لا تتخل عن عمل يديك". ولا شك في أن هذه الطلبة تحمل معها إجابتها، لأنه لا يعقل أن الآب يجعل خدمة المسيح عبثاً، ولا أن يجعل عطيته تذهب هباء، كما أنه لن ينسى تعب محبة التلاميذ، وعمل إيمانهم، وصبر رجائهم، في حفظهم كلام الله، وقبولهم الفادي رباً ومسيحاً.

عدد 7 و8.

وصف مثلث للتلمذة الحقة في نموها وكمالها "علموا"... "قبلوا"... "آمنوا". هذه ثلاث كلمات، بمثابة ثلاث درجات في سلم الإيمان الراقي. فالدرجة الأولى: "علموا"، تعني التمييز. أي أن التلاميذ عندما سمعوا رسالة المسيح، ميزوها وحكموا بأنها رسالة سماوية من عند الآب: "علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك". هذا نصيب العقل في الإيمان. والدرجة الثانية: "قبلوا"، تفيد ترحيب التلاميذ بالمسيح ترحيباً قلبياً، وإدخالهم إياه إلى أعماق نفوسهم، نتيجة علمهم اليقيني الاختباري بمصدر رسالته وصدق مسيحيته. هذا نصيب القلب في الإيمان. والدرجة الثالثة: "آمنوا"، تشير إلى العزيمة الثابتة الملهمة بنور العقل والملتهبة بنار القلب. هذا نصيب الإرادة في الإيمان. فالإيمان ينشأ بالمعرفة، ويستضيء بالتمييز، ويتغذى بالمحبة، ويتشدد بالعزيمة، ويتوج بالثقة.

إن المسيح يتكلم عن نفسه في هذه الأعداد باعتبار كونه فادياً ووسيطاً...

عدد 9.

(1) مدى شفاعة المسيح: "من أجلهم أنا أسأل. لست أسأل من أجل العالم بل من أجل الذين أعطيتني". يحدثنا هذا العدد، عن مدى تشفع المسيح، في كلمتين – الأولى: إيجابية جامعة، وبها يستهل العدد ويختتم "من أجلهم أنا أسأل........ من أجل الذين أعطيتني لأنهم لك". والكلمة الثانية: سلبية مانعة، وهي واقعة في قلب هذا العدد: "لست أسأل من أجل العالم". على أن امتناع المسيح عن أن يتشفع في العالم، ليس امتناعاً مطلقاً بل محدوداً بهذا الظرف الخاص، لأنه واضح من قول المسيح: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34) إنه كان مصلياً من أجل العالم. ولكنه امتنع هنا عن أن يطلب للعالم حفظاً، لأن العالم لا يحتاج إلى الحفظ، ولا إلى التقديس، لكنه يحتاج أولاً إلى التجديد، والتغير، والإيمان (17: 21). ولأن حفظ العالم في حالة، نقمة لا نعمة. ولأن أساس هذا التشفع لا ينطبق على العالم، الذي لم يحفظ كلام الله (عدد 6)، ولأن العالم ليس من خاصة الله.

ويعتقد رايل وبعض المفسرين، أن المعنى في هذه العبارة، منصرف إلى شفاعة المسيح بوجه عام، فهو لا يشفع في العالم المتمرد "الذي لا يقبل روح الحق" (14: 27). لأن الصلاة من أجل عالم هذا وصفه، تحسب عبثاً. ونميل نحن إلى الأخذ بالرأي الأول. ولعل كثيرين من الذين آمنوا بالمسيح يوم الخمسين، كانت لهم شركة فعلية في صلب المسيح يوم الجمعة الحزينة.

(2) الحجة الأولى لشفاعة المسيح في هذا الظرف: "لأنهم لك" – فمع أن المؤمنين أعطوا للمسيح، ليقتهم ويقيهم، إلا أنهم لا يزالون ملكاً للآب، فالمسيح مكلف بحراستهم كراع مؤتمن، وفاد أمين.

عدد 10

– الملكية المتبادلة: "كل ما هو لي، فهو لك. وما هو لك فهو لي" – هذا دليل على تكريس المسيح التام، وعلى شعوره اليقيني بعظمة لاهوته، واتحاده الكامل بالآب. فهل يقوى مجرد إنسان، على أن يخاطب الله بمثل هذه اللغة: "كل ما هو لك فهو لي"؟ في إمكان أي إنسان مؤمن، أن يشارك المسيح في العبارة الأولى: "كل ما هو لي فهو لك"، لكن لا يجسر أحد غير المسيح أن يشاركه في العبارة الثانية: "وما هو لك فهو لي". إن قوله: "كل ما هو لي"، ليس قاصراً على الأشخاص، بل يشمل أيضاً كل الحقوق والممتلكات.

(3) الحجة الثانية لشفاعة المسيح في هذا الظرف – التلاميذ المحفوظون، هم أداة لتمجيد المسيح: "وأنا ممجد فيهم" – أي تمجدت في الماضي ولازلت ممجداً فيهم بإيمانهم وطاعتهم ومحبتهم وولائهم، فكما أن الكرمة تتمجد في أغصانها المثمرة كذلك تمجد المسيح التلاميذ في. قابل أفسس 2: 20.

(ب) الأساس الثاني لطلبة المسيح: وحشة التلاميذ في العالم (17: 11 – 15). في هذه الأعداد، بسط المسيح هذا الأساس بكل بساطة ووضوح ثم ردده بين حين وآخر، نظراً لشعوره بوحشتهم الأليمة التي سيتجرعون غصصها بعد ارتفاعه عنهم: "ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا آتي إليك". في هذه العبارة، رأى المسيح نفسه وقد فرغ من الصلب، وأتم عملية الفداء، ولفرط حبه لتلاميذه انشل بهم عن ذاته، مع أنه كان محاطاً بظل الصليب، فذكرهم ي وحدتهم، وهو عالم أنهم سيتركونه في وحدته.

(1) النداء الخاص الذي تستهل به هذه الطلبة: "أيها الآب القدوس" – هذه هي المرة الثانية التي فيها يتوجه المسيح إلى الآب بنداء خاص، أثناء هذه الصلاة الشفاعية – المرة الأولى في عدد 1. على أنه ي هذه المرة الثانية قد وجه الحطاب إلى الآب، بكلمات لم ترد إلا في هذا المكان وحده، فقال: "أيها الآب القدوس". فما أكثر ملائمة هذا النداء إلى طبيعة هذه الطلبة! إذ أن "الآب القدوس" وحده هو الكفيل بحفظ التلاميذ في اسمه، مقدسين من كل دنس في العالم. فقداسة الآب، هي الضمان الأوحد لقداسة المؤمنين.

(2) جوهر هذه الطلبة: "احفظهم في اسمك الذين أعطيتني" – يراد بـ"اسم الآب"، كل الحق الذي أظهره المسيح، وأعلنه للتلاميذ عن ذات الله وصفاته، بما فيها القدرة، والمحبة، والحكمة، والقداسة (عدد 6)، فحفظ التلاميذ في "اسم الآب"، يراد به حفظهم ثابتين في دائرة هذا الحق المعلن، ومتحصنين في ذات الله، وفي شخصه. لأن "اسم الرب" برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع. وقد أراد المسيح أن يحفظ تلاميذه باستمرار داخل هذا "الحصن المنيع" فترتد عنهم سهام الشرير. إن العالم بيئة خارجية محيطة بالتلاميذ، مليئة بالبغضاء والتجارب المصوبة إليهم، لكن اسم الله بيئة داخلية قدسية، تحيطهم بغلاف من المناعة الروحية التي تطفئ جميع سهام الشرير الملتهبة.

(3) الغاية الأولى من هذه الطلبة: "ليكونوا واحداً كما نحن" – هذا هو المثل الأعلى للوحدانية التي يجب أن تتوفر في المؤمنين، بالنسبة لبعضهم البعض، فهي ليست وحدانية في العقيدة، ولا هي وحدانية في النظام، ولا هي وحدانية جغرافية، لكنها وحدانية روحية، باطنية، مؤسسة على شركة في الجوهر الواحد، والروح الواحد، والرأي الواحد، والإرادة الواحدة. على أن الاتحاد الذي يمكن أن يوجد بين المؤمنين، وإن تعذر بلوغه إلى الاتحاد بين الآب والابن في نوعه وكميته، فمن المستطاع أن يكون على مثاله.

12حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ابْنُ الْهلاَكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. 13أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلاً فِيهِمْ. 14أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ

عدد 12.

(4) "أبناء العناية، وابن الهلاك": "حين كنت معهم في العالم كنت أحفظهم في اسمك" – أي كنت أحرسهم، واسهر عليهم – "الذين أعطيتني حفظهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب". هذه حقيقة لها جانبان. جانبها الأول مشرق بنور دونه نور النهار، يبعث في نفس المؤمن عزاء: "الذين أعطيتني حفظهم ولم يهلك منهم أحد". وجانبها الثاني، مفعم ناراً لاذعة تصلي الأشرار عذاباً: ".... ابن الهلاك". وقد نعجب إذ نسمع كلمة "ابن الهلاك" صادرة عن لسان المسيح، الذي يفيض دوماً رقة وعذوبة، لكن عجبنا يزول متى ذكرنا أن المسيح المحب هو المسيح "الحق". فمع أن "الحق" مر، إلا أنه من الواجب أن يقال. كلمة ابن الهلاك" وردت مرتين في العهد الجديد – هنا وفي 2تس2: 3، وهي عبرية في تركيبها ومعناها – على مثال قوله "أولاد نور" (أفسس5: 8) و"أولاد" (إش57: 4) و"أبناء الموت" (1صم26: 16). ويراد بها أن يهوذا مستحق الهلاك، لأنه حامل في طبيعته عوامل الهلاك أسبابه.

وهنا يعترضنا سؤال: هل كان يهوذا ضمن اللذين أعطهم المسيح من الآب، فصار فيما بعد من أبناء الهلاك؟ وجوابنا على ذلك: "كلا". فان يهوذا كان منذ البداءة "ابن الهلاك"، ولم ينتفع شيئاً من وجوده مع المسيح. وقد استعملت كلمة: إلا" في هذه القرينة بمعنى: "أما" أو "إلا أن" كما في (متى12: 4). فالاستثناء الواقع بعدها في قوله: "لم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك". هو استثناء منقطع، لأن يهوذا لم يكن من اللذين أعطاهم الآب السماوي. فكأني بالمسيح يقول: "أما الواحد الذي هلك وهو يهوذا "ابن الهلاك"، فلم يكن من اللذين أعطيتني إياهم، لذلك هلك، وأنا لم أحفظه. إلا أن هلاكه لم يكن حادثاً غريباً. لأن الكتاب سبق فأنبأ عنه".

"ليتم الكتاب" – الإشارة هنا إلى ما جاء في مزمور41: 9، وليس المراد بها أن يهوذا هلك لكي يتم الكتاب – كأن إتمام الكتاب، كان أحد البواعث العاملة على هلاك يهوذا، بل إن هلاك يهوذا جاء متفقاً مع ما سبق فأنبأ عنه الكتاب. وهذا لا يخلى يهوذا من المسؤولية، لأنه لم يكن عالماً بأن ما في الكتاب ينطبق عليه. ولأنه لم يقدم على فعلته الشنعاء ليتمم ما في الكتاب، بل ليتمم شهواته الساقطة. وإن أكبر حجة على ذلك. هي شهادة ضميره الذي ثار عليه فتخلص من تأنيباته، بأن مضى وشنق نفسه.

عدد13.

(5). الغاية الثانية من هذه الطلبة – ليكون فرح المسيح كاملاً في التلاميذ: "أما الآن فاني آتي إليك". مع أن المسيح سبق ففاه بهذه الحقيقة في عدد11، إلا أنه وجد لذة خاصة في تكرارها في هذا العدد. فليس أحب إلى النور من أن يلتقي بالنور. "وأتكلم بهذا في العلم" – أي وأرفع هذه الصلاة بصوت مسموع من التلاميذ وأنا معهم في العالم – "ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم". إن الفرح المعبر عنه هنا، هو الفرح المالئ قلب المسيح، نتيجة عمله بسرعة انطلاقه إلى الآب، ويقينه بأن تلاميذه الذين سيتركهم من بعده. سيكونون في حراسة الآب وحفظه. وجدير بالملاحظة أن المسيح أراد أن يكون فرحه: (1) ملكاً للتلاميذ، بدليل قوله: "ليكون لهم" (ب) كاملاً: "كاملا" – غير مشوب بخوف أو ضعف ثقة، أو شعور بوحشة وانفراد. (ج) في أعماق نفوسهم : "فيهم" إن ممتلكاتنا التي حولنا ليست لنا. لأنها معرضة للزوال. فلا يبقى لنا إلا ما نملكه في أعماق نفوسنا.

عدد 14

(6) التلاميذ بين المسيح وبين العالم: " وأنا قد أعطيتهم كلامك". يراد ب "كلام الله" خلاصة ما أعلنه المسيح للتلاميذ عن ذاته وعن الآب. إذا أعطاهم كلام الآب، وضع في قلوبهم طبيعة جديدة مستمدة من طبيعته، ومن نوعها، لكنها منافية لطبيعة العلم. فالنتيجة الطبيعة لذلك، أن العالم. فالنتيجة الطبيعية لذلك، أن العالم أبغضهم لأن طبيعتهم الجديدة رفعتهم فوق مستوى العالم فأصبحوا من طبيعة مغايرة لطينة العالم، مع أنهم كانوا في العالم: "لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم". فأمامنا الآن عزاء التلمذة وعذابها. أما عزاؤها فهو أن تلميذ المسيح موضوع حراسته (عدد12) وممتلئ بفرحه (عدد13) ومتشبع بكلامه (عدد14). وأما عذابها فهو أن التلميذ موضوع بغضة العالم. وهل يخشى عوى الذئاب من يشرق على وجهه رضى الله؟

15لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ. 16 لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. 17قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّك. كلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ.

عدد 15

(7) ماهية هذه الطلبة: "لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير". في ختام هذه الطلبة عبر المسيح عن ماهيتها بكلمات مانعة جامعة. أما كلماته المانعة، فهي قوله: " لست أسأل أن تأخذهم من العالم". لحكمة ممتازة، لم يسأل المسيح من الآب أن يأخذ التلاميذ من العالم لأن وجودهم في العالم نافع للعالم، فهم ملح الأرض، وهم نور العالم. وما نفع الطعام بغير ملح، وما قيمة المدينة من غير نور؟ فضلاً عن ذلك فإن وجودهم في العالم نافع لهم. فالعالم مدرسة يتلقّى فيها التلاميذ دروساً ثمينة في الصبر والإحتمال وطول الأناة، وفوق ذلك فإن عليهم رسالة لم يكملوها بعد. فمن يحمل رسالة المسيح بعد صعوده إذا رفع تلاميذه معه من العالم؟ وأما كلماته الجامعة فهي قوله: "بل أن تحفظهم من الشرير" – كالزنبقة البيضاء تكون محافظة على جمالها وهي في وسط الأوحال، أو كرأس الإبرة المغنطيسية يكون على الدوام مثبتاً إلى الشمال، مهما هبت العواصف وتقلبت الأجواء، أو كنبع مياه في قلب صحراء قاحلة. إن القداسة التي طلبها المسيح لتلاميذه ليست سلبية قائمة بالمنع والهرب وإنما هي ايجابية تقوم بالمنح والحرب الظافرة المنتصرة، فمجرد الانفصال المادي عن العالم لا ينفع. وإنما الذي ينفع هو الاتصال التام بالله. إن القداسة القائمة على ما حولنا لا تعني فتيل. وإنما القداسة الحقة هي القائمة على ما فينا.

إن النيران التي كانت محيطة بالثلاثة الفتية، لم تقو على إحراقهم، لأنهم كانوا محاطين بابن الله، فالبيئة الداخلية الروحية تحطم سهام البيئة المادية لأنهم كانوا محاطين بابن الله، فالبيئة الداخلية الروحية تحطم سهام البيئة المادية الخارجية (1 يو 5: 18 و19، 2 تس 3: 3، 1 يو 2: 13 و 14، 3: 12).
كلمة: "الشرير"، قد تني الشر مجسماً في شخص إبليس، كما في الطلبة المتضمنة في الصلاة الربانية: "نجنا من الشرير" (متى 6: 13)، وقد تعني الشرير كمبدأ عام، أو "المحيط الشرير" – أي "العالم الذي وضع كله في الشر" (1 يو 5: 19). إن هذه الطلبة وسائر طلبات المسيح، تحمل معها جوابها فهي وعد، ونبوة بأن الله، لن يحفظ إلا الذين يريدون أن يحفظوا أنفسهم.

طلبة المسيح الثانية لأجل رسله – إن تقدسوا في الحق (17: 16- 19). مررنا في الأعداد السابقة، بالطلبة الأولى التي رفعها السيد المسيح لأجل رسله "أن يحفظوا من الشرير"، وها نحن نواجه طليته الثانية لأجلهم (عدد 17). بحجة أخرى مؤيدة لها( عدد 18 و 19)

عدد 16.

(1) الحجة الممهدة لهذه الطلبة: انعزال التلاميذ عن العالم: "ليسوا من العالم كما أنا لست من العالم" – سبق الفادي فنطق بهذه الكلمات عند ختام الطلبة السابقة (عدد 14)، وقد أوردها هنا أيضاً مكرراً ومقرراً. فهي، والحالة هذه حلقة اتصال بين الطلبتين. بها تختتم الطلبة الأولى، وتستهل الطلبة الثانية.

" ليسوا من العالم" – في طبيعتهم، وأميالهم، وآمالهم. ليس هذا انعزالاً مادياً جغرافياً، لكنه انعزال روحي على مثال انعزال المسيح عن العالم. فمع أن التلاميذ كانوا عائشين في العالم. وأن مغايرتهم للعالم، نتيجة طبيعة مشابهتهم للمسيح. فالعبرة ليست بالظرفية المكانية، بل الحالة الروحية.

عدد 17.

(ب) جوهر الطلبة: " قدسهم في حقك: كلامك هو حق". كان من الطبيعي، أن يأتي هذه الطلبة بعد الطلبة السابقة، لأنهما مرتبطتان معاً ارتباطاً منطقياً،. فمن الطبيعي أن الحفظ يسبق لتقديس، لأن الحفظ إعدادي للتقديس و التقديس متمم للحفظ. الحفظ سلبي: "من الشرير"، والتقديس إيجابي: "في الحق". فالتلاميذ "ينقلون" من منطقة الشرير الموبوءة، ليوجدوا في منطقة الحق النقية، فيتشبعوا من جوها المقدس والمقدس. أساس الطلبة الأولى، هو انفراد التلاميذ في العالم. لكن أساس الطلبة الثانية هو عمل التلاميذ في العالم، باعتبار كونهم رسل المسيح.

أراد المسيح ب: "تقديس" التلاميذ، معنيين: المعنى الأول داخلي، وهو انتزاع كل ميل نفساني، جسداني، مادي، من قلوبهم. أو بعبارة أرى تطهيرهم من كل ما هو مغاير لروح الله وإرادته. فمع أن التلاميذ تبرروا دفعة واحدة،إلا أنهم يحتاجون إلى التقديس يوماً فيوماً. والمعنى الثاني خارجي، وهو تكريسهم وتخصيصهم نهائياً و كمالياً للخدمة الرسولية التي تسلموا مقاليدها من المسيح، وسيتحملون مسئوليتها بعد انطلاقه عنهم، مثلما كان يتخصص الكاهن قديماً لخدمة الكهنوت. قابل هذا بما جاء في رومية 12: 1 – "قدموا أجسادكم" – على اعتبار أن الجسد ممثل للإنسان كله – "ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله". فالتقديس في معناه الأول، مركزه القلب، وفي معناه الثاني مركزه الإرادة والني. أما "الحق" فهو أداة تقديسهم، وهو أيضاً الجو الذي فيه يتقدسون. فلا يكفي أن يكون "الحق" في التلاميذ، بل يجب أن يكون التلميذ أياً في الحق، فيكون لهم الحق جواً روحياً يتنشقون منه عبر القداسة والحرية. ويراد ب "الحق"، خلاصة المعلنات التي أتى بها المسيح عن الآب وعن نفسه (عب 1: 1)، أو قل: إن "الحق" هو المسيح نفسه. فإذا ما قلنا إ، "الشرير" هو الشرأَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ 19وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي مجسماً، جاز لنا أن نقول أيضاً إن المسيح هو الحق متأنساً. أما الجزء الثاني من هذه الآية: "كلامك هو الحق" – أو : "هو الحق"، فهو مفسر، ومكمل لقوله: "حقك". والترجمة الحرفية لقوله: "كلام"، هي: "الكلام الذي لك"، على اعتبار أن المسيح لم يتكلم بشئ من عندياته، إذ أنه هو نفسه "كلمة الله المتجسد".

"18 كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ.  19 وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ.

عدد 18 و 19.

(ج) الحجة المؤيدة لهذه الطلبة. تتضمن هذه الحجة باعثين – أولهما: عمل الرسل لأجل المسيح، في العالم (عدد 18).

وثانيهما: عمل المسيح لأجل الرسل (عدد 19).

عدد 18.

الباعث الأول – عمل الرسل لأجل المسيح، في العالم "وكما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم". كان على التلاميذ أن يؤدوا الرسالة التي حملهم المسيح أعباءها، فيقوموا بها نيابة عنه بعد انطلاقه إلى السماء، هي إلى حد ما، مشابهة للرسالة التي تسلمها المسيح الآب، وإن كانت ليست من نوعها ولا في درجتها. فالمسيح أرسل من السماء إلى العالم، لكن تلاميذه أرسلوا من العالم إلى العالم. رسالة المسيح فدائية، لكن رسالة التلاميذ تبشيريّة. غير أن رسالة التلاميذ تحسب على نوع ما، إمتداداً لرسالة المسيح. مع أن الرسل لا يتألمون مثلما تألم المسيح، إلا أنهم "سيكملون نقائص شدائد المسيح في أجسامهم" (كو 1: 4).

إن وجه الشبه الرئيسي – إن جاز أن يكون هنالك تشبيه – بين رسالة المسيح ورسالة التلاميذ، هو تقديس المرسل. فكما الآب "قد قدس المسيح" – أي كرسه، وخصصه، وهيأ له جسداً مقدساً – قبل أن يرسله إلى العالم (10: 36)، كذلك أراد المسيح أن "يقدس" رسله، بحقه، وبشفاعته فيهم، وبتقديسه ذاته من أجلهم – قبل أن يرسلهم إلى العالم. غير أن تقديس المسيح، يختلف عن تقديس الرسل، كما يتبين مما يلي:

عدد 19.

(5) الباعث الثاني – ما يعمل المسيح لأجل الرسل: "ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق". إن "تقديس" التلاميذ، هو تطهيرهم داخلياً، ثم تكريسهم خارجياً. لكن "تقديس" المسيح، عمل خارجي، بقوم بتكريسه ذاته، وتقديمها لله ذبيحة حية مقدسة. فضلاً عن ذلك، فإن التلاميذ عاجزون كل العجز، عن أن يقدسوا ذواتهم. إذ لا يمكن للفساد أن يقدس الفساد. لكن "تقديس" المسيح، يقوم به ذاته: "أقدس أنا ذاتي" – أي يقدم ذاته بمشيئته الحرة المختارة، على مذبح الصليب، إذ"بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب" (عب 9: 14). فهذه المشيئة صار الرسل والمؤمنون "مقدسين بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة" (عب 10: 10).

 ولا يغرب على بالنا، أن المسيح فاه بهذه الكلمات، باعتبار كونه رئيس كهنتنا الأعظم، وهو متهيئ لتقديم ذاته على الصليب. ويقول جودي: إن المسيح بعمله هذا، قد هيأ طبيعة إنسانية مقدسة، حاملاً إياها إلى المجد، ليودعها في قلوب الرسل وسائر المؤمنين، بروح قدسه. "لأنه إن كنا قد صرنا متحدين مع المسيح بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا أن أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاَءِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية" (رو 6: 5 و6). "لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقنى من ناموس الخطية والموت" (رو 8: 2).

إن تقديس المسيح ذاته، عمل تكريسي فدائي، لم يكن هو في حاجة إليه، بل قام به لأجل الرسل ولأجلنا. أما قولنا في نهاية هذا العدد: "في الحق"، فمعناه: "لكي يكونوا مقدسين فعلاً، وحقاً" لا اسما، وطقساً، وصورة. ويجوز أن تترجم هذه العبارة إلى: "مقدسين بالحق".

20 وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هَؤُلاَءِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكلاَمِهِمْ. 21 لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. 22 وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. 23 أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي. 24 أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ. 25 أَيُّهَا الآبُ الْبَارُّ إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ وَهَؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. 26 وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ»

ثالثاً. طلب المسيح لأجل كنيسته (17: 20 – 26)

إن فوائد هذا الطلب الثالث تمتد إلى جميع المؤمنين بالمسيح. وهو يتألف من طلبتين – كل منهما تحمل معها نتيجتها، والباعث عليها. فالطلبة الأولى هي: إفصاح المسيح للآب عن رغبته في اتحاد المؤمنين معاً: "ليكون الجميع واحداً" (20: 23). ويلوح لنا، أن هذه الطلبة الرئيسية في ذا الطلب، لأن المسيح رددها أربع مرات في ثلاثة أعداد (عدد21 -23). والطلبة الثانية هي: إفصاح المسيح إلى الآب عن إرادته أن يكون المؤمنون به موجودين معه حيث يكون هو (عدد 24) وقد مهد المسيح لهاتين الطلبتين بكلمة مجملة في عدد20، ثم عقب عليهما بخلاصة، تعتبر خاتمة لهذا الفصل.

عدد 20.

كلمة مجملة عن اللذين يصلي المسيح لأجلهم في هذا القسم الأخير من صلاته الشفاعية: "لست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من بِكلاَمِهِمْ 21لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِداً كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ
أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم". يراد ب"كلامهم"، البشارة التي تكلم بها الرسل شفاهاً، وكتبوها في الرسائل، فصارت واسطة لإيمان الناس بالمسيح (رو 10:14).وقد نسبت كلمة البشارة إليهم، فقيل فيها: "كلامهم" مع أنها "كلمة المسيح"، لأن الرسل بعد أن علموها، وعلموا بها، وسجلوها، امتزجت بحياتهم، فصاروا هم لها، وصارت هي لهم. كما قال بولس عن الإنجيل الذي بشر به: "إنجيلي"، مع علمه بأنه "إنجيل المسيح" (رومية 2: 16 و1: 16).

في عدد 9، عين المسيح الذين رفع من أجلهم طلبه الثاني، فحصره في الرسل: "من أجلهم أنا أسأل". وفي عدد 20، رفع هذا الحصار، وجعل طلبه يشمل كنيسته التي لم تكن قد اتخذت بعد مظهراً حياً قوياً، إلا منذ يوم الخمسين، فرآها في المستقبل، كخيمة ممتدة الجوانب، مترامية الأطراف، لكنها لمزيد الأسف منقسمة إلى شقق صغيرة، كثيرة العدد. فرأى بعينيه التين تخترقان حجب المستقبل، الخطر المحدق بكنيسته، قبل وقوعه.

الطلبة الأولى التي قدمها المسيح من أجل المؤمنين به – أن يكون جميع المؤمنين واحداً (17: 21 – 23).

عدد 21.

اتحاد المؤمنين: ماهيته، ومثله الأعلى، وأساسه،وغايته الأولى: "ليكون الجميع واحداً. كما أنك أنت أيها الآب فيََّ وأنا فيك. ليكونا هم أيضًا واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني". ذكر المسيح في هذا العدد، ثلاث مراتب للإتحاد. (أ) المرتبة الأولى في المقام – وهي الثانية في ترتيب الكلام، هي الوحدانية الكائنة بين الآب والابن : " كما أنك أنت أيها الآب فيََّ وأنا فيك".هذا هو المثل الأعلى للإتحاد، الذي يجب أن يكون متوفراً بين المؤمنين وبين بعضهم البعض – فهو إتحاد في الفكر، والإرادة، والشعور، والمقصد، والتدبير، والعمل، والملكية. بل هذا مدى الإتحاد المنشود بين المؤمنين وبين بعضهم البعض. (ب) المرتبة الثانية في المقام وهي الثالثة في ترتيب الكلام – هي الوحدانية التي يكون فيها المؤمنون واحداً مع الآب الابن: "ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" – هذا أساس اتحاد المؤمنين مع بعضهم البعض. فلا رجاء في اتحادهم فيما بينهم، ما لم يكونوا متحدين أولاً في الآب والابن. لا بل هذا منبع اتحادهم، وجذعه، غذاؤه، وقوام حياته، وقوته. (ج) المرتبة الثالثة في المقام – وهي الأولى في ترتيب الكلام – هي وحدانية المؤمنين بعضهم مع بعض – هذه ثمرة إتحادهم معاً مع الآب والابن. فكأننا الآن أمام ثلاثة دوائر ذات مركز واحد، متداخلة في بعضها البعض. في الدائرة الداخلية نرى الآب والابن متحدين معاً اتحاداً حيوياً كاملاً. فالآب في الابن والابن في الآب. وفي الدائرة الوسطى نرى المؤمنين يضمون إلى هذه الدائرة القدسية، ليصبحوا متحدين معاً في الآب والابن: " ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا". وفي الدائرة الخارجية نرى المؤمنين وقد صاروا واحداً فيما بينهم، نتيجة صيرورتهم واحداً في الآب والابن: "ليكون الجميع واحداً". هذه ماهية اتحاده، فهو ليس اتحاداً ميكانيكياً، ولا مكانياً، ولانظامياً، ولا تعليمياً. بل هو إتحاد روحي، حيوي، إلهي. لا يدغم فيه أحدهم في الآخر. ولا تتلاشى شخصيته، بل يحتفظ فيه كل منهم بشخصيته، كما تتحد النبرات معاً لتكون صوتاً موسيقياً واحداً. وكما تأتلف كل "نقط" الموسيقى لتكون لحناً واحداً. (د) الغاية الأولية من اتحادهم: "ليؤمن العالم أنك أرسلتني". ما أبهج منظر المؤمنين الذين يجمعهم الروح الواحد، والرب الواحد، والرجاء الواحد، من كل قبيلة وشعب ولسان وأمة، فتختفي بينهم الفوارق الجنسية، والاجتماعية، والعلمية! إن روعة هذا المنظر المبهج، تبعث في العالم الخارجي إيماناً يقينياً بأن يسوع هو المسيح المرسل من الآب: "ليؤمن العالم أنك أرسلتني". ولقد تم هذا القول فعلاً في القرن الأول للميلاد، حين أخذ الوثنيون بروعة اتحاد المسيحيين معاً فكانوا يتهامسون فيما بينهم قائلين: "أنظروا. ما أعجب حبهم لبعضهم البعض"! ومن المؤسف، أنه بقدر ما يكون اتحاد المؤمنين معاً، محرضاً العالم على الإيمان بالمسيح، يكون عدم اتحادهم حجة في فم العالم ضد المسيح!

عدد22.

(ه) أداة هذا الاتحاد: "وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد". ذهب المفسرون في تأويل المراد بقوله: "أعطيتهن المجد"، مذاهب شتى. فقال بعضهم: إن المسيح تكلم عن "مجده" العتيد كأنه حاضر، وأنه أعطى تلاميذه حق امتلاك هذا "المجد" مع أنهم لم يكونوا قد تمتعوا به بعد، كما يرى من عدد24. فيكون إذاً قد أعطاهم هذا "المجد" في البزة، ولو أنهم سيتمتعون به كاملاً في عالم الخلود. ويقول البعض الآخر: إن "المجد" الذي أعطاه المسيح لتلاميذه،  هو "مجد" الحلول الإلهي في الجسم البشري، فكما أن "مجد" المسيح هو حلول الآب فيه، كذلك "مجد" التلاميذ هو حلول المسيح فيهم – بدليل قول بولس الرسول: "المسيح فيكم رجاء المجد" (كولوسي1: 27). ويقول آخرون: إن هذا "المجد" هو مجد البنوة لله، وإن المسيح أعطى تلاميذه "مجده"، بمعنى أنه جعلهم إخوة له، وصار هو أخاهم البكر "ليكونوا واحداً" ويعتقد آخرون: أن هذا "المجد" هو حلول الروح القدس في التلاميذ، على اعتبار أن حلول الروح القدس فيهم، هو العامل الفعال في صيرورتهم واحداً، بدليل قوله: "أعطيتهم المجد... ليكونوا واحداً. ونعتقد نحن أن هذا "المجد" ليس قاصراً على أمر واحد، لكنه يتناول كل ما أخذه المسيح من الآب، باعتبار كونه الفادي المتجسد ورئيس العائلة المفدية – ويدخل ضمن ذلك: مجد البنوة للآب، وحق القبول لديه، ومجد الامتلاء من روحه، ومجد الانتصار على الخطية، والمجد الأكمل الذي يناله المؤمنون في قيامة الأبرار.

 "ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد" – هذه هي المرة الثالثة التي فيها كرر المسيح هذه العبارة في هذا الدور الأخير من صلاته الخالدة. وفي هذه المرة أظهر الفادي أن هذه هي الغابة التي لأجلها "أعطى مجده لتلاميذه".

 ألا يليق بنا أن نستوقف أنفسنا قليلاً لنفكر في تضحيات هذا الفادي الجليل الذي لم يرغب في أن يحتفظ بأي شيء لنفسه، بل جعل كل ما عنده – حتى مجده – وقفاً على تلاميذه وعلينا؟!

عدد 23.

(و) – كمال هذا الاتحاد – دائرتان متراكزتان: "أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكملين إلى واحد". أمامنا الآن دائرتان متمركزتان الدائرة الأولى، داخلية، هي: حلول الآب في المسيح، الدائرة الثانية خارجية وهي: حلول المسيح في التلاميذ – هذه أسرار عميقة ليس لنا أن ندخل إلى بواطنها. ويكفينا أن نقف منها موقف الممتلكين إياها، المتمتعين بها. فمع أننا لا نعلم دقائق الخواص التي تتألف منها ذرات الهواء المحيط بنا، إلا أننا نتشبع من هذا الهواء، ونتغذى به. ومما تجب ملاحظته، أن المسيح لم يقل "أنت فيهم وأنت فيّ"، لأن حلول الآب في المسيح يختلف عن حلوله في المؤمنين – درجة ونوعاً. ولم يقل "هم فيك وأنا فيك"، لأن ثبوت المسيح في الآب غير ثبوت المؤمنين فيه، بل قال: "أنا فيهم وأنت في"، ولعل هذا ما أراده بقوله: "أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني" (عدد 22).

إن النتيجة المترتبة على هذا الحلول المجيد، هي: تكميل المؤمنين في الاتحاد: "ليكونوا مكملين إلى واحد" – هذه هي المرة الرابعة والأخيرة التي كرر فيها المسيح كلامه عن اتحاد المؤمنين به، وفيها ذكر وحدانيتهم في كمالهم. هذه هي قمة الوحدانية، وتاجها، وكمالها. إن خير تفسير لقوله: "مكملين"، هو ما جاء في فيلبي 3: 12 وعب 2: 10 و5: 9 و7: 28 و9: 9 و1: 1 و14 و11: 4 و12: 23 و1 يو2: 5 و4: 12 و17 و18. ولا شك في أن الله الذي يبدأ عمل الإتحاد في المؤمنين، سيصل بهم إلى كمال هذا الإتحاد.

إن تكميل المؤمنين إلى واحد، هو تعبير آخر لقوله: "ليكونوا مكملين في الواحد" – أي في المسيح رأسهم، ورئيسهم، ومثلهم الأعلى (فيلبي2: 10).

(ز) الغاية النهائية من هذا الإتحاد: "ليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني". في عدد 21، ذكر المسيح الغاية الأولى من اتحاد المؤمنين: "أن يؤمن العالم أنه مرسل من الآب"، لكنه في هذا العدد، ذكر الغاية النهائية من هذا الإتحاد: " ليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني". إن إيمان العالم يفيد الأفحام الذي قد يقود صاحبه إلى الإيمان أو إلى تقسية القلب على رغم هذا الاقتناع. ويقول رينولدز: إن العلم درجة أرقى في الإيمان، أعني هو الإيمان اليقيني المؤسس على الاختبار. وقد ذكر المسيح في هذا العدد أمرين، يقتنع بهما العالم نتيجة رؤيته التلاميذ متحدين: - أولهما: علم العالم بأن المسيح مرسل من الآب، أو بعبارة أخرى – علمه بأن يسوع هو المسيح منتهى رجاء اليهود، "ومشتهى الأمم". والأمر الثاني هو اقتناع العالم بأن الآب أحب المؤمنين مثلما أحب المسيح، لأن وجود المسيح وسط عائلة واحدة، مجتمع أفرادها في كنف أخيهم الأكبر، يجعل المحبة القدسية التي وجهها الآب إلى المسيح، نعم هؤلاء المؤمنين وتضمنهم تحت جناحيها، وتشعر العالم بحرارة المحبة الإلهية. وجدير بالملاحظة أن المحبة التي يتحدث عنها المسيح هنا، ليست محبة الأقنوم الأول للأقنوم الثاني اللاهوت، وإنما هي محبة الله للمسيح باعتبار كونه الفادي المتجسد ورأس العائلة المفدية.

عدد 24.

الطلبة الثانية التي قدمها المسيح من أجل المؤمنين به – أن يكونوا معه لينظروا مجده الأزلي: "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي". مع أن التلاميذ كانوا قد رأوا مجد المسيح "مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً"، إلا أنهم رأوا مجده من خلال حجاب الجسد الذي حجب عنهم الشيء الكثير من هذا المجد الأسنى، لذلك طلب المسيح أن تتهيأ للتلاميذ فرصة، فيها يكونون معه بعد أن يكون قد استرد مجده الأزلي، ليشاطروه ذلك المجد. في بدء هذه الصلاة الشفاعية، طلب المسيح أن يعاد إليه مجده الأزلي (عدد5)، والآن عند ختام هذه الصلاة، وقد صار متيقناً من أن هذا المجد قد رد إليه، لم يبق أمامه، إلا أن يطلب إشراك خاصته معه في مجده. هذا معنى قوله: "لينظروا مجدي". لأن هذا النظر يشمل التمتع أيضاً.

وإذا كان المسيح قد قال في عدد 22، إنه "أعطى تلاميذه هذا المجد"، فهو الآن يريد أن المؤمنين به، يتمتعون فعلاً بهذا المجد، لا أن يكتفوا بامتلاكهم إياه كمجرد وعد أو حق.

ولا يفوتنا أن نلاحظ الكلمة الخاصة التي استهل بها المسيح هذه الطلبة: "أريد"! فقد افتتح الطلبات الماضية بقوله: "أسأل" (عدد 9و 20)، لكنه استهل هذه الطلبة بقوله: "أريد". والإرادة أقوى من الرغبة، وأكثر اقتداراً من السؤال. والظاهر أن المسيح قد بلغ الآن درجة أصبح فيها قريباً من الموت، لذلك صار في موقف من يملي وصيته النهائية، فقال: "أريد" ولا حاجة بنا إلى القول: إن المجد الذي أراد المسيح أن تشاركه فيه خاصته، هو مجده الأزلي الذي ناله من الآب، برهاناً على محبته الأزلية له: "قبل إنشاء العالم".

عدد 25و 26.

خلاصة جميلة، وخاتمة جليلة: "أيها الآب البار" – هذه هي المرة الوحيدة التي وردت فيها هذه العبارة على لسان المسيح. بل هذا هو اللقب الثاني الذي نسبه المسيح إلى الآب في هذه الصلاة. فاللقب الأول مررنا به في عدد 11، حين قال: "أيها الآب القدوس" – إذ كان المسيح طالباً وقتئذ تقديس تلاميذه. لكنه استعمل هنا كلمة: "البار"، لأنه كان متوجهاً بهذه الكلمات الأخيرة، إلى عدالة الآب وبره.

تحدثنا هذه الخاتمة الجليلة عن معرفة الآب. فقد وردت كلمة "معرفة" خمس مرات فيها. وهي تتألف من شطرين – في أولهما – مقابلة بين العالم من جهة وبين المسيح وتلاميذه من الجهة الأخرى، بالنسبة لهذه المعرفة (عدد 25). والشطر الثاني يعرفنا عن غاية المسيح من تعريفه تلاميذه باسم الآب. ويخيل إلينا. أن المسيح واقف كمن يلقي نظرة إلى الماضي، وأخرى إلى المستقبل:
فنظرته إلى الماضي، تتناول الشطر الأول من هذه الخاتمة – وفيها مقابلة العالم من جهة، وبين المسيح وتلاميذه من الجهة الأخرى بالنسبة إلى معرفة الآب: "إن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني". فالعالم لم يعرف الله. أما المسيح "فقد عرفه". والتلاميذ "قد عرفوا أن يسوع هو المسيح المرسل من الله". يراد ب "معرفة" الآب، قبول الحق المعلن عنه في المسيح، واختبار قوة روحه في القلب. و "عدم معرفة" الآب، والتلاميذ الذين عرفوا الله يتمتعون عن حق، بمجد المسيح. ونظرة الفادي إلى المستقبل، ينم عنها الشطر الثاني من هذه الخاتمة (عدد 26): "وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم". في هذه الكلمات تنبأ الفادي: (أ) عما ينوي في قلبه من جهتهم: "وسأعرفهم" – وهو يريد "المعرفة" التي سيوحي بها إليهم، بواسطة روحه الأقدس الذي سيملأ قلوبهم يوم الخمسين.

ما أعظم شجاعة المسيح، وما أقوى ثقته! لأنه وهو عالم أنه صاعد إلى الجلجثة ليصلب، تكلم عن المستقبل وقال: "وسأعرفهم". هذا دليل على أنه كان ممسكاً بناصية المجد، وهو منطلق إلى الصليب. (ب) عما تمناه لهم "ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم". أو ليست قلوبنا نجسة؟ فكيف إذاً تليق بحلول هذين الضيفين؟ على أنهما ليسا ضيفين مقدسين وكفى، لكنهما ضيفان مقدسان. فالحب الإلهي نار تصهر كل شر فينا، وتطهرنا – والمسيح هو الطهر مجسماً. فما أبهج هذين الضيفين الجليلين المقدسين اللذين يحلان في قلب كل مؤمن – "الحب الإلهي والمسيح"! على أنهما ليسا ضيفين، وإنما هما ضيف واحد. لأن المسيح هو الحب مجسماً، لَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ». والحب الإلهي هو المسيح متأنساً. ومتى كان المسيح في المؤمن، أضحى المؤمن محبوباً من الله، لكون المسيح في قلبه. "ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم" – قصد المسيح بقوله هذا، أن المؤمنين به، إذ يعرفون اسم الآب، يفتحون قلوبهم ليدخل إليها الحب القدسي الجليل، الذي في قلب الآب نحو شخص المسيح. وطبيعي أن المؤمن متى أدخل هذا الحب إلى قلبه، صيره ملكاً له، وبذلك يصبح متمتعاً بنفس الحب الذي به أحب الآب المسيح. وبالتالي يصير المؤمن محباً للآب، حباً من نوع حبه، وإن يكن من درجة محدودة نظير الإنسان المحدود، لأن محبتنا لله ليست سوى إدخال أشعة محبة الله النورانية إلى قلوبنا.

جميل أن المسيح الذي هو موضوع محبة الآب، يجعل المؤمنين موضوع حبه هو. فهو موضوع الحب الإلهي وهو العامل فيه.

ما أعظم الفرق بين ختام صلاة المسيح الشفاعية، وبين بدء خطابه الوداعي! في بدء خطابه الوداعي، حدث تلاميذه عن انطلاقه عنهم. وفي ختام صلاته الشفاعية، عاهد الآب على أن يظل معرفاً اسمه للتلاميذ، ليكون هو فيهم. بهذا وجد التلاميذ في هذا العهد، أكثر مما تمنوا أو انتظروا. هذا هو الترياق الشافي لاضطراب القلوب.

وإذا كانت الأشياء تتبين بأضدادها، فإن هذه الخاتمة النيرة تذكرنا بتلك الخاتمة القاتمة، التي مررنا بها في نهاية الإصحاح الثاني عشر من هذه البشارة. تلك اختتمت فصلاً عن نمو عدم الإيمان في قلوب أعداء المسيح ومضطهدين. وهذه تتوج فصلاً عن نمو الإيمان أخصاء المسيح ومريديه.

 



[1]جاء في بعض المواضع في هذه البشارة: أن الآب يجتذب الناس إلى المسيح ويعطيهإياهم (17: 24, 6: 37 و44 و65, 10: 29, 18: 9), وورد في مواضع أخرى, أنالمسيح "يختار" الناس "ويجتذبهم" إلى نفسه (6: 70 و15: 16 و12: 32). وفيكلا الحالتين أعطى البشر أن يختاروا أو يرفضوا (1: 11 و12, 3: 18 و19, 12: 47 و48).