الرئيسية كتب للقراءة

الفصل الثامن عشر: إيماني بالكنيسة

وصف هنري هث كرين الكنيسة وصفا بارعا حين قال: “في بيت الحياة وجدت مذبحا عليه صليب وشموع متقدة، وإذ انحنيت في إجلال واحترام أغمض عيني،   رأيت الكنيسة الحية.. لم تكن جدرانها من أحجار وطوب، بل من عزائم مكرسة يربطها التعاون والتبادل والولاء المشترك لإعلان الاسمي والأحسن.. ولم تكن نوافذها من الزجاج الملون بل من الألوان المتعددة من الأحلام والأماني والأشواق، التي يبدو منها جمال لانهائي يشع بالأضواء اللامعة التي تأتي منها ألف شمس.. ولم تكن أعمدتها العالية وأقواسها المقببة من الأحجار والصلب، بل من الأذرع الممتدة المرتفعة في الصلوات الضارعة التي لا حصر لها.. ولم تغط أبهاؤها بالسجاجيد والباسطة المخملية، بل بالتجارب المداسة تحت الإقدام، والأعمال الصالحة المحفوظة.. وأبوابها لا تغلق أبدا، إذ هي واسعة ومفتوحة للإنسانية كلها، القديسين والخطاة، الأغنياء والفقراء، والسود والسمر والصفر والبيض على حد سواء. ولم يكن المذبح من خشب منحوت، بل من القلوب التائبة الخجلة من خطاياها والقوية بإحساس الغفران.. ولم يكن المنبر منصة الحديث المذهب بل كان النور والنار، والذي يشع منه الحق والقوة، والكتاب المقدس ليس مجلد واحد موضوع في مكان منعزل على المقرأة، بل الحياة التي تدوس دون خجل وتشهد بجسارة وتختبر بعمق وتتعزى برقة وتتحدى باستمرار.. وليست الموسيقى اختلاط الأسواق مع الاورغن، بل في القيادة المكرسة والخدمات النامية المتنوعة التي تتسق وتجتمع في تعاون مجيد، والحرارة في الكنيسة الحية ليست التي هي تتوهج أو تضيء من موقد أو وقود، بل بطاعة ذاك الذي قال: “تحب الرب إلهك من كل قلبك. ومن كل نفسك. ومن كل فكرك.. وتحب قريبك كنفسك".. أو في لغة أخرى إن الرجل يقصد أن يقول: “إن الكنيسة لا يمكن أن تكون مجرد مبان عظيمة أو أبهاء واسعة أو مناظر عالية مرتفعة شامخة في الجو، مهما يكن جمالها وعظمتها. ولا يمكن أن يكون مجرد طقوس أو فرائض جامدة أو ميتة، مهما يكن حظها من حلاوة المظهر أو ضجيج التعبد،   ما دامت لا تدفع الإنسان دفعا متصلا متزايدا متواليا نحو الله... ولا يمكن أن تكون مجرد أنظمة إدارية أو اجتماعية أو علمية أو طبقية، مهما تكن هذه الأنظمة دقيقة وجميلة ما لم تنظم حياة الإنسان وتستثمر وزناته وخدمته لمجد الله وخير الآخرين..

فما هي إذا هذه الكنيسة؟ وما وضعها الصحيح، وما رسالتها؟ وسلطانها، ووسائلها؟ وإمراضها؟ وعلاج هذه الأمراض؟ وما مجدها الحاضر والتليد؟ هذه هي الأسئلة التي لابد من الإجابة عليها قبل أن تعرف المدلول الدقيق للكنيسة ونؤمن به، كما شاء لها السيد  أن تكون، وكما تحتم أن تسير في سيرها المكافح العتيد على هذه الأرض..

الكنيسة وأوصافها الخاطئة

1- الكنيسة ليست المبنى المادي.

ولعل من اللازم قبل أن نتعرض لحقيقة ومعنى ومدلول كلمة كنيسة. أن نصحح بعض التصورات التي قد ترسخ في أذهان البعض من معنى الكنيسة، فالكنيسة ليست المبنى المادي مهما تكن عظمة بناءه ومجده.. وقد عرف التاريخ هياكل رائعة من أجمل وأروع ما أبدع المعمار على الأرض وفي مقدمتها هيكل لسليمان العظيم الذي بني على الوصف الرائع وبالتكاليف الضخمة الخيالية المذكورة في الكتاب المقدس، وهيكل هيرودس الذي بني في ستة وأربعين سنة، وكنيسة القديسة صوفيا التي بناها الإمبراطور جوستيان ودشنها عام 548م، وصاح عند التدشين: “لقد تفوقت عليك يا سليمان "!.. ولكن أين هذه جميعها ألان؟ ولم سمح الله بتخريب الهيكل الأول؟ ولماذا قال المسيح لتلاميذه عن الهيكل عندا تقدموا ليروا أبنيته: “أما تنظرون جميع هذه، الحق الحق أقول لكم انه لا يترك حجر على حجر لا ينقض" (مت24: 2) وأين كنيسة اجا صوفيا وقد تحولت بالفتح الإسلامي إلى جامع استانبول، وانتهى بها الأمر أخيرا لتكون متحفا قديما!!؟. لا، ليست الكنيسة أي مبان مهما تكن رسوم هذه المباني وروعتها وعظمتها، ومهما تكن أحجارها وألوانها، ولا لحرس الله هذه المباني القديمة وحفظها من الدمار والانهيار، ولما عفا الزمان عليها وضيعتها يد الحدثان.. ومنذ القديم والله يوبخ التطلع إلى الأحجار الجامدة أو التعلق بها أو التبرك الخرافي بلمسها أو الاعتقاد بأنها مادامت قائمة فلن يصيب الزمان الذين حولها أو من فيها أدنى شر أو مكروه.. أو لم يقل على لسان ارميا لشعب إسرائيل: “4لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى كَلاَمِ الْكَذِبِ قَائِلِينَ: هَيْكَلُ الرَّبِّ هَيْكَلُ الرَّبِّ هَيْكَلُ الرَّبِّ هُوَ.. 11هَلْ صَارَ هَذَا الْبَيْتُ الَّذِي دُعِيَ بِاسْمِي عَلَيْهِ مَغَارَةَ لُصُوصٍ فِي أَعْيُنِكُمْ؟ هَئَنَذَا أَيْضاً قَدْ رَأَيْتُ يَقُولُ الرَّبُّ. 12لَكِنِ اذْهَبُوا إلى مَوْضِعِي الَّذِي فِي شِيلُوهَ الَّذِي أَسْكَنْتُ فِيهِ اسْمِي أَوَّلاً وَانْظُرُوا مَا صَنَعْتُ بِهِ مِنْ أَجْلِ شَرِّ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ.. 14أَصْنَعُ بِالْبَيْتِ الَّذِي دُعِيَ بِاسْمِي عَلَيْهِ الَّذِي أَنْتُمْ مُتَّكِلُونَ عَلَيْهِ وَبِالْمَوْضِعِ الَّذِي أَعْطَيْتُكُمْ وَآبَاءَكُمْ إِيَّاهُ كَمَا صَنَعْتُ بِشِيلُوهَ. 15وَأَطْرَحُكُمْ مِنْ أَمَامِي كَمَا طَرَحْتُ كُلَّ إِخْوَتِكُمْ كُلَّ نَسْلِ أَفْرَايِمَ."(ار7: 4، 11، 12، 14، 15). كيف لا وقد كانت أقبح المناظر أمام عين الله الهياكل الوثنية المتعددة، كهيكل ارطاميس احد عجائب الدنيا السبع، والهياكل اليونانية والرومانية التي كانت آية في الجمال والفتنة والروعة، ومع ذلك دكها الله من الأساس وقضى عليها قضاء أبديا.. ذلك لأنه على الدوام لا يهتم بالمظهر دون الجوهر، وبالحجارة الجامدة الميتة، بل بالحجارة الحية الروحية..

2- الكنيسة ليست مجرد طقوس وفرائض

والكنيسة ليست مجموعة من الطقوس والفرائض، كأن يشترط بنائها بكيفية  معينة أو بنظام معين، أو تكون منابرها موضوعة على صورة معينة، أو أن تكون ذات صحن خارجي، أو مذبح داخلي أو هيكل، أو تردد صلوات على نهد معين أو ترتيب مرسوم، أو يشترط أن يرتدي رجال الدين فيها زيا أو مظهرا معينا، بهذا كله، بشهادة الكتاب قد انتهى بنهاية العهد القديم وتدمير هيكل أورشليم وانتهاء تقديم الذبائح وما صاحبها من طقوس وادعيات وفرائض أتممها   المسيح في جسده المعلق على الصليب.. وإلا أ فليس الكتاب صريحا في ذكره إن أول وأعظم كنيسة في التاريخ نشأت في علية، ولم يكن فيها ما يميزها عن غيرها من البيوت أو العليات؟ كما إن الكنائس التي شاد الرسول بولس بذكرها كانت تجتمع في البيوت، إذ لم يكن لها مكان على الإطلاق أو مركز يميزها بلون معين أو مظهر خاص، كالكنيسة التي أنشأت في بيت اكيلا وبريسكلا : “سلموا لي على اكيلا وبريسكلا العاملين معي في المسح.. وعلى الكنيسة التي في بيتهما" (رو16: 3، 5) والكنيسة التي كانت في بيت فيلمون: “إلى فيلمون المحبوب... والى الكنيسة التي في بيتك" (في1: 2). وفي الكنيسة التي في ترواس كان التلاميذ يعقدون الاجتماع في  علية في دور ثالث  علوي: “7وَفِي أَوَّلِ الْأُسْبُوعِ إذ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزاً خَاطَبَهُمْ بُولُسُ وَهُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمْضِيَ فِي الْغَدِ وَأَطَالَ الْكَلاَمَ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ. 8وَكَانَتْ مَصَابِيحُ كَثِيرَةٌ فِي الْعِلِّيَّةِ الَّتِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِيهَا. 9وَكَانَ شَابٌّ اسْمُهُ أَفْتِيخُوسُ جَالِساً فِي الطَّاقَةِ مُتَثَقِّلاً بِنَوْمٍ عَمِيقٍ. وَإِذْ كَانَ بُولُسُ يُخَاطِبُ خِطَاباً طَوِيلاً غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَسَقَطَ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ إلى أَسْفَلُ وَحُمِلَ مَيِّتاً."(اع20: 7-9) كما إن طرق العبادة في هذه الكنائس لم تتأسس إطلاقا على مجرد طقوس أو فرائض متنوعة أو متعددة، إذا كانت العبادة في كنيسة أورشليم قائمة على : “ تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات" (اع2: 42) وفي كنيسة كورنثوس: “          26فَمَا هُوَ إذا أَيُّهَا الإِخْوَةُ؟ مَتَى اجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ لَهُ تَعْلِيمٌ لَهُ لِسَانٌ لَهُ إِعْلاَنٌ لَهُ تَرْجَمَةٌ: فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَانِ." (1كو14: 26) مما يبين إن الغالب في العبادة في الكنيسة المسيحية الأولى كانت الصلاة ودراسة الكتاب والوعظ والترنيم وتناول المادة الربانية، دون أن يكون هناك فرائض أو طقوس شكلية أو جامدة يلزم مراعاتها أو اعتبار صحة العبادة مرتبطة بها، فإذا أضيف إلى ذلك إن سيدنا يسوع المسيح ومعلمنا الأعظم لم يكن له في لبسه أو زيه ما يميزه عن غيره من الناس، كما إن التلاميذ والرسل لم يعرف عنهم أنهم ابتدعوا أو ابتكروا زيا معينا يفرق بينهم وبين الآخرين.. ولا يمكن أن يقال على الإطلاق انه من واجبنا كمسيحيين أن نحتفظ لأنفسنا في الكنائس بنظام الكهنوت اللاوي، من مذبح أو مأكل أو ملبس، لسبب كتابي، وسبب منطقي!!..

أما السبب الكتابي فواضح تمام الوضوح في الرسالة إلى العبرانيين، مما يغني النص فيه عن كل اجتهاد، إذ يقول الوحي : “11فَلَوْ كَانَ بِالْكَهَنُوتِ اللاَّوِيِّ كَمَالٌ - إذ الشَّعْبُ أَخَذَ النَّامُوسَ عَلَيْهِ - مَاذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ بَعْدُ إلى أَنْ يَقُومَ كَاهِنٌ آخَرُ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ، وَلاَ يُقَالُ «عَلَى رُتْبَةِ هَارُونَ»؟ 12لأَنَّهُ إِنْ تَغَيَّرَ الْكَهَنُوتُ فَبِالضَّرُورَةِ يَصِيرُ تَغَيُّرٌ لِلنَّامُوسِ أَيْضاً. 13لأَنَّ الَّذِي يُقَالُ عَنْهُ هَذَا كَانَ شَرِيكاً فِي سِبْطٍ آخَرَ لَمْ يُلاَزِمْ أَحَدٌ مِنْهُ الْمَذْبَحَ.. 18فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضُعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا."(عب7: 11-13، 18). ومثل هذا قول الرسول إلى الكولوسيين:”14إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً إياه بِالصَّلِيبِ،.. 16فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ احَدٌ فِي أكْلٍ أو شُرْبٍ، أو مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أو هِلاَلٍ أو سَبْتٍ.. 17الَّتِي هِيَ ظِلُّ الأُمُورِ الْعَتِيدَةِ، وَأَمَّا الْجَسَدُ.فللمسيح.. إذا إن كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أركان الْعَالَمِ، فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ، تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ: 21لاَ تَمَسَّ، وَلاَ تَذُقْ، وَلاَ تَجُسَّ؟ 22الَّتِي هِيَ جَمِيعُهَا لِلْفَنَاءِ فِي الاِسْتِعْمَالِ، حَسَبَ وَصَايَا وَتَعَالِيمِ النَّاسِ، 23الَّتِي لَهَا حِكَايَةُ حِكْمَةٍ، بِعِبَادَةٍ نَافِلَةٍ، وَتَوَاضُعٍ، وَقَهْرِ الْجَسَدِ، لَيْسَ بِقِيمَةٍ مَا مِنْ جِهَةِ إشباع الْبَشَرِيَّةِ. (كو2: 14، 16، 17، 20-23).

أما السبب المنطقي فيقوم على أساس انه إذا كان منن الواجب الديني أن نحتفظ بنظام  الكهنوت اللاوي، فلابد أن نحتفظ به كاملا، أو نتركه كاملا، إذ لا خير لنا في أن نأخذ منه البعض ونترك البعض الأخر. ولا يستطيع واحدد ممن يدافعون عن هذا النظام وضرورته في الكنيسة أن يقول أن إي كنيسة في الشرق أو الغرب تسير على هذا النظام اللاوي القديم، وإلا فأين من يلبس كما كان هرون أو أولاده، من زي مقدسة كالرداء والصدرة وجبة الرداء والاقمصة والعمامة والعصائب والسراويل والمنطقة، مما كان يتحتم صنعها من أنواع خاصة معينة من القماش وبكيفية محددة في طريقة صنعها.. كما أن الكنائس كان يتحتم أن تبنى على نظام الهيكل القديم بما فيه من دار خارجية وقدس أقداس وما يلحق بهم جميعا من مرحضة ومذبح نحاس ومنارة ومائدة ومذبح بخور وتابوت الشهادة. ولا يمكن أن يجزأ هذا النظام مادام هو النظام الإلهي المحتوم  الذي لا تقوم العبادة بدونه.. فإذا كانت الأنظمة التقليدية الحالية تهجر الأوضاع اللاوي القديمة، فعلى إي أساس تربط بينها وبين هذا النظام؟ ولماذا تزعم أنها تنسب إليه، وهي تهجره بكل وضوح في اغلب إشكالها وممارستها؟.. فإذا أضيف إلى ذلك كله أن الكنيسة بجملتها وبكل من فيها وما فيها هي البيت الروحي والكهنوت المقدس الملوكي والذي لا يقدم إلا الذبائح الروحية، لا المادية كما يقول الرسول بطرس: “كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيِّينَ كَحِجَارَةٍ حَيَّةٍ، بَيْتاً رُوحِيّاً، كَهَنُوتاً مُقَدَّساً، لِتَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ اللهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إلى نُورِهِ الْعَجِيبِ. 10 الَّذِينَ قَبْلاً لَمْ تَكُونُوا شَعْباً، وَأَمَّا الآنَ فَأَنْتُمْ شَعْبُ اللهِ. الَّذِينَ كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْحُومِينَ، وَأَمَّا الآنَ فَمَرْحُومُونَ."(1بط2: 5، 9، 10) “ أو كما يذكر يوحنا الرائي: “            5وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ. الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، 6وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلَّهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إلى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ."(رؤ1: 5، 6). وواضح أن هذا لا يشير لا إلى طبقة معينة هي الرعاة أو خدام الدين، بل إلى جميع المؤمنين باعتبارهم امة وجنسا وشعبا وملوكا وكهنة، لهم حظوتهم ومجدهم وخدمتهم، مما لم يكن معروفا في النظام اللاوي الذي كان قاصرا على سبط واحد من أسباط، ولا يجرؤ احد من خارجه أن يوجد فيه ينتسب إليه.. من كل ما ذكر يتبين أن الكنيسة في العهد الجديد ليست مجرد طابع معين تقليدي يقوم على دعامة من الطقوس أو الفرائض أو المراسيم الشكلية.

3- الكنيسة ليست مجرد تاريخ قديم

والكنيسة ليست مجرد تاريخ قديم يعود بكل مجده أو ثروته أو تراثه إلى الماضي القريب أو البعيد. فآلاف الكنائس القديمة التي حملت يوما ما مشعل الحرية والحق والمجد. لم يشفع لها هذا التاريخ عندما انحرفت عن تاريخها الأول وقصتها القديمة. فاندثرت معالمها وعبثت بها أيد رهيبة قاسية غير رحيمة.. والمسيح نفسه يحذر مهددا ملاك كنيسة افسس بالقول : “5فَاذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَاعْمَلِ الأَعْمَالَ الأُولَى، وَإِلَّا فَإِنِّي آتِيكَ عَنْ قَرِيبٍ وَأُزَحْزِحُ مَنَارَتَكَ مِنْ مَكَانِهَا، إِنْ لَمْ تَتُبْ. (رؤ2: 5). كما يقول لملاك كنيسة اللاودكيين : “هَكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِداً وَلاَ حَارّاً، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي."(رؤ 3: 16).. ومن العبث الإشارة إلى التفاضل أو المباهاة بان هذه الكنيسة أو تلك ترجع إلى خلافة رسول أو تلميذ معين، وذلك لأنه لو صح مثل هذا الأمر لخرجت أول كنيسة أمميةفي التاريخ عن أن تكون كنيسة مسيحية، إذ أن كنيسة أنطاكيا لم ينشاها رسول أو تلميذ بل أسسها جماعة من القبرسسين والقيراونيين من العلمانيين الذين هاجروا من أورشليم من جراء الضيق، كما جاء في القول: “أَمَّا الَّذِينَ تَشَتَّتُوا مِنْ جَرَّاءِ الضِّيقِ الَّذِي حَصَلَ بِسَبَبِ إِسْتِفَانُوسَ فَاجْتَازُوا إلى فِينِيقِيَةَ وَقُبْرُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَهُمْ لاَ يُكَلِّمُونَ أَحَداً بِالْكَلِمَةِ إِلاَّ الْيَهُودَ فَقَطْ. 20وَلَكِنْ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ وَهُمْ رِجَالٌ قُبْرُسِيُّونَ وَقَيْرَوَانِيُّونَ الَّذِينَ لَمَّا دَخَلُوا أَنْطَاكِيَةَ كَانُوا يُخَاطِبُونَ الْيُونَانِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ. 21وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُمْ فآمنا عَدَدٌ كثيرا وَرَجَعُوا إلى الرَّبِّ." (اع11: 19-21).. ودعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكيا أولا.. فكيف يتم هذا دون أن يؤسسها رسول؟.. وهل يعقل منطقا أن الله الذي يقول : “وإذا رجع البار عن بره وعمل إثما وفعل كل الرجاسات التي يفعلها الشرير افيحيا؟ كل بره الذي عمله لا يذكر في حياته التي خانها، وفي خطيته التي أخطا بها يموت" (حز16: 24). هل يعقل أن هذا الإله يذكر كنيسة ما انحدرت وهوت، ولفها الانحراف والشر، لمجرد أنها كانت في الماضي المتباعد كنيسة مجيدة عظيمة؟..

أن الكنيسة بالتأكيد لا يمكن أن تكون كنيسة بالمعنى الدقيق للكلمة، والوصف الصحيح لمجرد أنها مرتفعة البنيان رائعة المنظر، أو لأنها الكنيسة التي تقوم على أفخم الطقوس وأبهى الفرائض، أو التي تعتمد في عزتها وعظمته  ومجدها على تاريخ قضي وماض لا يعود.. إذ أن هذه كلها متفردة أم مجتمعة معا لا يمكن أن تعين أو تكشف عن حقيقة كنيسة الرب يسوع المسيح.

الكنيسة وحقيقتها 

والسؤال إذا: ما هو المعنى الحقيقي للكنيسة كما كشف عنها المسيح، والروح القدس والرسل الأطهار؟

1- الوحدة غير المنظورة

ولعل أول وأدق تعريف للكنيسة هو أنها الوحدة الروحية غير المنظورة التي تجمع جميع المؤمنين في كل زمن وجيل في العهدين القديم والجديد على حد سواء، وهي بهذا المعنى تدعى جسد المسيح : “وأما انتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفرادا" (1كو 12: 27) “ كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة" (اف5: 23)  وتدعى بيت الله وعامود الحق وقاعدته كما قيل : “وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُ أُبْطِئُ فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ اللهِ، الَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ اللهِ الْحَيِّ، عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ."(1تي 3: 15). وتدعى "هيكل الله " و "عروس المسيح"  وغيرها من الألقاب الرمزية التي تكشف وتتحدث عن تلك الوحدة السرية الطاهرة الكريمة والمقدسة المباركة التي أشار إليها المسيح في صلاته الشفاعية بالقول: “                                                (يو17: 21، 23).. وذكرها الرسول يوحنا في القول: “ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد" (يو11: 52). والكنيسة بهذا المعنى ليست قاصرة كما اشرنا على مؤمني العهد الجديد فحسب، بل إلى جميع المؤمنين من بدء الخليقة حتى أخر الدهر، ولهذا أطلق على شعب الله في البرية أيام موسى "الكنيسة" في القول : “38هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ وَمَعَ آبَائِنَا. الَّذِي قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَا."            (اع7: 38). وهي بهذا المعنى أيضا الكنيسة المرتفعة فوق العصور والأجيال والأجناس واللغات والطبقات وسائر الفوارق التي قد تفرق أبناء الله في حياتهم على هذه الأرض، وهي الكنيسة المعروفة العدد عند الله وحده، ولا يمكن أن تنتهي الأرض وما عليها قبل تمام هذا العدد وكماله، كما شاء الله أن يكون في الأبدية.. ولهذا السبب عينه الكنيسة التي يستحيل على البشر إحصاء عددها، فضلا عن عجزهم المطلق التام عن حصر جموعها، العجز الذي بدا في قول الرائي عندما أبصر هذه الجموع على الشاطئ الأبدي فصاح: “ بعد هذا نظرت وإذا جمع كثير لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ، مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ، وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْحَمَلِ، مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ."(رو7: 9).. والى جانب ذلك يستحيل أن يترك الله أمر الحكم فيها على المؤمن وغير المؤمن لفهم الناس وحكمتهم وأمزجتهم وعواطفهم، وكم سيبين في اليوم الأخير أن هناك أناس ظنهم البشر أول الذاهبين إلى السماء، ولكنهم في قرارة الجحيم استقروا معذبين.. وأناس آخرين حكم عليهم بالموت والعذاب في الأرض بالزعم أنهم غير مؤمنين، وهم من أول وأعظم وامجد القديسين في السماء..

اجل فكم ظن الناس الحنطة زوانا، والزوان حنطة.. ولعل هذا ما عناه كاتب القصة الخيالية الطريفة التي قال فيها : أن الرسول بطرس لاحظ وهو يجول في السماء أن هناك أشخاصا يسيرون فيها، ولم يرهم يدخلون من الباب حيث وضعه المسيح ليستقبل الداخلين، واندهش بطرس إذ لاحظ يوما بعد يوم تزايد الداخلين دون علمه، وازدان دهشته إذ رأى فيهم شخصيات ما كان يظن إطلاقا أنهم يستقبلون في السماء. وأراد بطرس أن يكتشف كيفية دخولهم، وفي ليلة من الليالي ترك عمله واخذ يسير متفقدا الأسوار وإذ به يبصر في احدهما ثغرة، واحد الأشخاص يرفع البعض ويدخلهم منها، فاقترب بطرس من هذا الشخص ولشدة دهشته رآه السيد المسيح! وإذ وقف بطرس متعجبا قال له السيد : “أنا اعلم أن هؤلاء قد لا يروقك دخولهم إذ تظن أنهم أشرارا، ولكني أنا قبلتهم وفديتهم وقبلوا هم بالإيمان خلاصي  ومن ثم فهم يدخلون مجدي ". ومعنى القصة الخيالية مما لا يخفى على احد، إذ مرات كثيرة ما نحتقر أشخاصا قبلهم المسيح وضمهم إلى حضنه الأبدي.. وهذا يفسر قول ذلك  القديس  الذي صاح : “عندما اذهب إلى السماء سأكتشف ثلاثة أمور عجيبة، إذ أرى أشخاصا لم أكن أظن انم هناك، وسأبحث عن أشخاص كنت أؤكد أنهم بلغوا السماء دون أن أجدهم، والأعجوبة الأخيرة هي كيف تنازلت وتدانت رحمة الله العجيبة فقبلتني أنا في السماء".

2- الوحدة المنظورة

والمعنى الثاني لحقيقة الكنيسة هو الوحدة المنظورة التي تضم جميع المعترفين بالإيمان المسيحي، على انه  من الثابت كما اشرنا  أنفا انه ليس كل من يدعى عليه اسم المسيح، أو كل من يطلق عليه لقب "مسيحي"، أو كل من يدون اسمه في سجلات الكنيسة يمكن لمجرد هذه الأسباب أن يدعى مؤمنا، ما لم يولد الولادة الجديدة من فوق ويحيا الحياة المسيحية اللائقة التي تشهد بصحة هذا الإيمان.. ولهذا فان الكنيسة المنظورة كثيرا ما تجمع إعداد لا تحصى من الناس ممن لم ينالوا نعمة الخلاص، ويحق عليهم قول المسيح: “لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 22كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ 23فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: أني لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!".(مت17: 21- 23)اجل ولما كان من الواضح أن الكنيسة المنظورة لا يجوز أن تضم إلى سجل عضويتها لا المؤمنين المخلصين  استناد إلى القول: “وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون"  (اع 2: 47) وكان التدقيق في قبول الأعضاء في الكنيسة أمرا هاما وأساسيا، حتى لا يفسد الدخيل واللفيف غيرهما من المؤمنين : “لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ 15وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟"(2كو6: 14-15)   “أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ؟ 7إِذاً نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِيناً جَدِيداً كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ."    (1كو5: 6-7).. وكان على الكنيسة في حدود الإدراك البشري أن تمنع من الانضمام إليها من لم يختبروا الحياة الجديدة أو يعيشوا مع الله ولمجد الله في الأرض..

3- اجتماع المؤمنين المحلي

والمعنى الثالث للكنيسة يقوم على أساس المحلية، إذ يمكن أن تطلق كلمة كنيسة على أساس اجتماع المؤمنين في مكان معين أو مدينة معينة أو مجموعة متقاربة من المدن، والكنيسة تحدد هنا وتعرف مستندة إلى هذا المكان المعين. كالكنيسة التي في بيت فليمون والكنيسة التي في بيت اكيلا وبريسكلا أو كنيسة فيلبي ورومية، أو ككنائس غلاطية واسيا. وقد دعيت الكنيسة بهذا المعنى "كنيسة" تيسيرا لجمع المؤمنين في بقعة معا، وفي وحدة الشركة والإيمان، وتغذية لنشاط الإيمان وفاعليته أينما يذهب أو يتجه في إي ركن من أركان الأرض.. ومن الواضح أن هذه الكنيسة المحلية إنما  تهدف إلى جمع المؤمنين بدون إي فارق أو تمييز، ومن غير الجائز أن تقوم في كيانها أو بنيانها على أساس معين من جنس أو لون أو ثقافة أو ثروة أو عصبية أو ما أشيه من الفوارق الأرضية أو البشرية.. ومن ثم فجميع الفوارق التي اصطنعت لتجعل كنائس للفقراء وأخرى للأغنياء، أو كنائس للبيض وغيرها للسود، أو كنائس لجنس معين دون جنس، لا يمكن أن تكون كنائس مسيحية تستلهم روح المسيح وتعاليمه وإرادته..

عندما دعي دكتور هنري سلوين كوفين ليرعى كنيسة من اكبر الكنائس في إحدى المدن، لاحظ أن قاعة صغيرة بنيت في الطرف الشرقي للمدينة للأعضاء الفقراء، فثار الرجل وقال لكنيسته : انه لا يستطيع أن يعظ بالحق المسيحي بوضوح، بل لا يستطيعان يبقى في هذه المدينة، إذا كان الفقراء مفصولين عن الأغنياء، والغي الراعي القاعة وجمع الفقراء والأغنياء معا في مكان واحد..

طلب من احد الرسامين أن يرسم صورة على زجاج إحدى الكنائس تمثل عرش الله، فرسم صورة المسيح وحوله مجموعة من الأطفال الصغار، وعندما أوى إلى مضجعه حلم بأن احدهم قد جاء واخذ يعمل بفرشاته في وجوه الصغار، فامتلأ غضبا وغيظا وذهب إليه ليرى من هو، لشدة دهشته رآه شخص المسيح.. لقد رسم الفنان جميع الوجوه بيضاء، ولكن المسيح رسم بعض الوجوه سمراء، وغيرها صفراء وسوداء وحمراء إلى جانب الوجوه البيضاء، إذ أن المسيح يجمع حوله وفي كنيسته جميع الأجناس والألوان والطبقات..

الكنيسة ونظامها

والكنيسة المسيحية من نشأتها الأولى كنيسة منظمة، إذ لا يمكن أن تقوم في هيئتها المنظورة أو المحلية من غير ترتيب أو نظام.. ولقد وضع الكتاب لنا هذا النظام مما لا يدعنا نحتاج إلى الابتداع أو الاستحسان، وواضح أن المسيح يقوم من هذا النظام إلى الأبد مقام "السيد" أو "الرأس" “ كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة" (اف 5: 23) ولا يجوز أن يعطي احد هذا المكان على الإطلاق سواه، مهما يكن مركزه وشانه في هذه الكنيسة، وجميع المؤمنين هم أعضاء في الكنيسة مهما تختلف مناصبهم ومراكزهم: “12لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذا كَانَتْ كَثِيرَةً هِيَ جَسَدٌ وَاحِدٌ كَذَلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضاً. 13لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً اعْتَمَدْنَا إلى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً. 14فَإِنَّ الْجَسَدَ أَيْضاً لَيْسَ عُضْواً وَاحِداً بَلْ أَعْضَاءٌ كثيرون."(1كو 12: 12-14).. ولهذا كان لابد من إبراز معنى العضوية وتثبيتها وتأكيدها في كل نظام كنسي، بل لابد من توزيع العمل على كل عضو بكيفية لا يستثنى منها احد قط مهما صغر أو ضؤل شانه.. وهكذا تبرز أهمية العضو في الكنيسة وأهمية الدور الذي يؤديه ويقوم به.. وحيث أن أعضاء الجسد تختلف بعضها عن بعض فيظهر منها البعض ويختفي الأخر، ويؤدي هذا من أوجه النشاط، ما يختلف ويتكامل في الوقت نفسه مع غيره من الأعضاء، هكذا اقتضى النظام في الكنيسة أن يبرز البعض ويأخذ مكان القيادة والتوجيه، بينما يعمل آخرون بمجهودات اقل ظهورا وابسط شانا : “28فَوَضَعَ اللهُ أُنَاساً فِي الْكَنِيسَةِ: أَوَّلاً رُسُلاً ثَانِياً أَنْبِيَاءَ ثَالِثاً مُعَلِّمِينَ ثُمَّ قُوَّاتٍ وَبَعْدَ ذَلِكَ مَوَاهِبَ شِفَاءٍ أَعْوَاناً تَدَابِيرَ وَأَنْوَاعَ أَلْسِنَةٍ.(1كو12: 28).. وواضح أن بعض هذه المناصب قد انتهى بنهاية العصر الرسولي، كالرسل مثلا، وتبلور النظام في الكنيسة في أمرين أساسيين هما: نظام الرعاية الروحي، ونظام الخدمة المادية.

1- نظام الرعاية الروحي

وهذا النظام هو أهم واخطر وأدق نظام في ميدان الخدمة والنشاط الكنسي، ويقوم على اختيار قادة ورعاة في الكنيسة يفرزهم الله للخدمة الروحية الكنسية، والكتاب يدعو هؤلاء الرعاة بألقاب مختلفة، فمنهم  "أساقفة" أو "قسوس" أو "شيوخ" أو "نظار".. وهذه الألقاب كما يظهر في لغة الكتاب لا تشير إلى رتب مختلفة أو متدرجة بل تشير إلى أشخاص لهم رتبة واحدة هي رتبة الرعاية الروحية، وهذا واضح كل الوضوح من أقوال الوحي، إذ أن الكتاب يذكر أن بولس: “17وَمِنْ مِيلِيتُسَ أَرْسَلَ إلى أَفَسُسَ وَاسْتَدْعَى قُسُوسَ الْكَنِيسَةِ. 18فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ.. 28اِحْتَرِزُوا إذا لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً"(اع20: 17،18، 28 ) مما يفيد أن القوس هم بذاتهم الأساقفة، كما أن الرسول بطرس كتب في رسالته الأولى يقول : “أَطْلُبُ إلى الشُّيُوخِ الَّذِينَ بَيْنَكُمْ، أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ، وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ، وَشَرِيكَ الْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ، 2 ارْعَوْا رَعِيَّةَ اللهِ الَّتِي بَيْنَكُمْ نُظَّاراً،”(1بط5: 1- 2)مما يفيد أن الشيخ هو ذات الناظر.. فالأسقف والقسيس والشيخ والناظر ألقاب متعددة لشخص واحد، ويتأكد هذا من أن الرسول بولس عندما تحدث عن هذا النظام لتيطس قال: “5مِنْ أَجْلِ هَذَا تَرَكْتُكَ فِي كِرِيتَ لِكَيْ تُكَمِّلَ تَرْتِيبَ الأُمُورِ النَّاقِصَةِ، وَتُقِيمَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ شُيُوخاً كَمَا أَوْصَيْتُكَ. 6إِنْ كَانَ أَحَدٌ بِلاَ لَوْمٍ، بَعْلَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، لَهُ أَوْلاَدٌ مُؤْمِنُونَ لَيْسُوا فِي شِكَايَةِ الْخَلاَعَةِ وَلاَ مُتَمَرِّدِينَ - 7لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ كَوَكِيلِ اللهِ." (تيطس2: 5-7) كما أن الرسول نفسه وهو يتحدث إلى تيموثاوس عن التنظيم الكنسي في الإصحاح الثالث من الرسالة الأولى لتيموثاوس لم يذكر سوى وظيفتي الأسقفية والشموسية.. وبالرجوع إلى الصفات المذكورة في هذا الإصحاح عن الأسقف يتضح الأتي:

1- سمو الأخلاق، وهي الصفة العامة التي ينبغي أن يكون عليها "بلا لوم". والإنسان غير الملوم هو الإنسان الذي يجد شهادة الأصدقاء والأعداء على حد سواء، فلأصدقاء لا يملكون سوى الإعجاب بسمو أخلاقه وعظمتها، والأعداء لا يملكون إلا الاعتراف على الأقل بينهم وبين أنفسهم بالفارق الكبير بين الرجل وغيره من الناس في عظمة الأخلاق وارتفاعها.

2- المثالية في حياة الزوجية: يبدو هذا من القول: “بعل امرأة واحدة" وما من شك بان المرأة هنا ليست الكنيسة كما يتصور التقليديون، لان ذلك واضح من القول: “وإنما أن كان احد لا يعرف أن يدبر بيته فكيف يعتني بكنيسة الله " أن البيت ههنا هو الحياة العائلية التي يكون فيها الأسقف رب العائلة. وقد ظن آخرون أن المقصود"ببعل امرأة واحدة" ما يفيد بأنه لا يجوز للأسقف أن يتزوج مرة أخرى إذا ماتت زوجته، على أن المعنى المقصود هو انه في أوائل العصر المسيحي دخل الكنيسة وثنيون كانوا متزوجين بأكثر من زوجة،  وكان زواجهم هذا من مشكلات الكنيسة في ذلك الوقت، وكان على الأسقف ا يكون بعيدا عن هذه المشكلة، بل أكثر من ذلك كان من واجبه أن يكون مثاليا في حياته العائلية بين زوجته وأولاده.. وإذا لم يعرف كيف يسوس بينته كيف يمكنه أن يسوس ويرعى كنيسة الله؟ أن البيت مرآة الأخلاق والتصرفات، والذي يعيش في بيته مثاليا لابد أن يكون كذلك مع الآخرين، وفي مواجهة المجتمع.. ومما يؤيد هذا الرأي أن غالبية الرسل كانوا متزوجين بشهادة الرسول بولس: “5أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً كَبَاقِي الرُّسُلِ وَإِخْوَةِ الرَّبِّ وَصَفَا؟" (1كو 9: 5).

3- قوة الإرادة: “صاحبا عاقلا متحشما" وهذه تكشف عن قوة إرادته الضابطة لفكره ومشاعره وتصرفاته. والأسقف في مركز القيادة لابد أن يكون قوي الإرادة متمكنا من موقفه وعواطفه وإرادته، وفي الواقع لا يمكن أن يصلح واحد وهو ضعيف واهن الإرادة.

4- الكرم: إذ لا يمكن أن يكون خادم الله بخيلا قابض اليد، بل يجب أن يكون بابه وبيته مفتوحا للمحتاج والغريب.

5- سعة الإدراك: مما يمكنه أن يكون صالحا للتعليم، إذ هذه هي مهمته الأولى في الكنيسة أن يعلم ويكشف الحقائق أمام الصغار والكبار.

6- سعة الصدر: إذ لا ينبغي أن يكون عبدا للنزاع والخصام والضرب، بل يكون حليما. والخادم أمامه من المشكلات ما يرهق أعصابه، وإذا لم يكن حليما فسيفشل في خدمته.

7- القناعة التي تجعله بعيدا عن محبة المال...وكل هذه لا يمكن أن تتم في حياة الأسقف بسهولة، ولذا فمن واجبه أن يتأكد من دعوة الله له: “الرعية التي أقامكم فيها الروح القدس أساقفة" ولا يكون حديث الإيمان معرضا للانهيار أمام الإحداث والتجارب.

2- نظام الخدمة المادية

وهذا النظام هو الذي يدبر الجانب المادي والمالي في الكنيسة، وهو نظام الشموسية. وقد ظهر هذا النظام في الكنيسة الأولى في أورشليم حتى يتفرغ الرسل والرعاة للجانب الروحي وحده، والكلمة "شماس" من أصل يوناني معناه يخدم أو يعين، والشمامسة بذلك هم مساعدو الأساقفة، وفي علاقتهم بالآخرين ينبغي أن يكونوا ذوي وقار لا ذوي لسانين، أو في لغة أخرى ينبغي أن ينالوا احترام الناس ومحبتهم، وفي علاقتهم بأنفسهم ينبغي أن يتحرروا من الشهوات كإدمان الخمر أو الطمع بالربح القبيح، وفي علاقتهم بالخدمة والرسالة التي اؤتمنوا عليها ينبغي أن يعملوا بضمير طاهر، وهذا الضمير لم يتطهر أو يرق إلا بسر الإيمان الذي يربطهم بالله بعلاقة وثقي.

الكنيسة ورسالتها

وما من  شك بان رسالة الكنيسة أعظم واخطر رسالة في الأرض كلها وقديما قال بلوتارك: “تجول في العالم كله فقد تجد مدن بدون عملات أو مدارس أو مسارح احد لم يرى إلى ألان مدينة دون هيكل للصلاة" وظاهر أن بلوتارك يقصد إننا نستطيع أن نستغني عن إي شيء من ضروريات الحياة أو مباهجها لكننا لا نستطيع أن نستغني عن الدين وبيت الله... وهذا يفسر لنا ما حدث ذات مرة أثناء الحرب الأهلية الأمريكية إذ تحولت كثير من المباني إلى مستشفيات، وصدر الأمر بتحويل إحدى الكنائس المشيخية إلى مستشفى. وكانت هذه الكنيسة قريبة من البيت الأبيض، وفي احد أيام الآحاد أعلن الراعي من المنبر أن الكنيسة ستعطل عن عملها بأمر الحكومة إلى نهاية الحرب الأهلية، وكان الرئيس لنكولن حاضرا في ذلك اليوم في الكنيسة فنهض على قدميه، وطلب الكلمة من الراعي ثم قال: “أن هذا الأمر قد صدر دون علمي ولكنني أعلن بأنه لن يكون، إذ إننا في حاجة إلى هذه الكنيسة لتبقى الأنوار لامعة في الجو". ويقصد الرئيس انه وان كانت المستشفيات لازمة وضرورية، إلا أن الكنيسة ألزم واهم ليبقى حق الله في الأرض، ويبنى المجتمع الأصلح والأفضل.. وسنمر سريعا في لمحات خاطفة برسالة الكنيسة.

1- الكنيسة المبشرة

ورسالة التبشير في الكنيسة هي الرسالة التي تلف وتطوي كل رسالة أخرى، الم يقل الرسول بولس: “8لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، 9وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. 10لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ." (اف3: 8-10).. وثابت من هذا أن الكنيسة هي التي توجد الواعظ، وتعده للخدمة والرسالة والتبشير إذ هي التي تقدم كما قال احدهم: للواعظ مركز الخدمة ومسرح الوعظ، والمقدس الذي نتعلم فيه.. ابعد الكنيسة عن الوعظ وأنت تدمر الواعظ والعظة معا. والكنيسة هي التي قدمت في كل زمان ومكان أمراء المنبر ورجال الوعظ وهي التي علمت سبرجن أن يقول: “إني أفضل عملي كأعظم من إي عمل أخر!!. أن الوعظ بالمسيح يسوع عمل حلو وعمل مسر وعمل سماوي، وقد ألف هوبتفيلد أن يدعو منبره عرشه، والذين ينسون كل شيء إلى جانب النداء المجيد العظيم بالمسيح المصلوب، يدركون أن ذلك القول لم يكن مبالغا فيه، انه السباحة  في مياه الفردوس أن تعظ بتأييد الروح القدس المرسل من السماء، وليس هناك مكان اقرب إلى السماء من أن تعظ وأنت تشعر بحضور السيد، الذي يحملك فوق الانشغال والمتاعب لتشغل فقط بهذا الشيء الوحيد الذي هو أعظم ما يمكن أن يشغل فكر إنسان وقلبه"..

ومنذ قرون من الزمان زار فرنسي اسمه اليكس دي توكفيل أمريكا وقال: لقد بحثت عن عظمة وعبقرية أمريكا في موانيها وأنهارها، ولكني لم أجد أمريكا هناك، وفي حقولها الخصبة ومنتجاتها العظيمة ولكنها لم تكن هناك، وفي مناجمها الغنية وصناعتها الجبارة ولكنها لم تكن هناك أيضا، إلى أن ذهبت إلى كنائس أمريكا واستمعت إلى منابرها وهي تنادي بالبر والحق، وهنا أدركت سر عبقريتها وقوتها وستبقى أمريكا  عظيمة طالما هي طيبة وخيرة، وإذ لم تكن كذلك فستنتهي هذه العظمة!!ط. اجل وهذا حق، فالكنيسة وحدها هي التي تستطيع بالتبشير والخدمة الأمينة أن تخلص العالم وتنقذه من شروره وآثامه وماسيه.

ومع انه يوجد ما يقرب من اثنين وعشرين إلى ثلاثة وعشرين ألفا من المرسلين البروتستانت في العالم اليوم خلاف الإرساليات من المذاهب الأخرى فان عدد المسيحيين ما يزال بالنسبة لغيرهم في العالم بنسبة 1: 4، إذ يقدر عدد سكان العالم حاليا بحوالي ثلاثة آلاف مليون نسمة منهم من المسيحيين حوالي ثمانمائة مليون، والكثيرون من هؤلاء كما قلنا أنفا ليسوا مسيحيين حقيقيين فكم تبدو إذا مسئولية الكنيسة قاسية وملحة في هذا الميدان!!..

2- الكنيسة والعبادة

وربما نستفيد كثيرا إذا أدركنا معنى كلمة عبادة كما جاءت في الأصل اليوناني في الكتاب المقدس "برسكيناو" وهذه الكلمة تشير إلى معنى الانبطاح أمام أخر والمصحوب بتقبيل القدم أو هدب الثوب والتي تعني الاحترام البالغ العميق. وهي ذات الكلمة التي استعملها الشيطان في محاولته تجربة يسوع (مت2:2) والكلمة في اللغة  الانجليزية من أصل معناه يستحق، وقد استعملت بمعنى التفخيم والإجلال، وهل على إي حال تعني الاحترام اللائق بمن هو اله. والعبادة الجمهورية في الكنيسة هب عبادة المؤمنين المجتمعين معا بإيمان واحد ونفس واحدة، وقد تحدث المسيح عن جلال هذه العبادة في القول:”19وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ اتَّفَقَ اثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى الأَرْضِ فِي أَيِّ شيء يطلبانه فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ 20لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أو ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ». (مت18: 19و20). ولعل كلمات كامبل مورجان في هذا الصدد هي خير ما يقال على الإطلاق : “الكلمة. اتفق" تعني في الأصل اليوناني "يصوت معا" ونحن نفهم في هذه الأيام معنى كلمة "سيمفونية" وهذا في الواقع معنى الكلمة الصحيح، فان العبادة تعني اجتماع اثنين لسيمفونية، أو التصويت لشيء واحد، وكم تبدو الآية جميلة إذا ذكرناهن بالمعنى الذي تدرك فيه السيمفونية – أو اللحن أو القطعة الموسيقية في أيامنا- فالسيمفونية الكلاسيك التي صاغها هاندل مثلا شيء رائع عظيم، فالسيمفونية هي أعظم لحن أو قطعة موسيقية معروفة عندنا في هذه الأيام، واجتماع الصلاة -سيمفونية -قطعة موسيقية رائعة – وان اتفق اثنان أو ثلاثة منكم على هذه السيمفونية، إذا كانت صلاتهم كاملة وموزونة وقوية كالسيمفونية فكل ما يطلبونه يكون لهم.. أن الكلمة " اجتمع" لا تفيد في الأصل الاجتماع لمجرد الصدفة، بل تعني الاجتماع بترتيب وبقوة، وهذا الاجتماع الذي يعنيه السيد يعني الاتفاق الكامل الذي يأتي وليد الإعداد والعلاقة الوثقى.. أصوات متعددة ولكن موسيقى واحدة، وهذا هو معنى العبادة الذي يقوم في الكنيسة، وهذا هو مجدها وجلالها إذ أنها تشنف آذان الله وتصنع أجمل موسيقى في أذن إنسان على هذه الأرض ". لذلك لا عجب أن علق احد الأمريكيين لافتة مكتوب عليها "مزرعة للبيع" وإذ مر به احدهم وسأله عن الثمن : “أجاب لقد انتظرت من المزرعة عشرة ألاف دولار ولكني على استعداد أن أعطيها لأول من يطلبها مقابل خمسة ألاف. فدهش الغريب السائل وقال: “ولكن المنزل الموجود بالمزرعة يساوي عشرة ألاف إذا تركنا الأرض فلم تريد أن تبيعها بهذا الثمن البخس؟ " فأجاب الرجل: إني على استعداد أن أبيعها بهذا الثمن لأنها تبعد عن اقرب كنيسة ومدرسة عشرين ميلا".. أن هذا الرجل يفهم ضرورة الكنيسة كمركز ومكان العبادة المسيحية. ولذلك لا عجب أيضا أن ذهب عالم الكيمياء الألماني الكبير هوفمان إلى جلاسكو وأراد أن يزور في صباح يوم احد سير وليم طومسون الذي دعي فيما بعد لورد كلفن، واشرنا إليه أكثر من مرة فيما مضر، وإذا دق جرس البيت خرجت الخادمة تسأله عما يريد، فأجابها : انه يريد أن يرى سير وليم تومسون فإجابته الخادمة: “انه بالتأكيد لا يمكن أن يكون ألان بالمنزل " فسألها : “وأين إذا أجده؟"فإجابته: “أن سير وليم توموسون موجود ألان بالمكان الذي ينبغي أن تجده فيه.. الكنيسة".

3- الكنيسة والدفاع عن الحق

والكنيسة هي المعقل الأول والأعظم للدفاع عن مبادئ الحق والحرية في الأرض، ولا يمكن أن ينسى المرء حديث البرت اينشتين أعظم عالم في القرن العشرين بهذا الصدد، عندما وصف الكنيسة في ألمانيا إذ قال: “عندما قامت الثورة النازية، وقفت كانسان محب للحرية انظر إلى الجامعات كمعقل الدفاع عن الحرية، لأنها دائما تبحث عن قضية الحق، ولكن الجامعات خضعت في الحال، وعندئذ وضعت رجائي في الصحفيين العظام الذين أعلنوا الكثير منهم حبهم للحرية، ولكن هؤلاء أيضا صمتوا بعد أسابيع، ولم يقف في طريق معسكر هتلر إلا الكنيسة وحدها، وقد كنت قبل ذلك لا أجد إي مسرة فيها، ولكني ألان اشعر بتقدير وإعجاب لها، لأنها وحدها كانت لها الشجاعة والمثابرة لتقف إلى جانب الحق الذهني والحرية الأدبية، وأنا ملزم أم أقول أن التي كنت احتقرها قبلا أصبحت اليوم أعجب بها علنا".. هذه شهادة يهودية عن الكنيسة، والحق ما شهد به الخصوم أو الأعداء.. ولأجل ذلك عاشت الكنيسة طوال عصور التاريخ تهب عندما تدرك رسالتها لتقف إلى جانب : “كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ - إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ."(في4: 8) وقد وقف إبطالها في مختلف العصور يشهدون للحق بشجاعة لا تنتهي أو تضعف أو تموت.. هدد الإمبراطور الروماني الأسقف يوحنا فم الذهب بالنفي، وإذ برجل الله يقول: “انك لا تستطيع أن تنفيني لان العالم كله بيت أبي".. وعندما هدده الإمبراطور بالقتل قال له: “ولا تستطيع ذلك لان حياتي مستترة مع المسيح في الله".. وإذ هدده بالاستيلاء على ثروته أجاب : “انك لن تقدر لان كنزي في السماء، وهناك قلبي أيضا". إذ قال له الإمبراطور انه سيبعد جميع أصدقائه عنه أجاب: “انك لا تستطيع ذلك، لان لي في السماء صديقا لا يمنكن أن تفصلني عنه. أيها الإمبراطور ليس هناك شيء واحدا لا يمكن أن تأخذه “.. وهل بعد هذا كله من شك في أن الكنيسة هي المعقل العظيم والمجيد للدفاع عن المبادئ العظيمة والنبيلة في الأرض؟

4- الكنيسة والمساعدات الاجتماعية

والكنيسة أيضا هي مركز المساعدات الاجتماعية وقلبها، فدور الملاجئ والعجزة والمستشفيات وأعمال الإحسان والشفقة والترفيه، كل هذه انبعثت عن الكنيسة ومنها. كيف لا وقد تحدث سيدها، عن القاعدة العملية لجميع هذه الأعمال في مثل السامري الصالح، كما أن الكنيسة قد مارست هذا الشعار من مطلع نشأتها عندما خصصت الشمامسة للأعمال المادية والإحسان.

كانت الأميرة اوجنى إحدى أميرات البيت السويدي تصطاف في إحدى الجزر السويدية وقد قضت اغلب وقتها في زيارة الأسرات الفقيرة، وقد هالها أن ترى عددا كبيرا من النساء يرزحن تحت إثقال إمراض قاسية لا سبيل إلى البرء منها، فعصف بقلبها الألم وقررت أن تبني لهم مستشفى، ولكن لم يكن معها نقود، فلم تر بدا من بيع جميع مجوهراتها ولآلئها، وبنيت المستشفى وسرعان ما امتلأت بالمريضات الفقيرات المتألمات، وفي يوم من الأيام زارت الأميرة المستشفى وانحنت فوق سرير امرأة تحتضر، وأشرق وجه المرأة وهي ترى الأميرة وقالت: “اشكر الله لان دم يسوع المسيح ابنه يطهر من كل خطية وقد طهرني". وانهمرت عيناها بالدموع دموع الرضا والفرح بالمسيح المخلص. وقالت الأميرة: “في هذه الدموع أبصرت لآلتي مرة أخرى وذكرت قول السيد : “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ ".. وهكذا تعلم الكنيسة أبنائها وبناتها معنى الخدمة من كل وجه وجانب.

وهكذا تتناول رسالة الكنيسة حياة الإنسان من كل جانب الروحي والأدبي والمادي على حد سواء، لان الدين في الواقع يشمل هذه جميعا، ولا يمكن أن يخرج واحد منها عن امتداد يده وعمله وفاعليته.

الكنيسة وسلطانها

والسؤال الحيوي العام الذي يبحث عنه الإنسان طوال عصور التاريخ منذ أن أنشئت الكنيسة حتى اليوم هو: ما حق هذه الكنيسة وسلطانها وسيادتها، والى إي مدي تجوز أن تربط وتحل في حياة الناس، أو مصائرهم أو مناهج أعمالهم وسلوكهم، وهل تبقى في هذه كلها دون معقب، حتى ولو جاء حكمها في تفسير الحياة والتاريخ حكما متحاملا أو غير صائبا؟..

ومن اللازم أن نؤكد بادئ ذي بدء، أن للكنيسة سلطانا لا شبهة فيه، وهي تستمد هذا السلطان من وعد المسيح وأمره إذ قال لبطرس: “19وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ».(مت16: 19). على أن المسيح وهو يعطي هذا السلطان لبطرس لم يعطيه إياه كفرد، بل كالتلميذ المعترف والمؤمن بلاهوت المسيح عندما قال: “أنت هو المسيح ابن الله" وقد أكد المسيح هذا بما لا يدع مجالا للبس، إذ بين أن هذا سلطان الكنيسة كلها: “17وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ. 18اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاءِ." (مت18: 17و 18). وقد تأيد هذا السلطان بأمر المسيح قبل الصعود عندما قال: “                 (مت 28: 18و19) وهذا حق لان الكنيسة كمنظمة على الأرض ينبغي أن يكون لها يقرر وينظم ويدعم كيانها ورسالتها وأعماله، ولكن السؤال هو: ما طبيعة هذا السلطان وحدوده؟ ولعل الجواب الدقيق يقتضي تحديدا معنى كلمتي "الحل" و "الربط" التين أثارتا خلافا كبيرا في الكنيسة المسيحية.. واضح أن الكلمتين كانتا معروفتين ومفهومتين عند اليهود، إذ أن الربين اليهود أشاعوا استعمالهما كتعبيرين في الحكم على الطاهر والنجس، والبريء والمذنب، وقد نقل المسيح مدلولهما من الاستعمال اليهودي إلى الاستعمال المسيحي، فكما كان  من اللازم أن يحكم الكاهن اليهودي على الأبرص مثلا، وهل هو طاهر أو نجس، وهل يحق له أن يمارس الفرائض المقدسة أم لا، وهكذا أضحى على الكنيسة المسيحية أن تحدد وتفرق بين ما هو محلل أو ما هو محرم، وبين ما لا ينبغي عمله وما لا يجوز القيام به، وبين ما يصح أن يكون مؤمنا، وما لا يصح أن نعته لنجاسته وفساده وشره بالإيمان،وهل يجوز أن يقترب من المائدة الربانية ويتناولها أو لا يجوز، تباعا للحياة والحالة الروحية التي يكون عليها.. وقد مارس التلاميذ هذا الحق فأجازوا دخول الأمم إلى الإيمان المسيحي، وأجازوا إلا يثقل على الداخلين من الأمم إلى الكنيسة سوى في الامتناع عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم.. وكل هذا قد أجازته السماء وصدقت عليه. وكما أن الكاهن في حد ذاته لا يملك أن يجعل من الأبرص طاهرا ومن الطاهر أبرص. بل عليه أن يحكم بطهارته أو نجاسته تباعا للعلامات التي يراها فيه. والتي تقرر وحدها حقه ونصيبه من الطهارة أو النجاسة، هكذا يحق للكنيسة تباعا لإرشاد روح الله والحق المسيحي في الكتاب أن تحكم عل الصالح أو الطالح و أن تمنع أو تمنح حق قبوله في عضويتها، ولكن هذا المنع أو المنح لا يمكن أن يغلق أو يفتح أمامه باب السماء، وإلا لعلق المسيح قبول العشار والخاطئ وتبريره على الحكم الكهنوتي، ولما قال انه نزل إلى بيته مبررا دون الفريسي الذي يظن انه من زمرة الإبرار وخيرة القديسين.. وان التوبة هي المقياس الوحيد لقبول الإنسان أمام الله حتى ولو حكمت مجامع البشر ضده والعكس صحيح، إذ لا يجدي المرء أن يأخذ جميع صكوك الغفران وهو عائش في حياة الإثم والمنكر والخطية. وقديما حكم اليهود على استفانوس بالرجم وقام ابن الله ليستقبله كالشهيد العظيم الأتي إلى السماء، وهل يمكن أن ينسى المرء بهذا الصدد أقوال توماس مور عندما قال للقضاء الذين حكموا عليه بالموت : “ليس لي ما أقوله أيها السادة أكثر من أن  الرسول بولس كان حارسا لثياب الذين رجموا استفانوس، والآن هما صديقان إلى الأبد في السماء وأنا أرجو واصلي، ولو أنكم حكمتم بالموت عليّ في الأرض أن نلتقي في السماء في الخلاص الأبدي"... ولعل اظهر مثال لحقيقة هذا السلطان وعمله يظهر في قصة ذلك الرجل الزاني الذي اخذ امرأة أبيه في كنيسة كورنثوس، ولم تحرك الكنيسة في بادئ الأمر شيئا إذ يبدو انه كان شخصية ذات نفوذ أو سلطان فيها، حتى سمع الأمر عند الرسول بولس، فاصدر الحكم المكتوب في الإصحاح الخامس من الرسالة الأولى إلى كورنثوس والقاضي بفصله من عضوية الكنيسة، لعله يتوب ويرتدع إذ جاء النص قائلا: “            فَإِنِّي أَنَا كَأَنِّي غَائِبٌ بِالْجَسَدِ وَلَكِنْ حَاضِرٌ بِالرُّوحِ قَدْ حَكَمْتُ كَأَنِّي حَاضِرٌ فِي الَّذِي فَعَلَ هَذَا هَكَذَا 4بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ – إذ أَنْتُمْ وَرُوحِي مُجْتَمِعُونَ مَعَ قُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ – 5أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هَذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ.(1كو5: 3-5) وإذ فصل أحس حقيقة موقفه وحزن ورجع تائبا، فجاء حديث الرسول عنه: “6مِثْلُ هَذَا يَكْفِيهِ هَذَا الْقِصَاصُ الَّذِي مِنَ الأَكْثَرِينَ، 7حَتَّى تَكُونُوا - بِالْعَكْسِ - تُسَامِحُونَهُ بِالْحَرِيِّ وَتُعَزُّونَهُ، لِئَلاَّ يُبْتَلَعَ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ.        (2كو2: 6) ولم يزد عمل الرسول والكنيسة في الحالين إلا كشف الواقع، وتحديد الموقف تباعا لهذا الكشف لا أكثر أو اقل... أما علاقة الإنسان بربه فأمرها في يد الإنسان وهذا الرب الرحيم العادل، ولا تملك كنائس الدنيا بأكملها أن تغير هذه العلاقة، أو تبدلها من غير التوبة أو الإيمان الصحيح السليم أمام الله...

الكنيسة ووسائلها

ووسائل الكنيسة على الدوام وسائل روحية إلهية إذا رامت ن تخلص نفسا أو تنشر نفوذا، فهي لا يمكن أن تستخدم الغزو أو السيف، وتكون في الوقت نفسه في السبيل السوي أو الطريق الصحيح، ولعل اكبر المحن في تاريخ الكنيسة هي التجاؤها لهذا السلاح أو ذاك من أسلحة البشر..

وقديما حاول بطرس أن يرفع السيف دفاعا عن سيده، فجاءه الصوت الرادع الحاسم: «رُدَّ سَيْفَكَ إلى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ."(مت26: 52). ولو اتبعت الكنيسة هذا الصوت وأصاخت الأذن لهذا الأمر لما سقطت في اكبر أخطاؤها التاريخية، ولما جردت الجيوش فيها عرفه التاريخ بالحروب الصليبية، وهل يليق بالله أو يتفق مع مجده أن يسيطر على إنسان قسرا دون أن يجتذب فكره أو يستولي على مشاعره أو ياسر قلبه... وما قيمة الاستيلاء على جسد الإنسان دون عقله أو على عقله دون قلبه!!؟ وإذا كان المسيح قد احترم الإرادة البشرية وبني علاقته بها على الدوام على أساس القول: “أن أراد احد أن يأتي ورائي" فهل يعقل أن تجيء الكنيسة لتجعل الكلمة للسيف والحاجة للقوة الغاشمة!؟.. فإذا أضيف إلى ذلك أن المسيح هو أساس السلام ورئيسه في الأرض، وان مجيئه قد اقترن بأغنية: “ المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة" فهل تجرد الكنيسة بعد هذا جيشا لتصنع حربا أو غزوا؟.. أن أسلوب الكنيسة لا يجوز أن يخرج بأي، في إي مجال أو دور عن أسلوب السلام، ومن هنا نقول أيضا أن الأحكام الكنسية التي قضت بإحكام وحرق وقتل من سمتهم بالهراطقة أو المارقين عن الدين، لا يمكن أن تكون أحكاما تنسب إلى المسيح على الإطلاق، حتى ولو كان جميع المحكوم عليهم هراطقة أو مارقين، وذلك لان لكل إنسان يومه الأكيد أمام ربه : “10لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً. (2كو5: 10). وان إي مارق أو زنديق أو  ملحد، وان افلت من إي عقاب ارضي لا يمكن أن يفلت من عقاب السماء، كما أن التلاميذ والرسل لم يشجعوا على الإطلاق إي سلوك من هذا السبيل تاركين الأمر كله لعدالة الله التي لا تغفل أو تنام، وقد تركها بطرس لتقتص من حنانيا وسفيرة، كما سلم سيمون الساحر لمصيره مقدما له مجال التوبة في الوقت نفسه بالقول: “فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هَذَا وَاطْلُبْ إلى اللهِ عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ 23لأَنِّي أَرَاكَ فِي مَرَارَةِ الْمُرِّ وَرِبَاطِ الظُّلْمِ».(اع8: 22). ولم يجر عليه حكم الحرمان، أو ير نفسه واسطة بينه وبين الله في الغفران.

كما إننا لم نسمع أن واحدا من الرسل اصدر حكما بالحرمان أو ما أشبه ضد المعتدين عليهم، والمضطهدين لهم بل بالعكس قال بولس وهو يحتج لدى الملك اغريباس وأعداؤه وقوف يطلبون نفسه ودمه: “«كُنْتُ أُصَلِّي إلى اللهِ أَنَّهُ بِقَلِيلٍ وَبِكَثِيرٍ لَيْسَ أَنْتَ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً جَمِيعُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَنِي الْيَوْمَ يَصِيرُونَ هَكَذَا كَمَا أَنَا مَا خَلاَ هَذِهِ الْقُيُودَ».(اع26: 29). إي كان يطلب لهم جميعا أن يصبحوا مسيحيين يشاركونه في كل شيء إلا  قيود الأسر والأغلال والسجن، كما انه إذا يئس وفقد كل أمل من إصلاح اسكندر النحاس تركه للعدالة الإلهية وحدها إذ قال: “14إِسْكَنْدَرُ النَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُوراً كَثِيرَةً. لِيُجَازِهِ الرَّبُّ حَسَبَ أَعْمَالِهِ."(2تي 4: 14).. ومن هذا كله يتبين أن أحكام الإعدام والحرق والقتل التي صدرت في الكنيسة في كل التاريخ قد تنسب إلى إي شيء، ولكنها لا يمكن أن تنسب إلى اسم المسيح الذي هو برئ منها إلى الأبد...

والكنيسة كأي كائن حي تتعرض للأمراض والاوصاب المختلفة، وأول إقناع للناس، أو الإتيان بهم إلى حظيرة الإيمان إذ لا سلاح لها إلا الوعظ والإرشاد  والتعليم، وهي في كل ذلك لا يجوز لها أن تعمد إلى التحايل أو التضليل أو الخداع أو الرشوة، إذ أن الجهاد الحسن هو الجهاد القانوني، ومن ثم فكل محاولة لكسب إنسان عن طريق التلويح له بمال أو وظيفة أو منصب لا يمكن أن يصادق عليها الله أو يؤيدها الروح القدس، وقد دخل كثيرون إلى المسيحية يوما من الأيام لان الإمبراطور قسطنطين أصبح مسيحيا، والناس كما يقول البشر على دين ملوكهم، وقد اثر هذا تأثيرا مروعا في حياة الكنيسة، للان عدد غير قليل من هؤلاء الداخلين لم يدخلوا عن طريق الاقتناع الحر الأمين المستقل، ولذا فقد دخلوا تصطحبهم ضعفاتهم وآثامهم وشرورهم ومفاسدهم ومبادلهم مما كان له أسوا الآثار وأعمقها في حياة الكنيسة آنذاك، بل لقد اثبت التاريخ أن المسيحية عندما فصلت الدين عن الدولة، وجعلت كلاهما يعمل في مجاله الواسع الحر، كانت اقوي واجل آثرا وأعمق فاعلية، من الوقت الذي ربطت فيه بن الاثنين عندما كان الإمبراطور ممثل الدين والدولة معا، أو كان البابا الحاكم الديني والسياسي في الوقت عينه.

في أثناء رئاسة الرئيس ايزونهاور للولايات المتحدة تعود عدد كبير من الناس أن يحضروا إلى الكنيسة التي يصلي فيها الرئيس لمجرد أن الرئيس هناك، وحدث أن غريبا ذهب إلى الكنيسة وسال احدهم: “هل ايزنهاور هنا ؟" فأجابه الأخر : “كلا، ولكن هنا الله". ما أحوج الكنيسة حقا أن تتحرر من كل وازع أو دافع نفساني غير الهي في التعبد أو الاقتراب لله.. والكنيسة عندما تواجه بالظلم والاضطهاد لا يجوز لها أن تقابل المثل بالمثل فتعمد إلى التنكيل والتخريب، بل عليها أن تقابل كل شيء بروح المحبة والغفران والتسامح كما فعل المسيح سيدها !!.

 

ومن اللازم أن نوضح أن هذا لا يعني التخاذل والضعف فالتسامح المسيحي ابعد ما يكون عن ذلك، والدليل على ذلك انه في الوقت الذي تغفر فيه الكنيسة المسيحية لمن أساءوا إليها لا يجوز لها أن تتراجع قيد أنملة عن العقيدة والواجب والمبادئ المسيحية التي تناضل من اجلها، كما أن العفو عند المقدرة من سماتها الأساسية، والمسيحي الحق هو الذي يحمل في قلبه شجاعة الأسد وحكمة الحية ووداعة الحمل وبساطة الحمام.

والكنيسة في هذه المجالات جميعا لا يجوز لها أن تبدأ مع الناس قبل البدء مع الله، إذ أن من واجبها قبل أن تثق بالناس، أن تؤمن بالله، وقبل أن تعظ للناس أن تصلي لله، وقبل أن تقوم بأي حركة أو عمل بين المجموع البشري أن تطلب إرشاد الله وحكمته ومشيئته وإرادته، أو في لغة أخرى أن جهادها الأول مع الله قبل أن تمارس إي جهاد أو نشاط أو مجهود على هذه الأرض.. وعظيم ذلك الإنسان أو المجموع من الناس الذي من الممكن أن يسمع من الله ما قاله ليعقوب قديما: “لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" (تك32: 28). ومن الثابت أن أعظم الأبطال الذين أدوا أروع الخدمات في الحياة البشرية كانوا دائما رجال صلاة ومحبة وخدمة.

الكنيسة وأمراضها

والكنيسة كأي كائن حي يتعرض للأمراض والاوصاب المختلفة، وأول هذه الأمراض هو الاندماج في العالم عندما يزال الخط الفاصل بينها وبين غير  المؤمنين، ولا حاجة إلى القول أن هذا الاندماج يدخل العالم إلى الكنيسة بمفاسده ومباذله وظلمه  ومجونه وعربدته وشره وخلافاته،، وبدلا من أن تؤثر الكنيسة في العالم يقتل العالم الكنيسة كما يفعل الميكروب  في جسم الإنسان، ولا علاج بهذا المرض إلا بالاختلاط الأكثر  بالله، ورسم المبادئ المسيحية الخاصة بالمؤمنين وعدم الاشتراك في أعمال الظلمة غير المثمرة، والامتناع عن التقليد الأحمق في أساليب البشر أو ألفاظهم أو أعمالهم أو زيهم أو طعامهم أو شرابهم، والحرص على أن تكون العلاقة بين المؤمن وغير المؤمن إلى الحد الذي لا يورط أو يغرق أو يضيع كما قال الكتاب  المقدس: “14لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ 15وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟ 16وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِهَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟"(2كو 6: 14و 15). وواضح أن الخلطة والشركة والاتفاق والنسيب والموافقة هي التي تفسر وتحدد معنى النير ومدلوله.. ومن الممكن أن ابتسم لغير المؤمن واعطف عليه وأساعده وأعينه واعلمه وأرشده دون أن ادخل في شركة معه أو قسمة أو نصيب أو ما أشبه، مما تتحول أخر الأمر إلى نيرا ثقيلا على عنقي وفي حياتي!!..

على أن المرض الأخر المقابل لهذا المرض هو مرض الابتعاد والانعزال عن العالم وفي هذا المرض تعيش الكنيسة، في عزلة العائشين في الدير أو المنطويين على أنفسهم، فتحبس نورها وتمنع ملحها وتغلق على مبادئها، هذا المرض يصيبها بالضعف والهزال والأنانية والكساح والعمى والبكم والصمم، وإذا كان أرسطو قد عرّف الفضيلة بأنها وسط بين رزيلتين، فان من واجب الكنيسة لا أن تندمج في العالم اندماجا كليا أو تنعزل منه انعزالا تاما، إذ عليها إلا تكف عن إعلان مبادئها والمناداة للجميع برسالتها، ومن واجبها أن تتقدم الصفوف في مساعدة المحتاج وتقوية الضعيف وتشجيع اليائس وتعضيد البائس وسند المنكوب، فإذا ما قصرت وأمست خرساء دون رسالة، وعمياء دون إدراك، وصماء دون سمع، وكسيحة دون حركة، كان من الصعب أن ندعوها كنيسة سليمة  صحيحة حية قوية.

والمرض الثالث هو مرض الخوف من العالم، وهو مرض تتعرض له الكنيسة في كفاحها مع قوات الشر والظلام.. ومرجع هذا الخوف هو تجسيم الخطر وعدم التطلع صوب الله، الم يقل السيد المسيح: “28وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. 29أَلَيْسَ عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ؟ وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لاَ يَسْقُطُ عَلَى الأَرْضِ بِدُونِ أَبِيكُمْ. 30وَأَمَّا أَنْتُمْ فَحَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ."(مت10: 2830). وقد يأخذ هذا المرض في بعض حالاته لون الخجل أو الحياء أو اليأس أو ما أشبه من الحالات التي تصاحب الإنسان، عندما يخاف من تهديد أو سطوة أو نفوذ أو سيطرة أو غير ذلك. مما تعمم في فترات الاضطهاد أو الضيق أو الاستبداد أو المذلة.. ولكن هذه الأمراض يمكن القضاء عليها بالتحول عن فكرة الخوف نفسها والارتفاع إلى اليقين التام، بان الحياة والموت والراحة والتعب والضيق والشدة لا يمكن أن تتحكم فيها أو تسود عليها يد غير يد الله الذي يحصي جميع شعور رؤوسنا، ولا يمكن أن يسقط واحدة منها من دون أمره وإرادته وحمه!!.

وفي الواقع إننا لا يمكن أن نجد بديلا للعلاج من أمراض الكنيسة جمعاء إلا بالتطلع إلى شخص الله، والتمسك به في كل حال، والكنيسة لا يمكن أن ترى الله وتتأمل فيه، ثم تندمج في العلام، أو تهرب من رسالتها المعينة في هذه الأرض، أو تخاف من اضطهاد البشر وآلامهم وماسيهم وضيفتهم وأزماتهم... أن علاج الكنيسة الدائم منحصر في رؤية الله والإيمان بالقدير.

الكنيسة ومجدها

وهذا أخر ما نختتم به الحديث عن الكنيسة، وهي في قمة مجدها وعظمتها وسؤودها وجلالها ومركزها! من ماضي الكنيسة وكفاحها المجيد طوال هذه القرون المتعددة على الأرض! لقد كانت الكنيسة في صبرها واحتمالها وشجاعتها مثالا في الثبات على المبدأ والاستشهاد من اجل العقيدة، كما أنها زرعت في الأرض، وأبدعت فيها أروع المثل، وارفع المبادئ، واجل الفضائل، وأنبل السير، في مهدها الخصيب وحضنها المتسع ولد وعاش المسيح... وإذا صح لوليم ويكهام أن يكتب على  نافذة إحدى الكنائس عندما كلفه ادورد السابع ببنائها : “هذا العمل صنع وليم ويكهام" ولما ساله الملك ماذا يعني بذلك أجاب: “أن بناء الكنيسة قد منحه مجدا وشرفا وامتيازا، فهو لم يصنع الكنيسة بل الكنيسة التي صنعته" إذا صح لهذا الرجل أن يقول مثل هذا القول فانه اصح وأولى بكل من غيرت الكنيسة تاريخهم، وحولتهم من الظلمة إلى النور، ومن الضعة إلى الرفعة، ومن  الهوان إلى المجد، ومن الأنانية إلى البذل، ومن الحياة الضائعة الفقيرة المغمورة إلى حياة العظماء والأبطال والقادة  والقديسين.. وهل يمكن أن ينسى المرء أيضا أن الكنيسة واحدة من حركات التحرير وأعظمها في كل التاريخ؟!! فتحرير العبيد، ومساواة المرأة بالرجل، ورعاية الطفولة، ومكافحة المسكرات والمخدرات، وما أشبه من حركات تحريرية كبرى أتت من أناس نبتوا في أحضان الكنيسة، ورضعوا لبانها وتمثلوا مبادئها وعاشوا حياتهم لمجد الله وخير الإنسان.

على أن مجد الكنيسة الأعظم لا يمكن أن يقف عن حدود الماضي الرائع أو الحاضر المجيد، بل لابد أن يرتقي ويعلو ويسمو ويسود حتى يبلغ أخر الأمر المجد الأسنى والفردوس المردود.. وإذا كان الإنسان في كل ادوار التاريخ قد عاش يحلم بهذا الفردوس، وقد كتب كثيرون من الكتاب والفلاسفة يتصورونه في صورته اللامعة  والمجيدة، فكتب أفلاطون كتابه المعروف "بالجمهورية" وكتب توماس مور كتاب "اليوتوبيا" أو عالم الكمال، وكتب فرانسيس بيكون كتاب "المدينة الفاضلة" وكل هذه جميعا ليست إلا صور خيالية لعلام مفقود. إلا أن يقين الكنيسة ثابت  بان هذا العالم سيتحقق أخر الأمر بها وفيها، عندما يتم النشيد: “قد صارت ممالك العالم كله، لربنا ومسيحه فسيملك إلى ابد  الآبدين" (رؤ11: 15) ومن يتردد بعد هذا كله في أن يهتف من أعماق قلبه بكل حمية وحماس وقوة ويقين، مع قانون الإيمان الرسولي العظيم القائل: “.. وأؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية"..