الرئيسية كتب للقراءة

الباب الرابع: على حدود المسيحية


الفصل الأول: المنطقة الوسطى

انتهت رحلتي - شكراً لله. ودّعت ملاخي الذي دعا لي بالتوفيق. قال إنه يرى نور المملكة يبزغ خلف الجبال التي أمامك. وقال سترى سفير الملك. وسترى الملك بعده حالاً في بهائه. قال إنه لا يستطيع أن يقدم لي الكثير من التفاصيل عن الملك، فإن الإعلانات فيها الكثير من الغموض، وهي ليست واضحة بالكفاية.. بينما نراه أعظم الملوك يسود كل العالم.. إذ بنا (في هذه الإعلانات) تراه عبداً يخضع كأذل العبيد. نراه من الجهة الواحدة يمسك سيفه ويقضي على جميع أعدائه ويضعهم تحت قدميه، ونراه من الجهة الأخرى محكوماً عليه يدوسه أحقر الناس. في الحق أن الإعلانات غامضة. سيأتي مخلصاً من ماذا.. لا تبيّن الإعلانات بالوضوح الكافي نوع الخلاص. كانت كلمات ملاخي لي تحمل هذه البلبلة. عندما سألته: «من أي شيء يخلصنا هذا المخلص المنتظر؟». أجاب: «لا أعلم بالتمام، هل يخلصنا من أعدائنا، أم يخلصنا من الفقر والجوع، أم يخلصنا من المظالم، أم يخصلنا من أشياء لا أعرف بعد ماذا أدعوها. عل كل حال أؤكد لك أنك عندما تراه ستعرف. أرجو أنك تعرف أكثر مما عرفنا نحن. سر على بركة الله. سر فإن الوقت قريب».

وسرت وظللت أسير. لكني على قدر ما سرت اكتشفت أن المسافة مترامية. ووصلت أخيراً إلى باب المدينة. كنت قد بلغت منتهى التعب فسقطت عند عتبة الباب وأنا أقول: «شكراً لله فقد وصلت أخيراً».

دخلت المدينة، ولكنني أحسست أنها لا تبدو في صورة المدينة التي أنتظر أن أراها. النور خافت، والطرقات غير ممهّدة تماماً. صحيح أني رأيت عمالاً يعملون في تمهيد الطرق، لكن أكثر الطرقات كانت غير ممهّدة. كان التراب يملأ المكان. سألت فعرفت أنها ليست المدينة.. إنها تدعى المدينة الوسطى. وبعضهم يدعوها «بين العهدين».علمت أن هذا الاسم أُطلق عليها فيما بعد. لكن عدداً كبيراً من سكان اليهودية حلوا فيها ودعوها «مدينة المنتظرين». وكان هؤلاء المنتظرين يصعدون إلى قمة الجبل. ومع أن العدد الأكبر منهم كان من كبار السن، إلا أن ذلك لم يمنعهم من تسلق الجبل وقضاء الأيام والليالي يتطلعون إلى الأعلى. نعم إن بعضهم كان يتطلع إلى ناحية المدينة المقدسة، والبعض كان يتطلع على الخصوص نحو الباب الجميل. لكن عدداً يُذكر كان يوجه نظره إلى فوق.

وقد رأيت عدداً يُذكر من هؤلاء، وسررت من رؤيتهم، وفكرت أن أجلس إلى أحدهم. ليتني أتمكن من الجلوس إللى كبيرهم.

وفيما أنا سائر في بكور أحد الأيام التقيت بشيخ يتوكأ على عصا. وكانت لحيته البيضاء تكاد تصل إلى منتصف جسمه. كان يتمتم بكلمات، علمت فيها بعد أنها صلاة يلتمس فيها من السماء أن ترسل الآتي. فقد طال زمن الانتظار! بدأته بالسلام فرد رداً مليحاً. وسألني من أين المجيء، فأخبرته بقصتي. أخبرته أني لم أجد الله في مصر بين آلهة مصر. وبالطبع لم أجده بين آلهة فلسطين وأشور وبابل وفارس واليونان. قلت له إني خرجت أطلب إلهاً حقيقياً طاهراً قدوساً. وكان الرجل يهز رأسه هزات متتابعة موافقاً وهو يقول: «طبعًا طبعاً، إن آلهة الأمم أصنام». ثم قال: «ولكنك رأيته بدون شك في اليهودية التي مررت بها في طريقك إلى هنا؟».

قلت: «كلا يا سيدي، لم أجده هناك»!

ولم ينتظر الرجل حتى أكمل كلامي، بل نظر إليّ نظرة زاجرة وقال: «ماذا تقول؟ لم تره هناك؟». قلت: «كلا. لم أجده هناك، ولكنهم طلبوا مني أن أسير فسأجده في نهاية الطريق». قال الرجل: «شدّ ما أخطأت. وهم كذلك أخطأوا. لا شك أنك رأيت الله في اليهودية!».

قلت: «أخشى يا سيدي أنك تسيء إلى الله بقولك هذا. هو إله ضيق، إله محدود، إله قاس، إله سطحي. لقد سألت الصفح ممن كلموني عنه، وسألت من هذا الإله أن يصفح عني إذا كنت قد أخطأت!».

وقال هليل. وكان هذا اسم الرجل: «طبعاً أخطأت. إن الله واحد هو الإله الحقيقي، الإله الذي ظهر لأبينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب. هو الإله الذي تكلم على جبل سيناء، وهو الذي سار مع الشعب في البرية، هو الإله الذي تكلم عنه الأنبياء»..

قلت: «ولكنهم أخبروني إنه إله إسرائيل فقط. كلهم يقولون إله إسراييل، إله إسرائيل».

قال هليل: «نعم هو إله إسرائيل، ولكنه هو إله كل العالم، إن اليهود.. دعني أقول إننا لم نكن مستعدين لقبول الحقائق الكاملة. وها هو إشعياء يحدثنا عنه، فهل فهمناه على حقيقته؟ كان الأمر يتطلب إعداداً ولذلك اختار الله شعب إسرائيل ليعده حتى يجيء ملء الزمان. إنهم لم يستطيعوا أن يقبلوا الأرضيات التي أعلنها، فهل كان من الممكن أن يقبلوا السماويات؟ لقد ابتدأ الله يعلن ذاته منذ كان الإنسان الأول في جنة عدن. ثم اختار الشعب الذي سيأتي منه. وفي ملء الزمان سيتم الإعلان الكامل. أنا لا أندهش كثيراً أنك لم تر الله في اليهودية، مع أني اندهشت بعض الشيء. لا أندهش أنك لم تره، لا لأنه هو الله، لكن لأنك أنت هنا لم تكن تستطيع أن تراه!! على أن ملء الزمان قد اقترب، وسنراه نحن وستراه أنت. بقيت مسافة عليك أن تقطعها. سر إلى الأمام. سر ترافقك بركة الله».

سرت مسافة قصيرة، ومسافة قصيرة أخرى. ومسافة ثالثة. كلهم يقول لي: مسافة قصيرة. أقبل الليل. لم تغمض لي عين. إني أسمع كلمات مطمئنة بين حين وآخر. ولكنها لا تتحقق. كلها تقول مسافة قصيرة. القصيرة لا تنتهي. بدأت أحس بيأس قاتل. ها أنا أبحث عن الله هذه السنين الطويلة دون جدوى. كنت أظن في أوقات أني أقترب منه. لكني ما أن أمد يدي لأمسك به حتى أعود ويداي فارغتان!!

مضت الليلة طويلة مظلمة حزينة. بل قد ساورني الفكر أن ذلك الشيطان الذي وقعت في أسره ونجوت بمعجزة... ساورني الفكر أن ما وسوس به صحيح! لا يوجد إله. فإذا كان هناك إله، فإنه إله مات.. انتهى. لا يوجد إله. لكن هل يمكن أن يكون هذا الكون دون أن تكون هناك القوة الخالقة؟

أم لعل ذلك الإله - إن كان لا يزال على قيد الحياة - يعيش بعيداً عن الخليقة، لا يرتبط بها بسبب. كل ما يربطه بها تلك النواميس التي وضعها لهم، والتي يحتم أن يسيروا في فلكها. لكن، لا، هل كذب أولئك العظماء عليّ. هل كذب إبراهيم وموسى وصموئيل وداود؟ هل كذب إشعياء وملاخي.. إن الله الذي أطلبه موجود ولا بد!!

كنت أكلم نفسي همساً. ثم ارتفع صوتي. رأيتني وإذ بي أخاطب نفسي كما لو كنت أخاطب جمهورا غفيراً من الناس.. لا بد أن يكون هناك إله. لا بد أن يوجد. هو موجود موجود. لكن أين هو؟

وفيما أنا اتكلم اقترب مني شخص ظهر كما لو كان قد خرج من الضباب، وهتف: «ماذا تطلب أيها الغريب؟» قلت: «إني أبحث عن كائن». وقال الشيخ: «عن أي كائن تبحث؟». قلت: «إني أبحث عن الله». فقال: «أنت تبحث عن الله! أنت؟ لا بد أن تكون أعمى! إنه أمامك., هو يبحث عنك. هو يحيط بك. اطلب منه أن يفتح عينيك حتى تراه!». قلت: «إن عينيّ حادتا البصر. إني أبصر إلى أميال بعيدة. أين هو؟ قل لي أين هو. من يعطيني أن أجده حتى آتي إلى كرسيه. هأنذا أذهب شرقاً فليس هو هناك، وغرباً فلا أشعر به. شمالاً حيث عمله فلا أنظره. يتعطف الجنوب فلا أراه»...

انطرحت على الأرض باكياً. يبدو أني أعمى حقاً. يقولون إنه أمامي وخلفي. عن يميني وعن يساري. لقد سمعت من زمن بعيد وأنا في مدينة اليهود، سمعت داود ينشد:
أين من روحك أمضي    أين لي منك الهروب؟
أنت في كل مكان    حاضر أيا مهوب
إن صعدت للأعالي    أو فرشت في القبور
أو أخذت لي جناحاً    أو سكنت في البحور
فيداك تمسكاني    حيثما أنا أسير

وظننت أنه قريب مني جداً. وقد أخبرني ملاخي إنه قريب. وجماعة المنتظرين حدثوني عن قرب مجيئه. لكن أين هو. أين هو؟

ظللت أبكي. كنت أبكي صامتاً. كانت أنفاسي تخرج متلاحقة. أحسست بدوار. رأسي تكاد تنفجر. وظللت مدة طويلة في شيء من غيبوبة، أو لعلها غيبوبة كاملة... لكن استيقظت. هل استيقظت حقاً؟

إني أرى المكان غريباً عليّ. إني في مدينة أورشليم. مدينة إله اليهود. سرت أتسكع فيها. سرت بلا هدف. إني لا أعرف أحداً في المدينة. ماذا عساني أجد فيها؟ لكني أذكر أني مررت بهذه المدينة. ترى هل رأيت هيكلها المشهور؟ لقد نسيت كل شيء. لقد أعجبت في أول الأمر بإله اليهود. ولكني أكتشفت أنه لا يمكن أن يكون هو الله الذي أبحث عنه. لا يمكن أن يكون إلهي!

وفيما أنا أسير رأيت على مسافة قصيرة مني شيخاً بلغ على ما ظهر لي من مشيته ما ينوف عن القرن من الزمان - علمت فيما بعد أنه بلغ المائة والعشرين. كان يسير متوكئاً على عصاه. وكانت تسير إلى جانبه امرأة لا تقل عنه في العمر إلا قليلا. ولكنها كانت برغم شيخوختها تحمل آثار جمال. عرفت فيما بعد أنها أرملة من زمن بعيد. وأنها تنحدر من سبط أشير بعذاراه الحسان اللواتي كن مطلب الملوك، يختارون زوجاتهم منهن.. واسم الأرملة حنة!

لا أعلم إن كانت تأوهاتي قد وصلت إليها وإلى زميلها، لكن ما حدث كان ترتيباً إلهياً عجيباً...

التفت الرجل إليّ وحدق النظر في وجهي، ثم قال: «سلام أيها الغريب». فقلت: «سلام» قال: «كأنك تبحث عن شيء». قلت: «إني أبحث عن الله»؟

نظر إليّ ليتحقق إن كنت في كمال عقلي، أو أنني أسخر في كلامي. ولكنه لاحظ اتزاني ولاحظ الجدية في حديثي، قال: «هل أنت من عباد الاصنام؟» قلت: «كنت!». قال: «هل سمعت عن إلهنا يهوه؟». قلت: «سمعت، ولكنه برغم ما تميّز به من كمالات.. نعم.. فهو إله واحد طاهر قدوس صالح، ولكنه لم يستطع أن يشبع قلبي. قال لي عباده إنه إله كامل القداسة، بحيث لا يطيق أقل نجاسة.. وهو إله وقف موقف العداوة لغير اليهود. اليهود شعبه والباقون أمم ملعونون. اليهود مختاروه والآخرون مرفوضوه. اليهود يعيشون والأمم ينبغي أن يموتوا ويُقتلوا ويُحرقوا. يأمر شعبه أن يهجموا على المدن ويهدموا البيوت ويتلفوا الحقول ويقتلوا الرجال ويسبوا النساء والأطفال. هل يمكن أن يكون إله اليهود هو الله؟ الإله المتحيز القاسي الصارم الذي يطلب العبادات في أوقاتها، وإلا انتقم من نفس عباده.. كلا، لا تحدثني عن إله اليهود. أوه.. يبدو أن الشيخوخة قد أضاعت ذاكرتي. لقد قلت بمثل ما أقول الآن لغيرك، وسمعت تبريرات كثيرة، ولكن لم أستطع أن أستبقيها لأكثر من لحظات، فأعود وأكرر ما سبق أن قلته. ليس من باب العناد لكني إذ لا أحس بعمق كفاية التبرير أنساه أمام أول صدمة خفيفة، وأنا أشكر جميع الذين احتملوني. إنني أتكلم بإخلاص. أنا أبحث عن إله كبير، له بالطبع رأس كبير، لكن ما يهمني فيه أن يكون له قلب كبير، كبير جداً يتفق مع مركزه كإله»!!

أصغى إليّ الشيخ بطول أناة - وقد عرفت أن اسمه سمعان - ثم قال لي: «هلم معي إلى مجمع جماعة المنتظرين، وهناك سأسمعك إعلانات عجيبة تهديك»!!

وسرت معهما مسافة طويلة. خرجنا من باب الخليل وسرنا ناحية بيت لحم، إلى أن وصلنا إلى بقعة خارج المدنية حيث كانت بعض المباني البسيطة، وعلى مبعدة منها بعض زرابي الرعاة المتبديّن الذين كانوا يحرسون حراسات الليل على رعيتهم!

كان الجو لطيفاً وكان المكان متسعاً. وقد جلس عدد من الرجال والنساء عددهم مائة أو يزيدون. كانوا يرنمون بعض ترانيم المصاعد، ويتمتم بعضهم بصلوات من المزامير. ولما سكتوا وقف سمعان. كان القوم يعرفونه جيداً. كانوا يعرفون أنه رجل تقي مملوء بالروح القدس. وقد ظهر أنه كبير هذه الجماعة التي سبق لي أن سمعت عنها «جماعة المنتظرين».

قدمني سمعان للحاضرين. قال: «إن أخانا غريب، وهو من جماعة الأمم، ولكنه كبعض الأمم الذين فتح الله قلوبهم، فقد خرج من مكانه يبحث عن الله». قلت: «حدث أني في أول معرفتي طلبت أن أدخل في زمرتكم، ودخلت فعلاً، ولكني لم أجد راحتي. لم أجد الله الذي أبحث عنه... وأنا .. نعم أنا أبحث عن الله، فهل يمكنكم أن تدلوني عليه؟».

ملحوظة من ناقل المذكرات:

هنا مذكرات أتلفها المطر تماماً. الكلام مقطوع. حاولت أن أجمعه فجاء الكلام مبتسراً فمعذرة للقارئ إن كان هناك قارئ!!

فقال سمعان الشيخ: «استيقظت متعباً في هذا الصباح، ولكن صوتاً داخلياً حفزني على المجيء، لكن أوه جئت خلف شوق قلبي أن أرى الآتي.. وأعتقد أني سأراه، نعم سأرى «الآتي » الآتي الذي ندعوه نحن اليهود «المسيا» والذي سيكون مخلص اليهود ومخلص العالم. وسرنا نحو الهيكل. لم يكن في الهيكل إلا عدد قليل من الفقراء، وأبصرت أمام الكاهن شابة في ثباب بسيطة جداً، ،لكنها كانت جميلة كالقمر، وهي تحمل صبياً جاءت لتقدم عنه الفداء عن كل ذكر. وإذا بصوت في داخلي يزلزل كياني. إنه هو. تقدمت إليه وتناولته فابتسم في وجهي. غاب المكان عن نظري. أبصرت وإذا أنا في حضرة الله والملائكة تحيط به. رفعت وجهي إلى عينيه وقلت، وعيناي غارقتان في الدموع: «شكراً شكراً يا رب. كفى كفى. لست أطلب شيئاً آخر. الآن تطلق عبدك يا سيد حسب وقولك بسلام» .

ولم أستطع أنا (نوسترداميس) أن أحتفظ باتزاني، فصرخت: « إذن جاء! جاء وقد رأيته. قل لي أين هو لأذهب وأراه». فأشار القوم إليّ أن أسكت وأصغي.. واستمر سمعان يقول: «..لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب، نور إعلان للأمم.. نعم للأمم، ولكنه أيضاً مجد لشعبك. فالتفت إليهما وباركتهما، وقلت: نعم إنه ملك اليهود، ولكنه في نفس الوقت ملك كل العالم. لقد جاء إلى خاصته ولكن خاصته سترفضه.. ووجهت كلامي بالأكثر إلى أم الصبي وقلت: ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين. ملوك سيهبطون إلى الهاوية، وعامة سيصعدون إلى الذروة. الأعزاء سيتجهون إلى التراب والمتضعون سيرتفعون إلى العرش. قياصرة سينساهم التاريخ وصيادون سيخلد اسمهم. رؤساء عظماء سيُمحى ذكرهم وعشارون سيلمعون. هذا الطفل رب وسيد، ولكنه سيواجه أياماً صعبة. سيكون علامة تصوب إليه السهام. ستخترق السهام جسده وسيحز ذلك في نفسه، ولكنه سيخرج غالباً ولكي يغلب».

وأنت يا مريم سيكون لك مجد. ستطوبين في كل مكان، والأجيال ستتحدث عنك، ولكنك ستدفعين ثمناً غالياً لهذا المجد. سيجوز في نفسك سيف. سيخترق السيف قلبك. ستجوزين في العار والنار والألم والموت. ولكنك ستخرجين جوهرة لامعة في جبين الأبدية.

وناديت حنة بنت أشير، ورنمنا معاً ونحدثنا معاً:
تجلى الإله القديم الأحد    لهذا الورى في رداء الجسد
أنار البرايا فهذا الولد    عجيب كما قال وحي الصمد
بديع المزايا على منكبه    رئاسة كل الذي كان به
به كان كل الورى فانتبه،    فليس لسطان ذا الطفل حدّ

حاولت أن أقف، وإذا بسمعان يشير إلى الراعي ميخائيل المعروف باسم بنيامين أن يتكلم، فروى أعجب قصة في التاريخ:

وقف ميخائيل وقال: «لا شك أنكم تحبون أن تسمعوا قصتنا: كنا نحرس أغنامنا في المراعي القريبة من مدينة داود، وفي مساء الليلة العجيبة جلسنا بعد أن تناولنا عشاءنا، وأخذنا نتحدث معاً أحاديث شتى مما يتناوله عادة الرعاة أمثالنا. وانتقلنا من حيث إلى حديث حتى وصلنا إلى حديث النبوات. وكنا قد تعرفنا على بعض «المنتظرين» وقال أحدنا: «ألستم ترون أن مجيء «الآتي» قد تأخر كثيراً، وأن الحالة تزداد سوءاً؟ وقد ذكر بعضنا ما جاء في النبوات. وكانت آمالنا تتجه إلى سرعة مجيئه لينقذ الشعب مما يرزح تحته من عبودية وجهالة وفقر. وبعد أن رفعنا صلاتنا المسائية المعتادة نمت وبقة الرفاق، وبقي سمعان مستيقظاً. وقبل نصف الليل بساعة أيقظني لينام هو، إذ كنا قد اتفقنا أن ينام كلٌ منا ثلاث ساعات. كنت في غاية التعب وكنت أشتهي أن يتركني أنام قليلاً، ولكنه لم يتركني، فاستيقظت مرغماً.. استيقظت، ورأيت أن أسلي نفسي بتلاوة المزامير، ووصلنا في تلاوتي إلى المزمور الذي يقول: «قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي...» (مزمور ١١٠: ١) وهنا سرح خيالي إلى ذلك الرب الآتي، وانطلقت في تأملاتي أتخيل الملك الآتي وسلطانه وقواته. واندمجت في التأمل فلم أنتبه إلى النور الذي غمر المكان إلا بعد مدة، ورفعت عينيّ إلى السماء فإذا نور وهاج يقبل كشعلة كبيرة من النار. كلا. بل شعلة كانت عبارة عن كتلة شموس مجتمعة وهي تتجه إلى ناحيتنا. تحولت المراعي كلها إلى نور بهي أشد لمعاناً من نور النهار، فانكفأت على وجهي وصرخت: «رحمة يا إله المراحم». ثم لكزت بيدي رفاقي فاستيقظ أحدهم، وهذا أيقظ الباقين، وجلسنا مرتعبين نسأل أنفسنا: «تُرى ما عسى أن يكون هذا النور البهي؟». ولما اقتربت شعلة النور إلينا، انفصلت عنها كتلة صغيرة، وإذا هي كائن بهي في صورة ملاك. هذا جعل يقترب منا، فسقطت قلوبنا، وقال الواحد منا للآخر، هلكنا هلكنا. ولكن صوتاً كشدو البلابل اخترق السحاب ووصل إلينا، فأشاع الطمأنينة إلى نفوسنا. نعم، فقد هتف الملاك بنا بصوت جاءنا رفيقاً عطوفاً: «لا تخافوا». التقطنا أنفاسنا وإذا بالملاك يقول: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ». وقال الملاك: «وَهٰذِهِ لَكُمُ ٱلْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ» (لوقا ٢: ١٠ - ١٢).

لم أستطع أنا (نوسترداميس) أن أحتفظ بهدوئي، فقلت: «أين أين؟ خبروني أين؟».. لكن الراعي تجاهل السؤال وقال: «واجتمعت الشموس، وإذا هي مجموعات من الملائكة ألوف منها وجعلت تنشد أروع نشيد سمعته الأرض»:
لله مجد في العلا    كل الملا تحية
في الأرض قد ساد السلام    لما أتى فاديّ

وهنا صرخت بأعلى صوت: «لماذا لا تجيبني أيها الراعي؟ أين هو؟ أين هو؟». وقال الراعي: «صبراً يا سيدي. لقد كنا في حالة لا استطيع أن أصفها. على أنه بعد أن انصرفت الملائكة عاد إلينا الهدوء شيئاً فشيئاً. وقال أحدنا: «إنه لخير عظيم بل أعظم خير. هل رأينا ما رأينا حقيقة، أم أننا كنا نحلم؟هل رأينا ملائكة؟ هل سمعنا بشارة المسيا؟ هل آن أوان مجيئه؟». وقال الراعي ميخائيل: «هلموا بنا إلى بيت لحم لنرى». قال ميخائيل إنهم قاموا كلهم وساروا في الليل البهيم في رمال الصحراء ووصلوا إلى بيت لحم مدينة داود. كانت المدينة كلها غارقة في النوم. وأنهم ساروا في طرقاتها لا يسمعون إلا صوت أقدامهم على الأرض الحجرية.. ساروا إلى أن وصلوا إلى الخان، ولم يجدوا أحداً عند الباب الكبير، فداروا إلى الباب الخلفي، وهناك سمعوا أصواتاً فدخلوا وساروا في الطريق الضيق إلى أن وصلوا إلى الحوش الكبير، وأبصروا النور ورأوا العائلة المقدسة، وأبصروا الطفل. وحالما أبصروه رأوا فيه لا طفلاً عادياً بل كائناً إلهياً، فانبطحوا على وجوههم وقدموا السجود للرب المخلص...

لم يكن حديث الرعاة غريباً على الوالدين، لقد كانت الأم تعرف شيئاً. وقد قص زوجها قصة ظهور الملك لها والبشارة العليا. وقد ذكرت أعجب خبر أنها لم تكن زوجة حقيقية ليوسف. إنها لا تزال عذراء.. وهتف سمعان: «نعم نعم، ألم يتنبأ إشعياء عن ذلك: هوذا السيد نفسه يعطيكم آية: هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا» (متّى ١: ٢٣).

هتفت: «إذن تحققت النبوة، فأين أجد هذا الآتي؟».

قال الراعي: «لقد رأيناه في بيت لحم».

وقال سمعان: «أما أنا فرأيته في المدنية المقدسة، في الهيكل في أورشليم» - وقال ثالث: «لقد علمت أنهم جاءوا من الناصرة». قلت: «لقد حيرتموني - إلى أين أذهب؟ إلى أين؟».
الفصل الثاني:خلوة مع سمعان

كانت الكلمات التي سمعتها في مسائي هذا تكراراً لأحاديثي مع موسى وداود وإشعياء وملاخي، ولكنها كانت تختلف بالنسبة لوقتها، فقد سمعتها بالأمس نبوات ستتم، أما اليوم فإنها «واقع» تم. وهذا بلبل أفكاري أكثر مما بلبلها بالأمس. لقد جاء الآتي. ولكنه جاء طفلاً. سألت نفسي: «هل هو الآتي فعلاً؟ من هو؟ إنهم يقولون: مخلص هو المسيح الرب». إن سمعان يحمله على ذراعيه ويقول: «الآن تطلق عبدك يا سيد». من هو.. هل هو.. اوه. لا أعلم ماذا أقول؟ كيف يكون الطفل الذي رآه الرعاة إلهاً؟ كيف يكون الصبي الذي حمله سمعان على يديه إلهاً؟ كيف يكون الإنسان المولود.. نعم ولادته تختلف من بعض الوجوه عن ولادة غيره من الناس، ولكنه وُلد كما يولد أي طفل آخر. بدأت الحياة الإنسانية من أولى درجاتها. كيف يكون الإنسان إلهاً. لقد خرجت أبحث عن إله..وها هم يقولون إن هذا الصبي هو الإله الذي تبحث عنه. هل يمكن أن يكون هذا الكلام معقولاً؟

انبطحت على وجهي وبكيت....

كان سمعان قد تركني لأنام قليلاً. على أنه عاد إليّ فلم يجدني على الفراش، بل رآني منكفئاً على الأرض. ولما شعرت بصوت أقدامه اعتدلت ورفعت وجهي نحوه، فقال: أنا أعلم.. نعم أعلم سر اضطرابك: إنه لغز يا صديقي، إنه لغز، لا يستطيع العقل البشري أن يفهمه. إنه فوق أذهان البشر. هل يمكنك أن تدرك الكيان الإلهي؟ كيف تفهم حضور الله في كل مكان؟ هل تفهم معنى أزلية الله؟ هل تدرك معنى أن الله أبدي؟ هل تفهم كيف أن الله كليّ القدرة وأننا نحن بشر محدودون؟ إننا لا نستطيع أن نفهم. أنا ما كنت أستطيع أن أفهم. إنه الله يا ابني. إنه الله الذي بروحه يفتح قلوبنا فنؤمن، ومع ذلك دعني أتحدث إليك...

خلق الله الإنسان باراً نقياً طاهراً، ولكن الإنسان عصى الله وفسد. والله قدوس وبار وعادل. لقد شاهدت أنت كيف حاول الإنسان أن يتبرر أمام الله. لقد رأيت الذبائح والكفارة. لقد سمعت الرسائل عن الرجوع إلى الله بالندامة والتوبة. واكتشفت أن الأمر كان يتطلب علاجاً أعمق من العلاج السطحي الذي عولجت به الخطية. كانت الخطية تعالج بغسلها من الخارج، بينما كانت متغلغلة في الدم. كان الأمر يتطلب إعادة خلق. كان ينبغي أن يموت الإنسان، بعد أن فقد كل ما يجعله محبوباً، وصار ملوثاً، لا يقدر أن يتطهر من لوثاته. الذبائح علاج لأن الخطية في داخل الإنسان، والمعصية كامنة فيه. ينبغي أن يموت. لكن محبة الله أنقذته من الموت. إن عدالة الله تتطلب أن يموت، فكيف تستطيع المحبة أن تنقذه؟ ها الحق والحرمة. الحق يطلب أن يموت. والرحمة تطلب أن يعيش. كيف يمكن أن يجتمع هذان النقيضان؟ كيف يمكن أن نقتل الخطية دون أن نقتل الخاطئ؟ ينبغي أن يوجد بديل عن آدم. وفتش الله عن البديل. فلم يجد إلا نفسه، ولذلك قدم نفسه. قدم ابنه، وصار الإله إنساناً. كان قد رتب هذا الأمر منذ الازل. وما رأيته في سياحاتك كلها كان محاولات من الناس لقتل الخطية، إلى أن جئت إلى اليهودية فرأيت الترتيب الإلهي.. الإله يصير إنساناً. وبيدأ الإله من الدرجة الأولى للإنسانية.

هنا بدء الكفارة. هل تستطيع أن تدرك عظم محبة الله؟ أنظر إلى الإله الذي صار إنسانًا وبدأ إنسانيته من أولى درجاتها، واصغ إلى كلمات الأنبياء عن الذبيحة.. أنا إلى الآن لا أفهم تماماً كيف ستتم، لكني رأيت في ذلك الصبي الذي حملته على يديّ «الله ظهر في الجسد». ولذلك خشعت أمامه، وطلبت منه أن يطلقني، فقد رأيت خلاصه. الحقيقة أني رأيت بدء ذلك الخلاص. نعم سجدت للإله الذي كان طفلاً، كنت أقرأ النبوات وأراجع التاريخ، فوقعت في بلبلة. ما معنى كلمات إشعياء عن ذلك الذي وصفه بالكلمات: «لٰكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا... وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِين» (مزمور ٥٣: ٤ - ١٢). ألا يعني ذلك أن الحاجة هي إلى مخلص ينقذ البشرية من الفساد الروحي، والسقوط. مخلص يعيد الخليقة إلى البر الذي فقدناه بالعصيان؟ كنت أجلس متأملاً وقد رأيت العالم منذ سقط أبوانا. رأيت الحروب والدموع والدماء والجروح والقروح، رأيت الجوع والعري والأوبئة والأمراض، رأيت النيران و السيول والطوفانات، وقلت: من يخلصنا من هذه؟ لكني أحسست أن الحاجة إلى خلاص أعمق، فقد رأيت خلف كل ما رأيت التنين المخيف الذي ينفث سمومه فيلوّث العالم كله. نعم رأيت الخطية، وعلمت أننا في حاجة إلى مخلص ينقذنا لا من الخطايا بل من الخطية، لا من الشرور بل من الشرير.

ثم سألت نفسي وأين نجد هذا المخلص؟ هل يمكن أن يكون المخلص واحداً. من البشر؟ كلا؟ لا يمكن،لأنهم جميعاً تلوثوا بالإثم، كلهم. نعم كلهم. موسى، داود، سليمان، حزقيا، نحميا، ملاخي... «الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية ٣: ٢٣).

انحنت رأسي إلى الأرض. لا يمكن أن نجد بين الناس هذا المخلص.

إذن أين نجده؟ هل يتطلب الأمر أن يأتي ملاك من السماء؟

نعم إن الملاك بار، ولكنه لا يمكن أن يقوم بالمهمة. إنه لا يحس بما يحس به الإنسان. نعم، فإن المخلص ينبغي أن يشارك الإنسان في متاعبه وفي آلامه. ينبغي أن يكون إنساناً، يتعب كما يتعب الإنسان ويتألم كما يتألم الإنسان. يجوع كما يجوع الإنسان ويحتاج إلى الراحة كما يحتاج الإنسان، ويقاسي من المعاناة ما يقاسيه الإنسان - على أن يكون باراً وقدوساً وطاهراً ونقياً.

فأين نجد هذا الإنسان؟

رأيتني مستنداً على ساق شجرة في البرية أثناء سيري في الطريق إلى أول دروب مدينة الإيمان التي أرشدوني إليها. أين ميخائيل وزكريات وسمعان؟ أين حنة؟ ترى هل هي أحلام أم رؤى؟... بل أن الله كشف لي أن «الملخص الآتي» قد جاء؟ جاء إنساناً بل جاء إلهاً.. كلا - جاء إلهاً، بل لا. لقد جاء إنساناً.

ربي افتح عيني وذهني وقلبي. لي اشتياق أن أراك يا رب!
الفصل الثالث: عودة إلى مصر

خرجت من بيت سمعان، وسرت في طرقات المدينة الكبيرة أبحث عن الطفل الملك. ذهبت إلى الهيكل وسألت عن ملك اليهود، وفيما أن أسال اقترب مني جندي وسألني بخشونة عما أطلب. فقلت إني سمعت أن ملك اليهود قد وُلد في بيت لحم، وأنهم قدموه له في الهيكل. فقبض عليّ بعنف وجرني إلى المخفر، وجعل رجال الأمن يحققون معي. اتهموني بالجاسوسية وبالخيانة، وقد نلت كفايتي من الضرب والإهانة. ولما كنت أتكلم عن النبوات، ورأوا ما أنا عليه من سذاجة اطلقوا سراحي قائلين إني مجنون. وزودوني بكثير من الضرب واللكم والركل، وحذروني من الكلام عن ملك، فإن الملك هيرودس العظي موجود.

خرجت من مخفر االشرطة وقد ترك رجالها آثاراً عميقة على جسدي، كما تركوا في ذهني مخاوف، على أن ذلك لم يمنعني من التجوال. وبالرغم من أنني لاحظت أنني متبوع من رجال لا يحملون سمة مطمئنة، إلا أني سرت أسأل عن ملك اليهود. وتأكد رجال الحكومة أني مجنون فتركوني وشأني.

تعبت من البحث في أورشليم، فتركتها إلى بيت لحم. وذهبت إلى الخان وسألت هناك. علمت أن صاحب الخان كان قد باعه إلى آخر. على أن المالك الجديد قال إن المالك الأول كان قد ذكر في ما ذكر عن ولادة طفل كانت له قصة عجيبة، وذكر شيئاً عن رعاة وملائكة، لكنه قال إن العائلة كانت قد تركت الخان ونزلت عند عائلة قريبة. وذهبت أسأل من بيت إلى بيت. وعثرت على البيت الذي كانوا قد نزلوا فيه. ولكن أصحاب البيت حاولوا أن يتملصوا مني. أنكروا في أول الأمر. ظنوا إني جاسوس أتبع بيت هيرودس. فلما اطمأنوا إليّ، قصوا لي قصة في غاية الغرابة، قالوا: «ألست ترى علامات الحداد في كل بيت طرقته؟ لقد حدثت مذبحة منذ ستة شهور. جاء جنود هيرودس وقتلوا جميع الأطفال من اين سنتين فما دون». كان اضطرابي عظيماً، سألت: «فهل قُتل الصبي الوليد؟» قالوا: «لا». وبالرغم من أنهم اطمأنوا كل الاطمئنان إلا أنهم ترددوا أكثر من مرة...

كانت قصتهم أعجب من قصة الراعي ميخائيل قالوا: في أحد الأيام أقبلت قافلة فيها جمال وخيول، عليها رجال يحملون سمة الملوك، عرفنا أسماء ثلاثة منهم كاسبار ملك كالديا، وملكيور ملك بمفيلية، وبلتازار ملك أثيوبيا - ومعهم آخرون لم نعرف أسماءهم. دخلوا هذا البيت حيث كانت تقيم عائلة الصبي: الرجل وزوجته وابنهما. وهمس الرجل: «هم أقارب لنا من بعيد. شكراً لله أن ليس لنا أطفال». ودخل الملوك وانبطحوا على الأرض وقدموا سجوداً أكثر من سجود الاحترام، سجود عبادة وقدموا هدايا لا تُقدم إلا للآلهة: ذهباً ولباناً ومراً.. لم يتحدث الملوك كثيراً.

قالوا: سيكون لهذا الصبي شأن سيهز اليهودية بل سيهز كل العالم. انطلق الملوك. وانطلقت العائلة بعد ثلاثة أيام.. بعد خمسة عشر يوماً من انطلاق العائلة جاء جنود هيرودس يسألون عن الصبي، ثم قاموا بمذبحة فظيعة. ذُبح أزيد من مائة طفل. لكن الصبي المقصود نجا... وأنت تلاحظ أن بيت لحم تلبس إلى الآن ملابس الحداد.

قلت في نفسي: ها قد تمت نبوة سمعان... سيكون هدفاً تُصوب نحوه السهام «لعلامة تُقاوم».

وسألت أصحاب البيت: «ألا تعلمون أين ذهبت العائلة؟» أجابوا: «نظن.. نظن أن العائلة اتجهت إلى مصر».

هل أذهب إلى مصر؟.. وأين في مصر؟.. إن مصر عالم كبير..

لكن صاحب البيت همس في أذني إن مصر ليست كبيرة كما تظن. إن المهاجر اليهودي يعرف أين يذهب. ابحث عن العائلة الهاربة في حواري اليهود. اذهب إلى تل بسطة ومدينة الشمس ومصر القديمة.

وذهبت... لم تكن مصر هي البلد التي سبق أن تجولت فيها مع صديقي كاهن أوزيريس. لقد تغيرت كثيراً. كنت أظن أني لا أجد أحداً. لكني وجدت كثيرين. وقد أخبرني البعض انهم عرفوا العائلة. بل حدثني البعص عن الصبي. على أني لم أستطع أن أصل إليه. ظللت أتجول من مكان إلى مكان. لم يكن تسخير كالذي سبق أن رأيته. لكني لاحظت ن الشعب يبغض اليهود، ولا يتكلم عنهم حسناً. ولكنه لم يضطهدهم اضطهاداً ظاهراً. وكانوا يعملون في المال ويكسبون كثيراً، ولكنهم لم يكونوا سعداء، لأنهم كانوا يحسون بكراهة الشعب لهم، وبأنهم لو تمكنوا منهم لأفنوهم.

وقد لاحظت أنهم كانوا ينتظرون الملك الآتي المخلص. لما قلت لهم إنه جاء سخروا مني. سألوا: «أين هو؟ أين جيشه؟ أين أسلحته؟ أين مواكبه؟». ولما قلت لهم إنه وُلد في مذود البقر، وإن أهله فقراء، ضحكوا طويلاً وقالوا لي: «يا له من مخلص!! إننا ننتظر مخلصاً يخلصنا من طغيان الدولة المحتلة. يخلصنا من الفقر ومن الجوع ومن الظلم. يجلس ملكاً ونحن نجلس بجانبه ملوكاً. فهل يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك؟».

قضيت في مصر ثلاثين سن. ذهبت إلى كل ركن من أركانها وبحثت في كل مكان. كنت أسمع أخباراً يتضح لي أنها مجرد خيالات. قالوا لي أنهم رأوا العائلة التي كانت تقيم في طابق سفلي في مبنى مظلم، هروباً من يد ملك اليهودية. وقالوا إنهم رأوا نفس العائلة تسافر إلى أقصى صعيد مصر. كنت أقطع المسافات هنا وهناك دون جدوى، لم تكن مصر التي أراها هي مصر أوزيريس، فقد تغيرت معالمها، ولكنها ظلت بلاداً بغير إله حقيقي. لم تسمع عن الله الذي سمعت عنه من سمعان ومن الراعي ميخائيل أنه ظهر في الجسد!!

حتى اليهود الذين جاء المولود منهم لم يسمعوا عنه، بالرغم من النبوات التي يزعمون أنهم يعرفونها وينتظرون إتمامها، ومع أن الوليد المقدس جاء إلى بلادهم.. بل أكثر من ذلك فقد جاء في نبواتهم أن الله دعا ابنه من مصر. مع كل ذلك لم يسمع غالبيتهم شيئاً عنه. والذين سمعوا لم يهتموا...

ظللت أجوب البلاد إلى أن انهدّ حيلي وضعفت قواي.. وفي إحدى الليالي جاءني رجل شيخ وقال إنه سمع أني أبحث عن عائلة جاءت من بلاد اليهودية هاربة من ملك طاغية.. وقال إنه عرف تلك العائلة، وإنها نزلت في بيته من ثلاثين سنة أو أنه نحو ذلك قال: «كانت الأم شابة جميلة.. فلقة من النور. أما الطفل فبالرغم من أنه كان يبدو لأول وهلة طفلاً عادياً، إلا أنه كان يشرق بنور سماوي. كنا إذ نتأمل في وجهه نحس كأن السماء تتكلم معنا». قلت: «ترى هل تكلم فعلاً؟» أجاب: «لا. لقد كان طفلاً عادياً في كل شيء، إلا أنه كان يشعرنا أن في داخله.. أوه. لا أعرف ماذا أقول. كانت الأم تجلس معنا كل الوقت الذي تفرغ فيه من أعمالها كزوجة وأم. في الحق أنها لم تكن تجلس معنا. كانت تعيش في الأعالي، وعلاقتها بابنها لم تكن علاقة أم بابن بل علاقة «أَمة» بسيد، بل علاقة أمة برب معبود. أما زوجها فلم يكن زوجاً. كان ملاكاً يقوم على حراسة كنز ثمين..»

«وبعد أن أقامت العائلة مدة ليست طويلة، الحقيقة أني نسيت المدة. خيل إليّ أنها لا تزيد عن يوم.. جاء الزوج، وكنا نجلس مع الزوجة، وقال: «أيتها السيدة الكريمة».(كان لا يناديها إلا بكلمات يا سيدة ويا ست) لقد صدر إليّ الأمر بالعودة. قومي الآن، أعدي نفسك للسفر في بكور الغد.. وفي الصباح انطلقوا ولم أعد أسمع عنهم شيئاً..»

«وقد أحسست أننا فقدنا كل شيء. أصبح بيتنا بعد أن كان قطعة من النور شبه قبر مظلم. وقد تركنا البيت وانتقلنا من مدينة إلى قرية إلى مدينة أخرى.. ولم نعد من رحلتنا إلا أول أمس، عندما أخبرنا جيراننا عن شخص جاء يسأل عن العائلة الهاربة.. شكراً لله أنني لم أتعب كثيراً في الوصول إليك».

سمعت كلام الرجل، وعلى قدر ما تأسفت أنني ظللت في مصر هذه السنين الطويلة، سررت أني التقطت طرف الخيط. سأعود إلى اليهودية وسأعرف مكان الوليد العظيم. إنها لا بد وأن يكون الآن قد تسلم ملكه وجلس على عرشه وأنقذ شعبه بل أنقذ العالم المحيط به، أو على الأقل بدأ الإنقاذ!!

كنت متأكداً أن يد الغدر لا يمكن أن تصل إليه، لأني رأيت العناية التي رافقته، فهو كائن عجيب حقاً. الملائكة هتفت لمقدمه وقامت على حراسته حتى جاء مصر، والملائكة هي التي نفذت الأوامر العليا بعودته إلى اليهودية، ولا بد أن تكون قد رافقته في عودته. أليس هو سيدها وربها؟

سأعود إذن إلى اليهودية. ليتني أستطيع أن أطير طيراناً حتى أصل إليه وأطلب منه أن يحدثني عن نفسه، ويؤكد لي ما سمعته عنه من سمعان وحنة وميخائيل.. وما سمعته عن زيارة الملوك.. سأطلب منه أن يخبرني بالتفصيل شيئاً عن طبيعته ورسالته وانتظاره مني. سأخبره أني مستعد أن أجلس عند قدميه وأسمعه. وسأقول إني مستعد أن أنفذ أوامره وأذهب إلى آخر الأرض أحمل رسالته.. أوه. ليتني أطير طيراناً. في قلبي لهيب. أسعفيني أيتها السماء. احفظي حياتي إلى أن أراه.. فقط. لا أطلب أكثر من هذا.!!
الفصل الرابع: عودة إلى اليهودية

وصلت إلى أورشليم. لم يكن السفر سهلاً. هجم على القافلة التي كنت أحد المرافقين لها لصوص قيّدوا الحراس وسلبوا المسافرين. علمت أن هذه العصابة جزء من عصابة كبيرة زعيمها القاتل المشهور باراباس، وكان كبير هذه الفرقة اللص دوماس يرافقه لص آخر مشهور ولصوص آخرون قد نهبوا كل ما مع المسافرين، وقتلوا جميع الرجال. وأشرع أحدهم سيكنته ليطعنني، ورفعت عيني أستنجد بذلك الوليد، إذا بالسكينة تسقط من يد الرجل، فيقف مبهوتاً ويقول لي بخشونة: «من أين أنت؟ ولماذا أنت هنا؟». ثم خفض رأسه وقال، وقد لان وجهه: «هلا قلت لي من أنت؟» أجبت: «أنا رجل غريب، لي حكاية طويلة، لكني أوجز لك الجزء الأخير منها.لقد جئت من اليهودية أبحث عن وليد عظيم جاء والداه معه هاربين إلى مصر. يؤسفني أني لم أجد العائلة. ولما رفعت أنت السكين لتطعني رفعت رأسي أستنجد بذلك الوليد». فقال اللص: «الآن علمت لماذا سقطت السكين. لقد نظرت وإذا بالوليد الطاهر... دعني أخبرك أني تبعت العائلة الهاربة من أزيد من ثلاثين سنة أنا ورجال عصابتي. نحن جزء من العصابة الكبيرة عصابة باراباس. لقد تبعت العائلة الهاربة لكي أسلب الذهب الذي أخذوه من الملوك. ولكني إذ أبصرت وجه الطفل سقطت على وجهي. كان الوجه نوراً وناراً.. وقد منعت رجالي من الإساءة ليس فقط إلى العائلة بل إلى كل القافلة إكراماً لذلك الصبي. ولما رفعت يدي لأطعنك رأيت الصبي أمامي ينظر إليّ عاتباً».. ثم التفت إلى رفاقه وقال: «حلوا قيود الحراس واطلقوا سراح القافلة. لا تسلبوا درهماً واحداً منها. والآن أيها الصديق عد إلى اليهودية بسلام. سأوصي بعض رجالي أن يرافقوكم لحراستكم. أرجو أن تعثر على هذا الوليد العظيم.. أرجو وأرجو، لا أعلم ماذا أقول لك.. لقد سمعت الكثير عنه.. لكن اذهب اذهب». ثم دفعني عنه وقال: «اذهب».

ووصلت إلى حدود اليهودية. وتوجهت مباشرة إلى أورشليم، ووقفت حائراً. لقد مات كما عرفت، الشيخ سمعان والنبية حنة والراعي ميخائيل، وتفرق شمل بقية الرعاة. ووجدت في مكان الخان منبىً كبيراً لم يعرف أحد من سكانه عن الخان شيئاً.. حاولت أن أذهب إلى البيت الذي تقابل فيه الوليد من الملوك فوجدت أن التغيير شمل البقعة كلها. رفعت عينيّ إلى السماء وقلت: «رباه، أرشدني إلى أين أذهب»!!
مع رئيس الكهنة:

سرت في شوراع المدينة أسأل عن المسيح الملك، فكان الناس يهزون رؤوسهم وقد ظهرت السخرية على وجوه البعض والخوف على وجوه آخرين. ووقف بعضهم يتكلم في همس، وأخذني بعضهم إلى أشخاص علمت أن لهم شأناً في الدوائر العليا الدينية والسياسية. وأخذني هؤلاء إلى رجل ظهر أن له المقام الأعلى في الدوائر الدينية. لأني رأيت الناس يقتربون منه وينحنون أمامه إلى الأرض. وتكلم معي هذا الرجل بكل تعالٍ وبشيء من الغطرسة والشك. كان يظن أني جاسوس أو متآمر. لكن لما سمع حكايتي وعرف بساطتي ونيتي الطيبة، نظر إليّ بشيء من العطف مشوب بشيء من الاحتقار وقال: «علمت. سأقول لك إننا ننتظر المسيح الملك. لقد تنبأ عنه الأنبياء. نعم نحن ننتظره. ولكنه لم يأت بعد. وقد ظهر مسحاء كذبة كثيرون. من هؤلاء ثوداس الذي ادعى أنه المسيح الملك، وقد تبعه جمهور غفير، أربعمائة أو أكثر، وقد قُتل، وجميع الذي انقادوا إليه تشتتوا. وبعده قام يهوذا الجليلي في أيام الاكتتاب، وأزاغ وراءه شعباً غفيراً. هذا أيضاً هلك، وجميع الذين انقادوا إليه تبددوا - وفي هذه الأيام قام نجار ناصري مختل جمع وراءه عدداً من الغوغاء والعاطلين، وأقام نفسه عليهم قائداً وزعيماً. هذا ادعى أنه معلم.. وقد سمعنا إنه يهمس لأتباعه أنه ابن الله. وقد أشاعوا أنه يجري آيات وعجائب. وقد اتضح أنها كلها إشاعات لا أساس لها من الصحة. أما المعجزات التي قالوا إنها حدثت فإنها ولا شك من تحالفه مع الشيطان، هذا إن كانت قد حدثت فعلاً، إذ لا يمكن أن يكون هذا المعلم من الله لأنه يعلّم ضد الناموس. ومثل هذا يستحق القتل، وسيكون هذا مصيره إذا استمر في غيّه».

قلت: «إن كلام سيدي الكاهني الرئيس كله حكمة. لكني أستأذن سيدي فأسأل عما قاله لي الشيخ سمعان والنبية حنة والراعي مخيائيل».

فتبسم الشيخ الكبير وقال: «قد سمعت شيئاً مثل هذا». ثم تأوه وقال: «مسكين سمعان.. ومسكينة حنة. سمعان حفيد هليل الصغير، امتدت به الأيام حتى صار نظير طفل في تفكيره. وقد حدث اختلال عضوي في رأسه فأصبح يتخيل الكثير ما لا وجود له.. فقد صدرت منه أقوال وأفعال جعلت الكثيرين من أصدقاء العائلة الكبيرة يتأثرون، بل بعضهم بكى. كيف ينحدر ذلك الرجل العظيم إلى درجة كبيرة من الاختلال؟ وكذلك الأمر مع الأرملة العجوز حنة. شكراً ليهوه أن الاثنين ماتا قبل أن يصل الاختلال إلى ارتكاب المآسي».قلت: «فماذا يرى سيدي في رواية الراعي ميخائيل؟». فضخك وقال: «يكفي أن تسمع الرواية فتدرك كذبها وبطلانها.. والآن أنا أنصحك يا ولدي أن تكف عن السؤال هنا أو هناك. لقد أدركت بساطتك بل سذاجتك وأنا أعطف عليك. أشكر الله أنهم أتوا بك إليّ ولم يذهبوا بك إلى معسكر الوالي، أو إلى قصر الملك، حيث لا يعرف أحد منهم شيئاً عما تسأل عنه. أنصحك أن تعود إلى بلدك وتقيم بين أهلك، ولا تتعب نفسك في البحث عن إله لا يخصك، فإنه لم يأت بعد، وإذا جاء فسيكون إلهاً لشعب إسرائيل، وليس لك أو لأمثالك من الأمم!!».
الفصل الخامس: مع رئيس المجمع

لم أشأ أن أطيل جلستي مع رئيس الكهنة. علمت في ما بعد أن معامتله لي قوبلت بالدهشة. إنه لا يتكلم مع أحد إلا من كرسيه العالي. خرجت وقد بان الأسى على وجهي. لم يزعزع كلام رئيس الكهنة يقيني في الشيخ سمعان والنبية حنة. ولقد كان الاتزان بارزاً كل البروز في الشيخ. والذين تحدثوا معه كانوا يجلونه كل الإجلال. وماذا أقول في كلام الراعي ميخائيل، وماذ أقول في الأغنية السماوية، وماذا أقول في قصة المذود، وماذا أقول في قصة الملوك الذين جاءوا من المشرق وسجدوا للوليد العظيم؟ لن أذكر قصة اللص دوماس. الحق أن كلام رئيس الكهنة كان يحمل على الأقل، بطلانه!!

سرت في الطريق أحدث نفسي، وظللت أسير وأسير دون أية وجهة. لم أقف إلا عندما أحسست بأني لا أستطيع أن أسير. كنت في أشد التعب. وعندما وقفت رأيت إلى جانب الباب «مصطبة» مفروشة بالسجاد، وعليها وسائد، فجلست عليها.. الأصح أن أقول «سقطت» عليها من شدة التعب، ومال رأسي على صدري وذهبت في إغفاءة!

لا أعلم كم دقيقة أغفيت، ولكني استيقظت لأرى أمامي رجلاً وقوراً في لباس محتشم يكشف شيئاً عن مركزه الاجتماعي العالي، وقد تدلت لحيته على صدره وقد غلب بياضها على السواد.

نظر الرجل إليّ بقليل من الفضول، وقد أجبت على السؤال الذي لم تنطق به شفتاه: «نعم أنا غريب، على أنها ليست المرة الأولى التي أدوس التراب الغالي لأرضكم المقدسة».

ابتسم الرجل ابتسامة الرضا وقال: «لعلك تصل إلى ما تريد في أرضنا». قلت: «أخشى أني لن أصل على هدفي، أو لعل الأفضل ان أقول إني لن أصل إلا بعد اقتحام الصعاب، فقد صدمت بشدة في خطواتي الأولى»!

نظر إليّ الرجل باهتمام وقال: «ألعلي أتعدى حدودي إذ سألتك أن تشرح لي قصتك، فربما استطعت أن امد لك يد المعونة؟ تُرى من أين وأين أصابتك اللطمة الأولى؟». ثم ابتسم وقال: «هلا يكون من المناسب أن ندخل إلى صحن الدار لنتحدث في خلوة لا يقاطعنا فيها أحد». قلت: «ترى هل يأذن لي سيدي أن أسأل عن الشخصية الكريمة التي توليني شرف الحديث معها؟». ثم استدركت قائلاً: «لقد خرجت من بيئة بدائية لا تحسن أسلوب الحديث مع الطبقات العالية، ولم نتعود على لياقة الدخول في بواطن الأمور». وابتسم الرجل مرة ثالثة وقال: «أرى أنك تختلف كل الاختلاف عما تقول، فإن أسلوب كلامك ينبئ عن شخصية جالت في جوانب الأرض وتحدثت إلى كثير من البشر.. لكن دعنا من هذا - ويسرني أن أجاوب سؤالك، فأنا نيقوديموس، المعلم نيقوديموس، وأدعى في بلدانا الربي نيقوديموس، وأنا رئيس المجمع الشرقي الكبير في المدينة. وأعتقد أنك تعرف شيئاً عن المجامع الهودية». قلت: «نعم، فقد سبق أن جئت هذه الديار، وعرفت الكثير عن الديانة اليهودية والهيكل والمجامع، وكان لي شرف التحدث مع المعلم العظيم الشيح سمعان بن هليل الصغير». قال: «أرأيت الشيخ سمعان؟ إنك إذن لمغبوط.. لكن لندع هذا ولنعد إلى قصتك».

قلت: «إني ألخصها لك في كلمات.. كنت أعيش مع قومي حياة البهائم، لا نعرف شيئاً إلا العيشة الحيوانية، نأكل ونشرب ونزرع ونتزوج ونلد البنين والبنات وتموت.. وهكذا بدون إله وبدون عبادة... وظللت كذلك إلى أن حمل إليّ الفينيقي الذي رافق التاجر الكنعاني - الذي كان الصلة الوحيدة بيننا وبين العالم الخارجي - أن هناك إلهاً. فخرجت أبحث عنه - لست أرى داعياً لأن أقص لك قصة سياحتي.. ولكن انتهيت منذ أكثر من ثلاثين سنة إلى هذه المدينة، وحيث قابلت الشيخ سمعان وحنة النبية والراعي ميخائيل. وحدثني هؤلاء عن مجيء «الآتي» الذي قال البعض إنه نبي، وقال آخرون إنه المسيح، وقال غيرهم إنه المسيا. وقال الملاك إنه الرب جاء في الجسد.. وعلمت أن ذلك الآتي وُلد في بيت لحم، وأن ميخائيل سمع عن مولده ورآه، وأن سمعان الشيخ حمله على ذراعيه.. وأن ملوكاً جاءوا من المشرق وسجدوا له وقدموا له هدايا.. وذهبت إلى بيت لحم لأراه، فعلمت أن العائلة هربت إلى مصر لأن هيرودس قصد أن يقتل الصبي. وذهبت إلى مصر ومكثت أزيد من ثلاثين سنة أجول في نواحيها أبحث عنه بدون جدوى، لأنه كان قد عاد منذ زمن طويل. ولكني لم أعلم بذلك إلا أخيراً. وجئت إلى اليهودية وسألت عن المولود الملك. ولكني وجت ممن سألتهم صدوداً. هزأ بي البعض، وهرب مني البعض، وقبض أحدهم عليّ وسلمني إلى رجل ظهر أن له كثيراً منالسلطان، وهذا ذهب بي إلى شخص آخر. وأخيراً حملوني إلى رجل يبدو أنه أعلى الكل.. وهذا بعد أن سمع قصتي لأن وجهه العبوس، وابتسم في وجهي وقال إنه يرى أني بريء وساذج، وقال لعل ذلك الوليد المزعوم هو ذلك النجار المخبول، بل المضل يسوع الناصري. وقال إن سمعان الشيخ قد أصيب بالخبل في أخريات أيامه، وإن قصة الرعاة والملائكة والمذود وما رواه سمعان كله خيال مريض، وإن الناصري إما أن يكون مجنوناً أو حليفاً للشيطان، وقال إن مسيا لم يأت بعد. ومع ذلك فإنه أذا أتى فسيكون مسيا اليهود لا مسيا غيرهم. ونصحني أن أعود إلى قريبتي وأتزوج من الفتاة التي خطبوها لي وأترك موضوع الله هنا نهائياً» .

«لقد خرجت من بيتي من سنين طولية ولاقيت ما لاقيت من متاعب ومشقات. لم أذكر لأحدٍ ما قاسيت من جوع وعطش وحر وبرد وأسفار وأهوال. وأخيراً يقول لي زعيم ديني كبير إن بحثي عن الله عبث.. ويقول لي إن سمعان مخبول وإن حنة مخرفة وإن ميخائيل خصيب الخيال، وإن النجار الناصري مختل ومضلل وسامري وبه شيطان، بل إنه متحالف مع بعلزبول رئيس الشياطين؟».

وظهر التأثر على وجه المعلم وقال إن رئيس الكهنة ورؤساء المجامع وقادة الهيكل وجماعة القادة السياسيين معذورون في وقوفهم ضد المعلم الناصري. لقد استطاع الناصري أن يجتذب الجماهير إليه بتعاليمه البسيطة العميقة، وقد جرّأ عامة الشعب على الرؤساء بحيث أصبحوا يعلنون علناً أنه هو الملك الآتي - كما أن الرومان الذين يسيطرون على البلاد سيزيحون الرؤساء من كراسيهم إذا حدثت بلبلة عن ملك.. لا أعلم لماذا أتحدث معك بهذا الوضوح. على أن الأمر الذي أودُ أن تعرفه أن النجار الناصري هو فعلاً معلم جاء من الله، لأن ليس أحد يعمل الآيات التي عملها إن لم يكن الله معه.

ثم همس نيقوديموس في أذني: «لقد زرته وجلست معه وتكلمت معه وتكلم إليّ.. كان ذلك من أسابيع قليلة. كنت قد سمعت أنه شفى عبد قائد المئة الروماني بكلمة، وأنه زار بيت حنان صديقنا يوم عرس ابنه وأن عصير العنب «شربات» الفرح لم يكف الضيوف، فلم يكن صاحب الفرح يظن أن كل الأحباء سيأتون. كان سيتعرض لفضيحة. لم يكن وقت لشراء عصير من الخارج، ولكن الناصري حول الماء إلى عصير جيد. وجاءني زكريا الأبرص. كان من ذوي قرباي، وقد أُصيب بالبرص، ولمسه المعلم الناصري وقال: «أريد فابرأ» وفي الحال برئ من البرص. بعض حوادث الشفاء رأيتها وبعضها سمعت عنها» .

أما تعاليمه.. ماذا أقول لك فيها؟ لم يسمع العالم نظيرها. كانت تختلف كل الاختلاف عن تعاليمنا. كنا نتحدث للاهوتيين الباحثين في الفقه والتشريع، أما هو فكان يتحدث للشعب!!

لم ير العالم له نظيراً. اسمع بعض ما قال: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ. طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ. طُوبَى لِصَانِعِي ٱلسَّلاَم. طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ ٱلْبِرِّ» (متّى ٥: ٣ - ١٠). «كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ» (متّى ٥: ٢٢). «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (متّى ٥: ٤٤) «...ألله أبوكم فلا تعولوا الهم... إنه يهتم بالطيور وبالعشب. لا شك أننا أولى باهتمامه».

لقد جاءني صديق وألقى عليّ كلمات المعلم الناصري. إني أتلوها كل يوم. لقد كتبتها على أبواب بيتي. إنها جواهر. كلا ليست جواهر. إن الجواهر شيء تافه بالنسبة لها...

وبعد أن سمعت كل ذلك فكرت أن أتلاقى مع هذا الناصري. لم يكن من السهل عليّ أن أقابله. إني أحد الرؤساء، والرؤساء يحتقرونه وبيغضونه ويلصقون به كل تهمة شنعاء. أعترف لك أني كنت جباناً، ولذلك ترددت كثيراً. إن في قلبي ناراً. أنا أحس أن عند الناصري علاجاً لنفسي المضطربة. ولكني أخاف من الناس. أخاف من أعضاء المجلس الأعلى - لذلك رتبت أن أقابله ليلاً. لا حاجة لأن أخبرك كيف تم ذلك!

ذهبت إلى البيت البسيط الذي يقيم فيه، ورأيته. كان رجلاً عادياً، لكن ما أن اقتربت منه حتى وجدتني أجثو أمامه وأقبّل قدميه. أنا الرئيس الذي قبل الناس طرف ثيابي في كل مكان، ويحسون أنهم نالوا بركات إذا قبلوا يدي.. نعم أنا نيقوديموس!

في الحق أني عندما اقتربت منه لم أر مجرد إنسان بل رأيت إلهاً.. وبعد أن التقطت انفاسي قلت: «يا معلم - لم أر نجاراً بل معلماً - «نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ» (يوحنا ٣: ٢). وكان في نيتي أن أخبره عن النار التي تلتهب في قلبي. كنت أنوي أن أقول إني لم جد اكتفائي في شريعة موسى التي أعتبرها أنا وزملائي والشعب اليهودي وسيلة التبرير أمام الله، وإني لا أزال أحس ان هناك شيئاً آخر ينبغي أن يتم في حياتي. كنت أنوي أن أقول له إن كل ما في اليهودية من تشريع ونظام وعبادة لم يشبع قلبي. نعم كنت أنوي أن أقول له إن كل ما في اليهودية من تشريع ونظام وعبادة لم يشبع قلبي. نعم كنت أنوي أن أقول كل ذلك. ولكن يبدو أنه قرأ خواطري فأجاب على سؤالي الذي لم تنطق به شفتاي: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ» (يوحنا ٣: ٥ - ٧). كان هذا الكلام غريباً عليّ لكن الحقيقة أني كان يلزم أن أقبله. لقد كنا نقبل دخلاء في اليهودية بأن نغسلهم ونعمّدهم ونطلب منهم أن يأتوا أشياء من صلوات وتقدمات، ثم نقبلهم يهوداً دخلاء. لكن المعلم الناصري يعلن أن الولادة الحقيقية لملكوت الله تقتضي عمل روح الله، الماء والروح. ولقد علمت فيما بعد أن الماء يشير إلى كلمة الله «والريح» - التي نقلناها إلى كلمة «روح» - والريح تشير إلى روح الله - إن الولادة الجديدة هي الطريق الوحيد للدخول إلى ملكوت الله، وتتم بعمل روح الله وكلمته الإلهية في الإنسان..»

كان ينبغي أن أفهم المعلم، ولكني لم أفهم تماماً. على أني أحسست أنها شيء جليل عظيم يدخل قلبي..

ثم تكلم الناصري كلاماً آخر، أعجب من كل كلام سمعته في حياتي.. «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيد» (يوحنا ٣: ١٤ - ١٨). ثم مضى نيقوديموس يقول: «سمعت هذه الكلمات العجيبة. أعجب ما سمعته: الله يحب العالم، الله يبذل ابنه أجل العالم، الله يسمح أن ابنه يُعلق كما عُلقت الحية النحاسية.. الله يسمح أن ابنه يُصلب لكي يشفي العالم، كيف يمكن أن يكون هذا؟ كيف يمكن أن يكون؟»

صمت قليلاً: إني أذكر أن إشعياء قال لي يشيئاً عن ذلك «الآتي». أذكر أن كلماته كانت تشبه إلى حد كبير ما قتوله. قال لي إشعياء عنه: « وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ ٱلضُّغْطَةِ وَمِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ ٱلأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ ٱلرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذٰلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِزَّاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء ٥٣: ٥ - ١٢).

كنت ألاحظ أن المعلم اليهودي يهم بين حين وآخر أن يقاطعني، ولكنه ظل محتفظاً بوقاره إلى أن فرغت من كلامي، فقال: «ويحي أنا الجاهل. كان ينبغي أن أفهم. لقد قال الناصري لي: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا الحق؟! « اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟» (يوحنا ٣:١١ و١٢).

وصمت المعلم الكبير، ثم قال: لقد سمعت أيضاً إعلاناً عجيباً. قال «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يوحنا ٣: ١٣).

قال نيقودويموس هذه الكلمات ووقف قوال: «كنت أود أن تنزل في ضيافتي ولكني لا أستطيع (على الأقل جهاراً) أن آكل معك خبزاً.. ولكني مستعد أن أعطيك ما نشاء من المال. بل سأعطيك تفويضاً لتسحب ما تشاء من الصيارف» قلت: «أشكرك. إن معي الكثير، ولي الكثير في المصارف. إني محتاج إليه هو.. هو.. وحده».

قال نيقوديموس: «إني سأعود إلى النبوات، وأدرس كلمات الناصري لي في نورها، وأرجو أن أصل. أما أنت أيها الغريب فسر على بركة الله، وإذا قبلت مشورتي فاذهب إلى نبي عظيم اسمه المعمدان ويسميه بعضهم الغاطس. إنه الآن في السجن ويمكنك أن تقابله... خذ هذه البطاقة تساعدك»!!
الفصل السادس: مع المعمدان

بعد متاعب كثيرة وصلت إلى قلعة ماركيوس. وقد سمحوا لي بزيارة المعمدان بعد أن فتشوا حقيبتي وثيابي خوفاً من وجود الممنوعات. كنت قد حملت بعض الفاكهة لأني علمت أن السجين الكبير يرفض أن يتناول لحوماً مطبوخة أو مشوية. كان يتناول عسل النحل والفاكهة فقط في السجن. كان قبل ذلك يتناول لحم الجراد المشوي.

وقد رحب المعمدان بزيارتي بوجه بشوش، على عكس ما كنت أتوقع. فقد أخبروني أنه متجهم الوجه، خشن الكلام، صارم التعبير. وقد استمع لي بصدر متسع. سمع قصة حياتي من أولها إلى آخرها.. وقد أصغى بصفة خاصة إلى حديث الكاهن الرئيس والرئيس نيقوديموس. تنهد بارتياح وهو يسمع حديث المعلم نيقوديموس وقال: «شكراً لله».

ثم نظر إليّ وقال: «إن الله طيّب يا بني. لقد وصلت. فقد قال: «الَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَيَّ يَجِدُونَنِي» (أمثال ٨: ١٧). «اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّر» (يوحنا ١: ١٨). «الله سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ» (١تيموثاوس ٦. ١٦). دبر أن يعيد للإنسان برّه. قلبه الذي تلوث ينبغي أن يُخلق جديداً. كانت الذبائح ترمز إلى الذبيحة العظمى، وقد جاء هو في ابنه ليقدم نفسه ذبيحة الكفارة. نعم جاء حمل الله الذي يرفع خطية العالم.. جاء ليقدم نفسه ويُعيد خلق الإنسان. «أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا» (إشعياء ٥٣: ٤). أما هكذا قال النبي إشعياء وداود، والأنبياء؟ أما أنا فلم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني قال لي إنه هو الذي ترى الروح نازلاً عليه. وفيما أنا أعمده انفتحت السماء ونزل روح الله شبه حمامة وحلّ عليه. وجاء صوت من السماء: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى ٣: ١٧). نعم أنا رأيت وآمنت...»

على أن الشك راود بعض تلاميذي إذ أنهم رأوا فيه ما لا يتفق مع الصورة التي تخيلوها للآتي. كانوا ينتظرون ابن الله ملكاً في موكب رائع وجند وأسلحة وعظمة أرضية. كانوا ينتظرونه يكتسح في طريقه جحافل روما، ويزيح الكهنة العابثين بالمقدسات، ويشيع العدالة والقداسة على الأرض، ولكنهم رأو إنساناً فقيراً وديعاً متواضعاً.. لا جند ولا أسلحة ولا مواكب ولا مُلك، فخامرهم الشك.. ولماذا لا تقول إن الشك، قليلاً من الشك راودني إذ قد تركني في السجن، أو لعلي لم أشك بل عاتبت. على كل حال أرسلت إليه اثنين من تلاميذي أسأله: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» (متّى ١١: ٣).

من الغريب أنه لم يغضب. لم يوبخ شكي. لم يذكرني بما قصته عليّ أمي، ولم يذكرني بما رأيته بعيني يوم أن عمدته بالماء. ولم يذكرني بشهادتي عنه بعد عودته من البرية، إذ أشرت إليه «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَم» (يوحنا ١: ٢٩). بل طلب من التلميذين أن يخبراني بما ينظران ويسمعان. وقد رأيا وسمعا تحقيق النوبة القديمة في إشعياء إذ قال: «رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ، لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ» (إشعياء ٦١: ١ و٢). وهذه نفس الكلمات التي وصلتني «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ» (لوقا ٧: ٢٢). وختم رسالته بالكلمات «وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيّ»‍!! (لوقا ٧: ٢٣).

والتفت يوحتا إليّ وقال: «لم أر السيد بعد ذلك، ولكن آمنت به. آمن يا ابني، أمن به.. وبما أنك غير مسجون فإني أشير عليك أن تذهب إليه وتشكره وتعترف بإيمانك به. لقد وصلت يا بني. لقد وصلت. لقد وجدت الله القدوس الطاهر الصالح الحنون، الذي سيقدم نفسه ذبيحة عنك وعن العالم.. نعم الله الذي كله قلب!».
الفصل السابع: المرأة السامرية

خرجت من السجن وأنا أفكر «أين أجد السيد؟» سألت واحداً واثنين وأكثر وكان الناس لا يلتفتون إليّ، لكن أحدهم نظر إليّ نظرة خاصة. حدق في وجهي وقال: «لا أرى في وجهك ما ينم عن شر. أنت لا تريد بالناصري شراً». قلت: «كلا كلا». قال: «إذن فاعلم أنه موجود على الأغلب في إقليم السامرة، بالقرب من مدينة سوخار»!!

وذهبت إلى السامرة في طريق لا يحبه اليهود، وإذا ساروا فيه يسيرون كارهين... ووصلت إلى المدينة ووجدت البئر التي يستقي منها السكان. رأيت بعض النساء فسألتهم عن يسوع الناصري، فأجبن كلهن: «أنت تقصد المسيا. لقد كان عندنا منذ أربعة أيام، وتركنا لا نعلم إلى أين؟». ثم نظرن إليّ وقلن: «إنك في غاية التعب. هلم معنا واسترح هذه الليلة وغداً نطلقك». وجاء معهن بعض الرجال، وأخذوني وأضافوني وقصوا عليّ أنه التقى بامرأة من عندهم، لما التقيت بها وجدتها تحمل سمات الوقار. وقالوا: «بما أنك ترغب أن تسمع عن المعلم المبارك فإن هذه المرأة يمكنها أن تخبرك بما يشبع قلبك».

جلست مع المرأة إلى جانب الغرفة، وجعل الآخرون يتسامرون كل واحد مع آخرين. وكان معظم حديثهم عن النبي الجديد.

نظرت إلى المرأة بشيء من الفضول. كانت بالرغم من أنها بلغت الأربعين، ربما فوق الأربعين، كانت تحمل شيئاً غير قليل من الجمال. كانت تلبس ملابس محتشمة وكان القوم يولونها احتراماً كبيراً.
السيدة الأولى في المكان:

وسألت: هل هي الحاكمة أو زوجة الحاكم أو - فقاطعتني قائلة: «أنا؟.. دعني أقول لك، أنا أحقر امرأة في هذه المدينة. وسأروي لك قصتي الأولى ورأسي في التراب...»

لقد نشأت في بيت متوسط الحال. كنت وحيدة والديّ، وكنت أحمل شيئاً مما يدعونه الجمال، أقصد جمال الجسد. وكان الشباب يغازلونني وأنا بعد صبية، وكنت أسر لذلك. كان البعض يعطونني ما في جيوبهم من الحلوى، وبعضهم كان يهديني شياً من الطيب، وبعضهم قدم لي دراهم. كانوا في أول أمرهم يغازلونني بالكلام، وتجاسر بعضهم فغازلني باليد.. وبعضهم قبّلني. واستعذبت ذلك، وسقطت وأنا بعد دون البلوغ. وتزوجني أحد أقربائي ستراً للعار. ولكني ظللت أسلك كما كنت مع الشاب، فطلقني. وتزوج مني آخر وآخر. تزوجت خمسة أزواج. ولم يرض رجل محترم أن يتزوج مني بعد ذلك، فعشت عيشة الفجور مع من لا استطيع أن أدعوه زوجي... واحد عاش معي.

ومع أن المدينة ليست سامية الخلق، إلا أنها رأت فيّ صورة لأشنع انحطاط، فازدرتني واحتقرتني واعتبرتني لوثة. مات أبي وأمي حزينين كل الحزن، ورفضني جميع أهلي، وامتنع الجيران والمعارف عن أي اتصال بي.. صرت مصابة بداء القروح الخبيثة. كانت النساء يخرجن ليملأن جرارهن جماعات جماعات بعد الفجر بقليل، أو قبل الغروب بقليل، أما أنا فقد نُبذت. كنت أحمل جرتي في الظهر وحدي. كان كل سكان المدينة يتغامزون عليّ!!

كنت أتأثر في أول الأمر من هذا التصرف. كنت أعود إلى بيتي وأبكي وأبكي. لم أكن أستطيع أن أعود إلى الحياة النظيفة. كان الرجال الأوغاد يحيطون بي.. وأنا، وأنا كنت مربوطة بقيود أقسى من الحديد. فكرت أكثر من مرة أن أنتحر، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت إحساساتي تتبلد. أخذت على الأوحال التي أعيش فيها. بدهشك أن تعلم أني ظللت أمارس الفرائض الدينية على الطقس السامري.

ظللت أعيش هذه الحياة إذا اعتبرت أني أعيش.. إلى ذلك اليوم.

جئت في الظهر وحدي، وعندما وصلت قرب البئر أبصرت رجلاً جالساً على الحجر، فقمت حسب عادتي - بحركاتي الماجنة كلما رأيت رجلاً. ولكن الرجل نظر إليّ نظرة نفذت كخنجر في قلبي، فلملمت أطراف ثيابي على صدري، وسمعته يقول: «أعطني لأشرب».. إنني لا أزال أذكر كل كلمة نطق بها الرجل.. كان رجلاً غريباً يجمع بين القوة والرقة، العنف واللطف. يجرح ويعصب، يُسيل الدموع ويمسحها. لقد كشفني لنفسي. رأيت عاري ولكني رأيت أيضاً عين المحبة الطاهرة. رأيت دموعه الشافية. عرفت أن المسيح ابن الله قد أتى إلى العالم وهو يتحدث إليّ ويعلن لي أنه هو المسيح.

فتركت جرتي وخرجت راكضة وناديت الناس. من الغريب أنهم سمعوا ندائي وجاءوا. من الغريب أنهم أصغوا لكلامي. قلت لهم: «تعالوا وانظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟».

من الغريب أنهم لم ينظروا عاري ولكنهم نظروا إلى توبتي رأوا نتيجة تأثير «الإنسان» العجيب عليّ. رأوا فيّ إنسانة أخرى، فأتوا إلى «الإنسان» ودعوه فمكث معنا وتحدث إلينا. رأيناه السيد الذي أتى من السماء. رأيناه ابن الله. وقالوا لي: «إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن، لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحفيقة المسيح مخلص العالم». وقد تغيرت المدينة تغييراً مدهشاً. لم تصبح سوخار القديمة. أصبحت جنة، مدينة القديسين، وأنا، أنا المرأة النجسة الملوثة، المرأة التي عاشت حياة الخنازير، المرأة التي كان الناس يسدون أنوفهم إذا اقتربوا من بيتي ورأوني من بعيد لأن رائحتي كريهة.. أنا أشكر ذلك الإنسان العجيب. لا يمكن أن يكون إنساناً عادياً. لا يمكن لإنسان أن يجري المعجزة التي أجراها في سوخار. وبالأكثر المعجزة التي أجراها فيّ.

لقد أحسست وهو ينظر إليّ أن عينه ترسل لهيباً من محبة عجيبة قوية، أحرقت كل جراثيم الإثم، وصهرت القلب القاسي وخلقت لي قلباً جديداً. أشكر الله. أنا إنسانة جديدة.. جديدة جداً. وهكذا نظر إليّ الناس وأكرموني ورأوا فيّ لا السامرية القديمة الملوثة بل السامرية الجديدة النظيفة النقية. هل أجسر أن أقول: القديسة؟ أنا أؤمن أن يسوع هو المسيح ابن الله الحي، الله الذي جاءني إنساناً. شكراً شكراً شكراً...

وقضيت في سوخار عدة أيام نتحدث في عجائب البار في مدينة سوخار. لقد حدثوني عن معجزات للكثيرين والكثيرات في تلك المدينة، وكانت شهادتهم قوية ومستمرة.
الفصل الثامن: المولود أعمى

خرجت من مدينة سوخار واتجهت إلى اليهودية، وسألت عن المعلم الناصري، فعلمت أنه لم يأت إليها، ولكنه ذهب من السامرة إلى الجليل. ماذا أقول في حظي السيء. أسمع أنه في مكان فأذهب لأجد أنه ذهب إلى مكان آخر...

وفي ما أنا سائر في طريقي أحدث نفسي، إذا بي أتحدث بصوت مرتفع: «أين أنت أيها الناصري؟» وبيدو أن البعض سمعني لأن شخصاً تقدم مني وقال: «ماذا تطلب أيها الرجل؟».

وكان السؤال مفاجئاً فتلعثمت وقلت: «إنني» - ونظر إليّ الرجل بعطف وقال: «لا عليك، أنا صديق، وقد سمعتك تحدث نفسك بصوت مرتفع فاقتربت منك لأسألك: ماذا تطلب من الناصري؟ هل سبق لك أن رأيته؟ هل تعرفه؟».

قلت: «إني لم أره بعد. لقد سمعت عنه.. لقد آمنت به وأنا مشتاق أن أراه وأعترف له بإيماني، وأسلم له حياتي. على أني أسألك إن كنت تستطيع أن تهديني إلى حيث يقيم، لأني حيثما ذهبت أطلبه، أجده قد ترك المكان قبل وصولي. تُرى هل رأيته أنت؟». فأجابني: «يبهجني أن أجد شخصاً يخرج طالباً أن يجد ابن الله. ألا فاعلم أنك جد مخطئ. إنه هو الذي وجدني. ولست أنا الذي وجدته. هو الذي يبحث عنك لا أنت الذي تبحث عنه. وسيجدك ولا بد». قلت للرجل: «إنه قد وجدني، وأنا سلّمت له حياتي، ولكني أريد أن أرى شخصه كما رآه غيري، وكما رأيته أنت - على ما فهمته منك. تُرى هل تتفضل وتروي لي قصة عثوره عليك؟».

قال الرجل: «لقد رويت القصة للكثيرين، بل رويتها لبعض أعداء الناصري، لكني أشكر الله أن أحباءه يطلبون أن يسمعوها!!»

«أنا زكريا بن يوئيل، أمي طافة ابنة حزقيا البيتلحمي، وقد ولدت فاقد البصر، فكنت مصدر حزن لهما. أدركت سن الصبوة. كنت أسمع صوت بكائهما. ما أكثر ما سمعت: «يا رب ماذا ارتكبنا من المعاصي حتى وُلد ابننا أعمى؟» ولسبب فقدان بصري لم أتعلم حرفة أتعيش منها. كان العمل الوحيد الذي يقوم به أمثالي أن أستعطي. وفي أحد الأيام سمعت من يقول: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» (يوحنا ٩: ٢). كان السؤال يحمل نغمة الكبرياء. وقد قلت في نفسي: «متى يا رب ارتكبت معصية، فقد وُلدت أعمى؟ هل كانت لي حياة قبل أن وُلدت؟ وهل معنى ذلك أن المبصرين لم يخطئوا؟». ومع أني لم أكن أعرف ما هو البصر، إلا أني فهمت أن المبصرين يرون الأشياء بخلاف اللمس. لا يحتاجون إلى العصا ولا إلى اليد التي تمسك بهم. وكنت أنادي أمي أحياناً وأقول لها: «يا أماه، ما هذه التي تُدعى الشموس وما القمر؟» - وعندما كانوا يقولون إن هذا لونه أحمر أو أصفر أو أسود كنت أتساءل: ما معنى هذا؟ وقد جعلني هذا أعتقد أن البصر شيء عظيم ومنحة إلهية ممتازة. فلما سمعت من يسأل: من أخطأ؟ أحسست بخنجر يخترق أحشائي. ولكن السيد الذي سُئل أجاب جواباً أشاع البهجة في نفسي. سمعته يقول للسائل: «لاَ هذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيه» (يوحنا ٩: ٣). قلت في نفسي: «إن هذا إنسان عجيب لم أقابل مثله كل أيام حياتي. لم اسمع طيلة أيامي من يُلقي مثل هذا الإعلان الصالح». ثم سمعته يقول: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ»» (يوحنا ٩: ٤ و٥) يا لو من إنسان عظيم، كما أنه إنسان نبيل. إنه يملك كفايات لا يملكها غيره. إنه لا يدين الآخرين ولا يعيرهم ولكنه يفكر في تقديم يد المعونة لهم. إنه مرسل من كائن عظيم ليقوم بأعمال عظيمة.. ومع أني لم أفهم معنى قوله «أَنَا نُورُ الْعَالَمِ». لكني أدركت أنه لا يساويه شيء!!» .

وما أدري إلا أنه أمسك بيدي، ووضع طيناً في مكان عيني، وأمرني أن أذهب أغتسل في بركة سلوام. لاحظ أيها الغريب أني لم أكن أعرفه، ولكن إجابته لمن سألوا عن سبب ولادتي أعمى، وإعلانه إنني لم أخطئ ولا أخطأ أبواي جعلني أؤمن به، فذهبت إلى البركة. بالطبع طلبت من أمسك بيدي وقادني إلى المكان، ونزل بي إلى حافة البركة. وأستطعت أن أغترف بعض الماء وغسلت الطين. وهنا حدثت أعظم معجزة في حياتي. لا يمكنك أنت يا من ولدت أن تدرك عظمتها. عندما اغتسلت أبصرت. إن كلمة «أبصرت» عندك لا تساوي جزءاً من ألف.. بل جزءاً من مليون مما هي لي. هل أستطيع أن أصف لك معنى كلمة «أبصرت»؟ هل أستطيع أن أقول لك معنى أني أسير بدون عكاز، وإني أرى جمال النور والشمس والقمر والنجوم والماء والشجر والزهر؟ رفعت صوتي وصرخت: «هللويا هللويا هللويا». واجتمع حولي جمهور من الناس وسألوا: «من هذا؟ أليس هو الذي كان أعمى؟» وسمعت البعض يقول إنه هو، وآخرين يقولون إنه يشبهه، فصرخت فيهم: «بل أنا هو. أنا زكريا بن حزقيا البيتلحمي، وُلدت أعمى والآن أبصر، وها أنا أبحث عن ذلك الإنسان.. بل ذلك النبي.. بل لا أعرف ماذا أقول، بل ذلك الإله الذي أجرى معي هذه المعجزة.. آه إني في كل يوم أرى عظمتها، وإذ ذاك أرى عظمته. من هو؟ لا يمكن، كلا. لا يمكن أن يكون مجرد إنسان.. بل ولا مجرد نبي...».

لكن ما لهؤلاء القوم المحيطين بي، إنهم يتهامسون بشيء من الحماسة وبكثير من الحدة. ينبغي أن نأخذه إلى الرؤساء. ينبغي أن يقول الرؤساء رأيهم. إن اليوم هو السبت المقدس، وشفاء الرجل غير جائز في هذا اليوم. كيف لا يكون جائزاً وهو عمل خير؟ واشتدت المناقشة واحتدت، وإذا بهم يجرونني جراً، وإذا بي أقف أمام الرؤساء، فسألوني عما حدث لي، فقلت: صنع طيناً وطلى عينيّ، واغتلت فأبصرت. وإذ ذاك قالوا: «اسمع يا فتى، هذا الإنسان خاطئ لأنه كسر السبت». اهتز قلبي. هل يمكن أن يكون الخالق؟ نعم، فقد خلق عينيّ، هل يمكن أن يكون الخالق خاطئاً؟ ولكني أجبت إجابة فيها كثير من السياسة وكثير من السخرية: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِر» (يوحنا ٩: ٢٥). ترى ماذا يستطيعون أن يقولوا أمام العين التي تبصر؟ وهنا قال أحدهم: هل نحن متأكدون أن الشاب كان أعمى حقاً؟ ألا يمكن أن تكون القضية كلها دجلاً واستغفالاً؟ من الذي قال إن هذا الشاب كان أعمى؟ اختلف القوم فاستدعوا أبويّ فاعترفا أني وُلدت أعمى. أما كيف أبصرت أو من فتح عينيّ فهما لا يعلمان شيئاً عن ذلك. كانا يخافان سلطان الفريسيين الذين يبغضون يسوع. الحقيقة أن الأمر اختلط عليّ. لا استطيع أن أذكر بالضبط ترتيب الحوادث. سألوني أولاً عن رأيي في من فتح عينيّ، فقلت: إني أرى أنه نبي.. ولما قالوا لي إنه خاطئ، أجبتهم ذلك الجواب الذي سبق أن ذكرته: «أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا». وسألوا مرة ثالثة: «كيف أبصرت؟» فأجبتهم: «لقد سبق مني الإجابة، أم لعلكم تريدون أن تكونوا تلايمذ له؟» فشتموني وقالوا: «أنت تلميذ ذاك؟ نحن تلاميذ موسى. نحن نعلم أن موسى كلمة الله، وأما هذا فلا نعلم من أين هو؟ لا يمكن أن يكون من الله». فصرخت في وجوههم: «إن في ذلك عجباً. إنكم لستم تعلمون من هو. وقد فتح عينيّ. ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة. ولكن إن كان أحد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. منذ الدهر لم يُسمع أن أحداً فتح عيني مولود أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل هذا».

لا أعلم كيف تجاسرت أن أنطق بهذه الكلمات أمام الرؤساء الذين يهابهم كل الشعب، فصرخوا فيّ منتهرين: «من أنت أيها الحقير حتى تتكلم بهذا الكلام الكبير؟ اخرج. اخرج من منطقة إسرائيل. اذهب ملعوناً من الله، ملعوناً من فم الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب. اخرج ملعوناً من الناموس وموسى».طردوني من مجلس القديسين، صرت ملعوناً محروماً، لا يجوز أن يتكلم معي إسرائيلي أو يتعامل معي. ولولا أن البلاد كانت تضم بعض المسافرين وبعض الأمم لمُتّ جوعاً.

على أني لم أعبأ بما عملوه معي، بل كنت مستعداً أن أموت جوعاً من أجل ذلك الذي فتح عينيّ. ليتني أجده. إني لم أقم له بأي واجب، وقد أجرى معي هذه المعجزة العجيبة.

وفيما أنا في حيرة تقدم لي شخص مهيب، كان النور يشع من عينيه. لم أعرفه في أول الأمر، ولكن قلبي على ما يبدو عرفه سألني: «هل طردوك؟»قلت: «نعم يا سيدي، ولكني لم أهتم بذلك. إن من أنقذني أعظم من الناموس، وأعظم منهم، وأعظم من موسى. ليتني أجده». وقال الرجل: «قد وجدته، بل قد وجدك. أتؤمن بابن الله؟». قلت: «نعم نعم فأين أجده؟». وقلت في نفسي: «ليته يكون المتكلم معي». وصدق حدسي إذ قال لي يسوع: «قد رأيته سبق أن رأيته وأنت مغلق عيني الجسد، وها أنت تراه بعينيك المتفوحتين. والذي تسمعه هو هو». وفي الحال وثبت من مكاني وجثوت عند قدميه وقلت: «أؤمن يا سيد. أؤمن يا سيد». وسجدت لابن الله، الله الذي ظهر في الجسد.

وألقى السيد إعلاناً عجيباً وقال: «لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هذَا الْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ الَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى الَّذِينَ يُبْصِرُونَ» (يوحنا ٩: ٣٩). قلت: «دعك مما قاله. أنا أريد أن أذهب إليه أين هو؟». أجاب: «لقد مكث مدة طويلة يحاور اليهود ويحاورونه، ولكنه تركهم وذهب إلى مكان آخر لا أعرفه.. عليك أن تبحث».

تركت المكان مسروراً وحزيناً كعادتي. مسروراً لأني وجدت إلهي، وحزيناً لأني لم أجده.. لم أجده بعين الجسد!!
الفصل التاسع: مجنون كورة الجدريين

سرت في طريقي بدون هدف، وظللت سائراً إلى أن أمسى المساء. وجدت خاناً متواضعاً على جانب الطريق قضيت الليل فيه. وقد تحدث صاحب الخان عن مجنون كان يقيم في الجبال، وأن المعلم الناصري أنقذه فعاد إلى كمال عقله. وقال صاحب الخان أن المجنون الذي شفي - وهو يملك شيئاً من المال - كرّ س حياته للحديث عن الناصري، فهو يجول من أول المنطقة إلىآخرها منادياً المرضى والمساكين أن يذهبوا إلى ذلك الطبيب العظيم.

وسألت صاحب الخان عن هذه المنطقة، فقال إنها منطقة العشر مدن، وهي تقع بالقرب من كورة الجدريين، ويدعوها البعض كورة الجدريين. وقال لي صاحب الخان: «إنك قد تجد الرجل على مقربة من هذا المكان»...

قلت: «ولكن أين ذهب الناصري؟» فأجاب: «من الأسف أن رؤساء البلد طلبوا منه أن يترك كورتهم. فتركها ولا أعلم إلى أين ذهب. وقد علمت أن المجنون أو الأصح أن أقول الذي كان مجنوناً، طلب منه أن يتبعه، ولكن الناصري رفض طلبه وأشار أن يعود إلى أهله ويخبر بما صنع معه الله من الرحمة، فعاد وهو يجول في المنطقة كلها يتحدث بما كان وما صار».

تركت الخان وسرت في الطريق التي أشار عليّ صاحب الخان أن أسلكها. لم أبتعد إلا قليلاً عندما سمعت صوتاً عالياً يقول لجماعة محيطة به: «لا بد أنه المسيح!» فاقتربت منه وتقدمت إليه وقلت: «ترى هل أنت.. هل أنت؟». قال: «نعم أنا مجنون جدرة». قلت: «أرجو...»قال: «لا داعٍ للاعتذار. أنا مجنون جدرة. كنت مجنوناً وكانت الشياطين ساكنة فيّ، وجاء السيد وأخرجها. شكراً لله». قلت: «تُرى هل يمكنك التحدث إليّ بشيء من التفصيل». فأجاب: «إن ذلك يسرني كل السرور. لماذا لا تأتي معي إلى بيتي وهو قريب من هذا المكان؟».

وسرت معه.. كان البيت يحمل طابع الميسرة ولو أنه لم يكن قصراً...

دخلت فاستقبلتني سيدة شابة جميلة، وإلى جانبها فتاة تبدو في العاشرة، وفتى يبلغ الثامنة. كان أثاث البيت ثميناً أنيقاً نظيفاً. جسلنا في صحن البيت، وقدمت الزوجة شيئاً من عصير البرتقال، وقالت: «سيكون طعام الغداء جاهزاً بعد قليل».

وقلت للشاب: «أرجو ألا أكون متطفلاً عليك في طلبي أن تعيد قصة مراحم الله معك». فأجاب: «بل أن ما تطلبه هو المهمة التي كرست حياتي لها».. ثم صمت قليلاً ثم قال

«لقد نشأت في عائلة تعمل في التجارة. أبي كان تاجراً، وجدّي ووالد جدي، وهكذا... فأنا أستلسل من عائلة عملت في التجارة. وقد اقتنينا الكثير من التجارة في الداخل وفي الخارج. كانت تجارتنا تحملها القوافل البرية والسفن. امتدت معاملاتنا إلى سوريا ولبنان... بل امتدت تجارتنا إلى فارس واليونان ومصر.. وأنت تعلم ان شريعتنا لا تُبيح أكل لحم الخنزير، ولكن الأمم يأكلونه. لذلك فكرت أن أضم إلى تجارتي تربية الخنازير والتجارة فيها، فأقمت زرائبها خارج المدينة بالقرب من الجبل عبر بحيرة جنيسارت. وعادت هذه التجارة عليّ بأرباح خيالية.. وعاشرت أصدقاء السوء فشربت الخمر.. وانحدرت. كم جلست زوجتي عند قدمي وبكت وصلت ونصحت، ولكني لم أستمع لها بل أسأت معاملتها.. أسأت إليها بلساني وبيدي. وولداي، ما أكثر ما لقيا مني. ودخل شيطان صغير في قلبي في أول الأمر. كان شيطاناً صغيراً لطيفاً دخل مع الكأس الأولى. كنت أجلس مع الشباب وأشرب قليلاً.. قليلاً جداً.. ودخل شيطان صغير آخر يرافق الشيطان الأول كانوا يدعونه الفكاهات... وجعلت شياطين أخرى تفد تباعاً: الطمع الجشع السكر الظلم.. وظلت الشياطين الشريرة تفد حتى امتلأت بها. إن اسمي ميخا بن حننيا، لكني نسيت الاسم. كان البعض يدعونني سكيراً، وآخرون طماعاً وآخرون خنزيراً. وأنا فعلاً نسيت اسم ميخا. نسيته تماماً. كنت وحشاً طالما أمسكت العصا ونزلت بها على زوجتي وولديّ. وامتد الأمر إلى جيراني وعملائي، بل إلى كل المنطقة. جعلت أمزق ثيابي وأشد شعري وأجرح جسدي. تركت البيت وسكنت في الجبال عارياً أصرخ ليلاً ونهاراً. يدهشك أن تعلم أني كنت أدري بما أفعل، لكني لم أكن أستطيع أن أمنع نفسي عن الأذى لنفسي وللآخرين. وقد حاول أهلي ذوو قرباي في أول الأمر أن يعالجوني ولكنهم فشلوا. استعملوا العقاقير والعلاج النفسي، ومعه الصلوات بل استعملوا الأحجبة وفشلوا. وازداد عدد شياطيني وازدادت إساءاتهم. فعمد أهلي إلى اتقاء شري بأن ربطوني بالحبال، ولكني قطعت الحبال. قيّدوني بالحديد فكسرت الحديد. كنت ليلاً نهاراً أصرخ وأمزق جسدي وأقذف المارين بالأحجار ويا ويل لمن يقع بين يدي، فقد كنت أمزق جسمه شر ممزق. كان العدد العديد من الجبابرة يحاولون أن يخلصوا الضحية من بين يدي، فكنت أقذف بهذا العدد بعيداً. كانت قوتي مروعة. قطعت الطريق أصبحت رعب المنطقة».

وجاءت زوجته في ذلك الوقت لتناول الطعام. ولما جلسنا رفع الرجل صلاة عميقة مؤثرة، وبدأنا نتناول الطعام!!

وقالت الزوجة: «ما أكثر ما بكينا أنا وولداي.. منذ سنتين.. لا، لا.. منذ أربع سنوات. ما أكثر ما بيكنا وما أكثر ما صلينا. وأخيراً سلمنا.. لا فائدة. ومنذ شهور قليلة كنا نطل من النافذة على الطريق المنحدر من الجبل، فأبصرناه قادماً، كان رعبنا عظيماً. سيقتلنا. في المرة الأخيرة أمسك بالسكين وتقدم منا ليذبحنا. لكننا لاحظنا شيئاً أشاع الاطمئنان في قلوبنا.. إنه يسير سيراً متزناً، ويلبس ملابس نظيفة، ويتجه مباشرة إلى باب البيت. وصل إلى الباب ونادى بصوت فرحان: «ماريان. جنفياف. يوئيل، لا تخافوا. هلموا إليّ. لقد خرجت مني كل الشياطين. أخرجها الناصري». تقدمنا منه فوقع على أعناقنا وأخذ يقبلنا ويقبلنا» .

«كنا نتهيأ لتناول طعام العشاء، في الحقيقة لم يأكل، بل أخذ يحدثنا بما حدث معه. ونظن أنك يا ضيفنا العزيز تريد أن تسمع القصة منه.. تكلم يا ميخا.. تكلم» قالت الكلمات الأخيرة وقد امتلأ وجهها بالدموع.

وتكلم ميخا: «رأيت سفينة ترسو في الميناء الصغير، وتهيأت لأقذف من فيها بالأحجار، لكن ما هذا؟ حالما رأيت كبيرهم أحسست أني أمام ملاك سماوي، كلا. بل الله نفسه. عرفت الشياطين الساكنة فيّ شخصية ذلك الإنسان، فصرخت بفمي، وركضت وانطرحت عند قدميه. وقالت الشياطين بفمي: «ما لنا ولك يا يسوع ابن الله. هل جئت قبل الوقت لتلقينا في الهاوية الأبدية؟ أنا أعرف من أنت.. أنت قدوس الله.. أنت ابن الله». ونظر القدوس إليّ بعطف وقال: «ما اسمك؟». وقالت الشيطين بفمي: «اسمي لجئون. إننا فرقة شياطين كبيرة». وقال القدوس: «كلا. ليس اسمك لجئون. اسمك ميخا. أيتها الشياطين اخرجي منه. أنا آمرك أن تخرجي». وإذ ذاك توسلت الشياطين: «لا ترسلنا إلى الهاوية. اسمح لنا أن نحل في الخنازير». وقال السيد: «اخرجي منه واذهبي إلى حيث شئت، بعيداً عنه.. بل إلى الخنازير التي كانت سبب دخولك فيه». وخرجت الشياطين مني ودخلت الخنازير، وإذا بالقطيع كله يندفع إلى الماء ويغرق. وسقطت أنا على الأرض شبه ميت، وقام يسوع وأمسكني بعطف، وخلع جزءاً من ثيابه وألبسني.

جثوت عند قدميه وقلت: «سيدي وإلهي. أنت ربي وأنا عبدك. أشكرك أنك خلصتني من الشياطين القوية الفتاكة التي كانت تعذبني ليلاً ونهاراً».

وهرب الرعاة وأخبروا في المدينة، فجاء أصحاب الخنازير وأبصروني عاقلاً ولابساً وجالساً عند قدمي يسوع، فخافوا. ولم يُسروا لنجاتي مع أن الطريق أصبح آمناً، ولكنهم لم يهتموا بي. اهتموا بالخنازير التي ضاعت. الخنازير النجسة التي كانت سبب تعاستي وتعاسة الكثيرين. طلبوا من السيد أن يترك تخومهم. كنت أنتظر أنهم يطلبون منه أن يبقى لينقذ مئات البائسين أمثالي. ولكنهم حسبوا الخنازير أثمن من الناس. وأخبرني السيد أنه جاء لكي يخلصني ويخلص أمثالي. «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيد» (يوحنا ٣: ١٦) فداء عني وعن الخطاة أمثالي.

سجدت مرة أخرى عند قدميه وقلت: «ربي وإلهي. دعني أتبعك أينما تمضي» فنظر إليّ بعطف وقال: «بل ارجع إلى أهلك.. إلى زوجتك وولديك وحدثهما وحدث كل من لك وكل من تستطيع الوصول إليه بمحبة الله الفائقة المعرفة».

سمعت قصة «اللجئون» فقمت من مكاني وسجدت طويلاً لابن الله.
الفصل العاشر: رئيس يسجد للناصري

أريدأن أراه. إن ما سمعته عنه ملأ قلبي بالإيمان به. لكن أريد أن أراه. حيثما ذهبت يقولون لي: «كان هنا ومضى إلى مكان آخر». وأسمع عن آياته ومعجزاته. جاء رؤساء اليهود إليه يتوسطون لقائد المئة الروماني، لأن وكيل أعماله مريض مرضاً خطيراً، وهو عزيز عنده. وقد بذل كل وسيلة ليقيمه، ولكن مرضه ازداد استفحالاً. وكان قد سمع عن يسوع وآمن أنه هو هو الرب، وهو يطلب من اليهود أن يتوسطوا له. إن يسوع من اليهود، واليهود أقرب إليه منه ويقول اليهود إن الرجل بالرغم من أنه أممي، إلا أنه يستحق المعاونة «لأنه يحب أمتنا وقد بنى لنا المجمع». ويسوع يقول أنا آتي وأشفيه. ويسمع القائد فيرسل ليسوع: «كلا، لا. لا تأت. أنا لست مستحقاً أن تدخل تحت سقفي. أنا أعرف أنك صاحب السلطان الأعلى. كل شيء بأمرك يكون. إني أفهم ذلك لأن لي جنوداً تحت يدي، أصدر أوامري فتُنفذ. لذلك ألتمس أنك تقول كلمة. قل كلمة فيُشفى عبدي».. وقال المسيح الكلمة وشُفي العبد. «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ» (يوحنا ١: ٣).

وحدّثوني عن المفلوج الذي حمله أربعة، وإذ لم يستطيعوا أن يصلوا إلى المسيح بسبب الزحام حول الباب صعدوا إلى السقف من السلم الخلفي، ونقبوا السقف ودلوا سرير المريض بحبال. ورأى المسيح إيمانهم فشفى المريض.

وحدثوني عن رئيس المجمع الطيب يايرس، وعن ذهاب يسوع إلى بيته. على أنهم قبلما توغلوا في الحديث أبصروا يايرس سائراً بالقرب منهم فقالوا: «هوذا يايرس نفسه». فركضت نحوه لأشبع فضولي، ورجوته أن يحدثني عن قصته مع الناصري.

واستنار وجه الرجل وقال: «حباً وكرامة. لكن ألا تظن أن الحديث في الطريق غير لائق؟»

قلت: «إني غريب أقيم في الخان، وليس من اللائق أن أدعوك في خان». فقال: «ولماذا تدعوني؟ لماذا لا تأتي معي إلى بيتي؟ إنني أقيم مع زوجتي وابنتي الوحيدة. نعم إن عندنا عدداً كبيراً من العبيد، لكنهم يقيمون في الغرف الملحقة بالمنزل. هلم نكسر الخبز معاً». وذهبت واستقبلتني الزوجة وقد تخطت سن الشباب ولكنها كانت تحتفظ بجمال وقور. وبعد أن رحبت بي نادت ابنتها لتحضر، ثم قالت: «سأقدم لكم شيئاً من العصير، إذ أن وقت تناول الطعام لم يحن بعد»...

وجلسنا أربعتنا. وقال يايرس: «لقد سمعت عنك من كثيرين. عرفت أنك تركت بلادك تبحث عن الله. وأنك جبت بلدان العالم تبحث عنه.. وأنك وجدته في يسوع الناصري ابن الله، وأنك تجول في اليهودية والسامرة والجليل تحاول أن تراه. على أنك أعلنت أنك قد أمنت به. طوبى لم آمنوا ولم يروا...».

«وأنت ترغب أن تسمع قصتي معه.. إنني أرويها لك. في كل كلمة منها تجد شكري وإيماني.. إنني يهودي أؤمن بالله غير المنظور، ومع أني أرى يسوع إنساناً إلا أني إذ أشاهد قواته أؤمن أنه أكثر من مجرد إنسان. إن الله حل فيه. الله لم يره أحد قط ولا يمكن أن يراه، ولكن من الذي خاطبه أبونا إبراهيم بالقول: «أَدَيَّانُ كُلِّ الأَرْضِ لاَ يَصْنَعُ عَدْلاً؟» (تكوين ١٨. ٢٥).ومن هو الملاك الذي كان مع موسى في البرية؟ ومن هو رئيس جند الرب الذي يظهر ليشوع؟»

«عندما رأيت يسوع أولاً رأيت إنساناً، لكن عندما سمعت عن آياته بدأت أفكر... فلما دخل بيتي لم أر إنساناً ولم أر ملاكاً بل رأيت سيداً ورباً»

«أنا يا صديقي يهودي كما قلت لك، على شيء من الثراء ومن الثقافة.. وأنا أهتم بشؤون الدين. وقد اختاروني رئيساً لمجمع أورشليم الشرقية. دعني أقول لك بغير تواضع مفتعل إني كنت على شيء من النفوذ، وإني احتل مقاماً مرموقاً في الأوساط الدينية والسياسية. وقد تأخرت في الزواج، ولم تنجب زوجتي إلا مؤخراً. كانت زوجتي شابة جميلة من أسرة كبيرة. مات بعض أطفالنا بعد أيام من ولادتهم، ثم جاءت ساراي.. ولم يأت بعدها أطفال، كانت ساراي بهجة البيت. كانت حالما تستيقظ ترسل أناشيدها في الجو، ثم تقفز من فراشها وتسرع إلى غرفتي وتحيط وجهي بذراعيها الصغيرتين وتغمرني بعشرات القبلات، ثم تتركني وتذهب لأمها وهي تملأ الجو بصيحات المرح. كانت حياتنا بها جزءاً من النعيم. وفي أحد الأيام استيقظت مبكراً وأصغيت أسمع في غرفة مكتبي صيحات المرح، منتظراً القبلات الحلوة.. ولكن انتظاري طال. ولم تأت زوجتي لتدعوني إلى مائدة الإفطار. فقمت واتجهت إلى غرفة ساراي فوجدتها في فراشها، وأمها إلى جانبها تتحسس وجهها ورأسها. حاولت المسكينة أن تبتسم فجاءت ابتسامتها زفرة، وطفرت الدموع من عينيها. ملت على وجهها لأقبلها فأحسست أن وجهها جمر نار. قالت زوجتي إنها لم تشأ ان تزعجني فلم تخبرني. بدأت الأبنة تشكو من الصباح باكراً.. ولم تتناول في العشاء إلا القليل. قلت: «كان يجب أن أعرف لأرسل إلى الطبيب». فقالت: لقد أرسلت إلى طبيبنا الخاص، وأعتقد أنه سيكون هنا بعد لحظات» .

وجاء الطبيب وجاء بعده طبيب آخر.. وآخر.. وأخر. دعونا الطبيت الخاص برئيس الكهنة، بل دعونا طبيب الوالي الروماني، وحاولوا جهدهم أن يخفضوا درجة الحرارة ولكنهم فشلوا. هذا والطفلة تئن أنيناً مؤلماً، ووجهها تكسوه حمرة، كان أشبه بجمر نار.

وقفت أشبه بمجنون.. ماذا أعمل؟ دعوت الكهنة.. بل دعوت الدجالين. ابنتي.. ابنتي الحيدة تموت. إني أضع كل أموالي فداء عنها. لم يفلح الأطباء اليهود واليونانيون والفارسيون والرومان. كلهم وقفوا عاجزين.

وتقدم مني أحد العبيد وقال متردداً: «أرجو ألا يغضب سيدي مني. لماذا لا تتصل بيسوع الناصري؟ أنا أعرفه، فقد شفى ابن عمي المفلوج. شفاه بكلمة».

كنت قد سمعت عن الناصري وعما قام به من آيات، وكنت أعتقد أنه صالح. لم أكن أتفق في الرأي مع الرؤساء، ولكني لم أجسر أن أجاهر برأيي أمامهم. أما والأمر يختص بابنتي الوحيدة، فإني طرحت كل جبن وقمت راكضاً إلى الخارج. وكان العبد الذي تكلم معي يعرف بعض تلاميذ المعلم، فسرنا إليه وهذا سار معنا إلى حيث كان المعلم جالساً يعلم الجمهور عن الآب السماوي...

ورأيته للمرة الأولى، كانت الصورة التي قدمها الرؤساء لي تختلف كل الاختلاف عن صورته الحقيقية. قلت لك إني رأيت لا مجرد إنسان، لا أميراً ولا ملكاً، بل ملاكاً لا. لا. رأيت سيداً ورباً.

اقتربت منه و إذا بي، بدون وعي مني، سجدت عند قدميه. ولم يمنعني من السجود. كان السجود له عبادة مقبولة.. قلت: «يا سيدي، ابنتي تلفظ أنفاسها الأخيرة.. بل لعلها ماتت الآن. هلا جئت لتضع يدك عليها.. فتحيا». ونظر الرئيس إليّ وقال: «أنت ترى إني كنت أعتقد أن ابنتي ماتت، وأني طلبت من الناصري أن يأتي لا ليشفيها بل ليقيمها من الموت». ثم مضى الرئيس يقول: «وقام السيد معي، وقام بطرس الذي كان يقف بجانبي، وقام الجمهور كله، سرنا. بالطبع كنا نسير بمنتهى البطئ. فحاولت أن أدفع بطرس ليقنع الناصري أن يسير بسرعة.. لكن ذلك كان مستحيلاً، لأن الجمهور كان يتزايد في كل خطوة يخطوها.»

ولك أن تتصور حالتي وأنا أسير بسرعة إلى جانبه. كانت نار تشتعل في قلبي. إن ابنتي ماتت. إن ابنتي تلفظ آخر أنفساها. ماتت. لا تزال حية. ولكنها على حافة الموت. هكذا كنت أحدث نفسي. وبغتة وجدت الجمهور يقف لأن المعلم الناصري وقف. وقف يسأل: «من لمسني؟» كان بطرس إلى جانبي، وكان يلاحظ تعبيرات وجهي، فقال للسيد: «يا معلم ما هذا الذي تقوله؟ إن عشرات الأيدي تلمسك بل تدفعك وبعد ذلك تسأل: من لمسني؟» وإذا بالمعلم يقول: «إنا لمسة خاصة، فإن قوة خرجت مني».

وعندها أدركت أن المعجزات التي كان الناصري يجريها كانت تكلفه كثيراً. إنها ليست رخيصة كما كنت أظن. والتفت حوله يبحث عمن لمسه، وإذا امرأة تتقدم إليه وتقول: «غفرانك يا سيدي. أنا المرأة النجسة، وقد لمست ثوبك الطاهر - أما لماذا فعلت هذا فسببه أنني منذ اثنتي عشرة سنة أُصبت بنزيف حاد، ربما كان بسبب أورام خبيثة. وذهبت إلى أطباء كثيرين وأنفقت أموالاً طائلة. تقريباً أفلست. أخذت عقاقير حامضة ومرة ولا طعم لها. وأُجريت لي عمليات بعد عمليات. أخذ الأطباء كل مالي. أفلست تقريباً، ولم أستفد شيئاً، بل صرت إلى حال أردأ. وسمعت عنك يا سيدي أنك أتيت من عند الله لتشفي المرضى وتخرج الشياطين وتقيم الموتى لأنك لست نبياً فقط. إنك ابن الله. أنت الله الذي ظهر في الجسد. لكن كيف آتي إليك، وطقوس شريعة موسى تحكم إني امرأة نجسة لأني نازفة الدم، ونجاستي مستمرة؟ فإذا استطعت أن أخبئ نجاستي تحت ثيابي فإن قوتي لا تسعفني لشق الطريق إليك. رباه، قلت في نفسي: رباه إني تعيسة وشقية. سأحاول أن ألمس طرف ثوب يسوع، لأني إذا لمست طرف ثيابك شفيت. وهذا ما حدث يا سيدي لقد شفيت. توقف النزيف. ولكني أخطأت يا سيدي. كنت نجسة يا سيدي ولمست ثيابك الطاهرة». ونظر السيد إليها بعطف وقال: «اطمئني. إيمانك شفاك اذهبي بسلام وكوني صحيحة من دائك». سمعت هذه الكلمات يا صديقي نوستراداميس فهتفت بسرور: «اثنتا عشرة سنة وهي تنزف. عمر ابنتي.. إذن يمكن أن يشفي ابنتي».

قلت هذه الكلمات على أني قبل أن أنتهي من حديثي لنفسي اقترب مني بعض أهلي ومعهم بعض العبيد، وقد تجلى الحزن على وجوههم، فقلت: هل؟ ولم أجسر أن أقول «ماتت». ولكنهم هزوا رؤوسهم وقالوا: «لا تتعب المعلم».

كدت أسقط على الأرض لولا أن يد السيد امتدت إليّ، وقال بصوت عميق: «لا تخف. آمن فقط فهي تُشفى». ويدهشك أن تعلم أني هدأت ووثقت.

ووصلنا إلى البيت، ورأيت النساء يلطمن وامرأتي تكاد تقتل نفسها حزناً. وحالما رأتني أمسكت بي وقالت: «ماتت ماتت». رأيت النائحات يرسلن «أغانيهن» المحزنة فتشعل لهيب الحزن في أقسى القلوب. نظر السيد إليهن وهو يعلم أنهن أجيرات يعملن على إشعال نار الحزن في الأم المسكينة، فقال لهن: «اصمتن.. اسكتن.. لم تمت الصبية ولكنها نائمة». فانقلبت النسوة ساخرات. ألا نعرف نحن الفرق بين الموت والنوم؟ لقد أغمضن عينيها ووضعن اللثام على فمها. لقد ماتت وشبعت موتاً. ولكن السيد أمر بطردهن من المكان، وبقيت أنا وزوجتي والسيد وحدنا. وتقدم السيد إليها ورفع عينيه إلى فوق وتكلم. ورأيت أنا ابنتي وقد تصلب عودها. يبدو أنا ماتت من عدة ساعات.. ونظر السيد إليّ بعطف وقال: «آمن فقط». ثم تقدم من الجثة وأمسك بيد الابنة الحبيبة وقال: «يا صبية قومي». وإذا بالصبية تفتح عينيها وتزيح اللثام عن فمها وتبدأ تتثاءب وتتحرك، ثم تقوم. ويدهشك أنها لم تقترب مني أو من أمها، بل وثبت نحو السيد وأمسكت بيديه وجعلت تقبلهما، وهي تقول: «لقد رأيتك يا سيدي في نومي، يا سيدي يا إلهي».

والتفت إلينا وقبلتنا وقالت: «اسجدوا له. اسجدوا لإلهي وربي». وسجدنا وبكينا وضحكنا...

وإذا بالسيد ينفلت من أيدنا ويخرج من دارنا.. ولا نعلم أين ذهب.

والآن أيها الصديق نخبرك أننا عرفناه. عرفنا أنه يسوع المسيح ابن الله مخلص العالم. ومن ذلك اليوم جعلت أنادي أن المعلم الناصري هو المسيح الذي كتبت عنه النبوات. هو المسيح ابن الله، حمل الله الذي يرفع خيطة العالم.

لا أفهم بعد كيف ذلك، ولكن أؤمن.

وقمت من مكاني أنا نوستراداميس وأنا أحس بمزيج من الفرح والألم. إني مسرور أني وجدت الله، ولكني حزين لأني أصل على الدوام متأخراً. لو أنني جئت قبل اليوم لرأيت، ولكني سأبحث عنه، وسأراه. نعم سأراه بعينيّ كما رأيته بقلبي.
الفصل الحادي عشر: مع كبير العشارين

قابلت في اليهودية طوائف عدة. كانت كل طائفة تعيش في شبه عزلة عن الطوائف الأخرى. كان رئيس الكهنة وعدد من ذوي الشأن ينتسبون إلى طائفة تُدعى «الصدوقيين» قيل إنهم أتباع زعيم كبير يُدعى صادوق، وكانت طائفة مثقفة متحررة تنتسب للدين ولكنها لا تتمسك بالكثير مما يعتبره غيرهم أساساً في الدين. كانوا يتمسكون بكتب موسى ولكنهم ينكرون الجانب الأكبر من باقي الكتب. لا يؤمنون بالبعث أو الحياة الأخرى أو الملائكة. إن الحياة لهم هي الأيام التي يعيشونها، والخلود يقوم ببقاء الاسم في أبنائهم وأحفادهم وهكذا.

أما الطائفة الكبرى الثانية فهي الفريسية، وهي الطائفة المحافظة المتمسكة بكل الكتب المقدسة وكتب التقاليد. وكانت تحتقر الشعب الجاهل، وتقاوم الاستعمار في كل صورة. وقد برز منهم رجال عظماء كان لهم اسم في تاريخ الأمة!

والطائفتان كانتا تتناوئان يسوع الناصري لأنه كان يهتم بالشعب ويقدم التعاليم السامية، وقد كشف نفاق ورياء الطائفتين كما وبخ كبرياءهما.

والطائفة الثالثة العشارون، وهم بقية منبوذة تعاونت مع الأجنبي وانحدرت في أخلاقياتها حتى لم تجد من يقبل التعاون معها إلا أحط طبقات الشعب. وقد سمعت أن المعلم الناصري اهتم بهذه الطبقة اهتماماً خاصاً، وأعلن أن الله يهتم بهؤلاء، وأن الآب السماوي لم يرسله للأبرار بل للخطاة ليخلصهم ويأتي بهم إلى التوبة. لذلك كان المعلم الناصري يجلس مع هؤلاء العشارين الخطاة الذين نبذهم المجتمع، وكان يرفع من معنوياتهم ويؤكد لهم أن الله أبوهم السماوي وهو يحبهم. ربما كان يحبهم أكثر من غيرهم، فهم الخروف الضال الذي يترك الراعي التسعة والتسعين في البرية ليفتش عنه. وهم الدرهم المفقود الذي تقلب المرأة كل البيت من أجله. وهم الابن الراجع الذي يفرح أبوه بعودته أكثر من أي شخص آخر.

لم يكن من الصعب عليّ أن أصل إلى أفراد من هذه الطبقة. كان بعضهم من كبار الأغنياء لكنهم برغم ثرائهم لم يقابلوا حتى من عامة الشعب إلا بالاحتقار. وقد انتهز الرومان هذه الفرصة فشغلوا هؤلاء العشارين في جباية الجزية، إذ لم يقبل أحد المواطنين الأحرار أن يفعل ذلك!

وقد قابلت من هذه الطائفة رجلاً يُدعى لاوي بن حلفي. كان جابياً ولكن المعلم الناصري دعاه فترك الجباية وتبعه، وصار أحد تلاميذه الخصوصيين.

كان للناصري تلاميذ كثيرون لكن سبعين منهم كانوا من خاصة التلاميذ، واثنا عشر كانوا من خاصة الخاصة، وكان لاوي أحد هؤلاء الاثني عشر. وقد أردت أن أتحدث إليه، لكنه أخبرني أنه مكلف بمهمة عاجلة، وقال لي: «سأرسلك إلى صديق حبيب كان زميلاً لي في العمل. اذهب إلى مدينة أريحا واسأل هناك عن رئيس العشارين زكا». وذهبت للتو إلى أريحا وقد عجبت أن كل السكان يعرفونه. بل لاحظت أنهم لا يتكلمون عنه باحتقار أو بكراهة كما تعودت أن ألاحظ ذلك من الناس وهم يتكلمون عن العشارين!

وصلت إلى بيت زكا وطرقت الباب، ففتحت شابة صغيرة اسمها حنة، قالت إن أمها راحيل في البيت، أما أبوها فسيأتي بعد قليل. نادت أمها فجاءت امرأة حلوة لا تزال تحمل جانباً من الشباب، وقالت إن زوجها لن يتأخر. فإذا قبل ضيفنا أن يستريح قليلاً لأقدم له شيئاً من شراب الليمون ينيلنا بركة إلهنا. وقد علّمنا سيدنا أن من يقدم كأس ماء بارد لعطشان لن يضيع أجره!

قلت إني أشكر للسيدة تفضلها، وأخبترها أني أتيت لأسمع شيئاً أكثر عن هذا السيد، بعد أن قضيت سنين طويلة أبحث عنه!

قالت: «كنت أود أنك جئت من عشرة أيام، فقد كان هنا في أريحا، وقضى ليلة كاملة في بيتنا المتواضع هذا». وثبت في مكاني وقلت: «قضى ليلة كاملة هنا؟ ماذا أقول في حظي التعس؟ أصل متأخراً عدة أيام. على أنه يعزيني أن أسمع قصته من زوجك الفاضل زكا»!

وقبل أن أكمل حديثي دخل رجل قصير القامة لكنه مهيب الطلعة، وقال: «مرحباً بالضيف الكريم. أية ريح طيبة جاءت بك إلى بيت العشار المسكين؟» قلت: «شكراً لله وللسيد لاوي بن حلفي، فقد أرسلني للسيد زكا كبير الجباة في أريحا لأسمع منه عن المعجزة التي اجراها الناصري فيه. بل قال لي ليته يتحدث عن حياته السابقة..» وقال زكا: «لماذا لا تكمل فتقول كعشار؟» ثم مضى يقول: «لكن الحديث سيطول يا صديقي، فإذا قبلت أن تبيت الليلة في بيت العشار فسأخبرك بالمعجزة التي لا يمكن أن يجريها إلا الله نفسه. نعم لقد آمنت أن الناصري هو الله الذي ظهر في الجسد».

جلسنا إلى مائدة قدموا لنا فيها أفخر الطعام وأطيب الشراب.. أكلنا وشربنا وشكرنا الله...

وجلسنا - جلس زكا على مقعده الذي اعتاد أن يجلس عليه، وجسلت مقابله وجلست راحيل الزوجة وحنة الابنة الوحيدة إلى يمين زكا. وبدأ حديثه فقال:

«أنا زكا بن عميهود، وقد كان أبي من كبار رجال الحاشية في قصر كبير الأحبار. كنت شاباً مدللاً. وقد صادقت عدداا من الشبات العابث، فلهونا وعبثنا وأتينا المنكرات. ولا داعي أن أذكر لك ما جعلني أترك بيت أبي.. إنها تذكارات مؤلمة.. وأنا أذكر تلك الليلة المروعةفي شهر كانون الثاني عندما تركت بيت أبي. لم يكن معي درهم واحد. بتّ الليلة في العراء. طلبت كسرة خبز فكشروا في وجهي. طرحوا الخبز للكلاب ولم يعطوني. تركوني أبيت في الطل. لا أزال أذكر تلك لليلة التي تقابلت فيها مع ياشيب وألناثان ومتوشالح في ركن الأقذار. كان كلٌ منا يبحث عن شيء يمكن أن يؤكل. يومها لم نجد إلا جثة حمار، فنهشناها. قصدنا بيت الله نرجو أن نجد عوناً عند بعض أبناء الله الذين يقولون إنه أبو الرحمة، ولكنهم طردونا كما لو كنا وحوشاً. يومها وقفنا وعاهدنا السماء - كلا. فإننا يومها لم نكن نؤمن بالسماء، تعاهدنا على أن ننتقم ممن يُدعون بشراً شر انتقام - وقد انتقمنا. ما أكثر البيوت العالية العمد التي دككناها، وما أكثر الأغنياء المترفين الذين «لحّسناهم» التراب. ما أكثر الأبناء المنعمين الذين جعلناهم يطوفون الشوارع كالكلاب الضالة. ما أكثر الأنوف التي كانت شامخة فجعلناها تنخفض إلى الوحل. أيها الصديق لم أشبع من الانتقام. ظلت نفسي عطشى. كنت أتمنى أن أعطي السلطان أن أقبض على رؤوس سكان أريحا كلهم، وخصوصاً أولئك الفريسيين المنتفخين، وأضعها في الطين، وأضع قدمي على أعناقهم. أو كم كنت أبغضهم. كانت رؤية آلام الناس أقصى رغائبي، كان قلبي يمتلئ غبطة وأنا أرى الجوع والعري والضرب والزج في السجون والقتل نصيب تلك المخلوقات الكريهة التي تُدعى الناس. لم أكن أقبل بين من يعملون تحت إدراتي إلا ذوي القلوب الحجرية. وعندما كنت أسمع أن أحد العاملين معي قد شرد العائلات ومزقهم شر ممزق، أهنئه وأزيد له دائرة عمله...»

«كم حاولت زوجتي أن تلين من قلبي هي وابنتي حنة. حاولت الاثنتان أن توجهاني إلى الله وإلى الدين. كنت أحب زوجتي وابنتي كل الحب. كانتا كل حياتي ولذلك كنت أطيل أناتي عليهما وهما تنتقدان تصرفاتي. قلت لزوجتي: لا تذكري الله ولا تذكري الدين - أما الإنسانية فأنا أجحدها. هل توجد إنسانية؟ لقد وقفت أنا وأصدقائي أمام زعماء الإنسانية وأمام رجال الله، وقفنا نطلب كسرة خبز نتبلّغ بها وخرقة تستر عورتنا فطردونا طرد الكلاب... لا. فقد عاملوا الكلاب بالرحمة. قدموا لها ما لم يقدموه لنا. قلت لها إنهم هكذا إلى اليوم، أي بعد أن اصبحنا في غنى عن مساعدتهم التي يقدمونها. فقالت لي: ماذا يقول الناس عنا؟ أجبتها إنهم إلى اليوم عندما يرون زوجك يبصقون على الأرض، ويلتفتون إلى جهة أخرى ويتحدثون بعضهم مع بعض عن «العشار» الملعون. ولوا أنهم في حاجة إلينا لما سمحوا لنا أن نبقى في المكان. إنهم يستكثرون علينا استنشاق الهواء الذي يملأ الأرض - وفي الهيكل حيث يقولون إنهم يعبدون الله هل يسمحون لنا أن نعبد معهم إذا ما أُصبنا بالغباء وعبدنا. نحن كلاب بالنسبة لهم. هل تسمعين يا ناصرة الإنسانية، يا أم حنة؟ هل تسمعين؟» .

وقد حاولت راحيل معي أن تفتح عيني إلى قوة أقوى من الانتقام. حاولت أن تفتح قلبي للحب.. حاولت أن تكشف لي قوة الحب.. علِمت فيما بعد أنها سمعت بعض تعاليم الناصري، وقد ذكرت لي أن المعلم الناصري، يكرز برسالة الحب. هو نفسه أحب العشارين والمنبوذين وقال إن الناموس يُلخص في كلمتين: تحب الرب وتحب الإنسان. رددت لي كلمات، قالت إن المعلم الجديد ألقاها لتلاميذه وآخرين وهو جالس على قمة من قمم جبل الشيخ، فنهرتها بشدة ودفعتها بعيداً عني بعنف. لا شك أن المعلم الناصري لا يمكن أن يصبح زعيماً مصلحاً. ستفشل رسالته. لن يصلح العالم إلا القوة، فالدنيا للأقوياء، والنجاح للأقويا، ولا مكان لضعيف.

هذا ما كنت يا صديقي قبل أن أرى النصاري - وهذا ما ختمت به سهرتي بعد حديث زوجتي.

ذهبت إلى فراشي وجاء الصباح يا صديقي، وكان صباحاً مكفهراً بدت آثاره على وجهي. كان صدري طول الليل مسرحاً لصراع جبار بين كلمات زوجتي وعهدي، بين المحبة والبغضة، بين الصفح والانتقام. كنت قد لطمت امرأتي بالأمس ولطمت معها المحبة الضعيفة، ولكني لم أستطع أن أتخلص من آثارها، فقد غرست جذورها في قلبي وعمقتها حاولت بعزيمة جبارة أن أمزق صدري لأقتتطع هذه الجذور اللعينة. سال دمي من صدري ومن وجهي في هذا الصراع المرير. ولقد غضبت على نفسي حتى تمنيت لها الموت. كنت عنيفاً في صراعي. ناديت: «أيها الناصري، هلم إليّ وأنا أريك القوة الساحقة». قلت ذلك وهززت يدي مهدداً.

يا للسخرية! جاء يسوع إلى أريحا. رأيت الجماهير تركض لتلاقيه في الطريق. كنت أظن أني لا أهتم به. بل كنت أظن أني سألاقيه كما يلاقي الخصم الكريه.. ولكني لا أعلم ماذا أقول لك يا صديقي. أحسست أن قلبي يضطرب كجبل يهتز من زلزال. أين هو ذلك الذي قلبت تعاليمه جبال التقاليد؟ ورأيتني يا صديقي أدفع نفسي وسط الجمهور وأقف على أطراف أصابعي لعلي أراه. ولكني لم أبصر شيئاً. فلما أعيتني الحِيل أبصرت على مبعدة إلى جانب الطريق الذي سيمر منه شجرة جميز مرتفعة، ولكني أحسست أني لن أصل إليها إلا بعد أن يكون الموكب قد مرّ. فركضت.. ولما أبصرني الجمهور أركض سخروا مني سخرية لا حد لها. انهالت التلعيقات اللاذعة وسمعت بين ما سمعت: «انظروا العشار الملعون. لقد أُصيب بلوثة حادة.. هذا هو الجنون بعنيه. يا ضيعة وقار العمامة! ليس للعشار إلا هذا المصير!».

ولكني لم أهتم لذلك يا صديقي، بل أن بعض الاولاد جعلوا يرشقون الحجارة نحوي وهم يصرخون: العشار.. العشار.

ووصلت إلى الجميزة مقطوع الأنفاس وصعدت عليها. وبعد قليل أقبل الموكب ورفع الجمهور وجهه نحوي. فأبصرت عيوناً محمرة تمثلت فيها الكراهية وتجسم فيها الحقد. ابتسم البعض باحتقار. ,خرجت شتائم من البعض الآخر، وبصق بعضهم على الأرض. على أن عينيّ لم تتجه إلى الجمهور، ولم يشغل بالي شيء سوى النظر إلى ذلك الرجل الذي زلزل وجوده مدنية أريحا. فماذا رأيت؟ رأيت رجلاً مهيب الطلعة جميل التقاطيع دقيق الأنف مطبق الشفتين، وقد امتد شعره الجميل خلف رأسه. وكانت لحيته الشقراء تزيده بهاء. على أني رأيته محني الرأس، وقد نزلت قطرات من الدموع على وجهه. وأحسست أني أرى شخصاً يحمل آلام الكون على عاتقه، فأشفقت عليه. ونبض قلبي نبضات العطف التي لم يسبق أن اختبرت شيئاً منها!

ووصل يسوع إلى شجرة الجميز. ورفع وجهه نحوي فأبصرت في عينيه عالماً من الحب لم أدرك حدوده وبحراً من الحنان لم أصل إلى عمق أغواره. أبصرت في عينيه نيراناً أرسلت لهيبها إلى قلبي. ومع أنها كانت نيراناً قاسية إلا أني استشعرت لها لذة وحلاوة لم أذق نظيرها في كل حياتي!

وحدثت المعجزة. أذابت تلك النار كل كراهية وحقد في نفسي، بل أذابت كل ما استقر في نفسي من شر. فلم أعد أرى أمامي أعداء أبغضهم، أو أتمنى لهم الشر، وإنما أبصرت إخوة مساكين أحببتهم وأشفقت عليهم. أما هو فلم أستطع إلا أن أعبده. وبينما أنا في عالمي العلوي هذا سمعته يقول: «يا زكا». يا للآية! هل يدعوني أحد باسمي؟ لقد فقدت ذلك الاسم منذ أزيد من ثلاثين عاماً - حتى أهلي توقفوا عن أن يدعوني به.. ما عدت أنادى إلا بالعشار الخاطئ الملعون. ولكن هوذا يناديني يا زكا. وقد كرر النداء: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» (لوقا ١٩: ٥).

وثبت من الشجرة إلى الأرض وأنا أهتف: «لقد آمنت بالحب». كنت أظن أني أصرخ، ولكن صوت يلم يخرج إلا همساً. وركضت إلى البيت ودفعت الباب بعنف وصرخت في زوجتي: «اسرعي اسرعي، إن يسوع قادم إلى هذا المكان». وارتاعت امرأتي وظنت أني سأقتل الرجل. فقلت لها: «أسرعي وأعدي طعاماً لأكبر عدد. اسرعي». وأسرعت زوجتي وأمرت الخدم بإعداد طعام كافٍ. وفيما هم يجهزون الموائد دخل المعلم الناصري بيتي. ,قد تذمر «الأبرار» وقالوا: كيف يدخل المعلم ليأكل عند رجل خاطئ؟ ولكني لم أسمع شيئاً. كنت أتطلع إليه. وكان كلما نظر إليّ خرجت مني الشياطين التي طالما عششت في صدري. خرج البغض والحقد والطمع ومحبة الذات والخبث ومحبة المال. وحل محل الشياطين ملائكة الحب والصفح وإنكار الذات والقناعة ومحبة الله والإخلاص. بل حل نفس السيد في قلبي. تلاشى العالم كله من أمامي، وأصبحت لا أبصر شيئاً إلا هو. كان هو لي كل شيء. ونظرت حولي إلى الفقراء والمساكين فذاب قلبي لبؤسهم، وقلت: «أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ» (لوقا ١٩: ٨). وتأملت في حياتي الآثمة، وأبصرت المظالم التي أتيتها، قلت: «وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ» (لوقا ١٩: ٨)

نظر إليّ البعض غير مصدقين. ظنوا أنها فورة عاطفة مؤقتة، ولكني أعطيت الوثائق اللازمة وأصدرت الأمر ممهوراً بخاتمي لوكيل أعمالي، وحينئذ زاد انذهال القوم حتى بلغ أقصاه. ولكن السيد التفت إلى القوم وقال: ما بالكم مندهشين؟ ليس هذا زكا القديم محب المال القاسي، بل هذا زكا آخر الذي خلص من خطاياه، فصار زكان الجديد، زكا المنكر للذات محب الله الرقيق القلب نعم «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ» (لوقا ١٩: ٩).

كنت قد نلت الخلاص يا صديقي قبل أن أنطق بكلامي، ولكن إعلان السيد ثبّت إيماني وملأني بفرح لا يُنطق به ومجيد. نعم إني فقدت الجانب الأكبر من أموالي. لكن ما هي الأموال، بل ما هي الحياة بإزاء اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن التي نلتها. أنا الىوم يا صديقي أسعد إنسان في الوجود أحببت كل شخص وكل شيء. ورأيت أني أعيش في نعيم لا يفوقه نعيم. ونسيت الإساءات التي أصابتني، ولم أرها إلا أوسمة. لقد وجدت الله.. بل وجدني الله. شكراً له، نعم شكراً لله.

ونظر زكا إليّ وقال: «هذه هي قصتي يا صديقي.. كان السيد طول الوقت يبحث عني ويناديني، ولكني كنت لا أسمع. كان قلبي منغلقاً.. والآن.. والآن أنا سعيد، فقد وجدت الله الذي كله قلب».

ونظرت إلى زكا، وأبصرت السعادة تتجلى بوضوح في وجهه فهنأته وقلت له: «أما أنا يا صديقي فقد كنت أظن أني خرجت أبحث عن الله، ولكني علمت أنه كان طول الوقت يبحث عني وقد وجدني، وآمنت به، ولكني مشتاق كل الشوق أن أراه بعيني كما قد رأيته بقلبي. أرجو أن تصلي معي أني أصل إليه قبل أن تنتهي حياتي على الأرض!».
الفصل الثاني عشر: أصدقاء وخصوم

قضيت الليل في بيت زكا. نمت على سرير مريح في غرفة الضيوف، وأصر زكان أن ينام على سرير مقابلي. تمددنا على الفراش ولكننا لم نستغرق في النعاس إلا قرب الفجر. كان يحدثني عن الناصري وعن آياته وتعاليمه. كان يؤكد لي أنه هو هو المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء. وهو الذي كان يشتهي القديسون أن يروه. هو انتظار الشعب ورجاؤهم. قلت: «لكني لاحظت أن كثيرين يقاومونه». أجاب: «أنا أعلم ذلك. إنهم لم يعرفوه.. كنا ننتظر مسيحاً ملكاً له جند وأسلحة يأتي فيجلس على عرشه ويسحق قوات العدو، ولكنه جاء وديعاً ومتواضعاً. على أن الذين راقبوه جيداً أدركوا أنه السيد حقاً، وأنه يملك أعظم قوة في الأكوان. لقد هزمتني محبته وسحقتني سحقاً. ومع أني لا أفهم بعد كل شيء فإني أتأمل في إعلانه أنه سيموت، وأن الرؤساء سيقتلونه - وأنه سيقوم. إني أتأمل في هذا الإعلان الذي كرره أمام بعض أخصائه وأسأل عن معناه، كما أسأل عن معنى موته وقيامته. إن هناك أشياء غامضة تحيط به. فأنت تراه إنساناً كسائر الناس يأكل ويشرب وينام ويجوع ويتعب ويحزن ويتألم، ولكنك إذ تتبعه تكتشف أنه لا يمكن أن يكون مجرد إنسان. وهل يمكن لإنسان أن يتسلط على المرض والبرص والريح والهواء والموت؟ إنني قد تابعت ما قام به أوافق الكثيرين الذين تساءلوا: من هو هذا؟ ومع أني لا أفهم تماماً معنى أنه: الله ظهر في الجسد. إلا أني سجدت له على اعتبار أنه هو الله. على الأقل هو الملاك الذي ظهر في البرية لموسى، والذي أعلن عن نفسه: أنا الرب إلهك. وأنا لا أريد أن أتوغل في الحديث. يكفي أن أؤمن بقلبي ولو لم أفهم تماماً بذهني. وأنا أفهم أن محبته أذابت قلبي وطردت خطيتي. ومع أني لم أفهم معنى موته كفارة عن خطايا العالم، إلا أني لا أتعب نفسي في البحث والتدقيق. يكفي أن أقول إني مؤمن بما قاله الملاك للرعاة: «وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لوقا ٢: ١١)

لكن الفريسيين أبغضوه لأنه كشف رياءهم. وهم جماعة متكبرة تطلب أن الناس تمجدهم وتحييهم. تطلب الأماكن الأولى في المجالس والتحيات في الأسواق، وتحتقر الشعب والعشارين. وجاء الناصري يحب العشارين والخطاة ويجلس معهم على الأرض، لا كما يفعل المراؤون، ويعلن أن الله آب سماوي لجميع الناس، وأنه أرسل ابنه ليخلص الخطاة، وقال: «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى» (متّى ٩: ١٢). وقال إن الله يهتم بهؤلاء أكثر مما يهتم بالأبرار الذين لا يحتاجون إلى التوبة. وأنه نظير الراعي الأمين يترك القطيع كله ليبحث عن الخروف الضال. من أجل هذا أبغضوه!

على أن البعض ممن عرفوه أحبوه وأعلنوا ولاءهم له. فقد سمعت أن نيقوديموس ويوسف الرامي ويايرس من زعماء الفريسيين اعترفوا بأنه نبي، وقد سمعت أن الكاتب لعازر وبيته يحبون السيد،ويكرمونه وأن بيت عنيا مفتوح له...

قلت: «لقد سبق لي أن جلست مع نيقوديموس ومع يايرس. لم أتعرف بعد بيوسف الرامي مع أني سمعت عنه. على أن اسم الكاتب لعازر غريب على أذني».

قال: «لعازر من طائفة الفريسيين الممتازين. هو من خلفاء عزرا الكاتب ولكنه صنف ممتاز.. ممتاز جداً. يكون من حسن حظك أن تتعرف إليه. إنه يعيش مع أختيه مرثا ومريم. وقد بلغني أنه كان في العائلة شخص آخر اسمه سمعان، وقد أُصيب بالبرص، فهو يعيش في محلة البُرص. لا أعلم هل هن زوج مرثا أو أبوها.. أنصحك أن تذهب إلى بيت عنيا وتسأل أي واحد في الطريق عن بيت لعازر الكاتب أو مرثا أو مريم، بل يمكنك أن تسأل عن بيت سمعان الأبرص. إنه بيت كبير جداً يمكنه أن يستضيف أزيد من خمسين شخصاً في وقت واحد لعدة أيام»

شكرت زكا، وخرجت ميمماً بيت عنيا. يظهر أني ضللت الطريق، فلم أصل إليها إلا بعد الغروب بوقت، فوجدت الجميع في بيوتهم، والظلام يعم المكان. لم أجد فرداً واحداً في الطريق لأسأله عن بيت لعازر الكاتب. وظللت أسير في الشارع الكبير، وفي مواجهتي رأيت بيتاً كبيراً يظهر شيء من الضوء في نافذة مرتفعة منه، فتجاسرت وطرق الباب. وإذا بصوت من الداخل يقول: «من يطرق الباب؟» أجبت: «غريب يرغب أن يهتدي إلى بيت لعازر الكاتب». وكان الجواب أن هذا الباب بابه. وإذ ذاك سمعت حواراً بين من سأل وبعض من في الدار. لم يمض إلا القليل حتى سمعت صوتاً حلواً يقول: «مرحباً بالضيف الكريم... جئت أهلاً ونزلت سهلاً. أعدوا العشاء للضيف». وجلسنا على مائدة حافلة بكل طعام طيب. جلس لعازر معي، ووقفت مرثا تخدم مع عبيد الدار. أما مريم فجلست في مقعد منخفض قريب.

ورويت لهم قصة خروجي من القرية التي عاش فيها آبائي وأجدادي. لم نكن نعرف شيئاً عن إله أو دين، إلى أن فتح أحدهم ذهننا فخرجت أبحث عن الله.. ظللت سنين طويلة أجول بلاد العالم إلى أن عرفوني على ذاك الذي قيل فيه: «اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّر» (يوحنا ١: ١٨). سمعت عنه الكثير. آمنت به على البعد، وحاولت أن أتلاقى معه، لكن حظي السيء لازمني، فقد كنت أصل إلى حيث يوجد، فيُقال لي: «لقد كان هنا ومضى منذ أيام قليلة». وضحك لعازر وقال: «وكذلك الأمر معك اليوم، فقد كان عندنا منذ يومين».

قلت: «عل كل حال أرجو أن أسمع منكم شيئاً عنه. إننقلبي جائع لأخباره». وقال لعازر: «إذن لنطلب من شقيقتي مرثا لتقوم هي بالحديث، لأنها لا تمل الحديث عنه. وقد يروقك الحديث فتستغني عن النوم» فقلت: «إني جاهز لذلك إذا كانت هي تستيطع السهر»

واستأذن لعازر وأخته مريم، وبقيت متكئاً على أحد المقاعد، وجلست مرثا على مقعد مواجه. وقالت: «لن أذكر لك إلا حادثة واحدة من عظائم المعلم الكبير يسوع المسيح ابن الله، الطريق والحق والحياة».

جاء المعلم بيت عنيا ومعه تلاميذه الإثنا عشر. جاء على ما يبدو من مكان بعيد. ليس في قريتنا خان. لم يجد باباً يُفتح له إلى أن وصل إلى بيتنا. ففتحت له الباب الكبير. رحبت به وبمن معه. شكراً ليهوه أن بيتنا يتسع للضيف، بل شكراً له أن قلبنا يتسع. كنت أظن أني أقدم له جميلاً إذا قبلته في بيتي، ولم أكن أعلم أنه هو المتفضِل عليّ وعلى جميع أفراد بيتي - فمنذ دخل بيتنا امتلأ البيت بالبركات.. وكما قلت لك لن أتكلم معك إلا عن حادث واحد!

لا شك أنك سمعت أني منذ مرض زوجي أتيت لأقيم مع أخي لعازر الذي كان يقيم مع شقيقتنا مريم بعد انتقال أمنا إلى الحياة الأخرى. كان شقيقنا لعازر لنا كل شيء، أعز علينا من نفس الحياة. كنا نحس أن الله يعطينا الحياة لكي نقوم على خدمته. يستيقظ في الصباح فنسارع إلى غرفته لنقوم بكل ما يلزم له إلى أن يتركنا إلى مكانه في الهيكل لينسخ الكتب المقدسة. وبعد أن نفرغ من كل ما يلزم للبيت نترقب عودته بلهفة. هذه هي حياتنا، ذكرت لك ذلك حتى تعرف أثر الحادث الذي أرجو أن تتفهمه على حقيقته!

تأخر لعازر في الفراش على غير عادته، فأسرعت إلى غرفته ووجدت أختي مريم عنده. كان وجهه أحمر قانياً. لمست جبهته فلسعتني نار محرقة. عندما رآني حاول ان يبتسم ولكن محاولته أسفرت عن أنّ ة باكية. دعونا الطبيب المجاور لمنزلنا، وهذا دعا طبيباً آخر وآخر.. وجاء عدد من الأصدقاء، هذا والمرض يشتد، وأخونا الحبيب يئن أنيناً حزيناً.. سألنا عن صديقنا الحبيب الذي له في قلوبنا أعلى مكانة. كنا نعرف أن له مكانة عندالله، وكنا نعتقد أنه أكثر من نبي، لكننا لم نكن نعرف الحقيقة التي عرفناها فيما بعد. سألنا فعرفنا أنه في مدينة مجاورة، فأرسلنا له صديقاً. لم نرسل أحداً من الخدم، بل أرسلنا أحد الأصدقاء برسالة قصيرة نقول: «يَاسَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ» (يوحنا ١١: ٣). وعاد رسولنا في نفس اليوم يقول إنه أبلغ الرسالة للمعلم، وإن المعلم قال: «هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِهِ» (يوحنا ١١: ٤).

حملت كلمات السيد رسالة تطمين، لكن حالة شقيقنا أخذت تسوء، وجاء الصباح والحالة أشد سوءاً، وفي المساء أسلم لعازر أنفاسه الأخيرة. ولا تعلم مقدار الحزن الذي ملأ قلوبنا. صحيح أن لعازر قام من الموت، ولكننا لا نزال نحس بلهيب الجرح العميق في قلوبنا. لا أزال أنا واختي نبكي بمرارة. كانت الصدمة قاسية. مات لعازر، ولكن يدهشك أن تعرف أن ثقتنا في السيد لم تتزعزع. لم نفهم ما قاله: «هذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللهِ بِهِ» (يوحنا ١١: ٤). ماذا يقصد بهذه الكلمات؟... جعلنا في دموعنا نعيد ونقلب في هذه الكلمات إلى أن احترقت قلوبنا.

وقد أخبرنا التلميذ بطرس فيما بعد أن السيد حينما سمع الرسالة التي أرسلناها مكث في المكان يومين. قال لنا إن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه، وظن التلاميذ أنه لم يفكر في الذهاب إلى بيت عنيا بسبب مؤامرة اليهود. وقال بطرس إن المعلم فاجأنا في اليوم الثالث بالقول: «لِنَذْهَبْ إِلَى ٱلْيَهُودِيَّةِ أَيْضاً» . فقلت له: «يَا مُعَلِّمُ، الآنَ كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ، وَتَذْهَبُ أَيْضًا إِلَى هُنَاكَ»فأجبانا بكلمات غريبة: «أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ ٱلنَّهَارِ ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي ٱلنَّهَارِ لاَ يَعْثُرُ لأَنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي ٱللَّيْلِ يَعْثُرُ، لأَنَّ ٱلنُّورَ لَيْسَ فِيهِ» ثم فاجأنا بالقول: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لٰكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ» فقلنا له: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى».كنا نظن أنه يقصد رقاد النوم، بينما كان هو يقصد أن يبلغنا أنه مات. إذ ذاك قال لنا علانية: «لِعَازَرُ مَات»!! (يوحنا ١١: ٧ - ١٤).

كانت رسالة شديدة الوقع علينا.. كأن السيد يكلمنا بألغاز.. وقد ختم إعلانه عن موت لعازر بكلمات أكثر غرابة من كل ما سبق. قال: «َأَنَا أَفْرَحُ لأَجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ!» (يوحنا ١١: ١٥).

وجاء يسوع إلى بيت عنيا بعد أربعة أيام من موت شقيقنا. وسمعت عن مجيئه. قالوا إنه في بيت أحد الأصدقاء في طرف المدينة، فأسرعت لأراه. تركت النساء النادبات والمشاركات. وذهبت إليه. وحالما رأيته قلت: يا سيد، لماذا تأخرت «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!» (يوحنا ١١: ٢١). كانت كلماتي تجسيداً لعتاب نفس مملوءة حباً وولاءً وإيماناً.. نعم إيماناً تعرض للزعزعة. على أني أضفت كلمات أخرى غريبة. قلت: «لكِنِّي الآنَ أَيْضًا أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللهِ يُعْطِيكَ اللهُ إِيَّاهُ» (يوحنا ١١: ٢٢). لم أكن أقصد بالطبع أنه سيطلب إقامة أخي. كنت أقصد أنني لا أزال أؤمن بعلاقته الكاملة بالله التي تجعل لطلباته مقامها الخاص. أعترف أن إيماني لم يصل إلى القوة التي قد تحملها كلماتي - بدليل إجابتي للسيد عندما قال لي: «سَيَقُومُ أَخُوكِ» (يوحنا ١١: ٢٣). فقد قلت: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ، فِي الْيَوْمِ الأَخِير» (يوحنا ١١: ٢٤). أنت ترى أنني كنت أؤمن بالقيامة، وكانت الحياة الأخرى غامضة نوعاً، لكننا نؤمن أننا سنكون على أقرب قرب من إبراهيم!!

وكان جواب السيد لي أعجب ما سمعناه منه قال: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟» أقول لك الحق إني لم أفهم هذا الكلام «أنا هو القيامة.. والحياة» ما معنى هذه الكلمات؟ «مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَد» ماذا يقصد السيد بهذا الكلام؟ ها هو أخي كان يؤمن بالمسيح، مع ذلك مات.. لكن السيد يقول هذه الكلمات فأنا أؤمن بها ولو لم أفهمها، فجاوبت سؤاله: «أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟» بقولي: «!!يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، ٱلآتِي إِلَى ٱلْعَالَم» (يوحنا ١١: ٢٥ - ٢٧).

وطلب المسيح مني أن أدعو أختي، فعدت إلى البيت وهمست في أذن أختي: «الْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ» (يوحنا ١١: ٢٨). فقامت سريعاً وذهبت إلى حيث كان يسوع. ولما لاقته فاض حزنها وانفجر ألمها، فخرت عند قدميه وقالت: لماذا تأخرت؟ «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ ههُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي!» (يوحنا ١١: ٣٢). كانت عيناها الباكيتان تعتبان عليه بشدة... كيف هان عليك أن تترك حبيبك يموت؟ وأحاط بمريم الجمهور الغفير الذي كان في البيت، وارتفع الشهيق وفاضت الدموع، وأبصر السيد عالماً من العيون المقرحة وسيلاً من الدموع، فجاشت عواطفه إذ رأى الإنسانية البائسة التي تحصد ثمار الخطية، وطفرت الدموع من عينيه وبكى.. نعم بكى السيد مشاركاً الإنسانية الحزينة.. وسأل: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» (يوحنا ١١: ٣٤).

لا شك أن الجمهور ظن أنه يريد أن يصل إلى القبر ليبكي هناك. فقالوا له: «تَعَالَ وَانْظُرْ» (يوحنا ١١: ٣٤) ولما رآه الجمهور يبكي قال بعضهم: «انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ!» (يوحنا ١١: ٣٦). على أن البعض الآخر قال مؤاخذاً: «أَلَمْ يَقْدِرْ هذَا الَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ الأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هذَا أَيْضًا لاَ يَمُوتُ؟» (يوحنا ١١: ٣٧). سمع يسوع كل هذا الكلام فترك في نفسه الرقيقة الحساسة آثاراً عميقة. نشكر الله أن يسوعجاءنا ابن اللهو.. ابن الإنسن أيضاً. وحاجتمنا إلى ابن الإنسان لا تقل عن الحجاة إلى ابن الله. ثم قال السيد: «ارْفَعُوا الْحَجَرَ!ٍ» (يوحنا ١١: ٣٩).

وهنا انزعجت... إن إكرام الميت دفنه كما يقولون. لا نقبل أن نرى الميت منتناً. فقلت: «يَاسَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّام» (يوحنا ١١: ٣٩). فنظر إليّ عاتباً وقال: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللهِ؟» (يوحنا ١١: ٤٠). تسمرت في مكاني. وقفت وقد فقدت كل تفكيري. ما عسى يحدث؟ راودتني أفكار كثيرة. ترى ماذا يكون مجد الله هذا؟ ألعل قوة المسيح تحتفظ بجسد الشقيق دون أن تطرأ عليه عوامل الانحلال؟ خطر كل شيء ببالي، ما عدا ما حدث فعلاً. أنت ترى أننا كنا نؤمن بالسيد فعلاً. كنا نؤمن به نبياً. كنا نؤمن به ابن الله بمعنى أنه مختار من الله. لم يبلغ إيماننا به انه هو الله نفسه، وأنه هو رب الحياة، فإننا لم نكن نعرفه. إن الله يا صديقي فوق كل فهم.. ووقف المسيح أمام القبر المفتوح، ورفع عينيه إلى فوق وقال: «أيها الآب» قد علمنا أن الله أبونا، وكان هذا إعلاناً جديداً. كنا ننظر إلى الله أنه السيد «شدّاي» السيد القوي العادل، لكنه علمنا أن الله أبونا، وأنه يحبنا ويهتم بنا ويعتني بكل ما يتصل بحياتنا، وطلب منا إذا وقفنا نصلي أن ندعوه باسمه المحبوب «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى ٦: ٩).

على أنه هو كان يعتبر بنوته لأبيه من نوع أعلى. إنه الابن الوحيد الذي في حضن الآب. إنه يخاطبه بكل دالة البنوة «أيها الآب». قال: «أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا موقن أنك في كل حين تسمع لي. إني يا أبي أعلم هذا. لا أحتاج إلى برهان لتوكيده. ولكني أطلب أن يعلم هذا الجمهور أنك أرسلتني».

وصمت لحظة واحدة، ثم صرخ بصوت عظيم، ليسمع كل الناس. الكثيرون من الدجالين يتمتمون بتعاويذ وأشباه التعاويذ، أما السيد فيعلن كل شيء بصوت مسموع.. بل بصوت مرتفع: «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا!» (يوحنا ١١: ٤٣).

كنا قد لففنا الوجه بمنديل يغطي عينيه ويُحكم غلق فمه، ولففنا جسده بأقمشة ووضعنا الطيب على كل ساق وكل قدم وحدها.. ونظرنا وإذا بحركة في الجسد المُسجى.. قام لعازر كما يقوم النائم، ووقف في مكانه وبدأ يتحرك ببطء بسبب الأربطة. كان الجمع في الخارج يتطلع بخوف. أما أنا وأختي فنظرنا بمزيج من فرح وخوف وشك وإيمان، عندما سمعنا السيد يقول: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ» (يوحنا ١١: ٤٤). فاندفعنا نحوه، وبدأ بعضنا يقّبله وبعضنا يحل أربطته. وتزاحم القوم حولنا حتى كادوا يُطبقون على أنافاه. فحمله بعض رجالنا واختطفوه من الجمع، وسرنا في طريق جانبي بعيداً عن الجمهور، ووصلنا به إلى البيت.

لكن الجماهير هجمت على البيت، وامتلأت الغرف والقاعات والفناء الكبير حتى لم يبق مكان. فأخذنا لعازر إلى غرفة داخلية، ثم خرجنا للجمهور والتمسنا منهم أن يتركونا اليوم. وسنُقيم في الغد أو بعد الغد حفل عشاء، ندعو فيه الجميع، ويكون لعازر حاضراً.

على أنهم لم ينصرفوا إلا بعد أن قدمنا أكواب شراب الليمون وشراب البرتقال... خرجوا وهم يتحدثون عن المعجزة الكبرى!!

أما نحن كنا قبل هذه المعجزة نؤمن بالسيد. كنا نؤمن أنه نبي ممتاز، وأنه ابن الله بمعنى من المعاني. ولكننا بعد هذه المعجزة رأينا شخصاً آخر. نعم رأينا أبن الإنسان. لكننا رأينا أكثر من ذلك. رأينا ابن الله رب الحياة.. كيف يمكن هذا؟ هذا ما لم تدركه عقولنا. ولكن روح الله ملأنا فآمنا أن المسيح هو الله نفسه ظاهر في الجسد!

وآمن عدد كبير من اليهود به أنه مرسل من الله، وأنه نبي عظيم. قالوا: «قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَ» (لوقا ٧: ١٦).

غير أن يهوداً آخرين ملأ الشر قلوبهم فوجدوا في المعجزة موضوعاً للإساءة للسيد، فذهبوا إلى الفريسيين وأخبروهم عن المعجزة.. وبلغ الأمر رؤساءهم، فاستدعوا المجمع الكبير وقال: «مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذَا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً» (يوحنا ١١: ٤٧) لم يستطيعوا أن ينكروها، ولكنهم بسبب قساوة قلوبهم لا يؤمنون أنه من الله. قالوا إنه يتحالف مع الشيطان، وفوق ذلك فإنهم لم يهتموا بالأمر إلا من ناحية أنفسهم، وقالوا: إذا استمر يعمل هذه الآيات فإن كل الشعب سيؤمن به مسيحاً وملكاً. والرومان لا يمكن أن يسكتوا على ذلك. إنهم لا يتسامحون مع من يتحدى سلطانه. وسيرى الرومان أننا أضعف من أن نقف في وجه ذلك الملك فيأتون ويأخذون بلادنا وأمتنا. كان كل ا هتمامهم بمركزهم فقط!

وهكذا فكروا في علاج شرير، ليمُت يسوع هذا. ليمُت ولو كان بريئاً. وقالوا: «أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا!» (يوحنا ١١: ٥٠).

قالوا ذلك من وجهة نظرهم، ولكن الله كان قد رتب فعلاً أن يموت المسيح عن الشعب. فهل كان رئيس مجعهم يتنبأ؟ من يعلم؟

ومن ذلك الوقت تشاور رؤساء اليهود ليقتلوه.. بل تشاروا أن يقتلوا لعازر أيضاً...

بدأ المسيح يسير مختفياً. ترك أورشليم وبيت عنيا وذهب إلى الكورة القريبة من البرية إلى مدينة يقال لها أفرايم!

هذه قصة بيتنا يا صديقي، وهذه قصة ايماننا. ألست ترى إذن أننا نحن لا نبحث عن الله، ولكن الله هو الذي يبحث عنا؟

شكراً لله أنك آمنت بالله الذي أخرجك تبحث عنه.. لكن أشير عليك أن تذهب لتراه في مدينة أفرايم.. اذهب تشملك بركة الله...!!
الفصل الثالث عشر: عصابة بارابات تأسر نوسترداميس

انتهت مارثا من قصتها، بعد منتصف الليل، وتركتني بعد أن طلبت لي بركة الله. على أنها لم تذهب إلى الفراش، بل ظلت تقوم ببعض المطالب لهذا البيت الكبير!

واستيقظتُ متأخراً، وعلمت أنها قامت في الصباح الباكر وراقبت العبيد والخدم وهم يعملون في مهامهم المختلفة بالنسبة لبيت قد يستضيف بالعشرات والمئات. علمت أنهابدأت تُعد للعشاء الكبير الذي وعدت به. تناولت شيئاً من الطعام واستأذنت في الانصراف. كان لعازر قد خرج في ميعاده، ومريم كانت في خلوتها المعتادة أمام الله!

حاولت مرثا أن تستبقيني فقلت لها إني سأذهب إلى مدينة أفرايم لكي أراه هناك. انطلقت في طريقي حتى تركت مدينة بيت عنيا، وتركت طريق أورشليم وسرت في طريق قيل لي أنه يخترق برية يهوذا ويصل إلى مدينة أفرايم. كانت الطريق خشنة مملوءة بالأشواك والأحجار وكان السير متعباً، يبدو أني ضللت لأني وجدت أني لا أسير في الطريق المرصوف. الرمال تحيط بي. وبغتة وجدت أحدهم يقبض على عنقي من الخلف ويسأل: «إلى أين أنت ذاهب؟» التفت فوجدت عملاقاً ضخم اللحية كبير الشفتين بارز الأنف، قلت: «إني ذاهب إلى مدينة أفرايم لأقابل المعلم الناصري». فضحك ضحكة هازئة ثم قال: «بل أنت ذاهب لتتجسس على عصابة باراباس. هيا معي.. هيا. لا تلزمني أن أستعمل القسوة معك». قلت له: «صدقني يا أخي أني أبحث عن المعلم الناصري. لا تؤخرني». وحاولت أن أفلت منه فلكمني على وجهي قريباً من الأذن وقال: «لعل هذه تكفي.. لا تكثر من الكلام الفارغ».

وفي مكان لا يبدو أن أحداً يقيم بالقرب منه هبطت الأرض تحت أقدامنا ووجدت شيئاً يشبه غرفة كبيرة جلس فيها عدد من رفقاء الرجل الذي قبض عليّ، وسمعت صوت أنين من خلف ركن المكان. قلت للرجل: «لماذا تأتي بي إلى هذا المكان؟». فقال: «لقد وقعت أيها الرجل بين رجال السيد باراباس، وأظنك تعرف أن رجال باراباس لا يعرفون الهزل. لقد قبضوا على باراباس واثنين من رفقائنا دوماس وهاران بدسيسة خسيسة. شخص ادعى أنه يريد الذهاب إلى أفرايم وتساهلنا وتركناه. سيُصلب باراباس وزميلانا لأننا كنا أغبياء وصدقناه».

ثم التفت إلى أحد الرجال المحيطين وقال: «قيّده في العمود وجهز السوط».. والتفت إليّ وقال: «إذا لم تكن حكيماً فلا تلومن إلا نفسك. أولاً أفرغ ما في جيبك».. ولم ينتظروا بل خلعوا عني كل ملابسي وأفرغوا ما فيها من نقود ذهبية وفضية ومجوهرات وحوالات مصرفية جائزة عند التجار باسم «حامله» وقال: «يبدو أنك من كبار الأغنياء. لك أن تطمئن أننا لن نقتلك». وبعد أن قيّدوا يديَّ خلف ظهري ساقوني في دروب مظلمة حتى وصلنا إلى كهف كبير، علمت أن له فتحة باب يطل على البرية، ولكنه مثبت بصفائح حديدية. قال لي ساخراً: «يؤسفني أني لا أستطيع أن أقدم لك إلا السرير الذي صنعه الله، ولعلك تؤمن به! على أني سأعطيك شيئاً يحميك من البرد. أما الطعام فلا تنس أننا في البرية، فقد تقضي يومين أوثلاثة بدون طعام.. أو بطعام لا يتفق مع مركزك السامي».

قال اللص هذا الكلام وتركني!

انطرحت على الأرض واستغرقت في نوم عميق.. لم أَتضايق من الأرض الخشنة أو من الطعام التافه أو من الجوع.. بل لم تضايقني لسعات السياط. لم أتضايق من كل ما لقيت من المشاق والهوان من عصابة باراباس، إنما تضايقت أني لم أستطع الوصول إلى الناصري!

كم مرّ عليّ وأنا في الكهف؟ لا أعلم. هل مرّ أسبوعان أو ثلاثة أو شهر. خُيّل إليّ أني قضيت أجيالاً!!

وفي أحد الأصباح قلت: «لماذا لا أستغيث بالناصري؟» ورفعت عينيّ وصرخت بقلب جريح: «أيها الناصري الحبيب. لقد آمنت بك. وقد خرجت لأراك. اهدِ يا سيدي أقدامي إليك».

ما ان فرغت من طلبتي هذه حتى سمعت صوت ضوضاء، ودخل المكان رجل عظيم الخلقة يتبعه عدد من العمالقة أمثاله ومعهم سجاني، الذي تقدم وقطع قيودي وأعاد إليّ ثيابي ثم قال: «لقد أمر الزعيم أن أرد لك ما أخذته منك. ها هو. خذه وانصرف، وسيرافقك أحد رجالنا إلى الطريق. اذهب في حال سبيلك، وانس أنك وقعت بين رجال باراباس، واشكر السماء أن الزعيم لم يأمر بقتلك». قلت: «هلا دللتني على ذلك الزعيم لأشكره ولأؤكد له أني ما جئت إلى طريقك متجسساً، بل كما سبق أن قلت لك إني جئت أبحث عن المعلم الناصري»!!

نظر إليّ الرجل الضخم وقال: «مالك أنت والناصري؟ ومنذ متى عرفته؟». قلت: «لقد سمعت عنه من الرعاة، ومن سمعان الشيخ، وذهبت إلى مصر أبحث عنه هناك، ومكثت أزيد من ثلاثين سنة أذهب هنا وهناك وأصل إلى المكان بعد أن يكون قد تركه».

قال: «وهل تحب أن تسمع شيئاً جديداً عن السيد الناصري؟»قلت: «بالطبع أرغب فإذا أطلقتموني حراً فسأبحث من هذا اليوم عنه. لن أشكو لأنكم أسرتموني هذه المدة إلا لأنكم عطلتموني عن متابعة بحثي»!!

قال الرجل: «لا داعي للشكوى. سأعوضك عما خسرته من أسرك هنا». ثم أشار إلى أحد رجاله فذهبوا بنا في طريق إلى غرفة فسيحة ملحقة بالكهف، فيها مقاعد. بالطبع لم تكن أنيقة لكنها كانت مريحة!!

جلس الرجل وجلست أمامه، فقال: «أنا سمعان بن هوشع المعروف بباراباس. من عائلة فريسية متدينة موغلة في الوطنية. وقد رأيت بعينيّ طغيان دولة الرومان ومظالمهم الشنيعة، كما رأيت مساندتهم لبيت هيرودس الأدومي الأصل في حكم اليهودية بالقهر والسيف. ومع أنهم أحاطوا هذه الحرية بقيود كثيرة، ويكفي أن تعلم أن رئيس الكهنة، المفروض اختياره من نسل هارون بسلسال طبيعي، صار لعبة في يدهم فغيّروا وبدلوا حسب أهوائهم. لذلك وبحماسة الشباب كوّنا فريقاً من الشباب أمثالي، وجعلنا مهمتنا محاربة روما بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة.. بالطبع الوسيلة المشروقة غير ممكنة في ظل حكومة الطغيان. وكنا في حاجة إلى مال وقد زوّدنا أهلونا سراً بالكثير، ولكنه لم يكف فاضطررنا أن نضع ضرائب غير رسمية على كثيرين من الأغنياء. وبعض هؤلاء أو على الاصح غالبيتهم دفعوا كارهين.. بل أنهم كانوا يساندون حكومة الاحتلال. واتضح لنا أن الكثيرين منهم كانوا يدسّون لنا.. وكان من أثر ذلك أن أحرقنا مزارع البعض ونهبنا متاجر آخرين.. ووصل الأمر إلى القتل. وانضم إلينا عدد من العاطلين.. لا أريد أن أبرئ نفسي، فقد انحدر المستوى ولو أني ظللت أحافظ على الهدف الأصلي، إلا أنه أصبح هدفاً جانبياً. وقامت عصابتي بالسلب والنهب والقتل وهدم البيوت وإحراق المزارع والمتاجر، وأصبح اسمي يثير الرعب والفزع... ولما كانت المصالخ الشخصية تتحكم في معظم الناس، لم يؤيد حركتنا أحد من أصحاب المصالح، ومع أن هؤلاء كانوا قلة إلا أنهم كانوا يملكون السلطة أو يقفون إلى جانبها. ولم ينضم إلينا سوى الرعاع الذين لا يمكن أن يجدوا سبيلهم إلا في الفوضى. من أجل هذا أبغضتنا الطبقة الحاكمة بشدة، وسلطت علينا كل قوات الشرطة ورجال الأمن، وقام رجال المخابرات بتدبير الكمائن. وكان أن قام أحد الجواسيس بإرشاد فريق المطاردة إلى حيث كنا مختبئين. وقد قبضوا عليّ وعلى دوماس وعلى هاران وزجوا بنا في سجن القلعة. وقرر الوالي أن يعلقنا على صلبان تحقيراً لنا. لقد كنت أحمل الجنسية الرومانية، وكان يجوز لي أن أطالب بأن أقتل بالسيف، ولكنهم رفضوا كل ملتمس وقرروا صلبي وزميليّ. ولم تفلح كل المساعي في إصدار عفو عني فبقينا في القلعة، كل منا في غرفة ضيقة مقيدين بالحديد، ولا يتسع المكان لنا للنوم إلا واقفين تقريباً. كانت أيامنا قاتمة سوداء، وقد بلغ الضيق حده حتى أننا كنا ننتظر يوم صلبنا لنتخلص من هذه الحياة الكريهة، برغم ما كنا نعلمه من آلام الصلب!»

وجاء يوم.. لا أنسى هذا اليوم يوم الجمعة. هل كان هو يوم العيد أو قبله بيوم أو بعده بيوم؟ لا أعلم. لقد اختلطت التواريخ عند ذوي الشأن، فاختلفوا في تحديد اليوم. وأنت أيها الغريب لا يهمك أن تعرف إلا أنه يوم الجمعة في موسم الفصح. جاء رجل الشرطة وأمر، ففتحوا زنزانتي وأمر فحلوا قيودي وسار بي إلى حارس الباب ووشوش في أذنه كلاماً. ظننت أنه يقول أنه سيأخذني لأُصلب، وإذ بحارس الباب يمد يده ويصافحني قائلاً: «أهنئك، فقد صدر الأمر بالإفراج عنك»!!

نظرت إليه وقد بان الغضب على وجهي وقلت: «هل تسخر مني؟ احذر لنفسك. إني لا أزال باراباس، واستطيع أن أقبض على عنقك بيدي هذه وأرسلك إلى الجحيم في لحظة». فضحك وقال: «لا داعي للغضب. أنت ترى يديك محلولتين، والباب مفتوحاً أمامك. هيا انطلق إلى حيث تريد»!!

رأيت أن الرجل يتكلم جاداً، لكني لم أصدق بعد أني حر. لا يمكن أن يطلقوني حراً! لقد قرر الوالي تعليقي على خشبة. ما الذي حدث؟ وقرأ الحارس ما دار في ذهني وأجاب على السؤال الذي لم تنطق به شفتاي، قال: «لقد أخذ شخص آخر مكانك. اذهب تجده هناك على جبل الجلجثة. لقد ذهبوا منذ وقت. أمر الوالي فجلدوه ثم حمّلوه الصليب، وربما وصلوا إلى هناك الآن. وذا كنت تريد معرفة من الذي فداك فاركض لتتلذذ برؤيته». قلت: «ومن هو هذا المسكين الذي حل محلي؟» فقال: «إنه يهودي معلم، اسمه يسوع الناصري».

وثب قلبي في داخلي، إني أعرفه.. لقد حدثني دوماس عنه، إنه رآه وهو صبي في المهد يوم أن طاردته عصابتنا بقيادة دوماس، وأن دوماس حالما رآه خرّ على الأرض خاشعاً. بل حدثني عن مصري كان راجعاً إلى اليهودية وأنه رفع خنجره ليغرزه في صدره، ولكنه رأى الصبي يتجلى أمامه فسقط الخنجر من يده.. وحدثني دوماس عن أعمال عظيمة قام بها هذا الناصري. حدثني عن العيون العمياء التي أعطاها البصر، والآذان الصماء التي منحها السمع، والأجسام البرصاء التي طهرها من البرص، بل قال لي إنه أقام موتى.. ابن أرملة في مدينة نايين كانوا يحملونه ليدفنوه، أقامه بكلمة.

قلت: «أقول لك إني عندما قبض عليّ رجالك كنت خارجاً من بيت الكاتب لعازر الذي أقامه الناصري بعد أن قضى أربعة أيام في القبر». وقال باراراس إنه لم يسمع عن إقامة لعازر. قلت: «لأنك كنت في السجن».

وأكمل باراباس حديثه فقال: «تركت حارس باب السجن وركضت حتى وصلت مقطوع الأنفاس ورأيت الناصري يسير وكأنه يحمل على عاتقه خطايا العالم كله: المرض والحزن والألم والجوع والعري والجروح والدموع والموت.. خُيل إليّ أن هذه كلها وُضعت على عاتقه. وكان يسير خلفه رجل علمت أن اسمه سمعان القيراوني يحمل صليب الناصري!»

ثم رأيت الجنود أخذوا الصليب من سمعان ثم قبضوا على الناصري ومددوه على الخشبة وبدأوا بقساوة بربرية.. أوه.. أوه.. وضعت يديّ على عينيّ. لم استطع أن أستمر ناظراً. لقد قتلت كثيرين، لكني لم أكن متوحشاً نظير أولئك الجنود. دقوا المسامير الغليظة الخشنة في يديه. وفي نفس الوقت كان جنود آخرون يدقون المسامير في يدي ديماس، وهاران زميليّ في السجن. كان الجنود يدقون المسامير في الثلاثة في وقت واحد. كان زميلاي يقذفان الشتائم واللعنات والتجاديف.لقد لعنا الجنود والحكام وقائد القلعة والوالي، كما لعنا المجمع والهكيل ورؤساء الكهنة، ولعنا بيت هيرودس.. بل لعنا اسم الله. ماذا كان يخشيان؟

أما الناصري فكان يرسل أنيناً عميقاً دون أن ينطق بكلمة..

وبعد أن فرغ الجنود من دق المسامير ربطوا الأجسام.. وانتبهت إلى الناصري: ربطوا جسده بحبال إلى الخشبة، ثم أقاموها ودفعوا بها إلى الحفرة التي أعدوها، فتمزقت أوصاله وسال عرقه غزيراً وشحب وجهه وصدرت منه كلمات سمعناها كلنا: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا ٢٣: ٣٤). سقطت على وجهي وأنا أقول: «أنا يا رب، أنا الذي كان يجب أن يحتمل هذا المصير. لا أجسر أن أطلب منك الغفران. لا استحقه. كلا... لا أستحقه».

كدت أهجم على الجنود. قلت في نفسي أين رجالي؟ أين أسلحتي لكي أهجم على أولئك الجنود القساة. ثم نظرت إلى الجمهور الواقف ينفرج. رأيت عدداً كبيراً من الناس العاديين ومن الكهنة ومن الرؤساء. وقد فزعت عندما رأيت تصرفهم أكثر مما فزعت من الجنود وهم يدقون المسامير. كانوا يهزون رؤوسهم وهم يقولون: «يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.. »(متّى ٢٧: ٤٠). ورأيت رؤساء الكهنة يقولون: «لِيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ!» (مرقس ١٥: ٣٢). «لقد زعم أن الله أبوه، فليطلب من أبيه أن يخلصه». وصرخت بأعلى صوتي، ولكن صوتي ضاع في الضوضاء. انزل أيها الناصري، انزل عن الصليب، ثم اطلب أن تنز صاعقة تحرق هذا الجمهور الجاحد الشرير. كيف تقول: يا أبتاه اغفر لهم؟ لا يا رب، لا يا رب لا تغفر! لا تغفر!

سقطت مرة أخرى على الأرض.. لم أسمع كلام الناصري. سمعت زميليّ يعيران الناصري. يقولان: «تُرى هل هم صادقون أنك أيها الناصري مضل؟ هل كنت تدجل على الناس؟ إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب. خلص نفسك وخلصنا». اندهشت وأنا أسمع دوماس يتفق مع زميله في تعيير الناصري. كان دوماس بذكر أعمال الناصري الطيبة، فهل نسيها؟ لقد غضبت عليه. لقد كان دوماس رجلاً حتى في أعماله اللصوصية، لكنه في تصرفه هنا ظهر حقيراً. على أنه يبدو أنه راجع نفسه. رأى السيد يحتمل بصبر الألم والجحود. رآه يطلب من الله أن يغفر، ورآه يتقبل الإهانات من الجمهور منه ومن زميله. عاد إلى نفسه وذكر أعمال الناصري، فوبخ نفسه وصمت، ولكن زميله لم يصمت، بل اشتدت كلماته، فصرخ فيه: «اصمت أيها اللص. اصمت فلا أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أما نحن بعدل لأننا ننال استحقاق ما فعلت أيدينا»... ثم صمت برهة ونظر إلى المعلم الناصري. لم ير مذنباً محكوماً عليه بالصلب، لكنه رأى ملكاً يسير نحو ملكوته. نعم إنه يسير في طريق قاس، لكنه سيصل إلى عرشه فقال: «اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِك» (لوقا ٢٣: ٤٢). لقد فتح الله عيني دوماس فرأى يسوع لا مذنباً سيموت، ولكن ملكاً يسير نحو عرش ملكه. بل إلهاً ورباً... يموت برغبته لا مرغماً. يموت عن غيره.. لقد فهم دوماس الأمر وهو معلق. أما أنا فقد فهمته أكثر لأنه مات عني!!

وسمعت النصاري يقول لدوماس: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لوقا ٢٣: ٤٣).

طوبى لك يا دوماس. ربي اجعل هذا الغفران أيضاً من نصيبي.

وبينما أنا غارق في دموعي أحسست أن الشمس تغيب مع أننا كنا في الظهيرة. فتحت عينيّ فإذا الدنيا ظلام.. وإذا زلزلة هزت المكان. انشق حجاب الهيكل. الجبال قذفت أحجارها والصخور تشققت والقبور تفتحت، وأبصرت أجسام الراقدين تتحرك وتقوم.. وأبصر الناس هؤلاء الأحياء يسيرون في طرقات المدينة وسمعت السيد في الساعة التاسعة يقول: «قَدْ أُكْمِلَ. يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي. وَأَسْلَمَ الرُّوحَ» (يوحنا ١٩: ٣٠ ولوقا ٢٣: ٤٦).

ثم مضى باراباس يقول: «انصرفت الجماهير، وفرفع قائد الئة رأسه إلى السماء وقال: «حقاً كان هذا الإنسان باراً. حَقًّا كَانَ هذَا الإِنْسَانُ ابْنَ اللهِ!» (مرقس ١٥: ٣٩).

لم أستطع أن أفهم الصليب. كنت أعرف أن الناصري كان يمكنه أن يخلص نفسه، فلماذا لم يفعل ذلك؟ كنت أعلم أنه يستطيع أن ينتقم من خصومه ومن المسيئين إليه، فلماذ لم ينتقم؟ كننت أعلم أنه يستطيع أن يشكوهم لله فلماذا طلب الغفران؟ كنت أعلم أنه في إمكانه أن ينزل عن الصليب ويعيش، فلماذا ظل على الصليب إلى أن مات؟

كان الصليب لغزاً. لم أستطع أن أقبل أن ينتصر الباطل على الحق، وأن يفوز الظلام على النور، وأن يهزم الموت الحياة. نعم، لم أستطع أن أفهم الصليب. ظللت في مكاني إلى أن مال النهار إلى المغيب.

رأيتهم يدلّون المعلم ويلفونه بأكفان ويضعون شيئاً من الطيب. شيخان فعلا ذلك. كنت أعرفهما. كانت لهما صلة بعائلتي: الرئيس نيقوديموس والرئيس يوسف الرامي. اثنان من كبار الرؤساء. وقد اندهشت أنهما وهما الفريسيان يكرمان جسده.

ظللت طوال السبت في البيت، وفي صباح الأحد انطلقت ميمماً القبر الذي دُفن فيه الناصري - وفي طريقي سمعت امرأة تركض وهي تحدث نفسها: «لقد سرقوا الجثمان ولست أعلم أين وضعوه». وبعد فترة مرت جماعة من النسوة وهن يقلن: «لقد رأينا القبر فارغاً، وظهرت لنا ملائكة قالوا إن السيد قام كما قال» لقد سبق الملعم وقال للتلاميذ إنه سيموت، ولكنه بعد ثلاثة أيام يقوم.. وقام يسوع من الموت. فلما تحققت أنه قام بدأ لغز الصليب يتفتح؟ مان ينبغي أن يموت السيد، فإن أجرة الخطية هي موت. ولقد سمعت من دوماس الكلمات التي قالها له المصري إن الملائكة أعلنت أنه وُلد مخلص هو المسيح الرب، وأن المعمدان أشار إلى يسوع وقال: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!» (يوحنا ١: ٢٩). حاولت أن أرى المعلم فلم أوفق، لكني تيقنت ممن رأوه أنه قام، فركعت وقلت: «أيها الناصري آمنت يا سيدي فاقبلني ضمن رعيتك». وغذ ذاك ملأ السلام قلبي، وأحسست أني أصبحت إنساناً جديداً. لست أنا باراباس القديم القاتل، أنا باراباس المؤمن الذي مات المسيح عني.. نعم عني أنا فعلاً. كان ينبغي أن أموت أنا، ولكنه مات نيابة عني. ونيابة عن دوماس، وأرجو أن يكون هاران أيضاً قد آمن.

شخص حكم عليه المجمع الكبير بالضلال، وطلب من الحاكم الروماني أن يصلبه. لم أتعب نفسي بالسؤال عن هذا الأمر. كنت مشغولاً بموضوع الص ليب، بلغز الصليب، وسر الصليب. عدت إلى المدينة وقضيت الليلة في بيتنا، أقصد بيت الأهل، وكانوا ينتظروني. وقد أخبروني عن سر إطلاق سراحي. قالوا لي إن الوالي بعد أن تحقق من براءة ساحة الناصري أراد أن يطلقه، وبذل كل مسعى في ذلك، ولكن أصوات رؤساء اليهود ارتفعت على صوت العقل وهم يصيحون: اصلبه! اصلبه! وكانت العادة أن يفرج الوالي في العيد عن سجين، فعرض الوالي أن يفرج عن يسوع، وخيّرهم بين يسوع وبيني. وكان أهلي ينتظرون أن يطلق الوالي يسوع، ولكنهم اندهشوا وهم يسمعون: اطلق باراباس. با للعجب! يطلبون صلب المحسن الكبير والإفراج عن القاتل المجرم الذي طالما جعل أيامهم خوفاً ولياليهم رعباً. والعجب أنهم يدعون أنهم أبناء الله، وأنهم عبيد الله.

وها أنا جئت اليوم لأحوّل مكان العصابة إلى هيكل للمؤمنين، ولأحوّل من اللصوص خداماً للمسيح، ولأكرس حياتي لخدمة المسيح!!

ابتسمت وقلت: «باراباس، هل تعلم من هو المصري الذي أشرع دوماس خنجره في وجهه؟ إنه أنا باراباس. صرخت بدون صوت: أنقذني أيها الناصري، ورأيت الخنجر يسقط إلى الأرض. وكنت أظن أن دوماس سيكف عن شروره.. على كل حال شكراً لله أنه آمن.. وأنك آنت آمنت!!».

أما أنا فقد آمنت من قديم، وها أنا منطلق أبحث عن سيدي لأراه بالعيان، وأفرح بهذه الرؤية.

قبّلت باراباس وانطلقت إلى المدينة - على أني قبلما أتركه قدمت له حبة لؤلؤ سوداء طلبت منه أن يحتفظ بها على سبيل التذكار، فقبلها ووعد أن يحتفظ بها طول حياته تذكاراً لارتباطنا معاً في الوقوف مع الناصري!!
الفصل الرابع عشر: مع سيدتين

خرجت من الكهف وقد رافقني أحد رجال باراباس، سار معي في طريق لم أره طريقاً. وقال لي إن برية يهوذا لغز، كم ضل فيها رجال الأمن. وكان رجال الحكم يجدون من أرسلوهم لاقتحام معقلنا قتلى على الطريق. وقال لي إن باراباس جبار.. سيكون ذا نفع كثير للنصارى ولرسالته. وعند رأس الطريق أشار إلى طريق أورشليم ونصحني أن لا أنخدع بالطريق الجانبي الناعم، بل أظل سائراً باستقامة، مهما بدا الطريق المستقيم خشناً، ومهما أغراني الطريق الناعم بالسير فيه. ولما ودعني حاولت أن أقدم له بعض المال فرفض بلطف، وإن يكن بإصرار، وقال: «يسرني أن تكون الهدية قبلة». فقبّلته وهو قبّل يدي وانصرفت.

وصلت إلى أطراف المدينة. لقد تغيّرت. ما من مرة أتيت إليها إلا وكانت صورتها تختلف عن الصورة السابقة. تذكرت المرة الأولى التي تلاقيت فيها مع سمعان الشيخ.. والمرة الثانية التي جئت أسأل عن الملك.. والمرة الثالثة التي تلاقيت فيها مع الرئيس نيقوديموس.

ما أكثر ما حملت مدينة أورشليم من أحداث. والآن ها أنا أجيء لأبحث عن الناصري الذي انتصر على الموت!

لقد سبق أن بحثت عن الصبي.. ثم عن المعلم.. وها أنا أبحث عن الله الذي خرجت أبحث عنه. وقد وجدته أو على الأصح قد وجدني. وأنا اليوم أبحث عنه لكي أراه بالعيان.

أحسست أن المدينة تغلي. الطرقات غاصة بالرجال والنساء من كل الطبقات. الحديث هامس ولكن كثرته جعلت منه أزيزاً كأزيز طيران مئات الألوف من النحل. اقتربت من المجتمعين هنا وهنا. وصلت إلى اذني هذه الكلمات:

- هل سمعت ما قاله الجنود الذين كانوا يحرسون قبر المعلم الناصري؟ هل سمعت أنهم قالوا إنهم وهم قائمون على حراساتهم حدثت زلزلة شديدة ظهرت خلائق عجيبة ملأت المكان بنور أشد لمعاناً من مئات الشموس، وأنهم سقطوا صرعى كموتى، وأتهم لما استيقظوا وجدوا القبر مفتوحاً خالياً.

- هل سمعت أن بعض النساء ذهبن إلى القبر وأنهن وجدن القبر خالياً، وأن ملاكين ظهرا لهن وقالا: «لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ ههُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيه. لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ!» (مرقس ١٦: ٦ ومتّى ٢٨: ٦).

وقال أحد الملاكين: «لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ» (لوقا ٢٤: ٥ و٧).

- هل سمعت أن الجنود لما أخبروا عما حدث، اضطرب رؤساء الكهنة وقالوا إن هذا الخبر أسوأ خبر سمعوه. ثم قدموا نقوداً للجنود وطلبوا منهم أن يقولوا إنهم ناموا من كثرة التعب، وإن التلاميذ جاءوا ليلاً وسرقوا الجسد؟

- سمعت أن الرؤساء وعدوا أن يتوسطوا لدى الوالي فلا يحاسبهم على النوم.

- لكن كيف عرف الجنود أن التلاميذ جاءوا أثناء نومهم وسرقوا جسد يسوع؟

- هل سمعت أن المجدلية ذهبت إلى القبر باكراً، ولما لم تجد جسد الناصري عادت مولولة إلى بعض تلاميذه وقالت: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا ٢٠: ١٣).

كانت المدينة تغلي وقد تناقلت الكلمات من مكان إلى مكان. قال البعض إن قصة القيامة قصة موضوعة افتعلها التلاميذ. وقال البعض الآخر: وما مكسب التلاميذ من تأليف قصة مكذوبة؟ لماذا يعرّضون أنفسهم للاضطهاد والضرب والحبس والاحتقار والموت؟

لقد أكد لي باراباس أن السيد قام حقاً. لقد تحقق هو من ذلك. وأنا متيقن أنه قام حقاً. ولكن الأحاديث المتناقضة بلبلت أفكاري، بحيث تطرق قليل من الشك في ذهني. قليل جداً لم يستطع أن يجد له مكاناً ثابتاً في قلبي. لكن لماذا أقف لأستمع لكلام الناس؟ لماذا لا أفتش عن الأشخاص الذين نقلوا الخبر؟ لقد ذكر باراباس اسم المجدلية ونساء معها، وقال أيضاً عن تلميذين... ما اسمهما يا ترى؟ نعم إني أذكر أنه قال إن أحدهما اسمه كليوباس، وذكر اسم يعقوب، واسم سمعان بطرس... سأبدأ بالبحث عن المجدلية. قيل لي إن الكثيرين يعرفونها. سألت أول رجل قابلته عن امرأة اسمها مريم المجدلية، فلم يتكرم عليّ حتى بلفتة، وسألت آخر وآخر.. وتجاسرت وسألت امرأة فنظرت إليّ بشيء من الشك وقالت: «وماذا تريد منها؟ إنك بالطبع لا تريد بها شراً». قلت: «حاشا لي! حاشا أن أريد شراً بامرأة فاضلة. ولكني مهتم بالسؤال عن المعلم الناصري». وإذ ذاك أشرق وجهها وقالت: «تعال معي إذاً، لأني ذاهبة إلى هناك».. ووصلنا إلى البيت ووجدت المرأة الفاضلة ومعها سيدات أخريات. قدمت نفسي لهن. وقالت المجدلية إنها كانت قد سمعت أني خرجت من أهلي ومن عشيرتي أبحث عن الله، فقلت إني وجدته في الناصري من سنين طويلة، ولكني لم أره بالعيان. كنت أذهب إلى حيث أخبروني، فأجده قد ترك المكان قبل وصولي بقليل وقد وقعت بين يدي رجال باراباس، وظللت مقيداً في كهوفه في برية يهوذا، ولكنه جاء بالأمس وقص لي روايته مع الناصري وإيمانه به. وقد ذكر لي اسم المجدلية وآخرين شاهدوا المسيح بعد قيامته. وقد جئت إليك يا سيدتي لترشديني إلى المكان الذي يمكن أن أراه فيه.

قالت المجدلية: «إذن أنت المصري الذي قابلك العديد من إخوتنا، وقد سمعت من الحبيبة مرثا أنك قضيت جانباً كبيراً من الليل تستمع إلى قصة لعازر». قلت: «نعم. نعم». وفي أثناء حديثها ألمحت إلى آيات أخرى كثيرة صنعها يسوع. قالت إنه قابل عشاراً اسمه لاوي بن حلفي قلب حياته رأساً على عقب، أو على الأصح عدّل حياته. أخرجه من الطين وأوقفه على صخر وألبسه الخلاص، ووضع في يده عصا الرعاية وجعل من العشار رسولاً. كما ذكرت لي عن امرأة أخرى قال لها: «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يوحنا ٨: ١١).. وإن السيد أكرمها لأنها أحبت كثيراً! كما ذكرت لي اسمك يا سيدي. ومع أني لا أريد أن أكون فضولياً، إلا أني أرغب أن أسمع دائماً عن عظائم الناصري. لكن أول ما أطلبه أن أرى الناصري. أرى وجهه وأجثو عند قدميه

وقالت المجدلية: «إن السيد لا يقيم في مكان محدود. إنه يظهر لنا فجأة. وسأذكر لك قصتي معه وكيف رأيته عند القبر. أما عن المرأة التي ذكرت، التي أحبت كثيراً فهي هذه المرأة التي تجلس أمامك. وربما قبلت هي أن تحكلي لك قصتها، لأنها لا تمل من تقديم الشكر للسيد الذي رفعها.. كما رفعني من المزبلة وأجلسها وأجلسني على عرش. تقدمي يا رفقة وحدّثي هذا المصري، أو كائناً من يكون، فإنه حبيب يسوع».

وتقدمت المرأة و وجهها كتلة من الدم من شدة الخجل، وقالت: «نعم سا سيدي، أنا المرأة الخاطئة التي أُمسكت في ذات الفعل. أنا لا أريد أن أبرر نفسي، ولا أن أخفف جريمتي. لقد سقطت. لا أريد أن أضع لوماً على الرجل الذي خدعني، ولا أريد أن أتحدث عن الدسيسة الخسيسة التي رتّبها مع قوم من ذوي الشأن لكي يوقعوا الناصري في أحبولة. لم أكن أنا يا سيدي هدف الدسيسة، كان الهدف الناصري نفسه. لا أريد أن أقول لك إن الجوع.. جوع ابني إلى كسرة خبز وجوعي. لا أريد أن أقول لك إن الرجل الذي ظننته نبيلاً وهو يهتم بالأرملة البائسة ويقدم لها الطعام مرة ومرتين «لوجه الله» وإذا به يرتب دسيسته فيقاضيني ثمن ما أعطى، أغلى ما تملك المرأة. ويرتب الكمين، ويسهل القوم له الهروب ويقبضون عليه» .

«كلا، يا سيدي لا اريد أن أبرر نفسي أو أخفف من شناعة جريمتي أنا الخاطئة المسكينة البائسة، وقد وقفت عارية أمام الجمهور كله ولكن الناصري غطاني وستر عاري. كان المشتكون عليّ شيوخاً وشباباً وقد جروني بعد أن مزقوا ثيابي وكشفوا عن جسدي الجريح وأوقفوني أمام المعلم «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» (يوحنا ٨: ٤ و٥). كانوا متأكدين أن السيد لا يمكن أن يتخلى عني، فهو صديق العشارين والخطاة. لكن كيف يمكنه أن يساعدني؟ إن الموقف دقيق. لو أنه قال إني اعفو عنها، لوقف موقف المناقض للناموس، بينما سبق هو وقال عدة مرات إنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمل. وهو بالطبع لا يريد أن يقول ارجموها، وإلا أثار السلطات الرومانية ضده، بعد أن اصدر الرومان تعليماتهم أن حكم الموت في يدهم وحدهم. لقد أشفقت عليه أنا الخاطئة. وتمنيت لو أن الأرض فتحت فاها وابتلعتني فينجو هو من مكيدتهم!!»

«وصت السيد كويلاً، وكرروا عليه الكلام مرة ومرتين وهو يتطلع إلى الارض ويكتب على التراب. لم أعرف ماذا كتب. قالوا لي فيما بعد أنه كان يكتب خطايا المكشتكين عليّ.. ثم رفع وجهه وقال: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» (يوحنا ٨: ٧).

نظرت إليهم من جانب عيني فرأيت كأن زوبعة عاتية تهب عليهم وتزعزع كيانهم، فخرجوا من المكان كأنهم هاربون من وحوش تطاردهم. وكان يمكنني أنا أيضاً أن أهرب، لكني أحسست أن شيئاً قوياً يقيّدني، فإن الناصري ليس إنساناً عادياً... كلا، لا يمكن أن يكون إنساناً عادياً. ها هو يرفع وجهه نحوي ويقول: «يا امرأة» ولعلك لا تعرف أن هذا اللقب لا يُطلق إلا على الأنثى الفاتضلة، الزوجة الفاضلة. كان اسمي وهم يجرونني «الزانية الآثمة الفاجرة.. ال ال..»وهكذا من مختلف اللوثات. أما هو فيعيد إليّ كرامتي «يَا امْرَأَةُ، أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟ لاَ أَحَدَ، يَا سَيِّدُ!. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي وَلاَ تُخْطِئِي أَيْضًا» (يوحنا ٨: ١٠ و١١).

كم أبغضت الخطية وقتها - لقد صفح، ذاب قلبي وخرجت كل المفاسد التي فيه. هذه المحبة التي هي أقوى من الموت...

هل تصدق؟ لق سامحت الرجل الذي خدعني، وسامحت الذين اشتكوا عليّ.. لأني أحببت بكل قلبي السيد العظيم الذي ستر عاري وغفر إثمي ونقّى قلبي!!

ولقد تسمع من البعض أنني أنا المرأة التي دخلت بيت سمعان الفريسي وجلست خلف السيد أدهن قدميه بالطيب وأمسحهما بشعر رأسي وأغسل قدميه بالدموع. ومع أني تركت البقعة التي كنت أقيم فيها إلى بقعة أخرى لا يعرفني فيها أحد، إلا أن سمعتي طاردتني، والرجل الذي سبق أن خدعني لم يكف عن مطاردتي...!!

قد يقولون إني أنا تلك المرأة، وقد يقولون إني أنا المرأة التي سكبت قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن على رأس السيد. وإن السيد انتهر الذين عذبوني بتوبيخهم: «كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ» (مرقس ١٤: ٥) قال السيد: «قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَنًا! حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهذَا الإِنْجِيلِ فِي كُلِّ الْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضًا بِمَا فَعَلَتْهُ هذِهِ، تَذْكَارًا لَهَا» (مرقس ١٤: ٦ و٩).

أقول لك: «قد أكون تلك المرأة وقد لا أكون، ولكن أرجو أن تثق أني أنا المرأة التي أحبت كثيراً لأنه سامحني بالأكثر.. ومهما أحببت فإني أشعر أني لم أحب بعد بالكفاية فهو يملأ كل قلبي. إني أعتز بأني أحب مرثا ومريم، ومريم زوجة كلوبا، ويونا امرأة خوزي وكيل هيرودس.. وكرامتي العظمى هي في أن العذراء المباركة أولتني التفاتها.. وها هي المجدلية دعتني إلى بيتها، وقد رجوتها أن تحدثني عن الناصري بعد أن رأته عند القبر.. وقد دخلت أنت وهي تهم بالكلام. أظن أنها لا تبخل برواية قصتها كلها. خصوصاً وأن الناصري هو الذي يبحث عمن يطلبون أن يقابلوه»!!

واحمرّ وجه المجدلية وقالت إن قصتها بسيطة جداً. كان بها شياطين كثيرة أخرجها السيد، فهي تحبه كثيراً قلت: «لقد سمعت أشياء كثيرة عن حباتك. إنك إذ تتذكرينها تمجدين المسيح وتتحدثين بفضله. لقد تقابلت مع الرجل الذي كانوا يدعونه «لجئون» وأخبرني أن السيد طلب منه أن يحدث بمراحم الله» . قالت المجدلية إن القوم قالوا أكثر من الواقع، قلت: «لا بأس، إن الحقيقة وحدها هي التي تبقى.. تكلمي. أرجوك تكلمي».فقالت: «أنا أعلم أني وُلدت في بيت ميسور الحال. كنت أملك أو على الأصح أهلي يملكون شيئاً من المال.. ونظير الفتاة التي تتربى في مهد الغني عشت مدللة، وكنت أهتم بجسمي وثيابي، وكنت أعيش حياة الترف والبطالة. ومن هنا بدأت متاعبي. وأنا فعلاً لا أعلم الحقيقة بالنسبة لي!! قالوا إني بدأت أنحرف في سلوكي، وإن إبليس الكبير انتهر فرصة انحرافي هذه وسلط أبالسته الصغيرة عليّ، فدخلت واحداً بعد آخر فيّ حتى اكتمل عددهم. لم يكن العدد سبعة يعني حقيقة العدد، بل كان يعني كمال العدد. كانت شياطين كثيرة فيّ. أُصبت بالجنون الكامل. لم أعش في البيت. خرجت أهيم في الشوراع مهلهلة الثياب أتكلم كلاماً بلا معنى، أقذف الناس بالأحجار وأمزق ثيابي. قيّدوني ربطوني حبسوني.. ذلك بعد أن استعملوا كل علاج وعقاقير وصلوات وأحجبة... وفي أحد الأيام قابلني يسوع... كان أهلي في أول الأمر يعالجونني لأني فرد منهم. كانوا يخافون من العار. وكانوا بعد ذلك يعالجونني اتقاء لشري. لم يكن أحد يهتم بي محبة لي. فلما لاقاني السيد نظر إلي فأبصرت في عينيه فيضاناً من الحب القوي الجبار الذي أذاب القيود وفتح الأبواب وأخرج الشياطين. وإذ ذاك نظرت إليه بكل حبي وجثوت عند قدميه وكرست حياتي ومالي لخدمته، فأنا وبعض الصديقات نخدمه من أموالنا، لأنه هو الغني كل الغنى لم يكن له أين يسند رأسه. وترنيمتي الدائمة: أمشي معه دوماً لك حين».

«ما أكثر المرات التي تمنيت أن أملك كل مال الدنيا لأجند حرساً كبيراً يقوم على حمايته. وما أكثر الليالي التي قضيتها أبلل فراشي بدموعي وأنا أطلب أن الله يحرسه من الجماعة المنافقة التي تناوئه. لقد قالت لك صديقتي إنها تلك المرأة التي أحبت كثيراً - نعم هي كذلك، لكن أنا، أنا المرأة التي أحبت أكثر أكثر أكثر»

«وقبضوا على سيدي... ربطوه بالحبال كأنه لص. لطموه على وجهه. ضربوه بالعصا. جلدوه بالسياط. وضعوا عليه الصليب.. سمروا يديه ورجليه.. وضعوا إكليل الشوك على رأسه. طعنوا جنبه بالحربة. آه يا صديقي. لقد تمزّق قلبي. إني مندهشة أني استطعت أن أعيش بعد أن رأيت ما رأيت في سيدي...»

«هل استطعت أن أراه يُلطم ويُضرب ويُجلد؟ كنت أسقط على وجهي بدون وعي وأنا أرى جسده الممزق من الجَلد - سرت خلفه أولول وهم يجرونه إلى الصليب. هجمت على الجنود ومزقت وجوههم بأظافري وهم يحاولون منعي من الاقتراب إليه. أما المسامير.. كان كل مسمار يُدق في قلبي...»

«ومات الحبيب... وأنزلوه من الصليب ووضعوه في القبر. مبارك أنت يا يوسف الرامي. لم يخش بأس الرؤساء ولم يعبأ بسخرية رئيس الكهنة. وأنت يا نيقوديموس لتحل البركة عليك وعلى بيتك.. وضع الاثنان شيئاً من الطيب، قضينا السبت في بيوتنا - وذهبنا صباح الأحد نضع الأطياب على الجسد. كنا قد نسينا أنه سبق وتنبأ بأنه سيقوم بعد ثلاثة أيام. كان موته صدمة قاتلة لجميعنا. مات السيد فانطفأ النور وأظلمت الدنيا في وجوهنا وضاع كل رجاء... ولما كان حبنا لشخصه فائقاً حد المعرفة، كان حزنناً لا حدّ له. لقد ظللنا نبكي يوم الجمعة وطول يوم السبت. لم يتناول أحد منا كسرة خبز حتى صباح الأحد...»

«وكنا في الطريق نتساءل «ترى من يزحزح لنا الحجر؟» ووصلنا. لا أذكر بالضبط متى حدثت الزلزلة، أقصد متى ابتدأت، لأننا وصلنا وآثارها باقية. تزلزلت الأرض وجاء ملاك زحزح الحجر وجلس عليه. ورأينا الجنود منكفئين وقد بان الرعب واضحاً على وجوههم. لا أعلم كيف تجاسرنا وسرنا نحو القبر وألقينا نظرة داخله، فلم نجد الجسد؟ وفيما نحن نحدق النظر أبصرنا شابين في ثياب بيضاء.. دعني أقول ملاكين. لم نرهما في أول الأمر، فقد كنا في حالة خوف وفزع. كنا في حالة الموت. البقعة لا تزال تحمل آثار الزلزلة. الجنود في حالة فزع. رجلان في ثياب براقة يظهران لنا، وقالا: «لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيل قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (متّى ٢٨: ٥ و٦ لوقا ٢٤: ٥-٧ ) لم أقف مع النساء عندما تكلم الملاكان، ولكني عدت راكضة إلى المدينة وطرقت باب البيت الذي فيه سمعان بطرس ويوحنا وقلتلهما: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا ٢٠: ٢). قلت ذلك وعدت مرة أخرى إلى القبر. كان الجنود قد تركوا المكان إلى المدينة. وصلت إلى القبر وأنا أبكي وأولول. وفيما أنا أبكي ألقيت نظرة أخرى على القبر الخالي، فرأيت ملاكين بثياب بيض جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً، فقالا لي: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَلَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا ٢٠: ١٣) أنت ترى أننا لم نكن نفكر في القيامة.. بل كنا من المنكرين لها في أول الأمر، لأننا عندما أخبرنا التلاميذ أن يسوع قام، وأن الملائكة أخبرونا أنه قام تراءى كلامنا لهم كالهذيان.. لم تكن سرقة الجسد كما قول اليهود من مصلحتنا، وفي نفس اللحظة أحسست بحركة خلفي فالتفت لأرى إنساناً واقفاً. كان الواقف هو يسوع نفسه، ولكني لم أكن أعلم أنه يسوع كانت عيناي مغرورقتين بالدموع، كما أن الصورة كانت مختلفة عن الصورة التي عرفتها، مختلفة شيئاً ما. وقد سألني: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ»وإذ ذاك قال لي «يا مريم» هذا هو النداء الذي ناداني به يوم أخرج شياطيني. كان النغمة المحببة التي كنت أحس أنها حياتي، كنت أرددها بين حين وآخر يا مريم إذ ذاك رأيته... رأيته بقلبي، انطرحت عند قدميه أتشبث بهما لا أريد أن أفلتهما. كنت أقول: ها قد وجدتك، ولن أتركك تذهب عني. كلا لن أتركك. فقال لي: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ:إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ» (يوحنا ٢٠: ١٧) فانطلقت راجعة إلى التلاميذ ورأيت النساء اللواتي كن معي عند القبر ورأين معي الملائكة، يونا ومريم أم يعقوب وأخريات وتحدثت معهن عن لقائي بالسيد، فذهبنا إلى التلاميذ وقلت لهم إني قد رأيت الرب....»

«كم أشكر الله من أجل هذا الإكرام العظيم. المرأة التي يعتبرها اليهود شيئاً لا شخصاً.. مريم المجدلية التي كانت بيتاً للشياطين يكرمها السيد فتكون أول من رآه بعد قيامته، وأول من حمل بشرى القيامة. ولمن؟ للتلاميذ، للرسل!»

«اسمع يا صديقي نوسترادميس، أنا أشهد أن المسيح قام. هزم الموت. كان لابد أن يقوم، سمعته.. رأيته بعيني.. شاهدته.. لمسته يدي. اذهب يا نوسترداميس وقل لكل من تقابله إن المسيح قام حقاً. المسيح قام. وظهر اولاً لامرأة.. للمجدلية، وكانت رسوله الأول للتبشير بالقيامة».

انتهت المجلدية من حديثها الحلو، فوقفت وقلت لها: «لم يكن للمرأة مكان في بيتي. لم يكن لها كرامة الإنسان. كانت أقل من الرجل. كنا نفرح يوم يولد الولد وندق الطبول له، وكنا نحزن يوم تُولد البنت. اليوم أشكر الله أنه أكرم المرأة وأعطاها مكان التقدير. أشكر الله أنه أكرمك يا سيدتي، فهل تسمحين لي أن أقبّل يدك، مخالفاً بذلك كل التقاليد البالية؟ وقبّلت يدها بكل احترام، واستودعتها الله. خرجت أبحث عن يسوع راجياً أن أراه».
الفصل الخامس عشر: سمعان بطرس

سارت معي المجدلية حتى وصلت إلى الباب الخارجي، وفيما أنا أبتعد قالت: أعتقد أنك يمكن أن تصل إلى تحقيق أملك عن طريق سمعان بطرس. إن السيد نفسه حين أرسلنا لنخبر التلاميذ عن قيامته قال: «اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ» (مرقس ١٦: ٧).

لذلك سرت في طريقي أقصد أن أقابل سمعان بطرس. وقد عثرت عليه بعد جهد واستقبلني مرحّباً. عرفت أنه سمع عني، وسمع عن شوقي أن أرى المسيح المقام. ثم قال: لقد سمعت ولا شك أن رؤساء اليهود يُشيعون أننا سرقنا الجسد وخبأناه في مكان ما، وادعينا أنه قام. وهي تهمة ظاهرة البطلان، إذ أية فادئة تعود علينا من وراء هذا الأمر؟ إن المسيح المقام يسبب لنا متاعب كثيرة. لقد اضطهدوا السيد وصلبوه. وقد قال لنا المسيح قبل الصلب: «إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يوحنا ١٥: ٢٠ و١٦: ٣٣).

بل إننا ويا لخجلي - كنا قد نسينا أنه سبق وأنبأنا بموته وقيامته. وقد سخرنا من كلام المجدلية وكلام النساء عندما أخبرننا أن السيد قد قام، وتراءى كلامهن لنا كالهذيان....

قلت: «أرجو يا سيدي أن تعرف أني في سؤالي عن القيامة لا أطلب شهادة عن القيامة. فأنا قد آمنت بأن المسيح يسوع هو ابن الله، وحمل الله الذي صُلب من أجل خطايانا وقام... نعم وقام لأجل تبريرنا. أرجو أن تعرف أني أستمتع بكل ما يتصل بعظائم المسيح، بمعجزاته كلها، جسدياً وروحياً. وأنا اشتهي أن أراه في الجسد عياناً، إذا أكرمني المسيح فسمح لي أن أراه أشكره، وأشكره أيضاً إذا لم يسمح. إني قابل لمشيئته.. أنا أقول له فعلاً: «لتكن مشيئتك». وقال بطرس إنه واثق أن السيد سيحقق لي أمنيتي لأن: «الذين يبكرون إليه يجدونه» ولأنه كان يقول: «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي» (إشعياء ٦٥: ١) فبالأحرى يوجد من الذين يطلبونه، ثم قال: سأذكر لك كل ما تم الآن في موضوع القيامة.»

طرقت المجدلية باب المنزل في أورشليم حيث كنت أقيم أنا ويوحنا وقالت لنا: «أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» (يوحنا ٢٠: ٢). كان هذا في بكور يوم الأحد. فقمت أنا ويوحنا وسرنا... الأصح أن أقول ركضنا. ركضت حتى انقطعت أنفاسي، فتمهلت في الركض. أما يوحنا فاستمر يركض، ووصل إلى القبر قبل أن أصل، إلا أنه لم يشأ أن يدخل القبر أولاً. يبدو أنه أراد أن يعطيني الفرصة قبله. دخلت وهو بعدي. ورأينا الأكفان موضوعة، والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان، بل ملفوفاً في موضع وحده. كان القبر يقدم صورة غرفة نوم قام النائم فيها بدون عجلة، ورتب فراشه بكل هدوء، ليس كما يشيع رؤساء اليهود عن سرقة الجسد. آمن يوحنا، ووبخ نفسه وإيانا لأننا لم نكن بعد نعرف أن الكتب المقدسة تنبأت أنه ينبغي أن يقوم من الأموات. وأما أنا فلم أستطع أن أحدد موقفي.. آمنت ولكنه كان إيماناً مقلقلاً إلى حدٍ ما، لأني مضيت متعجباً في نفسي مما كان!

وجاءت المجدلية مرة أخرى وأكدت لنا أنه أبصرت السيد، وأنه طلب منها ومن النساء أن يخبرن التلاميذ وبطرس أنه قام وأنه يسبقنا إلى الجليل. وقد تأخرنا فلم نذهب إلى الجليل في نفس اليوم. على أن السيد أكرمنا فظهر لبعضنا قبل الميعاد المحدد، إلا أن مقابلتنا في الجليل تمت بعد ذلك.

وصمت سمعان بطرس برهة ثم قال: «ما كنت أرغب أن أخبرك عن ظهوره لي. نعم فقد ظهر لي: كنت في حاجة إلى هذا الظهور. لا شك أنك لم تسمع عن خطيتي البشعة التي ارتكبتها ضد سيدي. في يوم الخميس الذي أكلنا فيه الفصح ورسم لنا فريضة العشاء الرباني، أعلن خيانة من يسملّه وعن موته على الصليب. ونظر إليّ وقال إنه يطلب من أجلي حتى لا يفنى إيماني، فاندفعت أؤكد له أني مستعد أن أمضي معه إلى السجن بل إلى الموت. ونظر السيد إليّ بعطف وأنبأني أني سأنكره لا مرة واحدة، بل ثلاث مرات في تلك الليلة. وأنكرته يا صديقي. أنكرت أني أعرفه. أنكرت بأقسام ولعن. وصُلب المسيح قبل أن أجثو عند قدميه وأطلب صفحه.. وظللت أبكي يوم الجمعة وطول يوم السبت. مكث معي يوحنا. حاول أن يعزيني، ولكني لم أقبل تعزية. أنا خائن أنا.. يمكنك أن تصفني بكل صفة نكراء. إني نظير يهوذا. أين التصميم أني مستعد أن أموت معه؟ وأنكرته لا أمام الموت بل أمام الجارية. كل ما كان يصيبني لو أني أعلنت أني مع الناصري أنهم يستهزئون بي. لم يكن رؤساء اليهود يعملون أي حساب لنا. لقد قبضوا على السيد وتركونا نهرب.هربت أنا وبقية التلاميذ. هربنا كمخلوقات جبانة.. وعدت إلى نفسي ووبختها، ومع ذلك تبعته من بعيد ودخلت دار رئيس الكهنة وهم يحاكمون السيد. وجلست مع الخدم حول النار نستدفئ. كان كل حديثهم سخرية بسيدي. قالوا عنه كل كلمة شريرة، وصمتّ. لم أدافع عنه بكلمة. كان يمكن أن أؤكد لهم أني ضربت العبد ملخس وقطعت أذنه بالسيف، ولكن السيد أبرأه. كان يمكنني أن أذكر أنه فتح أعين العميان وآذان الصم وطهر البرص وأقام الموتى. هم أنفسهم اعترفوا بذلك. كان يمكن أن أقول ذلك، وما كانوا يعملون معي شيئاً. ربما كانوا يسخرون مني. ربما كانوا يلطمونني وربما كانوا يطردونني.. لكني جبنت وصمتّ... وفوجئت بالجارية - وقد رأتني ساهياً لا أشترك معهم في الاستهزاء بسيدي - فوجئت بها تقول لي: «أنت كنت مع الناصري». وفي الحال قلت لها: «يا امرأة، لا أعرف ما تقولين؟». وصدر مني الإنكار ثلاث مرات. كان يسوع واقفاً أمام رئيس الكهنة فالتفت في تلك اللحظة إليّ وعيناه تقولان لي: «هل حقاً لا تعرفني؟» وصاح الديك. تماماً كما أنبأ سيدي، فخرجت إلى خارج وبكيت بكاء مراً. ومات سيدي على الصليب. مات دون أن تكون لي فرصة لأعترف له بذنبي وأعلن له توبتي... فظللت أبكي كما قلت لك إلى صباح الأحد. وقام السيد من الأموات وأرسل لي مع الرسالة العامة رسالة خاصة «اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ» (مرقس ١٦: ٧) نعم ظهر السيد لي. جثوت عند قدميه وبكيت وظللت أبكي وأبكي. ووضع المسيح يده على رأسي وقال: «لكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ» (لوقا ٢٢: ٣٢). لم أقل للتلاميذ رفقائي إلا أن المسيح ظهر لي. إن مجرد ظهوره لي كان إعلاناً عن صفحه. لقد صفح عني، ولكني ظللت طول حياتي أوبخ نفسي. وهكذا ترى المعاني العميقة لظهورات المسيح بعد قيامته» .
- وظهر ليعقوب:

ويعقوب ليس «يعقوب بن زبدي». بل هو يعقوب أخو الرب. ولا داع لأن تسأل عن درجة قرابته: هل هو أخ شقيق، أو أخ من يوسف، أم هو ابن خالة أو ابن عم؟ وأنت تجد هذا التعبير في بلادنا. ففي قصة أبينا يعقوب مع خاله لابان تقرأ أن يعقوب طلب من إخوته أن يحملوا حجارة يطرحوها على رجمة، ولم يكن ليعقوب إلا أخ واحد، لا أخ آخر شقيق أو غير شقيق، لكنه استعمل كلمة «أخ» بمعناها الواسع. ويعقوب أخو الرب لم يكن يؤمن أن يسوع هو المسيح، على أنه آمن به بعد القيامة وصار قطباً كبيراً في الكنيسة. وكان ظهور السيد له البرهان القاطع الذي آمن يعقوب على أثره. وأنت ترى هنا أن للقيامة قوتها العملاقة التي غيرت العالم.
- تلميذا عمواس:

كان عشرة منا في بيت في أورشليم، وكانت الأبواب مغلقة بسبب الخوف من اليهود. ولعل هذا يعطيك برهاناً جديداً على أننا لم نسرق الجسد ثم ندّعي أن يسوع قد قام. وسمعنا طرقاً على الباب. بالطبع لم نفتح الباب إلا بعد أن تحققنا من شخصية الطارق. كان كليوباس أحد الطارقين ومعه زميل له. كانا من مدينة عمواس على مسافة أميال قليلة جنوبي أورشليم.

في يوم الأحد كان كليوباس وزمليه يسيران عائدين إلى مدينتهما عمواس، حزينين مكتئبين متألمين، وقد حملا صورة الفشل مجسمة. كانا يتكلمان بعضهما مع بعض كلمات قليلة تحمل هذا الطابع الحزين بسبب حادثة الصلب. وفي سيرهما وجدا شخصاً غريباً يسير معهما... لم يعرفا أنه يسوع أولاً، لأنهما لم يكونا ينتظران أن يرياه. لقد مات يسوع. رأياه معلقاً.. ورأياه يُدفن. مات وانتهى. قد يكون هذا الغريب في صورة يسوع ولكن لا يمكن أن يكون هو يسوع، ثم يغلب أن يكون جسد القيامة قد حمل بعض التغيير. وقد سألهما: «مَا هذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» (لوقا ٢٤: ١٧). فقال له أحدهما وهو كليوباس: «هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ؟» (لوقا ٢٤: ١٨). لم يجب السيد على السؤال، لكنه سألهما: «وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: ٱلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ ٱلْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ» (لوقا ٢٤: ١٩-٢١). واأسفاه فشل رجاءنا.

ونظر إليّ بطرس وقال: «لقد كان عندهما إيمان ناقص مثل الإيمان الذي كان لنا. ومع ذلك فقد كان عندهما من الشجاعة أكثر مما كان عند بعضنا - على أنهما أثبتا أن إيمانهما كان ناقصاً. فقد ظهر أنهما كانا قد سمعا أخبار قيامة السيد بعد ثلاثة أيام، ولكنهما أظهرا شكاً كبيراً في حقيقة القيامة، إذ قالا: «بَلْ بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هٰكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً ٱلنِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ» (لوقا ٢٤: ٢٢-٢٤). كان حديثهما مع الغريب يحمل نغمة التكذيب للقيامة. لقد سبق المسيح وأعلن أنه سيقوم. وذهبت النساء إلى القبر فوجدنه خالياً، وقالت النساء إن الملائكة أخبروهن أنه قام، وإن من التلاميذ من ذهب إلى القبر فوجده خالياً فعلاً. كانا يقصدان أمر ذهابي مع يوحنا إلى القبر. كل هذا وهما يتشككان في أمر القيامة - كانا فعلاً يستحقان توبيخاً.. بل إننا كلنا نستحق توبيخاً. وقد وبخنا المسيح فيما بعد - قال السيد لهما: «أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ» (لوقا ٢٤: ٢٥) ألم يذكر الأنبياء آلام السيد؟ ألم يذكر الله الحية التي تسحق عقب نسل المرأة؟ ألم يذكر حمل فداء إسحاق؟ ألم يذكر نظام الذبائح الموسوي؟ ألم يذكر دم يوم الكفارة؟ ألم يذكر داود في مزاميره الكثير من ذلك؟ ألم يذكر إشعياء أنه مسحوق لأجل آثامنا؟ واستمر يشرح لهما قصة الفداء من موسى ومن جميع الأنبياء. وكانا يصغيان بلهفة، وقلبهما يحس أن نيراناً حامية تلسعه وتوقظه. ولما وصلوا إلى حدود عمواس تعلقا بالغريب ليمكث معهما، إذ ظهر أنه ينوي مواصلة السفر. قالا إنه نحو المساء والسفر في الليل غير آمن، فدخل معهما وجلس على المائدة معهما، ثم أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما... وإذ ذاك رأيا أثر المسامير فعرفاه وهتفا بصوت واحد: «رَبُّونِي! أي يَا مُعَلِّمُ»(يوحنا ٢٠: ١٦). ولكنه اختفى في لحظة» .

تركا الطعام وعادا ركضاً إلى أورشليم وطرقا بابنا كما قلت لك، ورويا لنا هذه الرواية، وخلاصتها أن الرب قام. فقلت لهما: «نعم قام». وقال التلاميذ: «وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!» (لوقا ٢٤: ٣٤).

قلت: «إن قلبي يحس أن طوفاناً من البهجة يفيض عليه ولكني أطلب أن أسمع أكثر عن السيد الذي خرجت من بلادي وتركت كل شيء لأراه. إنني أغبطكم.. أكاد أقول أحسدكم لأنكم رأيتموه.. تكلم يا صديقي، تكلم».

قال سمعان: «إني لم أفرغ بعد من قصة تلميذي عمواس.. كانا يذكران قصتهما... وقبل أن يفرغ منها إذا بالسيد نفسه يقف في وسطنا ويقول: «سَلاَمٌ لَكُمْ!» (لوقا ٢٤: ٣٦). ولعل لك الحق يا صديقي أن تندهش إذ أقول لك أن ظهوره المفاجئ شاع الجزع في قلوبنا... هل هو حقاً المسيح أو هو روح؟.. فقال لنا: «مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي. وَحِينَ قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَهُمْ: أَعِنْدَكُمْ هٰهُنَا طَعَامٌ؟ وَقَالَ لَهُمْ: هٰذَا هُوَ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ، أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ» (لوقا ٢٤: ٣٩-٤٤). إذ ذاك فُتحت أذهاننا وبدأنا نفهم. وقد قال إن لنا رسالة نقوم بها، فلننتظر في أورشليم حتى ننال قوة الروح القدس. واختفى السيد ولا نعلم كيف. لكن فرحنا كان طاغياً. لقد رأيناه حقيقة وأخذنا نرتل هاتفين: الرب قام حقاً» !
- توما:

وفيما نحن نرنم دخل توما، ولاحظ ما نحن فيه من بهجة. كنا طول الأيام الثلاثة ننوح ونولول، الرجال مع النساء - الكارثة كبيرة. لكن هوذا يرانا نرنم بابتهاج. قلنا: «قام السيد ورأيناه ولمسناه» قال: «لا تتكلموا أحاديث البطل. ستُتهمون بالخبل.. القيامة هذه وهم » - «ماذا تقول يا توما؟ المجدلية رأته النساء رأينه» قال: «وهل تصدقون النساء الحالمات الخياليات؟» قلنا: «بطرس رآه.. يعقوب رآه» هز توما رأسه وقال: «مسكين سمعان ومسكين يعقوب. إن ثورة الضمير في كليهما رسمت التخيلات أمامهما وكأنها حقيقة. تلميذا عمواس رأياه - ما الذي رأياه؟ هل تستطيعون أن تقولوا ماذا رأيا؟» قلنا: «نحن كلنا يا توما رأيناه. تكلم معنا، أكل أمامنا، طلب منا أن نعود إلى الكتب المقدسة، كتب موسى والأنبياء» فقال: «اسمعوا، اسمعوا كلمة، لن أقول غيرها، إني لا أصدق خيالاتكم، بل لن أصدق عيني. إن قيامة يسوع من الموت أمر مستحيل!! لا أصدقه بل لا أصدق عيني. إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع إصبعي، هل تسمعون وأضع يدي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أؤمن».

وقد تألمنا كل الألم. لم يقبل توما أي مناقشة منا. رفض أن يسمع. رفض أن يقبل شهادة الكتاب!

وبعد ثمانية أيام اجتمعنا معاً، نتدارس موقفنا.. كنا كلنا نحن التلاميذ ما عدا يهوذا يالطبع الذي انتحر عقب خيانته للمعلم!

وبينما نحن جالسون في كثير من الحزن جاء يسوع ووقف في الوسط وقال: «سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً» (يوحنا ٢٠: ٢٦ و٢٧).

وهنا انطرح توما عند قدمي المسيح وقال: «رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا ٢٠: ٢٨ و٢٩).
- هل تحبني؟

لا أزال أجلس أمام سمعان بطرس وهو يتحدث. كان وجهه يرسم شتى الانفعالات. لقد مرت به أحداث مؤثرة. قال لي: «اسمع يا نوسترداميس، إن المسيح يقول لك، طوبى لك لأنك آمنت دون أن ترى. ولأنك لا ترغب أن ترى لكي تؤمن، ولكنك آمنت لذلك ترغب أن ترى... ظل إيماننا يتأرجح. كم جربنا الشيطان. ربما كانت التجربة أبعد من الإيمان بالقيامة. قام المسيح ولكننا لا نعرف بعد ما إذا كان سيعود إلينا. ولا نعرف نوع العلاقة بيننا وبينه. ولا نعرف حقيقة رسالته بعد القيامة».

مضت أيام. لم نعلم أين يقيم المسيح في هذه الأيام. إنه يفاجئنا في غير انتظار. في اليوم الأول ظهر خمس مرات ثم اختفى، وبعد ثمانية أيام فاجأنا بظهوره ثم اختفى..

وبعد أيام - بدت في عيني دهوراً - في الحق لا أستطيع أن أحدد مشاعري، هل فقدت الأمل في مجيئه، أم أحسست أن السيد سامحني حقاً، ولكنه ألغى اختياره لي كتلميذ ورسول؟ وسواء كان هذا أو ذاك فقد قلت في أحد الأيام لرفاقي: «أنا ذاهب لأتصيد». كنت قد تركت الصيد. كانت عندنا سفن للصيد، كنا شركاء عائلة يونا وعائلة زبدي، وكان عندنا عمال. وقد اتفقنا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي وأنا واندراوس أخي أن نترك الصيد لبعض أهلينا. لكن في ذلك اليوم قلت لرفاقي: «أنا أذهب لأتصيد». فقال لي ستة من الرفاق، منهم ابنا زبدي وتوما ونثنائيل: «نذهب نحن أيضاً معك». وذهبنا إلى بحيرة طبريا. وظللنا الليل كله نطرح الشباك في أماكن متفرقة دون أن نمسك شيئاً.

وفي الصباح وقف يسوع على الشاطئ. كان الظلام يحيط بالجو فلم نعرف أنه المسيح. ولكنه نادانا: «يا غلمان هل اصطدتم شيئاً». فأجبنا بالنفي: قال: «اطرحوا الشباك إلى جانب السفينة الأيمن فتمسكوا». فأطعنا كلامه، وإذا بالشبكة تمتلئ سمكاً، نحاول أن نجرها فنعجز. لأول مرة تمتلئ بهذه الصورة. مال يوحنا إلى أذني وقال: «هو الرب»إن عين الحبيب متصلة بقلبه. عرف يوحنا حبيبه بقلبه لا بعينه. كنت عرياناً فلبست ثوبي وطرحت نفسي في الماء وسبحت إلى الشاطئ. ووصلت السفينة ورأينا السيد واقفاً وبجانبه جمر وسمك مشوي وطعام مُعد. كيف أعدّه؟ لا نعلم. كنا نحس برهبة فلم يجسر أحدنا أن يسأله. بالطبع عرفناه.. لم نسأله من أنت.. جلسنا وأكلنا. قدم هو الخبز والسمك لنا...

وجلسنا بعد الغذاء صامتين. وهنا التفت المسيح إليّ وسألني: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هؤُلاَءِ؟» (يوحنا ٢١: ١٥) منذ أقل من أربعين يومياً أكدت له أنه إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك. إنه الآن يسأل سؤالاً آخر في عمقه، لا رباط بينه وبين كلامي. قد أقف إلى جانبه ولاءً لمبدأ، أو انتظاراً لمصلحة، أو منافسة لآخرين، أو ازدراءً بهم، أو كبرياء. أما سؤاله فيتصل بالحب: أتحبني؟ إن هذا اهتمامه الأول، وأنا أجبته: نعم يا رب أنا أحبكَ أكثر من كل شخص وأكثر من كل شيء «نَعَمْ يَارَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ» فقال لي: «ارْعَ خِرَافِي» (يوحنا ٢١: ١٥) شكراً لله ها هو يردني إلى رسوليتي - على أن السيد نظر إليّ مرة ثانية وقال: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟ قَلت لَهُ: نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ. قَالَ لي: ٱرْعَ غَنَمِي» على أن السيد لم يقف عند هذا الحد، بل قال لي ثالثة: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» وملأ الحزن قلبي وتجلى على وجهي وقلت: «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ» نطق لساني بهذه الكلمات. وقرأ السيد ما جال في قلبي. أنا أحبك يا رب بالرغم من كل شيء. أنت تعلم ذلك. لقد جبنت وأنكرت وجدفت ولعنت، ولكني أحبك يا رب. أحبك أحبك. وقال السيد: «ٱرْعَ غَنَمِي» (يوحنا ٢١: ١٥-١٧).

ثم صمت قليلاً وتكلم ما لم أفهمه إذ ذاك. فهمته فيمابعد. قال: «لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لاَ تَشَاءُ» (يوحنا ٢١:١٨).

فهمت من هذا الكلام أنه ينبئني بما سألاقيه في خدمتي.. ما لم أعرفه.. وإلى الآن لا أعرفه. سيعلنه لي فيما بعد.

فرغ المسيح من حديثه لي وقال: «اتبعني..هلم ورائي». نعم يا سيد سأتبعك كل الطريق. سأتبعك ولو إلى الموت. رفعت عيني وأبصرت زميلي يوحنا فقلت: «ترى ما مصير يوحنا أيضاً؟» وأجاب: «لا تسأل عما لا يخصك. إن كنت أشاء أنه يبقى حتى مجيئي فماذا لك؟ اتبعني أنت». وقد فهم بعضنا أن يوحنا لن يرى الموت، مع أن السيد لم يقل ذلك. قال: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ» (يوحنا ٢١: ٢٢). ونظر بطرس إليّ وقال: «والآن يا نوسترداميس ها قد سمعت قصة قيامة المسيح. قلتها لك لا لكي تؤمن، فقد علمت أنك آمنت. علمت أنك قبلته مخلصاً وفادياً، وإنما قصصتها عليك لكي يتقوى إيمانك. وسواء رأيت السيد بالعيان أم لم تره، فقد نلت الخلاص. وأنا أقول لك كلمات السيد: طوبى لك لأنك وأنت لم تر قد آمنت. طوبى لك». إني اعتقد أن السيد سيدبر لك لقاءً.. كما أعتقد أنه سيدبر لنا لقاء ويعطينا فيه تعليماته الأخيرة. لماذا لا تقم قريباً منا، فقد يُتاح لك أن تراه .

جثا بطرس ورفع عينيه إلى السماء وشكر الله من أجل عطيته التي لا يُعبر عنها، ثم وضع يده على رأسي وقال: «لتحل بركة السيد عليك. لتملأك المحبة العظيمة المنتصرة».

انطلقت من عنده وأنا أمجد الله الذي أكرمني بلقاء القديسين، وما تمتعت به من أخبار مجيدة عن سيدي وعن محبته وصليبه وقيامته الظافرة!
الفصل السادس عشر: لقاء المسيح

يدي ترتعش بشدة وأنا أدوّن مذكرات اليوم. ها أنا أقبض على القلم بكلتا يديّ. جسمي كله يضظرب. استيقظت في الصباح على غير العادة متأخراً. كنت أستيقظ قبل الفجر وأقضي فترة مع المسيح في التعبد والتأمل. لا أنكر أني كنت أحياناً أعتب عليه أنه لا ينيلني أمنية الحياة. قلت: «يا سيد أنا لا أريد أن أفاضل. كل الذين ظهرت لهم أفضل مني، ولكنهم كلهم كان عندهم الكتب المقدسة. كان عندهم كتب موسى والأنبياء والمزامير. كلهم كان طريق الإيمان لهم معداً. نعم كلهم بلا استثناء، أما أنا يا رب فقد كنت أعيش بلا إله، وقد تركت أهلي وعشيرتي وسرت إلى بلاد لم أعرفها، وقاسيت ما قاسيت لأراك يا سيد. خرجت أبحث عنك. فلماذا حرمتني حتى الآن من رؤية وجهك؟ يا رب أرني وجهك، ثم خذني إليك، لا أطلب شيئاً آخر. ليس لي أمنية أخرى. أراك وأموت. إن ناراً تأكل قلبي يا سيدي»!!

سرت أمام البيت الذي قضيت الليل فيه. سرت طويلاً بدون هدف، وإذ بي أسير في طريق الجبل خارج بيت عنيا. عندما أحسست بالتعب عدت إلى نفسي فإذا أنا في سهل من سهول الجبل، وإذا أنا لست وحدي. ما هذا؟ هوذا باراباس وزكا ولعازر.. بطرس ورفاقه، جمهور غفير يجتمع وبرنم. ما الذي جاء بهؤلاء إلى هذا المكان؟ علمت أن بعض المؤمنين بالمسيح اعتادوا أن يقيموا اجتماعات بين حين وآخر، يرفعون الصلوات للآب شاكرين الله لأجل إرساله ابنه...!

كان الحاضرون من الذين سبق المسيح فقدم لهم بركات.. هذا الشاب الذي فتح عينيه، وهذا بارتيماوس وهذه السامرية، وهذه مرثا ومريم.. هذا زكا، وهذا رجل أراه لأول مرة، برنابا.. هوذا يوسف الرامي ونيقوديموس، أكثرهم من الرجال.. أكثر من خمسمائة أخ. وجثوت معهم أصلي. صليت بحرارة وبكيت: «يا سيد أرني وجهك». وفيما أنا منكفئ على وجهي أحسست بحس حركة تحيط بي، ففتحت عينيّ وأبصرت الجماهير تركض إلى الأمام. وإذا بشخص مهيب يقف على ربوة ويقول: «سلام لكم». وجثا الجمهور كله أمامه وسجدوا له. ورفع ذلك السيد يده فكان سكوت أحرى. علمت أنه هو.. حاولت أن أشق طريقي إليه. حاولت أن أصرخ، ولكن الصوت احتبس في حلقي وعجزت عن كل حركة..

وجلس وأخذ يعلم: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ» (متّى ٥: ١٣).

«أَنْتُمْ نُورُ ٱلْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ ٱلْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى ٱلْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى ٥: ١٤-١٦).

«سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ. سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى ٱلأَشْرَارِ وَٱلصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى ٱلأَبْرَارِ وَٱلظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذٰلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ ٱلْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هٰكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى ٥: ٣٨-٤٨).

«مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متّى ٦: ٣ و٤).

«وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (متّى ٦: ٦).

«لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ ٱللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ ٱلْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ ٱلْحَقْلِ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، أَفَلَيْسَ بِٱلْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟ فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ، أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ، أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا ٱلأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ كُلِّهَا. لٰكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ وَبِرَّهُ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ»(متّى ٦: ٢٥-٣٣).

«لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّ»(يوحنا ٣: ١٦).

« لأَنَّ ٱلآبَ يُحِبُّ ٱلٱبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هٰذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يُقِيمُ ٱلأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذٰلِكَ ٱلٱبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ ٱلآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱبْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلٱبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ ٱلٱبْنَ لاَ يُكْرِمُ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِٱلَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ. هذَا هُوَ عَمَلُ اللهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ»(يوحنا ٥: ٢٠-٢٤ و٦: ٢٩).

« تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ ٱلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ»(متّى ١١: ٢٨-٣٠).

هذا بعض ما قاله السيد، ولم أستطع أن أستوعب إلا هذا الجزء القليل الذي ذكرته هنا. إنها كنوز من جواهر منتقاة، لو كُتبت في كتب فلست أظن أن العالم يسع الكتب المكتوبة.

كان الجميع يُصغون بكل قلوبهم، أما أنا فكنت كمن يتلهم كلامه التهاماً، فهمت معنى قوله: «أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَداً. كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ»(يوحنا ٦: ٣٥ و٤: ١٣ و١٤).

انتهى من كلامه فهجم الجمهور نحوه يريدون أن يلمسوا ثيابه، ولكنه أشار إليهم فجلسوا في أماكنهم ومرّ هو بهم..

أبصر بعض النسوة يحملن أطفالهن، فاقترب منهن ووضع يديه على رؤوس الأطفال واحتضنهم وباركهم.. ولما وصل إليّ قال: «وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي»(رومية ١٠: ٢٠) ماذا تطلب وماذا تريد أن أعمل لك؟

قلت: «يا سيدي لا أطلب شيئاً إلا أن أراك.. أراك فقط يا سيدي. لقد آمنت بك من سنين طويلة. سلمت حياتي لك. وضعت كل خطاياي عند قدميك» فقال لي: «مغفورة لك خطاياك». قلت: «الآن تطلق عبدك بسلام لأن عيني أبصرتاك».

فقال: «ليس بعد. الطريق أمامك ممدود. أكمل الرحلة إلى أن تعبر النهر. في العالم سيكون لك ضيق. ستقابلك متاعب ومشقات، ولكنك لن تكون وحدك. لأني ها أنا معك كل أيام جهادك، ولن أتركك حتى تصل إلى الميناء الأخير بسلام».

كنت طول الوقت خافض الرأس أسمع كلماته. فلما سكت رفعت رأسي فلم أجده. اختفى في لحظة...

تركت المكان وفي قلبي طوفان من العواطف. فرح فاض حتى ملأ كل جوانب حياتي... فرح جعل يرتفع ويرفع. غرقت فيه. قلت: «يا رب كفى. حب اكتسح في طريقه كل شيء. اختفى العالم من أمامي بكل ما فيه. شخص واحد ملأ قلبي.. هو وحده. لا أهتم بشيء آخر. نسيت الطعام واللباس.. الحياة نفسها» لقد قال لي: «وها أنا معك ولن أتركك». ومع ذلك أحسست أني فقدت كل شيء عندما اختفى عني. قلت له: «جيد يا رب أن أكون ههنا». ولكنه رأى لي شيئاً آخر.

خرجت كما لو كنت قد خرجت من الفردوس إلى الأرض، ومن الجنة إلى الشوك. ها أنا أرتب أموري لأسير في الطريق التي عينها لي من الجلجثة إلى النهر.. الطريق طويل كما علمت، فيه جبال ووديان وتلال، فيه أرض ناعمة وأرض خشنة. فيه جهات آمنة وجهات مخاطر. فيها قلاع للسيد وفيها أوكار للعدو. خرجت لأجهز نفسي لهذه الرحلة. بعد أسبوع.. كلا، بعد عشرة أيام. أبلغوني أن السيد استدعى التلاميذ ليلتقوا به في الجليل، فانطلقوا إلى هناك إلى الجبل حيث أمرهم. فتقدم وكلمهم قائلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ، فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي» (متّى ٢٨: ١٨-٢٠ ولوقا ٢٤. ٤٩).

وسمعت أنه أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أروشليم بفرح عظيم.