فوق كل رياسة
تأملات كتابية روحية:
71. فوق كل رياسة
"ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" (اش 7 : 14)
«في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله... والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيدٍ من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً ».يو 1 : 1،14 هذه هي رسالة التجسد: الله أتى الى عالمنا في يسوع المسيح وكلم البشر، فصار يسوع كلمة الله وفكر الله مسموعاً عند الناس. اسمه «عمانوئيل"ومعناه: الله معنا.
قال الشاعر الايرلندي بيتش: "ينتهي البحث عن الله بالتأمل في شخص يسوع المسيح، لأننا نرى فيه صورة الله غير المنظور. وهو يعطي نفسه للأنقياء القلب فيعاينون الله في وجهه."
السرٍّ الإلهي الذي اشتهت الملائكة أن تطلع عليه، بقي مكتوماً خلال أحقاب ما قبل التجسد، إلى أن أعلن في ملء الزمان أن المسيح فينا رجاء المجد.
جاء المسيح ليعلن عن شخصه كحب الله المتجسد"أنه ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه عن أحبائه". حين نتأمل في شخص الرب يسوع في الإنجيل، نرى انه يعكس كمالات الله في تواضع كامل، قال له المجد: «الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال».
يخبرنا الكتاب المقدس أن الرب أعلن ذاته لموسى على جبل حوريب وقال له: «قل للشعب أهيه الذي أهيه أرسلني إليكم».
شاء أهيه الذي أهيه نفسه أن يأتي إلينا ليكشف لنا سرَّ التقوى بظهوره في الجسد. وكانت إعلاناته لنا:
«أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف.
أنا هو خبز الله النازل من السماء، الواهب حياة للعالم.
أنا هو الباب. إن دخل بي أحدٌ فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى.
أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي.
أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة.
أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا.
أنا هو ابن الله وقد صرت ابن الإنسان، وأتيت الى العالم لكي أخدم ولأبذل نفسي عن كثيرين».
كان رئيس الكهنة في العهد القديم يخلع حُلته الكهنوتية الفاخرة ليخدم في ثوب بسيط، هكذا يسوع فادينا أخلى نفسه وأخذ صورة خادم بسيط. وقدم نفسه ذبيحةً للتكفير عن خطايانا، فكان لنا الكاهن والذبيحة. وبذلك تم القول النبوي: «وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا»
هكذا عومل الرب المتجسد بالمعاملة القاسية التي كنا نستحقها، لنُعامل نحن بالمعاملة السعيدة التي كان هو يستحقها.
دِين لأجل خطايانا التي لم يشترك فيها، لنتبرر ببره الذي نشترك فيه.
قاسى الآلام المريرة التي كانت مُعدَّة لنا، لننال نحن الحياة التي كانت له في ميراث النور.
ويا لها من نعمة فاقت كل عقل وتجاوزت كل فهم، أن يبذل الله ابنه الوحيد لكي يؤكد لنا عهد سلامه بصورة لا تنقص، ارتبط معنا برباط النسب، الذي صيّرنا أولاد الله وأخوة المسيح. هذا الامتياز العجيب الذي أُعطي لإنسان العهد الجديد تصوره زكريا النبي فقال: ما أجوده! ما أجمله! وكذلكم يوحنا الإنجيلي، قال: انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله.
لقد ظل اليهود أحقاباً طويلة ينتظرون مجيء المخلص. وركزوا على هذا المجيء أبهج آمالهم وأعظم انتظاراتهم. في تسبيحاتهم ونبواتهم وفي طقوس هيكلهم وفي عباداتهم العائلية كانوا يقدسون اسمه. ومع ذلك فلما جاء في ملء الزمان لم يقبلوه كقدوس، بل امتهنوه وحقروه. وكان في نظرهم تلك الصورة التي رسمها اشعياء النبي حين قال: «كعِرْقٍ من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمستَّر عنه وجوهنا. محتقرٌ فلم نعتدّ به».
ركّز أبناء هذا الشعب (الذين وصفهم بولس بقساة الرقاب) كل آمالهم وانتظاراتهم في الماديات التي في أرض كنعان والتي تفيض لبناً وعسلاً. ومنذ أن دخلوا كنعان حادوا عن وصايا الله، وعبثاً أنذرهم الله بأنبيائه، وعبثاً ضربهم بالحروب مع شعوب الأرض. فبعد كل إصلاح، كانوا يوغلون في الارتداد عن الله. والمؤسف أن اليهود إذ تركوا الله القدوس غاب عنهم مغزى عبادتهم الطقسية التي تشير رموزها إلى المسيح.
فحاول الكهنة ملء الفراغ الناشئ بمضاعفة مطالبة الناموس. ولكن بقدر ما زادوا من الصرامة قلّت محبتهم لله. وراحوا يقيسون قداسة حياتهم بنسبة برهم الذاتي، الأمر الذي قادهم الى الكبرياء واحتقار الآخرين، لهذا وبخهم المسيح قائلاً: «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تعشّرون النعنع والشبث والكمون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان».
وبدلاً من أن يطلبوا الفداء من الخطية طلبوا التحرّر من نير الرومان. فتصّوروا المسيا قائداً فاتحاً آتياً ليسحق روما الظالمة، ويرفع من شأن الشعب اليهودي ويجعل سلطانه شاملاً. هذه التصورات التي هي من ابتداع الشيطان مهّدت لرفض المسيا، وبالتالي لصلبه كمجرم أثيم.
كانوا يدرسون النبوات بلا فهم روحي. ونجم عن ذلك إغفال النبوات التي تشير إلى أتضاع المسيح في مجيئه الأول. وبسبب تعصبهم العنصري فسروا النبوات بما يتفق مع رغائبهم القومية.
جاء رب المجد إلي عالمنا. تنازل واتخذ جسداً بشرياً في بيئة وضيعة جداً. لكنه شاء أن يحجب مجده حتى لا يستدعي جلاله اهتمام الناس، وهكذا يجتذب إليه قلوبهم بجمال الوداعة والتواضع، فيقتادهم إلى خلاص الله بالفداء الذي أكمله. وقبل صعوده الى مجده الأسمى وعد بأنه سوف يعود ثانية لفداء أجسادنا. وبانتظار ذلك أمر بالسهر والاستعداد. قال: «لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسُرُجكم موقدة، وأنتم مثل أناسٍ ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس». وقد علّمنا في مثل العذارى ان هناك أموراً لا يمكن الحصول عليها في اللحظة الأخيرة. لأنه كما أن العذارى الجاهلات لم يستطعن اقتراض الزيت من العذارى الحكيمات، هكذا في العلاقة مع الله لا يستطيع أحد أن يستعير هذه العلاقة، بل ينبغي أن يمتلكها الإنسان شخصياً.
يا جميع المنتظرين الرب يسوع اذكروا أنكم تنتظرون الله الآن. انظروا أن تعملوا هذا كأناسٍ ينتظرون الرب من السماء. تأكدوا أن الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم في وجه يسوع المسيح من أقوى روابط اتحاد المؤمنين التي أُعطيت في كل أحقاب التاريخ. وتأكدوا أن الرب آتٍ ليتمجد في قديسيه الذين افتداهم، وهو سيأخذهم إلى منازل الآب كما سبق ووعد قائلاً: «حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً».
الله وحده قادر أن يهبك الحياة الروحية العميقة التي تليق بمؤمن ينتظر الرب، ويقول مع العروس: «آمين تعال أيها الرب يسوع»